مجلة المقتبس/العدد 11/النهضة الأميركية

مجلة المقتبس/العدد 11/النهضة الأميركية

مجلة المقتبس - العدد 11
النهضة الأميركية
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1906



من مبحث في المجلة الجديدة الفرنسية

بورتوريكو هي الجزيرة الرابعة من جزائر الأرخبيل بمساحتها السطحية والأولى بكثرة السكان فإن فيها 85 ساكناً في كل كيلو متر مربع على حين لا يبلغ معدل السكان في سائر جزائر الأرخبيل 18 نسمة في كل كيلو متر مربع وهذه الجزيرة من الخصب والأمراع بحيث يجود فيها السكر والتبغ والقهوة وتأتي بغلات وافرة. وهي على خلاف جزيرة كوبا التي لها طرق لا تسلكها الخطا ولا تهتدي إليها القطا. وتقفط بورتوريكو على قطري أسباب الحياة وهي أنموذجات الجزائر ومثال العمران في البلدان إذ لها كثير من الطرق المرصوفة الموصلة بين أمهات مدنها كما تجمع السلسلة فرائد العقد.

كل هذه الصفات في كوبا وما خصت به من المرافئ الأمينة اللائقة لإجراء التمرينات البحرية قد أهابت بمطامع الأمريكان أن يستولوا عليها ويطردوا منها الإسبانيين وحجتهم أن ثمانية أعشار مقايضات الجزيرة وتجارتها هي مع الولايات المتحدة. ولما غلبت إسبانيا سنة 1898 كان من نتائج معاهدة باريس أن ضمنت للولايات المتحدة الأخذ بمخنق تلك الجزيرة الغناء ولم ينتطح عنزان في استيلائها عليها لأنه لم يكن في سكانها من يطالب بالحرية والاستقلال بل قد انصرفوا جملة إلى الأعمال الزراعية وتخلوا عما وراء ذلك من مطالب الحياة الاجتماعية فراحت الولايات المتحدة تنظمها بنظامها وتؤدبها بآدابها أكثر من تنظيم جزائر الفليبين حيث كان سكان هذه يقاومون لنيل الاستقلال النوعي فتحول هذه المطالبة دون إجراء ما تريد أميركا عمله في هذه الجزر. وظهرت في كوبا قوة أميركا الاستعمارية وإبداعها في طريقة الفتح والاغتناء وقد منحتها بعد شيئاً من الحكم حفظت فيه حقوقها فكانت كما قالت جريدة الطان الباريسية أشبه بأثينا أيام معاهدتها البحرية الأولى في القرن الخامس أو رومية بفتوحاتها - نواة من الحرية يحيط بها موكب من الرعايا والعبيد.

وسنة 1903 ثار سكان برزخ بنما مطالبين بالاستقلال فإن الثلاث والخمسين ثورة وفتنة ومذبحة التي حدثت في البلاد منذ سبع وخمسين سنة كانت دون تلك الثورة بأهميتها في نظر العالم فساعدتها الولايات المتحدة في الانفصال عن كولومبيا. وقد عني رئيس الجمهورية بأمر هذا الاستقلال ليتسنى لأمته أن تشيد برزخاً يجمع بين البحرين المحيط وتكون فيه صاحبة النفوذ الأول فأبانت الولايات المتحدة هذه المرة بأنها تدوس الحق بأقدامها إذا كان فيه إسقاط نفوذها. ومن ألقى رائد الطرف في أحوال الولايات المتحدة في القرن الماضي لا يعتم أن يسجل بأن هذه الحكومة سارت كل هذه المدة ولم تفشل لها راية ولم تسقط لها كلمة بل كانت بفضل المحافظة على مبدأ مونرو صاحبة الراية العليا والكلمة الفاصلة من الأرجنتين إلى البرازيل وشيلي ومن بيرو إلى كولومبيا وفنزويلا ومن سان دومينيك إلى المكسيك مارة بكوبا فتداخلت في شؤون تلك الحكومات كافة مباشرة أو بالواسطة وإرادتها على العمل بإرادتها حتى حق أن يقال أنه لم تطر ذبابة لم تشعر بها حكومة واشنطون في أنحاء تلك القارة.

ولقد هدد ألمانيا القائد ديوي أحد رجال الولايات المتحدة بالحرب لأن بعض سفنها قامت بتمرينات في جزيرة مارغريتا على شاطئ فنزويلا سنة 1901 وكان أملها أن تقيم لها فيها محطة للفحم وزاد في استيلاء الولايات المتحدة مهاجرة ربع مليون من الجنس التوتوني الجرماني إلى جنوبي بلاد برازيل. وقد كادت الحرب تنتشب بين إنكلترا وأميركا على مسائل فنزويلا ثم انحل الأشكال صلحاً بعد أن توعد رجال أميركا إنكلترا بانفصال كندا عن نفوذها إذا هي ظلت على عنادها كما سقطت إسبانيا وهي العدوة القديمة لأميركا من حالة مجدها واضطرت إلى الإذعان للقوة. أما روسيا فتخلت عن آخر ما لها في تلك القارة الأميركية لقاء بضعة ملايين من الدولارات وقد اقترح على فرنسا أن تتخلى عن جزائر المارتينيك والكوادولوب وتبيعها بيع الرضى لا بيع غبن. أما إنكلترا وألمانيا وإيطاليا فقد عاد لهن بعض نفوذهن في فنزويلا. وهكذا تجد القارة الأمريكية وفيها نحو عشرين أمة صغيرة كلها طوع أمر الولايات المتحدة. فقد كانت المكسيك ولا تزال تحمى بمبدأ مونرو وأخذت منها التكساس. وكندا مؤتلفة مع الأميركان وهؤلاء يركنون إليها. وبورتوريكو أضيفت إليهم وانتيل الدانمرك وسان دومينيك كادا يباعان لها وكوبا أصبحت أميركية وبنما وكولومبيا وفنزويلا وكل أواسط أميركا لا تعمل إلا بالروح التي تبعثها فيها دار ندوة واشنطون. وقد سكتت برازيل في مسألة آكر المهمة وشيلي والأرجنتين وبيرو وجمهورية خط الاستواء يعترفن بمبدأ مونرو على درجات مختلفة.

ولطالما أدى الحسد المتأصل بين برازيل والأرجنتين وشيلي إلى إهراق الدماء ولذلك كان بعضهم يقول أن النهضة الأميركية غير ثابتة الأساس والخطر محيق بها وأن نتائج تلك النهضة مجهولة وأن الحوادث أثبتت أن الولايات المتحدة لم تنظر في كل أحوالها إلا لمصلحتها الخاصة وأن نهضتها قامت بالقوة والحرب ومع هذا فلا يخطر ببال أن أميركا تود أن تضم إليها العالم الجديد برمته بل تريد المحافظة على الحالة الحاضرة عاملة في كل شؤونها بمبدأ مونرو الشريف المبني على قاعدة فسيولوجية.

ومن نتائج هذه النهضة أر رقيت الولايات المتحدة أرقى درجات العمران فكانت صادراتها سنة 1871 خمسمائة مليون فرنك فبلغت سنة 1900 - 2300 مليون هذا مع أن جانباً كبيراً من غلاتها يصرف في البلاد. وكانت معاملها سنة 1900 - 415ر490 معملاً تصنع ما قيمته 65 ملياراً من المصنوعات. وللولايات المتحدة المقام الأول بحاصلاتها الزراعية فإنها بلغت خمسة عشر ملياراً ونصف مليار من الفرنكات. وتحتاج أوربا مسانهة إلى 480 مليون هكتو لتر من الحنطة تستغل أكثرها وتبقى محتاجة إلى 134 مليون من الخارج تقدم أميركا منها 25 إلى 60 مليون هكتو لتر بعد أن تقوم غلات البلاد بحاجات سكانها. وقد زاد عدد سكان المدن الكبرى على نسبة غريبة فكان سكان فرنسيسكو سنة 1850 - 800ر34 فبلغوا في أيامنا 000ر350 وكان سكان بنتيمور 169 ألفاً فصاروا 625 ألفاً وسكان فلادلفيا 340 ألفاً فبلغوا مليوناً وربع مليون. وزادت نفوس شيكاغو من 963ر129 إلى 000ر008ر1.

وكان لهذا الارتقاء الاقتصادي الذي لم يسمع بمثله يدٌ كبرى لأصحاب المليارات من رجال الأموال والغنى الواسع في تلك البلاد ممن أوجدوا فيها ضرباً من ضروب الملك في الأعمال والأموال إلا وهم قادة الاحتكار من التجار مثل كارنجي وفندربلت ومورغان فكانوا ملوك الأرض حقاً وقياصرة الناس بلا مراء من أجل هذا لما رحل مورغان إلى جزيرة كوبا عنيت الحكومة بأمر الطرق التي مر قطاره الخاص فيها عناية فائقة وقد قابله إمبراطور ألمانيا أحسن مقابلة وخافت بورصة مدينة نيويورك وأزعجت لزكام دماغي طفيف أصابه عرضاً منذ بضع سنين.

ضاقت أميركا بما رحبت بهؤلاء الأغنياء فلم يجدوا لأموالهم مصارف في بلادهم حتى قام في أفكارهم أن يبعثوا البعوث من مواليهم وخدامهم يلتمسون في عرض البحور والبرور مناهل يردونها وخزائن يوزعون فيها كنوز أموالهم. وأنت ترى بهذا أن النهضة الأميركية كالنهضة الإنكليزية قائمة على أساس اقتصادي مغموس بحب المصلحة حتى قال أحدهم: أن سياسة التوسع الأميركية ليست في الحقيقة إلا مثالاً من أمثلة الأنانية المتوحشة التي تمليها المطامع والآمال المستحكمة في عقول شعب وجه جميع قواه الحية نحو تنمية الثروة والعروض المادية أحسن تنمية والأخذ بضبع الراحة والتبسط في مناحي الرفاهية والسعادة.

ومعلوم أن التجارة تابعة للعلم فحيثما خفق علم دولة تتحسن تجارة أبنائها. والروح الأميركية معجونة بالكبرياء طامعة بالغلبة والاستيلاء مطبوعة على الحماس والإدلال بالقوة التي تنبهت وسلكت مسلكها الطبيعي العادي بفضل مبدأ مونرو. قال الفيلسوف اميرسون الأمريكي أن الروح العامة حاضرة في كل شيء لا تعمل فيه إلا للخير والحسن ويكفي أن يقوم كل منا على قدم الصدق بما خلق له حتى تسود الألفة في العالم. وقد اتخذ هذا الحكيم المرء صورة رمزية وأكد عليه أن يعتقد بفكره ويثق بقوته ويعجب بنفسه. وهذه هي القاعدة المطردة التي انصبغ بها أبناء الأميركان وطبعوا نفوسهم عليها. ولذا أصبح كل تغلب عند الأميركان جهاداً مقدساً كما كان قديماً عند المسلمين ونفذت النهضة في عظم الأمة وجبل عليا لحمها.

زادت حركة الأفكار في العالم أواخر القرن التاسع عشر فأنشأت الأمم تجتهد في اظبان ملكاتها وما انطوت عليه من الرغبات والآراء. ويقال أنهم يحاذرن ارتباطاً هائلاً ينبغي لكل منها أن تتوقاه. فكانت نتيجة ذلك عند الأمم القوية اتخاذ سياسة عدائية في توطيد السلطة ونشر الكلمة وهذا هو معنى النهضة التي تجد أثراً من آثارها في روسيا وألمانيا وتراها على أشدها في إنكلترا والولايات المتحدة أما الأمم الضعيفة فكانت النتيجة عندها أن دافعت عن حوزتها بحد المرهفات ووقفت أبداً على رد الغارات والهجمات وهذه هي الوطنية. فإيطاليا وفرنسا خصوصاً قد أحستا بهذا النفوذ والمبدأ الذي جمعت فيه الولايات المتحدة بين الهجوم والدفاع وعاشت في ظله طامحة أن تجمع في البيت الأبيض (قصر رئيس جمهوريتها) زمام حكم العالم على نحو ما كانت رومية قديماً تجمع في قصر قياصرتها. هو مبدأ مونرو القائل أميركا للأميركيين بل أميركا لكان الشمال من أهلها فصح والأمر على ما ذكر أن تقول بعده العالم للولايات المتحدة كلمة رددتها صحفهم في الحرب الإسبانية منذ بضع سنين وجهروا بأن نابليون على ما اشتهر عنه من القوة والمضاء قد جبن عن اكتساح أميركا وإدارة دفة مطامعه نحوها. ومن العبث أن يقال أن أمة ولو كان زعيمها قيصراً أو الاسكندر تفتح العالم اليوم بعد أن بلغ الثمانية أو العشرة شعوب في الأرض ما بلغوه من التمدن والتبسط في مناحي الارتقاء وأن ينقسم العالم كما كان على عهد الرومانيين إلى ولايات وقنصليات. ولو وقف الأمر عند هذه الحال لكان الخطر على العالم قليلاً من النهضة الأميركية لكن الولايات المتحدة لا تفتأ عند مسيس الحاجة أن تطيل يد التعدي على خصيماتها من الأمم وتستلب منها ما تريده من مرافئ ومراقب وقلاع ترصد بها طرق تجارة العالم. وأخذ مانيلا هو أول خطوة في هذا السبيل الطويل.

أما فتحت إنكلترا على هذا النحو جبل طارق ومالطة والسويس وكلكتا وملبورن ورأس الرجاء الصالح؟ أما أميركا فتطمح إلى أن تجعل لها مقاماً في شؤون سياسة العالم لاعتقادها بعلو كعبها وفضل تقدمها على نحو ما فعلت النمسا قديماً في أوربا وكما كان شأن فرنسا عندما نجحت سياسة ريشيليو ومازارين. وبعد أن صرح الرئيس روزفلت عام 1903 بأن للولايات المتحدة حق التقدم الاقتصادي على البحر المحيط ومنه على العالم عاد يقول في السنة التالية من الخطأ أن يعتقد معتقد بأن أمته ظامئة إلى الفتح والاستعمار فإنه ما من أمة تخشى بأس الولايات المتحدة إذا حافظت على الراحة وقامت بوظائفها وأبانت أنها تحسن العمل في المواد السياسية والصناعية ولكن سوء الاستعمال البربري الدائم والضعف الناتج من التراخي في عامة صلات مجمع متمدن هو مما يؤدي إلى تداخل أمة متمدنة. قال هذا وهو الدليل على ما تكنه صدور تلك الأمة من المرامي البعيدة. وتداخل أميركا في شؤون يهود رومانيا ونصارى أرمينية ويهود كيشنيف بحجة الإنسانية أثر من آثار التجارب الأولى التي تريد القيام بها لتجس نبض العالم وتقدر مبلغ قوتها. وهذا تحين للفرص ما جرى مثله لألمانيا القديمة والنمسا وإسبانيا وفرنسا أيام العزة والقوة.

جرت إنكلترا على حرية المقايضة في التجارة فكان لها التقدم في أسواق التجارة في العالم أما فرنسا فقد مشت على طريقة التعريفتين في تقاضي المكوس والجمارك منذ سنة 1892 وفي تلك السنة مشت ألمانيا على طريقة حماية التجارة على نسق أشد من نسق فرنسا وسنة 1899 رفعت إيطاليا تعرفة جماركها وسنة 1899 عملت إسبانيا كذلك وسنة 1898 قامت بمثل ذلك نروج وروسيا وفعلت السويد مثل هذا الفعل سنة 1892 والبلجيك سنة 1900 وبرازيل والمكسيك وكندا سنة 1897 والأرجنتين واليابان سنة 1899 والهند الإنكليزية سنة 1896. وكذلك كان شأن إنكلترا فإنها أخفت مقاصدها من حماية تجارتها بحجة تقاضي رسوم أميرية من الجعة والخمور. أما الولايات المتحدة فإنها تتطلب كسائر الشعوب بل أكثر من كل الشعوب امتداد سلطتها مع حماية تجارتها والحماية فيها أبداً على أمتنها بفضل مبدأ مونرو حتى فاقت في هذه الطريقة أمم العالم قاطبة.

الباقي للآتي