مجلة المقتبس/العدد 14/تسامح العظماء

مجلة المقتبس/العدد 14/تسامح العظماء

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 3 - 1907



تابع ما قبله

اتصل ثابت بن قرة الحراني بالمعتضد وأدخله في جملة المنجمين وأقطعه ضياعاً جميلة وكان يجلسه بين يديه كثيراً بحضرة الخاص والعام ويكون بدر الأمير قائماً والوزير وهو جالس بين يدي الخليفة. قال أبو إسحاق الصابي وهو ممن حظي عند الأمراء أيضاً: إن ثابتاً كان يمشي مع المعتضد في الفردوس وهو بستان في دار الخليفة للرياضة وكان المعتضد قد اتكأ على يد ثابت وهما يتماشيان ثم نثر المعتضد يده من يد ثابت بشدة ففزع ثابت فإن المعتضد كان مهيباً جداً فلما نثر يده من يد ثابت قال له: يا أبا الحسن وكان في الخلوات يكنيه وفي الملأ يسميه سهوت ووضعت يدي على يدك واستندت عليها وليس هكذا يجب أن يكون فإن العلماء يعلون ولا يُعلون.

وكان سنان بن ثابت بن قرة في خدمة المقتدر بالله والقاهر وخدم أيضاً بصناعة الطب الراضي بالله. وكان ابنه ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة في خدمة الراضي بالله أيضاً وخدم بصناعة الطب المتقي بن المقتدر بالله والمستكفي بالله والمطيع لله. واتصل أبو الحسن الحراني ثابت بن إبراهيم بن زهرون بعضد الدولة وكان له منه الجاري السني. وكان غالب طبيب المعتضد بالله وكان أولاً عند الموفق طلحة بن المتوكل وارتضع سائر أولاد المتوكل من لبن أولاد غالب فكان يسر بهم فلما تمكن الموفق من الأمر أقطعه ونوله وأغناه وكان لم مثل الوالد وعالج الموفق من سهم كان أصابه في ثندوته وبرأ فأعطاه مالاً كثيراً وأقطعه وخلع عليه لغلمانه من أراد إكرامي فليكرمه وليصل غالباً فوجه إليه مسرور بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب ووجه إليه سائر الغلمان مثل ذلك وصار إليه مال عظيم ولما قبض على صاد وعبدون أخذ لعبدون عدة غلمان نصارى مماليك فمن أسلم منهم أجري له رزق وترك ومن لم يسلم منهم بعثه إلى غالب وكان عدد من أنفذ إليه سبعين غلاماً أزمة وغيرها فلما ورد عليهم معهم رسول من قبل الحاجب قال غالب: أي شيء أعمل بهؤلاء؟ وركب من وقته إلى الموفق فقال: هؤلاء يستغرقون مال ضيعتي مع رزقي. فضحك الموفق وتقدم إلى إسماعيل زيادة في إقطاعه الحرسيات وكانت ضياعاً جليلة تغل سبعة آلاف دينار وأوعدها له بخمسين ألف درهم في السنة وبعد الموفق طلحة خدم لولده المعتضد بالله أبي العباس أحمد وكان مكيناً عنده حظياً في أيامه وكان المعتضد يحسن الظن به ويعتمد على مداواته.

وخدم أبو عثمان سعيد بن غالب المعتضد بالله بصناعة الطب وحظي عنده وكان كثير الإحسان إليه والأنعام عليه. وعوّل الملوك على صاعد بن بشر في العلاج ولطالما حصل له مال عظيم وحشمه الخليفة ووزيره وزكاه وقدمه على جميع من كان في زمانه. وكذلك ديلم داود بن ديلم خدم هذا المعتضد بالله في الطب وخصّ به فكانت التوقيعات تخرج بخط ابن ديلم لمحله منه ومكانته وكان يتردد إلى دور المعتضد وله منه الإحسان الكثير والأنعام الوافر. ومنهم أبو عثمان سعيد بن يعقوب الدمشقي كان منقطعاً إلى الوزير علي بن عيسى. ومنهم عيسى طبيب القاهر كان عمدته ويركن إليه ويفضي إليه بأسراره. وكان إسحاق بن شليطا خادماً بالطب للمطيع لله. وفنون المتطبب كان يختص بخدمة بختيار ويكرمه ويعده أمراً عظيماً. ونظيف القس الرومي استخدمه عضد الدولة في البيمارستان الذي أنشأه ببغداد وخلع عليه خلعاً سنية. وكذلك أبو غالب بن صفية تقدم في زمن المستنجد بالله والمستضيء بأمر الله. وكذلك أمير الدولة ن التلميذ من رجال المستضيء بأمر الله وبلغت به الأنفة والغنى أنه كان لا يقبل عطية إلا من خليفة أو سلطان، مدحه السيد النقيب الكامل بن الشريف الجليل والشريف أبو يعلى محمد بن الهبارية العباسي بقصيدتين غراوين وذكر أفضاله وكماله كما مدح الشريف الرضي أبا إسحاق الصابي كثيراً وكان بينهما مودة أكيدة. وكذلك مدحه الطغرائي وابن جكينا وغيرهما كما مدح الشريف ابن الهبارية أبا الفرج يحيى بن صاعد بن التلميذ من أسرة أمير الدولة وكان له جماعة من الأنساب كل منهم متعلق بالفضائل والآداب.

ومنهم أوحد الزمان أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي اليهودي كان في خدمة المستنجد بالله. ومنهم أبو الخير المسيحي طبيب الناصر لدين الله. وابن نصر بن المسيحي حظية أيضاً أمره هذا الخليفة عقيب برئه من مرض على يده أن يدخل دار الضرب ويحمل من الذهب مهما قدر أن يحمله ففعل به ذلك ثم أتته الخلع والدنانير من أم الخليفة ومن ولديه الأميرين محمد وعلي والوزير نصير الدين أبي الحسن بن مهدي العلوي الرازي ومن سائر كبار الأمراء بالدولة فحصل من العين الدنانير عشرين ألف دينار ومن الثياب والخلع جملة وافرة وألزم الخدمة وفرضت له الجامكية السنية والراتب والإقامة. وكان أبو الفرج صاعد بن هبة الله بن توما طبيب نجم الدولة أبي اليمن نجاح الشرابي وارتقت به الحال إلى أن صار وزيره وكاتبه ثم دخل إلى الناصر وكان يشارك من يحضر من أطبائه في أوقات أمراضه ثم حظي عنده الحظوة التامة وسلم إليه عدة جهات يخدم بها وكان بين يديه فيها عدة دواوين وكتّاب قال ابن القفطي: إنه كان بمنزلة الوزراء واستوثقه الناصر على حفظ أموال خواصه وكان يودعها عنده ويرسله في أمور خفية إلى وزرائه ويظهر له في كل وقت.

وخدم أبو الحسين صاعد بن هبة الله بن المؤمل المسيحي بالدار العزيزة الناصرية الإمامية وتقرب قرباً كثيراً. وكسب بخدمته وصحبته الأموال وكانت له الحرمة الوافرة والجاه العظيم. ووصل أبو الحسن بن سوار المعروف بابن الخمار بالطب إلى أن أقبل له محمود الملك الأرض وكان الملك محمود عظيماً جداً. وتقدم أبو سهل المسيحي عند سلطان خراسان. وأجرى الرشيد على منكه الهندي رزقاً واسعاً وأموالاً كافية. وخدم إسحاق بن سليمان الإسرائيلي الإمام أبا محمد عبيد الله المهدي صاحب أفريقيا بصناعة الطب. وكان يحيى بن إسحاق الطبيب في صدر الدولة عبد الرحمن الناصر لدين الله الأندلسي واستوزره وولي الولايات والعمالات وكان قائد بطليموس زماناً وكان له من الناصر محل كبير كان ينزله منزلة الثقة ويتطلع على الكرائم والخدم. وهارون بن موسى الأشبوني خدم الناصر والمستنصر بصناعة الطب وإسحاق بن قسطار من أحبار اليهود خدم بالطب الموفق مجاهداً العامري وابنه إقبال الدولة علياً. وحسداي بن إسحاق من أحبار اليهود أيضاً خدم بالطب الحكم بن عبد الرحمن الناصر لدين الله. وكان ابن بكلارش يهودياً من أكابر علماء الأندلس في صناعة الطب وخدم بها بني هود.

وحظي بليطيان الطبيب بطريرك الإسكندرية على النصارى الملكية في أيام الرشيد ووهب له مالاً كثيراً وكتب له منشوراً في كل كنيسة في يد اليعقوبية مما أخذوها وتغلبوا عليها أن ترد إليه فرجع بليطيان إلى مصر واسترد من اليعقوبية كنائس كثيرة. وخدم إبراهيم بن عيسى بالطب الأمير احمد بن طولون وكذلك سعيد بن توفيل. وكان إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس في خدمة الحاكم بأمر الله ويعتمد عليه في الطب. وكان موسى بن العازار في خدمة المعز لدين الله العلوي وكان في خدمته أيضاً ابنه إسحاق بن موسى المتطبب وكان جليل القدر عند المعز ومتولياً أمره واغتم المعز لموت إسحاق لموضعه منه ولكفايته وجعل موضعه أخاه إسماعيل بن موسى وابنه يعقوب بن إسحاق. وكان أبو الفتح منصور بن سهلان بن مقشر طبيب الحاكم بأمر الله ومن الخواص عنده وكان العزيز أيضاً يستطبه ويرى له ويحترمه وكان متقدماً في الدولة الفاطمية. وكان الحقير النافع من أطباء الحاكم الخاص وكان ابن مقشر مكيناً في الدولة الفاطمية حظياً عند الحاكم بلغ منه أعلى المنازل وأسناها وكان له منه الصلات الكثيرة والعطايا العظيمة ولما مرض ابن المقشر عاده الحاكم بنفسه وأطلق لمخلفيه مالاً وافراً.

وخدم أفرائيم بن الزفان الخلفاء الذين كان في زمانهم بمصر وحصل من جهتهم من الأموال والنعم شيئاً كثيراً. وكان ابن جميع الإسرائيلي من أطباء الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده عالي القدر نافذ الأمر يعتمد عليه في صناعة الطب. وخدم أبو البيان بن المدور الخلفاء المصريين في آخر دولتهم ثم خدمة صلاح الدين يوسف وكان يرى له ويعتمد على معالجته وله منه الجامكية الكثيرة والافتقاد المتوفر وتعطل في آخر عمره من الكبر والضعف فأطلق له الناصر في كل شهر أربعة وعشرين ديناراً مصرية تصل إليه ويكون ملازماً لبيته ولا يكلفه خدمة وبقي على تلك الحال وجامكيته تصل إليه نحو عشرين سنة. وكان الرئيس بن هبة الله الإسرائيلي من خدمة الخلفاء المصريين بالطب وكانت له منهم الجامكية الوافرة والصلات المتوالية. وخدم الموفق بن شوعة الإسرائيلي الملك الناصر بالطب لما كان بمصر وعلت منزلته عنده. وممن حظي في أيام هذا أيضاً وأيام أخيه الملك العادل أبي بكر بن أيوب أبو المعالي بن تمام اليهودي. وكان السلطان صلاح الدين أيضاً يرى لأبي عمران الرئيس موسى الإسرائيلي ويستطبه وكذلك ولده الأفضل علي وهو الذي يمدحه القاضي السعيد بن سناء الملك بقوله:

أر طب جالينوس للجسم وحده ... وطب أبي عمران للعقل والجسم

فلو أنه طب الزمان بعلمه ... لأبراه من داء الجهالة بالعلم

ولو كان بدر التم من يستطبه ... لتم له ما يدعيه من التم وداواه يوم التم من كلف به ... وأبرأه يوم السرار من السقم

وكان إبراهيم بن الرئيس موسى في خدمة الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب. وكان أبو سليمان داود بن أبي المنى بن أبي فانة الطبيب حظياً عند خلفا مصر. وكذلك ابنه أبو سعيد بن أبي سليمان جعله الملك العادل في خدمة ولده الملك المعظم وأكرمه غاية الإكرام وأمر أن لا يدخل قلعة من قلاعه إلا راكباً مع صحة جسمه فكان يدخل في قلاعه الأربعة كذلك وهي قلعة الكرك وقلعة جعبر وقلعة الرها وقلعة دمشق. وخدم أبو سعيد بالطب أيضاً الملك الناصر والملك العادل. وكان أبو شاكر بن أبي سليمان مكيناً عند السلاطين جعله الملك العادل في خدمة ولده الملك الكامل فبقي في خدمته وحظي عنده الحظوة العظيمة وتمكن عنده التمكين الكثير ونال في دولته حظاً عظيماً وكان له من إقطاعات ضياع وغيرها ولم يزل يفتقده بالهبات الوافرة وكان الملك العادل يعتمد عليه وكان يدخل في دميع قلاعه وهو راكب. وكان أبو الفضل بن أبي سليمان طبيباً للملك المعظم في الكرك ثم خدم الملك الكامل. وكان عيسى الرقي المعروف بالتفليسي في خدمة سيف الدولة بن حمدان يأخذ أربعة أرزاق رزقاً بسبب الطب ورزقاً بسبب النقل ورزقين بسبب غلمين آخرين. وأنعم صلاح الدين على سكرة الحلبي المتطبب وخلع عليه وأقطعه أراضي مؤبدةً.

وخدم موفق الدين بن المطران بالطب الملك الناصر صلاح الدين وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده عظيم الجاه. وكان يتحجب عنده ويقضي أشغال الناس ونال من جهته من المال مبلغاً كثيراً قال أبو الظاهر إسماعيل وكان يعرف ابن المطران ويأنس به: إن العجب والتكبر الذي كان يغلب على ابن المطران لم يكن على شيء منه في أوقات طلبه العلم وقال إنه كان يراه في الأوقات التي يشتغل فيها بالنحو في الجامع يأتي إذا تفرغ من دار السلطان وهو في ركبة حفلة وحواليه جماعة كثيرة من المماليك الترك وغيرهم فإذا قرب من الجامع ترجل وأخذ الكتاب الذي يشتغل فيه في يده أو تحت إبطه ولم يترك أحداً من العلماء يصحبه ولا يزال ماشياً والكتاب معه إلى حلقة الشيخ الذي يقرأ عليه فيسلم عليه ويقعد بين الجماعة وهو بكيس ولطف إلى أن يفرغ من القراءة ويعود إلى ما كان عليه ثم أنه أسلم فزوجه صلاح الدين إحدى حظايا داره وترقت حاله عند سلطانه إلى أن كاد يكون وزيراً وحصلت له أموال جمة من أمراء الدولة في حال مباشرته لهم في أمراضهم وتنافسوا في العطاء له.

وممن خدم صلاح الدين أيضاً بالطب أبو منصور النصراني وأبو النجم النصراني وأبو الفرج النصراني وخدم هذا الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين ثم صار أولاده خدمة أولاد الملك الأفضل. وخدم أبو الحجاج يوسف الإسرائيلي بالطب الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين وكان يعتمد عليه وخدم أيضاً الأمير فارس الدين ميمون القصري. وكان عمران الإسرائيلي حظياً عند الملوك واعتمدوا عليه ونال من جهتهم الأموال الجسيمة والنعم التي تفوق الوصف ولم يخدم أحداً من الملوك في الصحبة ولا يقيد معهم في السفر وحرص به الملك العادل بأن يستخدمه في الصحبة فما فعل وكذلك غيره من الملوك.

وكان موفق الدين يعقوب المسيحي خدم الملك المعظم عيسى وصار معه في الصحبة وكان حسن الاعتقاد فيه حتى انه كان يعتمد عليه في كثير من الآراء الطبية وغيرها فينتفع بها ويحمد عواقبها وقصد الملك المعظم أن يوليه بعض تدبير دولته والنظر في ذلك فما فعل واقتصر على مداومة صناعة الطب فقط وكان قد عرض للحكيم يعقوب في رجليه نقرس وكان يثور به في أوقات يألم بسببه وتعسر عليه الحركة فكان الملك المعظم يستصحبه في أسفاره معه في محفة ويفتقده ويكرمه غاية الإكرام وله منه الجامكية السنية والإحسان الوافر.

وخدم صدقة السامري بالطب الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وبقي معه سنين كثيرة في الشرق وكان يحترمه غاية الاحترام ويكرمه كل الإكرام ويعتمد عليه وله منه الجامكية الوافرة والصلات المتواترة. وكان مهذب الدين يوسف بن أبي سعيد السامري شمس الحكماء في خدمة الملك الناصر صلاح الدين وخدم أيضاً لعز الدين فرخشاه بن شاهان شاه بن أيوب وخدم بعده لولده الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه وحظي في أيامه من جهته من الأموال والنعم شيئاً كثيراً وكان يستشيره في أموره ويعتمد عليه في أحواله.

هكذا كان عظماء الإسلام يعاملون أهل ذمتهم من نصراني ويهودي وسامري ومجوسي. يبوحون لهم بأسرارهم ويطلعونهم على خويصة أنفسهم ويوسدون إليهم مهمات أمورهم ويأمنونهم على حرمهم وأرواحهم ويغدقون عليهم هباتهم وإحساناتهم ويرفعون منزلتهم ومكانتهم لا ينظرون في ذلك إلى نحلة ولا مذهب ولا يعتدون بمخالف ولا بموافق بل يتبدرون الكفاءات ويختارون الأصلح والأنسب وقد قابل أولئك المقربون ساداتهم بصنوف الأمانة وخدموهم فأحسنوا خدمتهم وقلما خان منهم إلا بعض أفراد فسدت فطرهم واختلت عقولهم وأحلامهم وضلوا عن سواء السبيل.