مجلة المقتبس/العدد 18/الميكروب

مجلة المقتبس/العدد 18/الميكروب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 7 - 1907



تولده وعلة الاختمار

انقسم العلماء نظرياً بناء على اكتشاف شوان السابق بيانها في علة الاختمار إلى ثلاثة أقسام. أولهم القائلون أن الاختمار عارض يطرأ على بعض الجوامد في أحوال مخصوصة لا ينتج ولا يتوقف حصوله على الخلايا أو الميكروب التي لا يكون لها فعل أو مدخل في الاختمار إذا وجدت في شيء من تلك المواد بل تصادف أحياناً فيها لأنها تتكون منها بنوع طارئ بلا علة أو والد. سمي أهل العلم (أصحاب التولد الذاتي أو الطر آني). والقسم الثاني هم القائلون أن الاختمار فعل حيوي قائم بالخلايا وملازم لحياتها وهي تنمو وتتكأثر وتتخلد طبيعياً بالتناسل وهؤلاء هم (الحيويين).

والقسم الثالث هم الذين ينسبون الاختمار إلى فعل كيماوي. وكان الرأي الأول مرجحاً ومقبولاً عند جميع الذين ينسبون لما لم يكن قائماً على أساس وقاعدة علمية وليس في تعليلاته النظرية ما يشفي غليل المنتقد المتوغل ويقنع النبيه المتبصر كان يقوم الحين بعد الآخر من يخطئ القائلين به ويحاول اكتشاف سبب حقيقي وتعليل تركن إليه العقول ويقبله الحدس السليم. وكان كثيرون قد وقعوا على الحدس وقرروا وجود سبب خفي عن الأبصار يكون علة الاختمار والأمراض ولكنهم كانوا قاصرين عن إثباته ببرهان تستند قضاياه على الإدراك حسياً ومنطقياً.

ففي سنة 1776 حاول (سيلنزاني) الإيطالي إثبات وجود الخلايا وبيان تولدها وفعلها في الاختمار مستنداً على التجارب فأخذ بعض السوائل الاختمارية ووضعها في أكواب من الزجاج أحكم سدها ثم غلاها في الماء قاصداً إتلاف ما فيها من الخلايا أو الميكروب ومنع دخول الهواء إليها بعد الغليأن فنجحت تلك. لأن بعض الأكواب دامت معقمة لم يفسد ما فيها ولم يتخمر. وذاع خبرها فبينت عليها كيفية حفظ بعض المأكولات من الفساد بوضعها في علب تغطى ويحكم سدها ليمتنع دخول الهواء إليها.

إن نجاح هذا المسعى وأن لم يكن غير كاف لإقناع الكافة فقد كفاه فضلاً إدخاله الشك على المذهب القديم وفتحه باباً للدخول علمياً وعملياً في الموضوع.

وبعد ذلك قام كثيرون وتفرعوا للبحث والتوغل في المسألة وخصوا أنفسهم لها ويذ النفس والنفيس في استقصاء الحقيقة فتركوا المناقشات النظرية والحدسية واقتصروا على التجربة والعمل وإذ كانت سوق العلوم وقتئذ رابحة ناجحة لم يتركوا واسطة أملوا منها بعض النجاح لأي علم أو فن نسبت ولم يستعينوا بها في البحث عن الحقيقة. وأفضل الوسائط والآلات لهم خدمة هو كما سبق القول المجهر الذي كان وقتئذ قد أيقنت صناعته واستكملت فتوصلوا به إلى رؤية أدق الميكروب عيناً وعياناً.

ولما كان مجرد وجود الأجرام الحية في مادة مختمرة أو متعفنة لا يكفي للتصديق بأنها المسبب الوحيد لذلك اقتضى أن يتبين أيضاً بالتجربة بأن ظواهر الاختمار لا يمكن حصولها في مادة ما جردت من تلك الإجرام وحجبت عنها. وعليه فإنهم كانوا يصنعون المواد التي يقصدون التجربة عليها في زجاجات فيغلونها في الماء لكي تموت بالحرارة الأجرام الحية من السائل والزجاجة وذلك إما بسد الزجاجات أثناء الغليان أو بتعرية الهواء الداخل إليها من الأجرام الحية.

قلت فيما سبق أن هذا الأمتحان كان سبق إليه وجرب منذ سنين عديدة. فكان العالم منثار قد اختبر بأنه يقي من الفساد جميع المواد التي يغليها ثم يغمرها في الزيت يحجرها عن الهواء أو إنه كان ينقي ويصفي الهواء من أجرامه بالحوامض قبل أن يمس تلك المواد المغلية.

وفي سنة 1837 أعاد شوأن الموما إليه تلك التجارب عينها وكان زيادة على ذلك إذا هلك الأجرام الموجودة في الهواء بأمراره في أنبوب حام قبل وصوله إلى المواد المعروفة للتجربة لم تفسد.

إن تنقية الهواء من الأجرام الحية سواء كانت بوسائط كيماوية أو بحرارة النار لم تغير تركيبه الطبيعي. على أن المخالفين للرأي الحيوي تشبثوا بها محتجين بأن الهواء بتلك الوسائط يطرأ عليه تبدلات جوهرية فلا يعود صالحا للحياة. فرداً لهذا الاعتراض عاود شريدر وفوندش سنة 1854 تلك التجارب ولكنهما جعلا ذلك في زجاجات ذوات عنق أو أنبوب طويل منحن على زاوية قائمة. والغرض من ذلك هو تسريح البخار والهواء الخارج من الزجاجة عند الغليان وبعد تصفية الداخل إليها بقطعة قطن مندوف نقي توضع في فوهة الأنبوب فصحت التجربة وأفحم المعترضون. ولكن حاول بوشه في سنة1858 أيضاً إثبات حدوث الاختمار من دون هواء ومن بعد تعقيم المواد المجرب عليها ثم أخذ الزجاجة وسد فمها سداً محكماً فكبه في إناء مملوء الزئبق. فبعد أن برد في الزجاجة أدخل إليها من تحت الزئبق كمية من الأوكسجين وبضعة غرامات من حشيش يابس معقم فما لبث الماء أن فسد والزجاجة في الزئبق لم يدخلها الهواء فاستنتج المعلم الموما إليه بأن هذه قد حصلت من ذاتها ولم تأت لا من المواد التي كانت قد عقمت ولا من الهواء الذي لم يدخل الزجاجة. فرد عليه وباستور بأن جراثيم التي ظهرت بماء الزجاجة إنما وصلت إليه بواسطة الزئبق الذي لم يعقم قبل التجربة وكان معرضاً للهواء تتساقط عليه الجراثيم المنثورة في الهباء ثم أخذ وباستور بالاتفاق مع شفر ويل في إعادته جميع التجارب التي تثبت رأي الحيويين وذلك بأسلوب جلي بسيط تراه العيون وتدركه العقول فصنعا زجاجة ذات عنق كالأنبوب طولها نحو متر أو أكثر منحنية على زاوية قائمة عند أصلها وذات تعرجات كثيرة أشبه بالحية الزاحفة تنتهي فوهتها منحنية نحو الأرض. والغرض من ذلك أن الهواء الداخل إلى الزجاجة بمروره في الأنبوب يترك في تعرجاته جميع ما يحمله من الهباء حتى ينتقي إذا وصل إلى داخل الزجاجة واختلط بالسائل. فيكون بهذه الواسطة غنياً عن جميع الوسائل التي اتخذها المجربون من قبل لتنقية الهواء فكانت هذه التجربة الأخيرة لأنها أكدت جميع ما قبلها وقطعت قول كل معترض. وناهيك بأن وباستور لم يكن يكتف بتجاربه العديدة على ملاحظة زجاجة واحدة لا اختلاف بينها البتة. فكان يعقم الزجاجات وما فيها ويتركها في مكان خاص تصلح درجة حرارته لحدوث الاختمار فلم يظهر ذلك في شيء منها. فكان السائل يختلط ببعض الجراثيم المتساقطة في الأنبوب فيختمر لا محالة. وقصارى القول فإن الزجاجات المعقمة كانت تبقى كذلك أبداً ما لم يدخل إليها عمداً للاختبار بعض جراثيم الاختمار. فاشتهرت تلك التجارب وعرفت قواعدها وشروطها في العالمين حتى صارت دستور العمل لحفظ المأكولات والمشروبات ووقايتها من الفساد وسميت باسم واضعها ومكتشفها وباستور. وعندما كثر المجربون واختلفت مآربهم ودرجة معلوماتهم في فن الميكروب تهاون بعضهم في الدقة واستكمال الشروط التي لا بد منها للنجاح حبطت بعض تجاربهم فاعتمدوا على القواعد الموضوعة وغالطوها وادعوا بأنهم اتخذوا جميع الوسائط المقررة فلم يتمكنوا من منع الفساد والاختمار ولما كأن ذلك نتيجة خطأهم وقلة دقتهم وقصر باعهم فاعتراضهم لم تزعزع القواعد التي تقرر حكمها أبداً.

جراثيم الميكروب وصئبانه

لم يفتر وباستور من تحصين اكتشافه واستكمال الفوائد والشروط للاحتراز فيها من الفشل. من ذلك أنه عندما أطلع بأن بعض الميكروب لم تهلكه حرارة الماء التي تغلي والقدر مكشوفة بل كان يبقى بعضه حياً من بعد الغليان أما على الزجاجات أو فيها فيفسده أخذ يسخنها والزجاجات إلى درجة 110=125 من الحرارة في القدر المعروفة باسم مخترعها بابن.

وعرف شريدر أيضاً ذلك فصار إما يسخن المواد الآلية بالقدر المذكور أو يتركها تغلي على العادة القديمة بضع ساعات. ولا يخفى أن من الميكروب الذي لم تممته حرارة الماء الغالي هي جراثيمه أو وصئبانه. واكتشف وباستور سنة 1865 جراثيم أو بيضات ونسجها صئباناً لكل من أنواع الميكروب تخلفها هي فيتكون منها النسل.

وأشهر من توغل في البحث عنها المعلم كوخ الألماني ونشر فيه كتاباً سنة 1876 وأظهر بأن جميع الميكروب وهو في إبان نشوئه ونموه يهلكه الماء المغلي بل أقل حرارة من درجتها إنما جراثيمها تحتمل بطراً شديد الأجاج وأظهر أيضاً بأن الحرارة الرطبة أنجع منها يابسة لأهلاك تلك الجراثيم فجعل بعض أنواعها في حمام جاف حرارته120 مدة أربع ساعات فلم تهلك ولكن تم ذلك بمدة ساعتين في حمام درجة حرارته 140 وأما الحرارة الرطبة أعني في حمام فيه بخار الماء فمائة درجة من الحرارة تكفي غالباً لأهلاكها تماماً بمدة قصيرة. ولأجل الحصول على الأمنية التامة في ذلك علمنا كوخ بان نكرر عملية التسخين في حمام البخار المذكورة بضع دفعات بين بعضها عدة ساعات ريثما يبرد السائل. فالجراثيم التي لم تهلكها الحرارة تنتعش وتنمو حينئذ فقبل أن يدرك وقت تخليفها وضع السائل من جديد في حمام البخار فيهلك الميكروب الناشئ فيه. فإذا أعيد ذلك مرة أخرى أو أكثر تتحول الصئبان كلها إلى خلايا ناضجة فتهلك ويحصل كذلك التعقيم التام.