مجلة المقتبس/العدد 10/تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين

مجلة المقتبس/العدد 10/تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين

مجلة المقتبس - العدد 10
تاريخ علم الهندسة وكبار المهندسين
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1906



انتهينا بكلامنا في الجزء السابق إلى آخر ما جاء به أفلاطون من الأبحاث الهندسية وها نحن الآن نسرد أسماء الكبراء في هذا الفن الذين قاموا بعده إلى هذا العهد.

في أواخر عصر أفلاطون اشتهر اخيتاس الذي أصاف شيئاً مذكوراً إلى المعلوم من خواص المنحنيات والقضايا المتعلقة بها واستغل كثيراً في قضية تضعيف المكعب التي فصلناها في مقالتنا السابقة ووضع أساساً للمكتشفات التي قام بها أرخميدس في الميكانيكيات واصطناعها على الأصول الهندسية.

ثم قام دينوكراط خريج أفلاطون وقسم الزاوية إلى ثلث زوايا متساوية مستعيناً عليها بالقوس التي سماها الرباعية. وجاء برسيوس فبحث في خواص اللولبيات وهو أول من اشتغل بالخطوط والسطوح اللولبية ووضع لها معادلات لاستخراج نصف قطرها ومعرفة زاوية الهبوط فيها.

وفي هذا العهد طلع كوكب الهندسة الشارق وبدرها الآفق نعني به المهندس إقليدس الشهير (315_255 ق. م) ولعله أعظم من اشتغل بفن الهندسة منذ ظهورها إلى هذا اليوم. وليس هو منشئها أو مكتشف مبادئها كما يزعم الكثيرون من غير العارفين لأن أكثر قضاياها الخطيرة كانت معروفة قبل عهده ولا اشتغل بمسائلها الصعبة ولا أضاع زمانه للتوصل إلى حل قضية غير ممكنة ولا كشف كثيراً من خفاياها ولكنه خدمها أكثر من جميع العلماء الذين سبقوه أو تأخروا عنه فهو جمع كل القضايا التي كانت معروفة إلى عهده والتي حلها كبراء الفن قبله ورتبها في سلسلة محكمة الوضع مرتبة الحلقات جاعلاً برهان كل قضية مستنداً إلى ما قبلها وأدخل البرهان الخلفي في إثبات كثير من القضايا الهندسية وذلك عبارة عن رد الوجوه المطلوب نفيها إلى عدم الإمكان فلا يبقى إلا وجه واحد ممكن كقولهم إذا فرض تفاوت زاويتي مثلث وجب تفاوت وتريهما والزاوية الكبرى يقابلها الضلع الأطول فهو يثبت هذه الدعوى بأن الضلعين لا يمكن أن يكونا متساويين لأن ذلك يقضي بكون المثلث متساوي الساقين ويفضي إلى تساوي الزاويتين وهذا مخالف للغرض القائل بتفاوتهما ولا يمكن أن يكون الضلع المقابل للزاوية الصغرى هو الأطول لأن ذلك يقضي لزاويته بالزيادة وهو مخالف للغرض أيضاً فلم يبق إذن إلا أن يكون وتر الزاوية الكبرى أطول من وتر الزاوية الصغرى وهذا هو المطلوب إثباته. وقد استخدم إقليدس هذ الأسلوب من البرهان في إثبات كثير من القضايا التي لم يجد لها مخرجاً غيره. وجعل جملة القضايا التي تمكن من جمعها واستخراجها في ثلاثة عشر كتاباً وقف الستة الأولى منها هندسة الخطوط والزوايا والسطوح البسيطة والأربعة التي بعدها على الهندسة الحسابية من خواص الأعداد ونسبتها لبعضها وعلاقتها بالأشكال الهندسية والثلاثة الأخيرة على المستويات المتقاطعة والمجسمات وإلى هذه الثلاثة أضاف هيبسكل مهندس الإسكندرية الذي ظهر بعد إقليدس بنحو قرن ونصف قرن كتابين أكمل بهما الناقص من كتب إقليدس في تلك الأبواب. ومازالت الستة الأولى مع الحادي عشر والثاني عشر من كتب إقليدس معولاً عليها في أكثر المدارس لتلقين فن الهندسة وإلى اليوم لم يستطع المشتغلون بهذا العلم أن يأتوا بتبويب يفضل تبويب إقليدس ويختار عليه لسهولة التحصيل. وينقل أيضاً أنه وضع كتاباً في المقاريض وبعض مقالات في قطوع المخروط وثلاثة كتب في قضايا المسائل السيالة التي يفضي حلها إلى نتائج متعددة غير أنه لم يحفظ للخلف شيءٌ من هذه الكتب. وبعد إقليدس أصبح علم الهندسة سهل المأخذ قريب التحصيل وصار لابد للراغبين فيه من درس كتبه قبل كل شيءٍ. ولم يعد يحسب من فطاحل الفن والمكتشفين فيه إلا من زاد شيئاً خطيراً على ما في تلك الكتب أو أدخل أسلوباً جديداً أو اكتشف قضايا مجهولة لها شأن يذكر وهذا راجع إلى أن علم الهندسة مثل غيره من العلوم الرياضية لا تخلق جدته ولا تنقصه الأيام بمرورها أو العصور بكرورها. وكان بطليموس ملك مصر يقرأ الهندسة على إقليدس فوجد صعوبة في حفظها وتعاصى عليه فهمها لأنه كان يتوقع أنها تهون لديه كما هانت عقبات الملك وصعوبات السلطان ويكره أن يعنت فكره وينهك قواه في إدراكها فالتفت إلى معلمه وقال له ألا يوجد إلى الهندسة طريق أسهل من هذه؟ فأجابه إقليدس بقوله ليس إلى العلم سكة سلطانية وعنى بها أن السلاطين والعامة سواءٌ في اعتبار العلم وتحصيله فذهب قوله مثلاً عند اليونان وأخذه عنهم الغربيون في هذا الزمان وجروا عليه بالعمل فوضع الملوك أولادهم في المدارس الكبرى والصغرى يتلقون العلوم مع رعاياهم ويأخذون الفنون عن الأساتذة كما يأخذها غيرهم ويحتملون القصاص ويأخذون الجوائز التي يستحقونها بجدهم ونشاطهم وآدابهم بدون أقل مزية على الفقراء الخاملين من الطلبة.

بعد انصراف إقليدس برز أرخميدس الصقلي وهو يعد من أكبر الرياضيين القدماء إن لم يكن أكبرهم (287_212 ق. م) فقد أضاف إلى الفن قضايا كثيرة جديدة لم تكن معروفة قبله وتعمق في مباحث المجسمات إلى أن كشف حقائق جمة وأعد لعلماء المتأخرين قواعد نفيسة جعلوها أساساً لطرائقهم في قياس السطوح المنحنية والمجسمات. نعم إن إقليدس وضع في كتبه شيئاً من الأبحاث في الأشكال المنحنية غير أنه اقتصر منها على القليل ولم يتعرض لتمثيلها وقياسها بالآحاد المربعة من السطوح المستوية والمكعبة من الحجوم أما أرخميدس فقد وضع القواعد التي يقتضيها هذا التمثيل في مقالاته النفيسة التي ألفها في الكرة والاسطوانة وفي المقاطيع الكروية والمخروطة وفي قياس الدائرة وقضيته التي أثبتها في أن مساحة قطعة من سطح ثلجي تساوي ثلثي مساحة شكل متوازي الأضلاع محيط بها هي بالحقيقة أول القضايا التي وضعت في تربيع سطح محاط بخط منحنٍ. ومباحثه في اللولبيات بالغة من التدقيق والتعمق درجة عالية بحيث يعسر فهمها حتى على العلماء الراسخين في هذا الزمان. وتوسع في تفصيل الأشكال الإهليلجية المعروفة بالقطع الناقص وهو الذي أثبت النسبة بين محيط الدائرة وقطرها وأحسن استخدام الحقائق التي اتصلت إليه ممن قبله كما أنه أجاد في بسط أفكاره وآرائه وصبها في أسلوب قريب المنال على من بعده. واستخدم الهندسة في الميكانيكيات وكشف كثيراً من القواعد الأساسية اللازمة لهذا الاستخدام واكتشف ناموس الثقل النوعي واستعان به على ترويض القوى الطبيعية وهكذا صرف عمره في العلم والعمل إلى أن قتل وهو لاهٍ في الأشكال الهندسية التي رسمها على الرمل المنبسط أمامه في غرفته قتله الرومان يوم فتحهم مدينة سرقوسة في جملة من قتلوا غيره من العلماء والفلاسفة والخطباء في كل فتح فتحوه وبلادٍ دوخوها.

قلت عندما وصلت إلى هذا الموضع من مقالتي وذكرت مقتل أرخميدس على يد الجند الروماني ألقيت القلم من يدي ووقفت برهة أجيل في خاطري تاريخ الدولة الرومانية التي يطنب الإفرنج بها ويفخرون بعرض جاهها وسعة سلطانها فما مررت للرومان على عمل جليل خدموا به الإنسانية ومهدوا فيه سبيل العلم. نقول عملاً جليلاً ونريد به عملاً يليق بمثل دولتهم ويذكر معهم فيعرف الإنسان حقهم عليه مادام ودامت الأرض بسكانها. ولم أعثر لهم إلا على جيوش متألبة وقوادٍ متنازعة وسيوف مخضبة بالدماء ومدن تركوها خراباً ودول اسكتوا نأمتها آخر الدهر وعلم أجهزوا على بقية القائمين فيه بدون أن يرثوه عنهم. فهم محقوا التمدن الفينيقي في قرطجنة وقوضوا عمران البطالسة في مصر واستأصلوا جرثومة العبرانيين من فلسطين وأجهزوا على الدولة السلوقية في سورية والعراق وحالوا دون ترقي العمران الساساني في بلاد فارس وأخمدوا شرارة التمدن الذي بدأ يظهر في آسيا الصغرى ونقضوا معاهد العلم والفلسفة والصناعة والسياسة في بلاد اليونان وما تفرع عنها في جزائر البحر المتوسط وبسطوا ظلهم الكثيف على أنقاض هذه الأمم والدول وملؤوها بملاعبهم ومراقصهم وساحاتهم التي شغلوها بصراع الأسود والثيران ومواقف الجنود والفرسان. ولولا أن قام العرب في أواخر دولتهم وأخذوا العلم اليونان واحتفظوا به إلى الخلف في العصور المتأخرة لما كان وصل إلينا من علوم المتقدمين شيءٌ ينقع الغلة. وأغرب من هذا أن كتاب الإفرنج في هذا العصر يغضون الطرف عن الأضرار التي ألحقها الرومان بالتمدن الإنساني ولا يعدونهم من المخربين الأشرار ولو كان الرومان دولة شرقية لأسرع كل كاتب فيهم إلى نعتها بالتخريب والتدمير والإضرار والفساد كما ينعتون دولة التتر التي رفعها جنكيزخان وتيمورلنك هذه جملة معترضة مرت في خاطري وأنا أكتب هذه المقالة فأثبتها وأنا أعلم أن ليس هذا موضعها ولكنه خاطرٌ عنَّ فأثبتناه وفكرٌ ألم فقيدناه.

وبعد أرخميدس اشتهر أبولونيوس المولود حوالي سنة 240 قبل الميلاد بما كشفه من أعمال الهندسة الوضعية وهي تعيين محال النقط والخطوط المجهولة وله مقالات في قطع المخروط جاءت في ثمانية كتب انتهى إلينا سبعة منها واستخرج الثامن هالي الفلكي في القرن السابع عشر للميلاد مستعيناً على استخراجه بما نقله بابوس من مكتشفات أبولونيوس منثوراً في فقر شتى. وهذه المقالات كان لها شأن باهر بين علماء الهندسة بعده حتى لقبوه بالمهندس الأكبر فقد أوضح فيها خصائص البؤر والمحترقات ووضع مبادئ المباحث في القطبيات والناميات والحدين الأعظم والأقل. والذي بقي إلى هذا العصر من مؤلفاته كان أكثره محفوظاً في الكتب اليونانية وكان قسم منه منقولاً إلى العربية فأخذ عنها.

بعد ما تركه أرخميدس وأبولونيوس من الآثار في الهندسة صار يصعب على من يأتي بعدهما أن ينال نصيباً من الشهرة في هذا الفن فإنهما لم يتركا للخلف باباً مغلقاً إلا ما كان بالغاً حد الإعجاز فمر أكثر من قرن قبل أن ظهر نيفوميدس في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد واشتهر بأبحاثه في المنحنيات وقياسها مستعيناً عليها بالطرق الميكانيكية وفي قضايا النسبة ذات الوسط المشترك وفي تثليث الزاوية.

وظهر معه هبار كوس الذي هو أول علماء الفلك المعروفين ومخترع الإسطرلاب ومكتشف الاعتدالين وواضع التقاويم للنجوم بأطوالها وعروضها السماوية والذي هو مرجع بطليموس في علم الهيئة. أما في الهندسة فقد اكتشف عدة حقائق في المثلث الكروي والمرتسمات والأظلال وغيرها مما له تعلق في علم الهيئة وهو آخر من بقي له ذكر من علماء الهندسة قبل الميلاد.

وفي آخر القرن الأول بعد الميلاد ظهر منالاوس فوضع مؤلفاً في الكرويات كشف فيه كثيراً من خواص المثلث الكروي وهو أقام القضية الأساسية في أبحاث القاطع وصفاته.

وفي أوائل القرن الثاني بعد الميلاد قام بطليموس الذائع الصيت في فني الهيئة والجغرافيا ووضع عدة تآليف أهمها كتابه الذي سماه العرب المجسطي وعنوا بها الأعظم وعنهم أخذ الإفرنج الكتاب واسمه وفي النقول التي عثرت عليها رأيتهم يقولون أن العرب وضعوا له هذا الاسم ولعلهم أخذوه من اليونانية ثم أدخلوا عليه أداة التعريف. وهذا الكتاب يبحث في علم الفلك إنما فيه كثير من مباحث المثلثات المستوية والكروية وفيه حقائق كثيرة في خواص الكرة منها ما هو من مكشوفات بطليموس ومنها ما هو مأخوذ عن هبار كوس الفلكي.

بعد بطليموس لم يشتهر أحد في فن الهندسة حتى أواخر القرن الرابع للميلاد حين ظهر بابوس ونشر كتابه الذي سماه المجموعة الرياضية وأثبت فيه كل القضايا والاكتشافات التي كانت في أيامه منقولة عن أشهر الرياضيين ونسب كل واحدة إلى صاحبها وأضاف إليها كثيراً من الحواشي تسهيلاً لفهمها وهو أول من ذكر التناسب غير الموسيقي. وفي القرن الماضي عثروا له على عدة قضايا في مسح السطح المتعرج الممتد الواقع بين خطين متعرجين مؤلفين من أقواس كثيرة مثل مجاري الأنهار والطرق غير المستقيمة وكان الأب غولدن اليسوعي قد نشر هذه القضايا في أوائل القرن السابع عشر وادعاها لنفسه وعبرت دعواه هذه على العلماء نحو قرنين حتى ظهرت الحقيقة عند العثور على كتب بابوس ووجود قضايا غولدن فيها قبل أن يولد هذا الأب اليسوعي بأكثر من اثني عشر قرناً.

البقية تأتي

فارس الخوري