مجلة المقتبس/العدد 2/الصحافة العربية

مجلة المقتبس/العدد 2/الصحافة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 3 - 1906



مضت نحو ثمانية عقود من السنين منذ أنشئت أول صحيفة عربية أنشأها محمد علي الكبير في هذه العاصمة وسماها الوقائع المصرية وأنشأ رفاعة الطهطاوي أول مجلة علمية سماها روضة المدارس. دامت الوقائع إلى اليوم وانقطع نشر الثانية بعد أن صدرت أربع عشرة سنة. وما لبثت الصحافة أن ولدت ونمت في أرض سورية ثم انتقلت إلى مصر في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ودبت فيها ودرجت. فكأن الله خص مصر بأن تزكو تحت سمائها الأعمال العلمية كما تزكو تربتها بالأعمال الزراعية.

وما برحت الآمال معقودة بأن تبلغ الصحافة عما قليل أشدها ورشدها لتضاهي صحافة الأمم الراقية في موضوعاتها وتأثيراتها إذ أن العقلاء يذهبون إلى أن صحافتنا مازالت حالها على ما انتهت إليه غير متناسبة مع عمرها الطويل. والمعمر في الأعم من حالاته يشتد ساعده وزنده وتقوى ملكة عقله وعلمه بكثرة تجاربه وأسباب رويته. ولا خير في أمة لا يقوم بشؤونها شيوخ تفاخر بأعمالهم مفاخرتها بعقولهم وطول أعمارهم.

لا جرم أن تخلف الصحافة عن بلوغ مراقي الفلاح الحقيقي لأول أمرها ناجم عن كونها نشأت وسط أمة لا تعترف بالعلم إلا لرؤساء الأديان وهؤلاء لا يعدون من العلم في شيء إلا ما بحث في الأخرويات أو الزهديات أو الجدليات. وبين ظهراني أدباء يزعمون أن الأدب عبارة عما ألفوه من مد إطناب الإطناب في إطراء الكبراء والأسخياء وأرباب المظاهر والاغتراف من بحر المديح بالطويل العريض. وبين كتاب لا يعتقدون الكتابة إلا فيما اصطلحوا عليه من كتابة الصكوك والعقود والمواثيق. وبين عظماء موقنين بأن رؤساء الدين والعلم والأدب اتباع لهم. هكذا كان العلم والأدب في دور الصحافة الأول. ولا يفوتك العلم بأن من تنبهوا لها كانوا يشاكلون قومهم بعض المشاكلة في أدبهم وأخلاقهم لأنهم أبناء ذاك الوسط الذي هم بعض أفراده وسلالة تلك الطينة الشرقية التي جبلت بيد الضعة وصهرت بقطران المسكنة. ويعلم الباحثون في عقول الفصائل البشرية أن الشرقي ذكي مفطور على حب التقليد خصوصاً إذا تهيأت له الأسباب فقد نجد المصري أو السوري يتعلم شيئاً من لغات الغربيين فلا يعتم أن يقلدهم في مناحيهم وأطوارهم أما من ذهب إلى بلادهم ودخل مدارسهم فإنه يكون مثلهم إلا القليل. غير أن تقليدنا الغربيين في صحافتهم قد أبطأ وكان من حقه أن يتقدم كل تقليد. ذلك أن المجلات الدورية على ما في أكثرها من المحاسن والفوائد لا يزال بعضها يعرف بالتقليد ويكتب بلسان التقية على أن العالم لا دين له ولا نزعة. أما الجرائد السياسية فتكاد تكون نمطاً واحداً في إنشائها وأخبارها. ناهيك بما في بعضها من التضارب في الآراء والمذاهب. ولو خلت من هذه الشائبة وكان لها مواد وافرة تستعيض بها عن تجسيم الأخبار وبناء قبة من حبة لكان فيها خير ذخر ينفع العقول ويقودها إلى مهيع السداد وجواد الأسعار. وليس العلم كالسياسة في مسائل المغالطة والسفسطة فإن جوزهما فريق في السياسة حباً بالمصلحة فإنهما لا يسوغان في العلم بحال من الأحوال.

يعيب المغاربة على المشارقة تقلبهم في مآربهم وحركاتهم. وهذا التقلب محسوس في بعض جرائدنا فإنها كدوارة الهواء في الأفكار تنتسب اليوم إلى حزب وتستميت في الدفاع عنه حتى إذا لم تصادف من ورائه مغنماً أو تؤنس من أهله فتوراً تنقلب عليه وتنسى اليوم ما ذكرته أمس. وليس معنى هذا أني لا أقول بالأحزاب فإن الاختلاف بين الناس ضروري على شريطة أن يخلص صاحب المبدأ في أقواله وأفعاله ويعتقد صحته ويتفانى في نصرته دون أن يغمط حق خصمه ويغض منه. وحبذا لو طرحت مسائل التشيع للأحزاب جانباً واشتغل أرباب الجرائد السياسية في بث أدب وفضيلة وتأييد كلمة حق نافعة. وما التحزب للأحزاب لو أنصفنا إلا ضربٌ من ضروب الخراب وكل بيت ينشق على نفسه يخرب. وما أشبه بأهل البصيرة أن يخففوا من هذه النغمة فقد ضربوا على وترها أعواماً والحال ما استحالت، والأقوال ما نجعت، بلى ازدادت النفوس اشمئزازاً والصدور إيغاراً. ومن سوء طالع هذه البلاد أن معظم بنيها لا يرون الأمور بل لا يريدون أن يرونها إلا من جهة واحدة.

ومن الغريب دعوى بعضهم في أن غير هذه البضاعة في العلم والسياسة لا تنفق في سوق الأمة لأنها ما فتئت في الجهالة غارقة والصحيح أن التاجر الماهر يصرف ضروب السلع في معرض بضاعته إذا أجاد مصنوعاته وأحسن بياعاته. ألا ترى إلى رواج أنواع من الصحف ما كان يحلم برواجها. تهيأ لها الرواج عندما صحت عزائم القائمين بها وأخلصوا القصد في نشرها ولا يضر العمل الصالح إذا تصدى بعض ضعاف العقول إلى التزهيد في خطته فما قط اجتمعت كلمة العامة والخاصة على استحسان شيء وكذلك لا يضر الصحف ويحول دون انتشارها وما يوعز به بعض أنصار التقليد في العلم إلى اليوم من الرغبة عن مطالعتها لأنها مفسدة منقصة فإن أمثال هؤلاء المثبطين عن كل جديد نافع هم الحلمة الطفيلية في العمران، وكل من حال دون أسباب العلم والعرفان، هو العضو المؤوف في جسم الإنسان.

زار صديق لي من كتاب الصحف منذ سنين رجلاً ذا شهرة طائلة موسوماً بشعار العلم في إحدى المدن الكبرى وله من التلامذة والمريدين صنوف فعرفه إليه بعضهم وقال له: هذا فلان منشئ الجريدة الفلانية. فقال وما هي الجريدة. فأنشأوا يشرحونها له حتى فهمها ولكن بعد أن بحّ صوت الشارح في شرحه لمحدثه عن معنى الجريدة وهو يستغرب وجود شيء في العالم يعرف بهذا الاسم. فانقلب صاحبنا من لدن ذاك الرجل مغرباً في الضحك متعجباً من أناس في مثل هذا العصر جاهلين بأحوال العالم إلى هذا الحد بعيدين عن حوادث الأيام. وعندي أن أمثال هذا الرجل لا يفيد الصحف تنشيطه وتثبيطه. والمعارف اليوم كسيل جارف تودي بمن لا يجاري الدهر ويمشي مع الأيام والجامدون كثار في كل جيل وقبيل وليسوا هم المطالبين برواج بضاعة القلم أو المقصودين بالنفع من المكتوب. ولئن يهدي الله بهذا صعلوكاً صغيراً خير من إضاعة الوقت في ممارسة شيوخ الجمود وكهوله وشبانه.

وكلما تأملت الصحف وآراء طبقات الناس فيها استنتج أن من توفروا على نشرها أول النهضة كان معظمهم من العامة الذين لا يحبون من الجرائد غير ما تأتي به من الربح المادي وبعبارة أخرى كانوا تجاراً لا أصحاب دعوة إلى إصلاح أو إرادة في بث علم وفضيلة، وسماسرة أقوال، لا صيارفة عقول، وجهابذة جربذة لا جهابذة أفعال. دع عنك سيد الصحفيين في الدور الأول أحمد فارس الشدياق صاحب الجوائب في الأستانة فإنه أحسن الاضطلاع بوظيفة الصحافي وتمت على يده حسنات كثيرة من خدمة اللغة والأدب والعلم والسياسة لأن غرضه لم يكن مادياً محضاً. وأن ما نراه اليوم من ارتقاء بعض الصحف السياسية فالفضل له فيه لأنه واضع أساسها الحقيقي وما نراه من انحطاط بعضها فمنشأوه أولئك العامة الذين أنشأوا الجرائد في الدور الأول وغرضهم الدنيا من أي الطرق أتت وما نشهده من ارتقاء بعض المجلات فمصدره رفاعة الطهطاوي في مجلته روضة المدارس وما منزلة رفاعة في العلم بخافية على دارس تاريخ النهضة العلمية في هذه الديار.

ولقد قامت بعد ذاك العهد مئات من الصحف الإخبارية والعلمية ثم سقطت وانتشرت ثم انتثرت شأن كل نهضة في أولها خصوصاً في بلاد يغلب على أهلها القول حتى إذا حقت كلمة الفعل تضاءلت نفوسها أبنائها وأعوزهم الثبات والصبر. وما عهد في تاريخ الحياة الاجتماعية أن عملاً نجح فيه صاحبه دون التشبث بأهداب عامة أسباب النجاح وتهيئة المعدات الضرورية من علم وعمل ومال ورجال اللهم إلا في الشرق فإن معظم من ينجحون فبالاتفاق هذا وقد نفعت الصحف على قلة نصرائها في تنوير العقول وتحسين ملكة المنثور والمنظوم فانتقل زمرة من العامة بإدمان مطالعتها من طور العامية إلى طور العالمية. ولكم كانت الجرائد والمجلات باعثة على تعلق بعضهم بالمطالعة حتى صارت لهم عادة وجبلة وفتحت لهم طريق البحث والدرس. وسقياً ليوم تتأصل فيه الحرية الحقيقية في أخلاق الأمة فتذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. ورعياً لعهد نرى فيه لقادة الأفكار من تعليمهم الحر ما يلتزمون به القصد فلا إلى تفريط ينهجون ولا في الإفراط يسترسلون. وقد خطب حاكم الهند منذ مدة متخرجي المدرسة الجامعة بكلكتا فقال أن المبالغة من شأن جرائد تلك البلاد فهلا خطب فينا من يحسن وصف جرائدنا هذه. وبعد فهذا رأي مولع بالصحف على اختلاف ضروبها منذ صغره بل خاطر صحافي خدم الصحافة سنين كثيرة صرح به على جليته غير مدالس ولا مؤالس والله يعلم وأنتم لا تعلمون.