مجلة المقتبس/العدد 12/القسوة في المدارس

مجلة المقتبس/العدد 12/القسوة في المدارس

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 1 - 1907



أسست المدارس لإنماء القوة العاقلة في الإنسان ولتوسيع المدارك وتنوير العقول وتهذيب النفوس وتدميث الأخلاق وترقية الأفكار ولبث الألفة والإخاء والحب وحقائق الحرية والمساواة ونشر مبادئ الحق والخير والجمال والشرف والشهامة والجرأة ونزاهة القلب. ومن أخص واجباتها أيضاً الاعتناء بالصحة من وراء الغاية وتقوية الجسم تقوية للعقل وكبح جماح الأهواء وإنهاض الهمم ونقض كل وهم وضلال وتمويه وخرافة وتقويم كل اعوجاج وغرس صفات الإنسانية الصرفة وما طاب من العلوم الضرورية للمرء ضرورة الطعام والشراب واللباس. وبالجملة فقد أنشئت المدارس لتقود الإنسان وتدفعه في سبيل الكمال الإنساني.

قال كانت الفيلسوف الألماني: سرار تقاء الإنسانية في المدارس. وقال جول سيمون فيلسوف الفرنسيين ليس من واجبات المدارس تعليم العلوم فقط فإن من أخص واجباتها بث الفضيلة والإقدام. وقد اتفق العلماء على الإقرار بوجوب تهذيب النفوس قبل تعليم الرؤوس وتفضيل المبادئ الأدبية على الأصول العلمية ونزع كل غلظة وفظاظة وسيئة باللين والرفق والإقناع.

فليست الغاية إذن من إنشاء المدارس اعتقال الأولاد وإملاء الذاكرة فيهم من قواعد الكتب اللغوية والعلمية والرياضية والطبيعية وتحقيرهم وإرهابهم وإهانة نفوسهم وجرح عواطفهم وإيجاعهم بقسوة الشتم والضرب كما يخيل للمعلمين الذين يتوهمون أنهم لا يستطيعون أن يعلموا ويهذبوا إلا بالشتم والضرب.

الشتم والضرب في المدارس أثران من آثار الهمجية والتوحش يمثلان كل التمثيل في مدارس القرن العشرين على ما فيه من دلائل التقدم العلمي وعلائم الارتقاء الأدبي. فيعيدان ذكرى أقبح صفحات العصور الغابرة أيام سادت الخشونة والقسوة ولم يكن حد اعتبار الحيوان الناطق فيها يتعدى حد اعتبار رفيقه الحيوان الأبكم إلا بشيء لا يذكر. وهما من أكبر العوامل الحائلة دون إقبال الأولاد على المدارس برغبة داخلية وشوق طبيعي كما أنها من أهم البواعث التي تمثل لهم المدارس سجوناً مظلمة ومحال أسر ومطابق عذاب وشقاء.

نحن في زمن لا غنى لنا فيه عن العلم وقد أصبحت المدارس من حاجاتنا الأولية ومن الضروريات التي يجب الاعتماد عليها بعد اعتماد الأمهات والآباء في إعداد رج المستقبل فنحن إذاً في أشد حاجة إلى ترغيب أحداثنا في المعارف وتحبيب المدارس إلى نفوسهم وجعلها في عيونهم أماكن سرور مقدسة تترفع عن كل ما يمثل الحيوانية ودور استفادة تتعالى عما يشين الإنسانية.

ومن الأسف أن القسوة مازالت شعار المدارس والشتم ما انفك لسان حال المعلم والضرب سلاحه وعدته ومع كل ما وصف من أضرار هذين الأثرين القبيحين وقيل في لزوم إبادتهما ومع كل ما صدر من نواهي ذوي النفوذ وأوامر الحكومات في وجوب منعهما ما برح المعلمون قساة القلوب يشتمون الطلبة لأقل الأسباب وينهالون عليهم بالضرب لأدنى الهفوات.

مضت قرون كثيرة والقسوة ساعد المربي وعضد المعلم المتين والشتم والضرب رائجان في المدارس حتى أن سليمان الحكيم قد أشار باستعمال القضيب في تهذيب البنين. وكان الاسبرطيون يتركون الأولاد في المدرسة جياعاً ويضربونهم كثيراً تشجيعاً لهم على مشاق الحياة وعندما يعجز الولد عن التجلد ويرفع صوته من الألم تتلطخ حياته بالعار. وكان قدماء المصريين يعاقبون التلاميذ بالضرب بالعصي متمثلين بقول القائل_إن آذان التلاميذ في ظهورهم فهم لا يسمعون إلا إذا ضربوا. ولقد بلغ من اعتقاد الناس قبلاً بفائدة القسوة في المدارس أن صار العامة يمازحون التلاميذ بقولهم راح العيد وفرحاته وجاء المعلم وقتلاته وأمسى الوالدون يخوفون الأطفال من المعلمين كما يخوفونهم من المارد والجن والغول. وكان الرجل يقتاد ابنه إلى المدرسة ويقول للمعلم لك اللحم ولي الجلد والعظم فلا تبخل بالفلق أو تتوانى بالضرب. وخير هدية كانت تسر المعلم هي حزمة قضبان وخصوصاً إن كانت أغصان رمان. وجل وصية كان يوصي بها هي الشتم بفظاظة والضرب بقسوة وكان يلام إذا تبسم وبش في وجه الأولاد وتهاون بالعقوبات الشديدة ولم يستعمل وظيفة المنتقم لا وظيفة المهذب.

هكذا كانت المدارس سابقاً بؤرة القسوة والجور ومستوبل الشتم والضرب على أن تلك الأيام لم يتجاوز فيها العلم حد الظنون ولم تكن المعارف غير قواعد لغات ولم يكن المعلمون أفضل من رعاة المواشي. وعلماء الأخلاق والنفوس كانوا قلائل نادرين والغرور والتقليد واتباع الأهواء والادعاء والتمويه والتظاهر أمور كانت من أخص صفات المدرسين.

أما الآن فما عذرنا وقد تغيرت الأحوال وتبدلت المدارس بفضل العلم الصحيح المؤيد بالتجربة والبرهان والاستقراء والإحصاء وظهرت لدى الناس أضرار التربية القاسية المذلة الموجعة فعمل الفضلاء على استبدال التربية اللطيفة المعزة المقنعة وبها سعوا جهدهم حتى استتب لهم الأمر في أكثر البلدان. وأول من سعى في ذلك في بلاد المشرق علي باشا مبارك أحد وزراء المعارف في مصر والدكتور دانيال بلس رئيس الكلية السورية السابق في بيروت. جعلا التعليم مقروناً بكرامة النفس وأبطلا الشتم والضرب بتاتاً واكتفيا بالقول والقدوة. ومنذ ثلاث سنين صدر أمر نظارة المعارف العثمانية بمعاقبة المعلم الذي يضرب تلاميذه وبمنعه من التعليم إذا عاد لضربهم مرة أخرى وقد حظرت جمعية فلسطين الروسية على معلمي مدارسها ضرب التلاميذ وجعلت من أهم قوانينها طرد كل معلم يقسو ويتصلف.

إلا وأن صفات الإنسانية ترتقي في الكون العاقل بواسطة التربية الحسنة والتعليم الجيد. وأهم مقتضيات التربية والتعليم الضرورية جداً هي أن يكون المربي والمعلم قادراً على إقناع التلميذ بأن ما ينهاه عنه مضر حقاً وما يدفعه إليه نافع لا محالة وأن ما يلقنه إياه من الآداب والعلوم ليس إلا مصابيح بين طريق حياته وعوامل تقوده في سبيل الكمال الإنساني دون أن يتعدى حد العقل والضمير فيضغط على الأول ويضعف الثاني أو بالحري يميته وكذلك إقناع التلميذ بحسن نيات المعلم بما يبديه نحوه من الرقة واللطف ودلائل الحب والإكرام. فالمعلم الذي يقسو على التلاميذ ويعاملهم بالشتم والضرب بحجة أنه يروم نفعهم يضر من حيث يقصد الإفادة وبدلاً من نزع السيئات من أخلاقهم نزعاً باتاً كما يخال يزيدها تمكيناً فيهم. لأن الولد الذي يحسن سلوكه خشية الشتم لا حباً بالآداب ويتقن دروسه رهبة الضرب لا رغبة في النجاح يقيم في أعماق نفسه أماكن حصينة للسيئات حتى إذا لاحت لها الفرص وخلت من الرقباء وأمنت العقاب تظهر من مكانها بادية للعيان وهكذا يتعلم الكذب والخداع والرياء ويشب على الجبن واللؤم والحقد وغير ذلك من نتائج القسوة والضغط وتتأصل فيه كراهة المعلم ويخاله عدواً لدوداً. هذا عدا ما يقتبسه من قسوته ويعيه في دماغه من كلماته الفظة الغليظة الدنيئة وعدا ما يتشربه من شراسته وعناده واستبداده.

فالقسوة في المدارس من أكبر آفاتها ومن أسوأ سباتها لأنها تخمل عقول الأحداث وتحط نفوسهم وتفقدهم الشعور الأدبي وقوة الإرادة والاعتماد على النفس وصحة الحكم على الأمور والتمييز بين الحسن والقبيح إذ يستسلمون للمعلمين بعقولهم وقلوبهم وينقادون إلى أهوائهم (أي أهواء المعلمين) انقياداً أعمى يصدهم عن إطلاق مجاري العقل والابتكار والاستنباط والاستنتاج ويزيدهم شراً على شر والفرق بين آداب تلاميذ المعلم المستبد القاسي الفظ المهين الضراب ونجاحهم وبين آداب تلاميذ المعلم اللطيف المحب المكرم المقنع بين ظاهر.

قال الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده: جعل التعليم مقروناً بكرامة النفس هو قوام التربية فإن المعاقبة على الذنب بالإهانة والقسوة لا تؤدب النفس لأنها تخفي الأخلاق الذميمة ولكنها لا تمحوها بل تزيدها وتقويها فتكون كامنة حتى إذا تسنى لها الظهور تظهر في أقبح الصور. وأما الذي يمحو الأخلاق الذميمة فهو الإقناع بقبحها وضررها وحسن المعاملة وتكريم النفس حتى تتكرم من الشوائن وتأنف من كل ما ينافي الشرف.

وقال ابن خلدون أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم ذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف. واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة لكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراءً وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى أنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب. ومن كلام عمر من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة.

هذان رأيان لحكيمين كبيرين من آراء الحكماء التي لا تحصى في هذا الشأن دلهم عليها العلم والاختبار والاستقراء والزمان ويضيق بنا المقام إذا أردنا إحصاء الحوادث المحزنة التي جرت وتجري في المدارس المعروفة بالقسوة. كم من أمهات ثكلن بنيهن لشراسة المعلمين ولكم غض آباءٌ الطرف عن قسوة المدرسين ففقدوا أحداثهم وكم من أولاد ضاع مستقبلهم من غلظة المعلمين. سلوا المستشفيات والبيمارسانات سلوا الكهنة والمشايخ والمشعوذين والأطباء والإحصائيين علهم ينبئونكم صريخاً عن شهداء القسوة في المدارس. ولرب معترض من مزاولي حرفة التعليم الجالسين على كراسي أفلاطون وجول سيمون ومكس ملر وابن رشد المنتحلين لقب السيد المسيح ينتقد بعض كلامي ويرشقني بأسهم من ملام ويتخذ وصية حكيم الإسرائيليين حجة علي وما جوابي إلا أن القسوة في المدارس لا تفيد إلا في البلاد المتوحشة فقط حيث لا أم تهذب الأطفال ولا أب يحسن القدوة ولا هيئة مرتقية تساعد المعلم في نياته ولا قدوة خير تمنع الشر. ومع ذلك فيقتضي حينئذ لمستعمل العصا (في التربية والتعليم) حكمة سليمان وصبر أيوب ورقة السيد المسيح وبحث دروين واستقراء سبينوزا وإلا فالقسوة في المدارس مضرة على كل حال.

بيروت

جرجي نقولا باز