مجلة المقتبس/العدد 10/شيء من تاريخ الكائنات والإنسان
مجلة المقتبس/العدد 10/شيءٌ من تاريخ الكائنات والإنسان
خلق الله النور ثم الجلد ثم النبات والأشجار والأعشاب والمياه. ثم الشمس والقمر والكواكب ثم الأسماك والطيور ثم الدبابات والبهائم ثم الإنسان.
لا يعلم العلماء مقدار المدة التي كانت بين خلق النور وبين الجلد وبين سائر المخلوقات المتقدم ذكرها. فقد يمكن أن المراد في الأيام التي ذكرها موسى أول مؤرخ ظهر على وجه الأرض عصر أو مدة طويلة. فإنه لا يوجد كلمات في اللغة العبرانية التي كتب فيها موسى تاريخه أو الأسفار الخمسة في التوراة تدل كل منها على يوم ومدة وعصر على حدتها. ولقد دل كل من علم طبقات الأرض وعلم الفلك على أن المراد بتلك الأعصر ألوف عديدة من الأعوام.
بيد أن قسماً كبيراً من البشر يعلم حق العلم بأن الله جل جلاله سلط الإنسان على الكائنات وعلى هذه الطبيعة العجيبة أو أنه أقامه سيداً على كل ما نراه أمامنا ووراءنا وفوقنا وتحتنا وحولنا من جمال هذا الكيان وبدائع هذه الخليقة التي حار في فهم أسرارها القدماء والمحدثون.
آدم جد الأسرة البشرية كلمة عبرانية معناها التراب الأحمر. وحواء جدة الجنس البشري كلمة معناها أم كل حي. ولقد دلت الآثار القديمة في جميع قارات العالم - في آسيا وفي إفريقية وفي أوربا وفي أميركا على خلق آدم وحواء. فوجدت صور منقوشة على الصخور تدل على رجل وامرأة وبيد هذه ثمر.
أما موقع الفردوس الأرضي الذي وجد فيه الأبوان الأولان فقد اختلف فيه الأثريون ورجال البحث. فقال فريق أنه كان في ما بين النهرين أو في أرمينية بدليل ذكر موسى الكليم للنهرين دجلة والفرات. وقال آخر أنه كان في بابل أو في بلاد الكلدانيين.
كانت كل أمة في هذا الوجود تنسب خلق الأبوين الأولين إلى وطنها أو بلادها فجاء العلم يفسد هذه الدعوى حتى صار من المرجح في هذا العصر أن خلق آدم وحواء كان في جهات أرمينية أو فيما بين النهرين.
على أن هذا الاختلاف في هذه المسائل التاريخية والمشاكل العلمية لم يكن باعثاً على الاختلاف في أن الأبوين الأولين قد سقطا حسب مذهب أهل الإيمان وأن الله طردهما من جنة عدن وأنه قال لهما: بعرق وجهكما تأكلان خبزكما.
ولد للأبوين الأولين قابيل وهابيل إلا أن الأول قام على الثاني فقتله حسداً. فكان قابيل أول من حسد وأول من أوجد المطامع البشرية التي لا تزال تئن منها البشرية والإنسانية.
ثم ولد سائر الآباء الأولين فكان عددهم كلهم عشرة. وهم آدم وشيث وانوش وقينان ومهللئيل ويارد واخنوخ ومتوشالح ولامك ونوح. ولقد أطال الله حياة كل منهم فبلغ بعضهم من العمر نيفاً وتسعمائة سنة لمقاصد جليلة منها إنماء النوع الإنساني.
قال موسى الكليم ما ملخصه: لما كثر الجنس البشري على وجه البسيطة وكثرت شرور الإنسان أهلكه الله بالطوفان. واختلف العلماء فيما إذا كان الطوفان عاماً أم خاصاً وأخذ كل من الفريقين المختلفين يؤيد مدعاه. فمن براهين علماء الدين أن الطوفان كان عاماً لا خاصاً لأن التوراة صرحت بأن المياه غطت جميع الجبال التي تحت السماء وإنها أهلكت كل جسد يدب على وجه الأرض وأن آثار الأمم القديمة تدل على كونه كان عاماً لا خاصاً.
ومن براهين الفريق الثاني من علماء الآثار وعلماء الجيولوجيا أن قبائل المغول في الصين وبلاد الأحباش والسودان من أصل قبل الطوفان. وقد أثبت علم طبقات الأرض أن الطبقة الثالثة من الأرض طبقة طوفانية. على أن علماء هذا الفن يقولون بأن تلك الطبقة ناشئة من طوفانات عديدة فطوفان سنة واحدة كطوفان نوح لا يمكن أن يكونها.
اختلف العلماء فيما إذا كان الطوفان عاماً أم خاصاً كما اختلفوا في مستقر السفينة النوحية ومهد الجنس البشري بعد الطوفان فقد ذهب جماعة من أهل البحث والتنقيب والعلم إلى أن الفلك النوحية استقرت على جهة من سلسلة جبال الهند وبلاد كوش بدليل أن تقليدات الفرس والهنود تدل على ذلك. وذهب غيرهم من الباحثين إلى أن مهد البشر ومقر سفينة نوح كانا في أرمينية ويقول موسى الكليم أن فلك نوح استقر على جبال اراراط وهو أصح قول إذا اعتقدنا بصحة ما كتبه موسى. وكيف لا نعتقد بصحة الأسفار الخمسة وقد برهنت على صحتها الخطوط الهيروغليفية المصرية والمسمارية والكلدانية التي كان أول من اكتشف أسرارها فقيد العلم يوحنا فرنسيس شامبوليون المتوفى سنة 1832م.
قال الكتاب الشريف أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضاً بالطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض وقال وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض وقال وكانوا بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساماً وحاماً ويافث تكوين ص9 عدد 11 و13 و18 و19.
إذا لم نتبع مذهب الذاهبين إلى أن أهل الصين والسودان وهنود أميركا من أصل قبل الطوفان فيكون سام وحام ويافث أصولاً لجميع الجنس البشري بعد الطوفان. فقد أقام سام في آسيا وأقام حام في إفريقية وأقام يافث في أوربا فالآسيويون القدماء من ذرية سام والإفريقيون الأصليون من أصل حام والأوربيون من أصل يافث. وأما نوح فهو جد الآسيويون والإفريقيون والأوربيون بعد الطوفان.
ذهب عدد كبير من العلماء إلى أن موسى الكليم اقتصر على ذكر أنساب النوع الأبيض من البشر. وأما أنساب النوع الأصفر والنوع الأسود والنوع الأحمر فلم يتعرض لها. ولعله أراد بهذا التخصيص أو الاقتصار ذكر الشعوب التي كان يعرفها العبرانيون في أيامه. غير أن العلماء اهتدوا إلى حل هذه المسألة فقالوا أن نوحاً عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فلا يبعد أن يكون ولد له أبناء أو أولاد في أثناء تلك المدة فكانوا أصولاً لشعوب أخرى.
فالشعوب القديمة التي ظهرت بعد الطوفان وذكرها موسى الكليم والمؤرخون القدماء كالآشوريين والعبرانيين والعيلاميين والعرب والآراميين هم من أصل سام. والإيرانيون والتتر والجومريون والأتراك واليونان والسلافيون والايبارييون من أصل يافث. والمصريون والغوطيون والكنعانيون والكوشيون من أصل حام.
واختلف أهل البحث في لغة الإنسان الأولى اختلافهم في غيرها من المسائل الغامضة فمنهم من قال بأنها كانت عبرانية ومنهم من قال بأنها كانت إحدى اللغات السامية كالسريانية والكلدانية والعربية. وقد تكون اللغة الأولى نوعاً من اللغات السامية ثم طرأ عليها تغييرات وإصلاحات وتحسينات. على أن هذه جميعها لم تغير شيئاً من جوهرها الأصلي. ولما كان نوح وذووه هم الذين بقوا بعد الطوفان كانوا بلا مراء يستعملون أو يتكلمون لغة الإنسان الأولى. ظل نسل نوح يتكلم هذه اللغة مدة أربعة قرون حسب الترجمة السبعينية. أما الذين اخترعوا الحروف الهجائية فهم الفينيقيون الذين فضلوا على العالم بأسره بمصنوعاتهم وآدابهم التي منها اختراع الحروف الهجائية. ثم كثرت اللغات وتنوعت إلى أن بلغت ما بلغته في هذا العصر.
ذهب عدد كبير من علماء الدين إلى أن المدة التي كانت بين الخليقة والطوفان بحسب النسخة العبرانية هي 1656 سنة وبحسب الترجمة السبعينية 2242 سنة فإذا صح هذا المذهب فهذه الأعوام العديدة تكفي لإكثار نسل آدم وجعل سورية والعراق مأهولة بالسكان في تلك الحقبة التي بين الخليقة والطوفان. قال المطران يوسف الدبس في تاريخ سورية إن الحجة القاطعة على أن سورية كانت مأهولة بولد آدم قبل الطوفان هي موقع سورية الطبيعي وحيث أن المرجح عند العلماء أن مهد الجنس البشري كان أولاً فيما بين النهرين أو في أرمينية وكانت هذه البلاد متاخمة لسورية وكان لا يوجد بين البلادين جبال وبحار يستعصي مسلكها بل سهول خصيبة طيبة الهواء جيدة المرعى فقد كانت سورية بلا مشاحة مأهولة بالسكان.
هذه خلاصة ما قال المطران العلامة بهذا الشأن. أما أحوال البشر قبل الطوفان من زراعية وصناعية وتجارية واجتماعية ومدنية فلم يتوصل إليها الباحثون بعد. وكل ما ذكره موسى بهذا الصدد هو أن يابال كان أباً لساكني الخيام ورعاة المواشي وأن يوبال كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار وأن قوبال قايين كان الضارب كل آلة من نحاس وحديد.
إن أشهر الشعوب التي قامت قائمتها في سورية بعد الطوفان إلى عهد إسكندر الأول هم الآراميون والكنعانيون والعبرانيون والمؤابيون والإسماعيليون والمدنيون والعمونيون والأدوميون والفلسطينيون والسامريون والعناقيون. وأشهر هذه الأمم جميعها الحثيون والفينيقيون والعبرانيون.
هذا ولي سلسلة كتابات في هذا الموضوع سأقتبسها من مباحث أشهر علماء الشرق والغرب كما اقتبست هذه المقالة خدمة لمجلة أجلها ولأمة أحبها.
اوماهانبراسكا - الولايات المتحدة
يوسف جرجس زخم