مجلة المقتبس/العدد 11/صحف منسية

مجلة المقتبس/العدد 11/صحف منسية

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1906



رأي الجاحظ في التعريب

قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له أن الترجمان لا يؤدي أبداً ما قال الحكيم على خصائص معانيه وحقائق مذاهبه ودقائق اختصاراته وخفيات حدوده ولا يقدر أن يوفيها حقوقها ويؤدي الأمانة فيها ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على المجرى وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها والإخبار عنها على حقها وصدقها إلا أن يكون في العلم بمعانيها واستعمال تصاريف ألفاظها وتأويلات مخارجها مثل مؤلف الكتاب وواضعه. فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق وابن ناعمة وأبو قرة وابن فهر وابن وهيلي وابن المقفع مثل ارسطا طاليس ومتى كان خالد مثل أفلاطون ولابد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها حتى يكون فيها سواء وغاية. ومتى وجدناه أيضاً قد تكلم بلسانين علمنا أنه قد أدخل الضيم عليها لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه كتمكنه إذا انفرد بالواحدة وإنما له قوة واحدة فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليها وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق والعلماء به أقل كان أشد على المترجم وأجدر أن يخطئ فيه ولن تجد مترجماً يفي بواحد من هؤلاء العلماء هذا قولنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله عز وجل.

نصيحة الجاحظ للمؤلف

ينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء وكلهم عالم بالأمور وكلهم متفرغ له ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتبه غفلاً ولا يرضى بالرأي الفطير فإن لابتداء الكتاب فتنة وعجباً فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة وتراجعت الأخلاط وعادت النفس وافرة أعاد النظر فيه فتوقف عد فصوله توقف من يكون وزن طبعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب ويتفهم معنى قول الشاعر

إن الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يلج بهم عيٌ وإكثار ويقف عند قولهم في المثل كل مجر في الخلاء يسر فيخاف أن يعتريه ما اعترى من أجرى فرسه وحده أو خلا بعمله عند فقد خصومه وأهل المنزلة من أهل صناعته ليعلم أن صاحب القلم يعتريه ما يعتري المؤدب عند ضربه وعقابه فما أكثر من يعزم على خمسة أسواط فيضرب مائة لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال فلما ضرب تحرك دمه فأشاع فيه الحرارة فزاد في غضبه فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار. وكذلك صاحب القلم فما أكثر من يبتدي الكتاب وهو يريد مقدار سطرين ويكتب عشرة والحفظ مع الإقلال أمكن وهو مع الإكثار أبعد.

واعلم أن العاقل إن لم يكن بالمتتبع فكثيراً ما يعتريه من ولده أن يحسن في عينه منه المقبح في عين غيره فليعلم أن لفظه أقرب نسباً منه من ابنه وحركته أمس به رحماً من ولده لأن حركته شيءٌ أحدثه من نفسه وبداءته من عين جوهره فصلت ومن نفسه كانت وإنما الولد كالمخطة يتمخطها والنخامة يقذفها. ولا سواء إحراجك من جزئك شيئاً لم يكن منك وإظهارك حركة لم تكن حتى كانت منك. ولذلك تجد فتنة الرجل بشعره وفتنة بكلامه وكتبه فوق فتنته بجميع نعمته. وليس الكتاب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه حتى لا يحتاج السامع لما فيه من الروية ويحتاج من اللفظ إلى مقدار يرتفع به ن ألفاظ السفلة والحشوة ويحطه من غريب الأعراب ووحشي الكلام وليس له أن يهذبه جداً وينقحه ويصفيه ويروقه حتى لا ينطق إلا بلب اللب وباللفظ الذي قد حذف فصوله وتعرفه وأسقط زوائده حتى عاد خالصاً لا شوب فيه فإنه إن فعل ذلك لم يفهم عنه إلا بأن يجدد لهم إفهاماً مراراً وتكراراً لأن الناس كلهم قد تعودوا المبسوط من الكلام وصارت أفهامهم لا تزيد عن عاداتهم إلا بأن يعكس عليها ويؤخذ بها ألا ترى أن كتاب المنطق الذي قد وسم بهذا الاسم لو قرأته على جميع خطباء الأمصار وبلغاء الأعراب لما فهموا أكثره وفي كتاب اقليدس كلام يدور وهو عربي وقد صفي ولو سمعه بعض الخطباء لما فهمه ولا يمكن أن يفهمه من يريد تعليمه لأنه يحتاج إلى أن يكون قد عرف جهة الأمر وتعود للفظ المنطقي الذي استخرج من جميع الكلام.