مجلة المقتبس/العدد 2/الغناء المصري
مجلة المقتبس/العدد 2/الغناء المصري
الغناء صوت النفس وهو في كل أمة صورة آدابها وأخلاقها وعاداتها فبينا ترى الوحشيَّ في مفازة تمشي الرياح بها حيرى مولهة وهو يتغنى بذكر الشمس والماء والشراب والعربيَّ تحت القبة الزرقاء يتغنى بذكر البدر والليل والخيل إذا أنت بالحضري وهو آمن في سربه مطمئن في عقر داره لا يخشى زئير الأسد ولا يتطلب الغيث وقد احتفت به الغواني والغيد، والجواري والعبيد، وهو يرتع في خمائل البساتين، يتجرع كؤوس الهناء، ويتغنى بذكر الجمال، والتيه والدلال، والرقيب والعذال، والعتاب والوصال، وترى الجنديَّ يتغنى بذكر الحروب، ويترنم بأغاني الوغى، ويطرب لوقع السيوف على السيوف، كما يطرب الحضري لوقع الصنوج على الصنوج، أو لدق الأنامل على الأوتار والدفوف.
والغناء قديم وجد مع النفس لأن الإنسان ما لبث لما أخذه بصره جمال هذه الكائنات وجلال ذلك الخلق البديع أن تحركت عواطف نفسه فحركت عقيرته بأصوات الغناء. ولقد بلغ الغناء العربي شأواً بعيداً فلم يكد يستقر الملك لبني العباس حتى قربوا أهل الشعر وأرباب الغناء. فكانت مجالسه عندهم تفاخر مجالس الحكمة والشعر. وكان للغناء بلابل تغرد فتطرب، وتشدو فترقص. أقام الرشيد ببغداد قصراً على ضفاف دجلة فكان إذا أرقته الهموم يقصد ذلك القصر ويدعو إليه إبراهيم الموصلي ويضاء ذلك القصر البديع ويهب نسيم الليل حاملاً عطر الأزهار فيندفع المغني يحرك الأوتار فترقص الأسماك في أمواه دجلة طرباً وتشاركه البلابل في التغريد. ومن لنا بمجلس من مجالس الأنس بالأندلس وقد ضربت علينا قبة من البلور ينحدر الماء من جانبيها وحولنا الخرد العين وبيننا مائة القد تضم إلى صدرها ابن الطرب وهو يئن من لمس أصابعها تارة ويتأوه آهة المتيم المعمود طوراً وهي تنشد:
ما لذَّ لي شرب راح على رياض الأقاح لولا هضيم الوشاح
إذا أسى في الصباح أو في الأصيل أضحى يقول
ما للشمول لطمت خدي وللشمال
هبت فمال غصن اعتدال ضمه بردي
مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريباً يا لحظه رد ثوباً
ويا لماه الشنيا برد غليل صب ع لا يستميل فيه عن عهدي ولا يزال
في كل حال يرجو الوصال وهو في الصد
وإعجاب الناس في مصر بالغناء شديد وليس هذا الإعجاب لجمال في الشعر الذي يتغنى به ولكنه لبراعة المغني في التوقيع وحذقه في الضرب على الأوتار فإنه لا يلبث أحدهم أن يرفع صوته حتى تخال أنه يدق على صنج فؤادك أو ينقر على أوتار قلبك.
وأهل مصر وغيرهم في الطرب بغنائهم سواء لأنه لا تزال فيه روح الغناء القديم الذي كان يتغنى به الكهنة في الهياكل والمعابد ولا يبعد أن تكون تلك الأنغام أقرب الأنغام إلى النفس وأدناها من الجنان.
ولقد يسأم المصري غناء الإفرنج وهم يرفعون أصواتهم حتى تكاد تبلغ عنان السماء ثم يخفضونها حتى توشك أن تكون أخفى من دبيب النمل وهم بين هذا وذاك يلبسونها ثوب الرقة والخشونة فتكون وسطاً بين الصياح والنهيق. ولكنه لا يسأم الغناء المصري وهو يرفل في حلل تلك الأنغام البديعة التي تأخذ بمجامع القلوب وتستهوي الأفئدة قبل الأسماع.
وليس المصريون أمة حرب فيتغنون بالشعر الحماسي الذي يستفز النفوس ويهيج العواطف ويحرك الشجاعة الكامنة في الأفئدة ولسنا أمة بحارة فنتغنى بذكر الصرصر العاتية والبرق الخاطف والرعد القاصف والرياح العواصف ولسنا أمة عاملة نتغنى بذكر البخار والكهرباء والنار والماء بل نحن أمة مكسال آمنة مخلدة إلى الراحة خيراتها كثيرة وأمواهها غزيرة، نساؤنا طرب، وحياتنا لهو ولعب فلم لا نتغنى منشدين
يعيش ويعشق قلبي ... رق الدلال والتيه
سلطان زمانه حبي ... يأمر وينهى فيه
القاهرة
محمد لطفي جمعة