مجلة المقتبس/العدد 10/صدور المشارقة والمغاربة

مجلة المقتبس/العدد 10/صدور المشارقة والمغاربة

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1906


ياقوت الحموي

554_626هـ

لا يستقر بأرض أو يسير إلى ... أخرى كشخص قريب عزمه نائي

يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق ويو ... ماً بالعزيب ويوماً بالخليصاءِ

وتارة ينتحي نجداً وآونة ... شعب الحزون وحيناً قصر تيماءِ

هذا ما استشهد به ياقوت على تنقله في الرباع والبقاع وما كان تنقله سوى تنقل عاقل يرحل في اقتناص شوارد العلم ولقاء الرجال واستنفاض البلاد فهو أشبه بعالم غربي لهذا العهد يقطع المساوف ويركب البحار ويجوب القفار متنقلاً من قارة إلى قارة يدرس ويشاهد ويعتبر. ولكن شتان بين عالم اليوم وعالم الأمس. فالأول يقله البخار والكهرباء والثاني يركب الخيل والبغال والجمال. الأول يضرب في مناكب الأرض ووراءه دولة تحميه وأمة يعتز بها وجمعيات تنفق عليه وناس. . . . . . عمله قدره والثاني يخذله سلطانه وتسلمه أمته يعيش بكده ويعتمد في كل شأن على إرادته. وغايته من دنياه في عمله الشاق أن يخلص مما تنتج قريحته رأساً برأس غير متوقع خيراً من مستحسن ولا شراً من مستهجن. وبهذا ساغ لنا أن نقول أن السائح العالم في القرون الوسطى أعظم من السائح العالم في القرون الحديثة وأن الناظر في التاريخ ليستعظم أكثر ما يأثره من نور المعرفة للقدماء وقلما يستكثر ما يتم على أيدي طبقات المحدثين فما وفق إليه الجغرافي الفرنسي الشهير اليزه ركلو مثلاً في القرن التاسع عشر من التآليف والإجادة بعد صفاء الزمن وانتظام الحال لا يستعظم كما يستعظم صنيع ياقوت الحموي الجغرافي العربي في القرون الوسطى.

نشأ ياقوت أسيراً ذليلاً أسر من الروم فقيل له الرومي وبيع في بغداد فاشتراه تاجر يعرف بعسكر الحموي وإليه نسب فقيل له ياقوت الحموي ولما صار ملكه جعله في الكتاب ليتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره (تجائره) وكان مولاه أقرب إلى الأمية لا معرفة له بغير الكسب. ويؤخذ مما قاله صاحب وفيات الأعيان أن ياقوتاً قرأ شيئاً من النحو واللغة وشغله مولاه بالأسفار في متاجره فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام ثم جرت بينه وبين مولاه نبوة أوجبت عتقه فأبعده عنه وذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصل بالمطالعة فوائد ثم أن مولاه ألوى عليه وأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش ولما عاد كان مولاه قد مات فحصل شيئاً مما كان في يده وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً.

وبهذا سهل على ياقوت أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان واستوطن مرو ثم دخل خوارزم وغيرها ولقي من الشدائد والمصائب ما يلقاه في العادة أرباب الأفكار. منها أنه ذاكر يوماً أحدهم في بعض أسواق دمشق وذكر له رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكان منحرفاً عنه بما علق في ذهنه من مطالعة كتب الخوارج فثار الناس عليه وكادوا يقتلونه وبلغ أمره الوالي فطلبه فلم ير بداً من الفرار ولسان حاله ينشد قول الوزير ابن زيدون وقد فرَّ من قرطبة

فررت فإن قالوا الفرار أرابه ... فقد فرَّ موسى حين همّ به القبط

غادر دمشق سنة 613 كما غادر خوارزم يوم أتاها التتر لا سبد له ولا لبد متخلياً عن كل ما ملكت يمينه. خرج من بلد ذكر فيه رأيه وربما كان إيراده له بالاعتدال لأنا لم نر ما قاله هو أو بعض المنصفين في هذه الكائنة. فاعجب لأمة يلعن على منبرها الخليفة الرابع نحو ألف شهر من دون حرج ولا نكبر ويجيء بعد قرون من يذكره بالأدب من الوجهة التاريخية في تلك العاصمة نفسها فتقوم عليه القيامة فما أسرع تبدل الأخلاق والأحوال في القرون والأجيال. من النصب إلى التشيع ومنه إلى غيره من المنازع والنحل.

كان الأدب والتاريخ وتقويم البلدان أو الجغرافيا هي العلوم الغالبة على ياقوت وفي الجغرافيا برّز وبذَّ لأنها تتوقف على كثرة الاطلاع والرحلة وهما كانا ديدنه ودينه وما ألفه من الكتب هو من أرقى ما جادت به القرائح في عصره وبعده وإن جاء عرضاً في بعضها ما يعده علماء العصر من قبيل الخرافات مثلاً فإنه كان من لوازم عصره. والعلم والمعتقدات في عهدنا لا تشبه العلم والمعتقدات في عهده. على أن ما صنفه لا يزال إلى اليوم معتمداً ومعدوداً من الأمهات الطيبات وكتابه الذي اشتهر به لعهدنا خصوصاً معجم البلدان كما أن له كتاب معجم الشعراء ومعجم الأدباء - وهذا يطبع الآن في مصر كما طبع معجم البلدان فيها ثانية - وله كتاب المشترك وضعاً والمختلف صقعاً وكتاب المبدأ والمآل في التاريخ وإرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء وكتاب الدول ومجموع كلام أبي علي الفارسي وعنوان كتاب الأغاني والمقتضب في النسب وأخبار المتنبي وغيره.

هذا هو الرجل الذي رباه عاميٌ من عامة التجار فبلغ بحدة ذهنه وتوفره على الدرس مبالغ الأعاظم الكبار وكانت حياته حياة جهد وعمل لاقى من الدهر الألاقي واضطهده قومه وحسده معاصروه إلا أنه عرف قدره في علمه على ما كان هناك من الصعوبة في معرفة الرجل في تلك القرون في حياته. قال ابن خلكان وكان الناس عقيب موته يثنون عليه ويذكرون فضله وأدبه. وياقوت الرومي في ولوعه بالعلم والرحلة كمعاصره ابن سعيد المغربي ذاك كان في الشرق وهذا في الغرب فحيا الله زماناً ينبغ فيه أمثالهما.