مجلة المقتبس/العدد 20/صحف منسية
مجلة المقتبس/العدد 20/صحف منسية
كتاب الأشربة - لابن قتيبة
عني بنشره المسيو أرتوركي
أحد علماء المشرقيات
وحدثني محمد بن داود عن نضير عن سنان عن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار وسئل عن النبيذ فقال: انظر ثمن التمر من أين هو. أراد مالك أنه يجب على المستفتي عن النبيذ حلال أم حرام أن يتنزه عما لا اختلاف فيه من اكتساب الحرام الذي هو ثمن التمر ثم يسأل بعد ذلك عن النبيذ المختلف فيه. قالوا: فلو كان عند خمر ما توقف هذا التوقف. وقد يحتمل أن يكون أراد: إن كان ثمن التمر حلالاً كان النبيذ الذي اتخذ منه حلالاً وإن كان ثمن التمر حراماً كان النبيذ الذي اتخذ منه حراماً. فإن كان ذهب هذا المذهب فالخبز واللباس والإدام على هذا السبيل عنده تحل إن طابت المكسبة وتحرم إن خبثت. وعوتب شعيب بن يزيد في النبيذ فقال: أما أنا فلا أدعه حتى يكون شر عملي. يريد أنه قد يأتي ما هو شربه وأن الواجب على من أراد إصلاح نفسه والانتقال إلى طهارة التوبة أن يبدأ بالأخبث فالأخبث من عمله والأعظم فالأعظم من ذنوبه فينزع عنه فإما أن يدع التزوج بالأماء لما كره منه وهو يزني أو يترك الشرب في آنية الذهب لما نهي عنه من ذلك وهو يشرب الخمر في العساس فهذا من السخف وإفراط الجهل وقال أبو الغالية الرياحي اشرب النبيذ ولا تمزز والتمزز أن يشرب قليلاً قليلاً وهو مثل التمزز.
وأراد أبو الغالية أن يشربه دفعة واحدة للري ولا ينأقل الأقداح ويتابعها ليسكر وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ؟ قال نعم. قيل: وكيف تشربه؟ قال على غداي وعشاي وعند ظمائي. قيل فما تركت منه؟ قال التكاءة ومحادثة الرجال. قال المأمون اشرب النبيذ ما استبشعته فإذا سهل فاتركه. فأراد أنه يسهل على شاربه إذا أخذ في الأسكار. وقيل لسعيد بن سالم: أتشرب النبيذ؟ قال لا. وقيل لم: قال تركت كثيره لله وقليله للناس. حدثني محمد بن عبيد عن إبرأهيمبن أبي بكر بن عياش قال: صام عمي الحسن بن عياش خمسين حولاً متتابعة فكان لا يفطر في السنة إلا خمسة أيام كان أبي يصنع أيام التشريق طعاماً بكثرة وتجودة ويدعو الفقهاء ومشائخنا فيتغذون مع أبي ويسقيهم أو قال من أراد منهم النبيذ الصلب؟ وكان سفيأن الثوري يشرب النبيذ الصلب الذي تحمر منه وجنتاه واحتجوا من جهة النظر بأن الأشياء كلها حلال إلا ما حرمه الله. قالوا فلا نزيل يقين الحلال بالاختلاف ولو كان المحللون فرقة من الناس فكيف وهم أكثر الفرق؟ وأهل الكوفة جميعاً على التخليل لايختلفون. حدثني اسحق بن راهويه قال سمعت وكيعاً يقول: النبيذ أحل من الماء ولم يكن أحد من الكوفيين يحرمه غير ابن ادريس وكان بذلك عندنا معيباً وقيل لابن ادريس: من خيار أهل الكوفة؟ فقال ذلك مبلغهم من العلم. وقال لنا اسحق: عيب وكيع بقوله: هو أحل من الماء لأنه إن كان حلالاً فهو بمنزلة الماء فكيف أحل منه عتب ونحن نقول إنهليس يلحق وكيعاً في هذا الموضوع عيب ولا يرجع عليه منه عتب لان كلمته خرجت مخرج كلام العرب في مبالغتهم في الوصف واستقصائهم بالمدح والذم يقولون هو أشهر من الصبح واسرع من البرق وابعد من النجم. وليس ذلك بكذب لأن السامع له يعرف مذهب القائل فيه وكلهم متواطئون عليه كذلك قوله هو احل من الماء يريد المبالغة في وصفه بالتحليل. وإنما عاب أهل الكوفة ابن ادريس بمخالفته أهل بلده وتغليظه ما ترخصوا فيه. وحدثني محمد بن عبد الله عن إبرأهيمابن أبي بكر بن عياش قال: قلت لابن مبارك: من اين جئت بهذا القول في كراهتك النبيذ ومخالفتك المشائج وأهل المصر؟ فقال: هو شئ اخترته لنفسي. قلت: فتعيب من شربه؟ قال لا. قلت وما اخترت لنفسك وقال عاصم بن أبي النجو: لقد أدركت قوماً يجعلون هذا الليل جملاً يشربون النبيذ ويلبسون المعصفر فهؤلاء أهل الكوفة وأكثر أهل البصرة على مثل مذهبهم. وكان عبد الله بن داوود يقول: ماهو عندي وماء البركة الا سواء. وقال القطمي: قال لي عبد الله بن داوود: لا بأس أن يشربه الرجل على أثر الطعام كما يشرب الماء. وقال: اكره ادارة القدح واكره نقيع الزبيب واكره المعتق واكره نبيذ السقاية. وقال: من ادار القدح لم تجز شهادته. قالوا: وكأن كثيراً من الحجازين بين يترخص فيه حتى غلط فيه مالك وحد في الرائحة والرائحة قد تلتبس وتشتبه بغيرها وكيف يخرق ظهور المسلمين على الظهور وظهر المسلم حمى لا يباح الا بيقين وقد يأكل الرجل الكمثرى والتفاح والسفرجل ويشرب المشبه النبيذ فيوجد منه رائحة النبيذ وكان الا قيشر اخد وقد شرق وأستنكه فوجدوا منه رائحة النبيذ ظاهرة فقال
يقولون لي انكه قد شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت سفرجلا وقالوا: وجدنا الناس ثلاثة اصناف أصحاب الرأي وهم جميعاً مجمعون على تحليله أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وكل من سلك سبيلهم وأصحاب الحديث وأكثرهم على التحليل. وأصحاب الكلام هم أيضاً على ذلك وكيف نزيل يقين التحليل بطائفة من الناس؟ قالوا: ومثل النبيذ مثل نهر طالوت. حدثني شبابة قال: حدثنا غسان بن أبي الصلاح الكوفي عن أبي سلمة يحيى بن دينار عن أبي المطهر الوراق قال: بينما زيد بن علي على بغلة له بصر برجل من أصحابه محجل الأزار على قميصه ردع من زعفرأن فقال له مهيم فقال له يا ابن رسول الله إني اعرست وقد أحببت أن تكرمني بدخول منزلي. فثنى رجله ونزل فأخذ صاحب المنزل بيده واقعده على الحجلة فما استكبر ذلك واتي بطعام. وبلغ الشيعة مكانه فازدحموا على مائدته فطعم وطعم القوم ثم إنه عطش واستسقى فأتى بعس فيه نبيذ فكر فيه ثم قطب ثم دعا بماء فكسره ثم شرب ونأولني وكنت عن يمينه فشربت ونأولت الذي عن يميني ودار العس على القوم جميعاً فقلت له: يا ابن رسول الله حدثنا بحديث سمعته من آبائك عن رسول الله ﷺ أنه قال: تنزل متى منازل بني إسرائيل حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو أن رجلاً من بني إسرائيل نكحت نساؤها في الأسواق لكان في أمتي من يفعل ذلك. إلا وأن الله ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت أحل منه الغرفة وحرم منه الري ألا وأن الله جعل فيكم النبيذ احل منه الري وحرم منه السكر. وقالوا: لم يحرم الله شيئاً إلا وقد جعل منه عوضاً في مثل معناه فلو كان النبيذ خمراً ما كان العوض من الخمر وإنما خلق الله الأقوات والثمرات قدراً لحاجة الناس إليها فلو كان النبيذ خمراً ما كان يصنع بالتمر والزبيب والدوشاب وأشباه ذلك مما لو ترك الناس اتخاذ الشراب منه لبار وفضل أكثره من مآكل الناس وحاجتهم وقالوا: والله لا يحرم شيئاً إلا لعلة الاستعباد ولو كان تحريم الخمر للسكر لم يطلقها الله تعالى للأنبياء والأمم فقد شربها نوح عليه السلام حين خرج من السفينة واغترس الحبلة حتى سكر منها وبدت فخده وشربها لوط عليه السلام ليلة رفع وشربها المسلمون في صدر الإسلام. وقالوا: اما قرلهم أن الخمر ما خمر والمسكر مخمر فهو خمر مثله فإن الأشياء قد نتشاكل في بعض المعاني فيسمى بعضها بعلة فيه وهي في آخر ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر الا ترى أن اللبن يخمر يروبة تلقى فيه ويترك حتى يروب ولا يسمى اللبن خمراً وإن خمير العجين يسمى خميراً ولا يسمى هو ولا ما خمر به من العجين خمراً وإن نقيع التمر يسمى سكراً لا سكاره ولا يسمى غيره سكراً وإن كأن يسكر وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحيط به.
وقالوا: واما قولهم للرجل مخمور وبه خمار إذا أصابه الصداع والارعاش عقب الشراب فأن ذلك قد يقال لمن أصابه مثله في النبيذ فيقال: به خمار ولا يقال: به نباذ فإن الخمر اسم قديم وكأنت الجاهلية تعرفه وتلفظ به من الخمر والنبيذ محدث إسلامي لم تكن العرب في الجاهلية تعرفه وكان شربة النبيذ من السلف لا يبلغون السكر ولا يقاربونه فيصيبهم عليه ما كان يصيب شرتة الخمر من الخمار وإنما كانوا ينالون منه اليسير على الغداء والعشاء ثم خلف من بعدهم خلف يشربون الخمر ولم يتهيبوا من المسكر فقيل: بهم خمار على ما سبق من الاسم المتقدم ولو كان الله حين احل النبيذ احل من السكر الذي يكون منه الخمار وكان شربة النبيذ من الصحابة والتابعين سكروا فأصابهم ذلك للزمنا أن يقال به نباذ او لا يقال فيجيب ما ذهبوا إليه. وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر. قال الاقيشر وكان مغرماً بالشراب:
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم تنع ربها ساعة قدر
أتاني بها يحيى وقد نمت نومة ... وقد غادرت الشعرى وقد خفق النسر
فقلت اصطحبها او لغيري فاهدها ... فما أنا بعد الشيب ويلك والخمر
فاعلم كان الخمر هي التي لم تغل بها القدور. وقال ابو زيد في الوليد بن عقبة حين عزله عثمان عن الكوفة بشهادة أهلها عليه بشرب الخمر
قولهم شربك الحرام وقد كا ... ن شراب سوى الحرام حلال
يريد انهم زعموا انك تشرب الخمر وقد كان هناك شراب حلال من النبيذ ويروي (وقد كان حلالاً سوى الحرام فمالوا).
يريد كان شراب النبيذ حلال فمالوا عنه وقذفوك بشرب الخمر. ولم نحتج بأبي زبيد وهو نصراني رأيناه حجة في تحليل أو تحريم وإنما أردنا أنه اعتذر له إلى عثمان وإلى الناس بهذا القول ولم يكن ليعتذر إلا بما ينكر الناس. قال جميل بن معمر:
فظللنا بنعمة واتكانا ... وشربنا الحلال من قلله
اتكانا - طعمنا. ومنه قول الله تعالى: {واعتدنا لهن متكا} وشربنا الحلال يعني النبيذ والقلل جمع قلة وهي جرار يكون فيها النبيذ. قال الشاعر:
وقد كأن يسقى من قلال وحنتم
ولما دخل على الوليد ليقتل قال لهم: ما تنكرون مني؟ الم افعل؟ وجعل يعدد إحسانه إليهم. قالوا: ننكر منك شرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك. فقال: قد جعل الله فيما احل سعة عما تذكرون. وقال:
دعوا لي سلمى والنبيذ وقينة ... وكأساً ألا حسبي بذلك مالا
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ... ثباتاً يساوي ما حييت عقالا
إذا ما صفا عيشي برملة عالج ... وعانقت سلمى لا اريد بدالا
فما تراه حين اعتذر فرق بين الخمر والنبيذ وقال: قد جعل الله لي فيما احل من النبيذ سعة عن شرب الخمر وفيما احل من النساء سعة عن نكاح الأمهات. وكان أبو الهندي الشاعر مغرماً بالخمر فعاتبته ابنته على ذلك ووعظته فاعلمها أنه غير صابر وأنه إن تركه اعتل فقالت له: اشرب نبيذ التمر فشربه ثم عاد إلى الخمر وقال:
أأشرب تمراً ينفخ البطن منتناً ... واتركها صهباء طيبة النشر
وقالٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ بعض الإشراف وكان ركبه الدين وخفت حاله
أن يك يا جناح علي دين ... فعمران بن موسى يستدين
تلم بنا الخصاصة ثم تعفي ... على اقتارنا حسب ودين
فما يعدمك لا يعدمك منا ... نبيذ التمر واللحم السمين
أما تراه وصف نفسه بالحسب والدين ثم قرن ذلك بشرب الخمر. وأراد عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله وقال يحيى بن نوفل اليماني
ويغتبقأن الشراب الذي ... يحل به الخلد للجالد
شراب يوأفق فهر اليهود ... ويكره للمسلم العابد
يريد إنهما يغتبقأن الخمر الذي يوجب شربه الحد ثم تنبه فقال يوأفق فهر اليهود ويكره للمسلم العابد فهذا يدل على أن غيره لا يكره له ولا يوجب الحد. وفهر اليهود هو موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه ومنه حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه رأى قوماً يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال: كانهم اليهود خرجوا من فهرهم.
وهذا أبو النواس شاهد الناس على شيء فقال:
يا ابنة القوم اصحبينا ... ما الذي تنتظرينا
قد جرى في عودة الما ... ء فأجري الخمر فينا
إنما نشرب منها ... فاعلمي ذاك يقينا
كل ما كان حلالا ... لشراب الصالحينا
قال: وأما قولهم الخمر رجس فقد صدقوا في اللفظ وغلطوا في المعنى أن كانوا أرادوا أنها نتن لأن الخمر ليست منتنة ولا قذرة إلا بالتحريم فإنه اوجب النفور منها. قال الأخطل وذكر الخمر
كانما المسك نهباً بين أرحلنا ... مما تضوع من ناجودها الجاري
وقال آخر:
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف.