مجلة المقتبس/العدد 23/تهذيب الفرد في المجتمع الإنساني

مجلة المقتبس/العدد 23/تهذيب الفرد في المجتمع الإنساني

مجلة المقتبس - العدد 23
تهذيب الفرد في المجتمع الإنساني
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 12 - 1907



تهذيب الفرد لفظ يراد منه معاونته على التذرع بالذرائع التي تؤهله إلى حياة تامة في هذا الوجود. والتهذيب من حيث هو يشمل على أمرين أحدهما أن يكسب الفرد شيئا من العلم ثم يصحبه بشئ من العمل وكلأهما نافع. بل هما من الأمور التي يترتب عليها قوام معش الفرد والاسرة والأمر الآخر يتضمن ترقي القوى المودعة في الفرد على اختلاف أنواعها وهذا الترقي يمكن تلك القوى من نيل اللذائذ التي تهديها طبيعة الوجود والبشر إلى نفوس تقبلها وتستطيع أن تستمع بها.

النوع الأول تحث عليه الأخلاق وتوجبه لان به يحصل التلاؤم بين الفرد ومحيطه ويصبح خليقاً بالوجود. ولما كان لهذا النوع علاقة بالحياة كان الحصول عليه من واجبات الفرد نحو نفسه ثم نجو المجتمع. وأصحاب العمل اليدوي لا ندحة لهم عن احراز هذا النوع من التهذيب لان به معاشهم ولا غنى عنه بكل فرد من البشر اللهم الا لمن انتقل إليه شئٌ من الرزق بالارث فيمكنه أن يعيش به. اما سائر الأفراد فإنهم إذا اغفلوه ولم يتعنو له يتعذر عليهم مناصبة الطوارئ الطبيعيه التي تقضي بنسخ الضعيف ليقوم مقامه القوي. وينتج من هذا أن الفرد الذي لا يكون متأهباً التاهب التام بهذا التهذيب يصبح كلاً على كأهل ثائر الناس هو واسرته وولده فإذا هم ابوا تقديم الضرورات له ولنسله فلا يتخلصون من قلق وسآمة ينالأنهم عند مشاهدة عجزهم وألمهم. وهو بلية على البشر مصدرها أولئك الذين عاثو في الأرض فسادا او بخسو التهذيب حقه وخلطو فيه اذ وهمو فيما يتقاضونه فأطلقوه على ملعومات ربما حملت في مطاويها ضر أكثر من نفع وربما كانت وسيلة لإكثار القاعدين الذين لا طاقة لهم بهذا الوجود. هؤلاء باسم العلم والتهذيب يثقلون مناكب البشر ويكلفونهم بتقديم القوط وسائر الحاجات. يتسمون بسمات لون نزعنها عنهم لرايت تحتها العجب العجاب.

أما النوع الثاني فليس له نهج خاص ولا يجب أن ينحى في طلبه طرق معلومة والأولى أن تترك القوى وشأنها فلا يكون الواجب مسيطراً عليها رد ليلها الطبيعة والسليقة وهما تسوقأن الفرد إلى معرفة اللذائذ التي هوأهل أن يمتع نفسه بها والتي إذا تغاضى عنها ولم يبالي بها كأن ذلك باعثا في انتقاص سرورة وزياة المهم أن أهل الزهد يتخلون عن البشر ويعمدون إلى مسخ جسومهم وتعذيب ابدانهم على أتباعهم أي ملذة كانت وينفرون من ك يطلق عليه هذا اللفظ على أن تعظيم العامة لهم ومجرد ذهابهم إلى أن العناية الغيبية راضية عنهم فيه من اللذة ما فيه هذا مع أنه لا دليل لهم على قهر انفسهم وكراهتهم للذة وغلوّهم في الزهد حدا بفرقة الكوكر أن ينددو بهم ويخطوهم. وقد رأينا طائفة من الفلاسفة مذهبهم أن السعادة هي أسمى فضيلة وفلسفتهم تدعي الهدونية فهوُّلاء يحرضون يحرضون على ترقية المدارك والعواطف وتمرينها على معالجة المحسوسات بحيث تصبح خليقة إن تكب منها كل ما من شانه جرُّ سرور لصاحبها او رفع الم عنه وعلى التمادي تصل به إلى السعادة المنشودة وكله استعداد لحياة تامة وهذا مما يقتضيه التهذيب على ما مرّ بك وتحث عليه الأخلاق.

تر مما تقدم اننا وصفنا التهذيب وصفاً عاما ونتوخى الان أن نورد لمعاً عن فروعه المتفاوتة ومأخذه المتعددة فمن جملة هذه الفروع التهذيب العملي وهو أعظمها خطراً على لمن الناس لا يقدرونه حق قدره وقد كاد يهمل أمره في كثير من معاهد الطلب وتلافى هذا الخطر أهل النظر فقاموا بشدون ازره وسعوا بإدخاله في لوائح المدارس. على أن المنافع التي تنجم عن التمرين العملي والمهارة اليدوية تتجلى لمن توقف معاشه عليهما وانحصرت مصادر ضرورات حياته فيها على أنه لا يسع من كانو في غنا عنها لما توفر عنهم من دواعي الثروة وأسباب الدعة الا الاقرار بالنفع الذي يتأتى من التحصن بهما.

ولا نزاع في أن هذا التهذيب ياتي بمرأفق خطيرة ينصرفون إلى الاشتغال بالصنائع وسائر الأعمال البدنية على أنه لا ينبعي أن يعني به كثيراً في تربية الطلبة الذين عقدوا النية على معطاة الصنائع في المستقبل لان هؤلاء يتيسر لهم فرص لاتمامه وحسبهم التمرن على شئ طفيف منه. أما الطلبة الذين يتوخون ولوج الدوائر العلية من المجتمع كوظائف الحكومة وسائر الأعمال العقلية فيجب أن تربى فيهم المهارة الفنية والقوة المدركة على السواء لان محيطهم المنتظر لا يمكنهم من الرياضة العضلية وإنهماكهم بمعضلات المسائل بنسيهم الواجب عليهم لابدانهم.

ثم أن الفرد الذي يهذب علقه وبدنه يكون أقل عرضة لعوامل الوجود وعوارض الطبيعة من مشوه الجسم واندهمته نكبة او بغتته حادثة فهو اقدر على درء ضرها عنه وقد يكون عوناً لاخوانه في كثير من الاحايين بيدان الضعيف من البشر يعرضه ضعفه إلى الوقوع في حبائل النوائب وقد يؤدي به إلى الهلكة إن يم يغثع قريبه المقتدر فترى من هذا أن مشاعر الفرد وأعضاء بدنه لها غاية واحدة وهي المناسبة والمطابقة بين افعال الفرد وبين الأشياء والحركات التي تتنأولها افعاله فوجب أذن على البشران يرقوا مداركهم وجسومهم على السواء لتكون خليقة بافعال ذات شأن حتى يكمل التناسب بين الفرد والمحيط

أن في الطرائق التي تتخذ الأن في تروية الطلبة نقص محسوماً. وما استخف تربيه نلقن برمتها بمثائل تلقى على الطالب ليعيها في حافظته فالعلم معلا شانه والعمل مهمل أمره ولا يسوغ الشطط في وجوه التهذيب فالتمرين العملي واجب وينبغي أن ينظر فيه إلى الغاية التي ينشهدها الفرد ويردها أن تكون اسا بحياته ثم هو يتروى في فوائد التمرين ويأخذ منه قدرا ينفعه في إدراك غايته ويهمل مالا يجديه أما المنافع التي تكون من تهذيب القوى باسرها فمما لأمراء فيه وهي تظهر في كل عمل من أعمال البشر.

التهذيب العقلي هو الفرع الثاني من تهذيب الفرد ولعله ينطبق في مأخذه على الفرع الأول فكما أن في التهذيب العملي ريضاة لأعضاء بصور تعدها لمعالجة الأشياء مباشرة فهكذا التهذيب العقلي يوجب تمرين العقل وتجهيزه للمطابقة بينه وبين الأشياء لمعالجته اياها بواسطة الأعضاء. على أن التهذيب العقلي بأعلى صوره هو فوق طاقة العامة فيكاد يخفا عليهم أن ثمة علاقة بينه وبين الحياة العملية وأن بينهما مطابقة وأنه نافع للبشر في تحصيل معايشهم وما ذلك لضعف نظرهم في الأمور وجهلهم بطبائع الأحوال. فقد نسو أن العود الذي يرفع به ثقل وأن الدولاب والجذع اللذين يستخدمأن في باخرة ماهي كلها تطبيق لمبادئ العلم في نظريات المخل. نسو أن تثقيف النبال يقتضي علم ببعض مبادئ القوى والحركة في العلم الطبيعي واننا نحن نتدرج من هذه المبادئ البسطية في العلم ثم نتطرق إلى نتائج رياضية وفلكية وأن العلم نفسه نشا نشوءاً وما زال يترقى حتى بلغ حاله المعهودة الان وأن المعارف المشوشة التي ابتدا العلم بها قد كانت للبشر أساسا لاكتشاف العلم المنظم والنافع للفرد وبدونه لا يقوى على الحياة الا ترى أن المعارف العالية في الفلك وسائر الرياضيات هي دليلنا الأمن في المعامل والمكاتب أهل العمل التجاري وفي تسيير السفائن والبواخر. وإن علم الحكمة والكيمياء ليس عنهما غنى في التجارب العلمية والتحليل المادي وعلى الجملة فالتهذيب العقلي يوجب ترقيه قوة الفرد ومواهبه وبذلك يؤثر في محيطه ثم يستعد لان ينفع نفسه ويحيى حياة تامة. ولما كأنت التهذيب العقلي وسيلة لمعرفة طبائع الأشياء وجب توسيع نطاقه مهما امكن فلا يجوز للفرد أن يتخذ جزء منه ويغفل أجزاء ولعل هذا من نقائض الأساليب الحاضرة في تعلم الصنائع. فإن العلم ببضعة من المظاهر الطبيعية مع جهل سائرها قد يؤدي إلى سقطات فادحة في ابداء الأحكام في أحوال الموجودات وقد يتعذر بقاؤه في الذاكرة.

ثم أن لكل شئ وكل عمل في هذا الوجود روابط تربطه إلى ظواهر الكون على تباين صنوفها فمنها ما هو رياضي ومنها ما هو طبيعي ومنها ما هو كيماوي ومنها ما هو حيوي وهذه الظواهر جميعها مشتبكة بعضها ببعض حتى أن العلم التام بجملة منها يقتضي العلم بمبادئ بقيتها. وقد يستغرب بعضهم من الحث على توسيع التهذيب إلى هذا الحد ويخيل لهم أن ذلك لا ضرورة تدعو إليه على أن تعميم التهذيب على هذا الاسلوب يمكن الفرد من إدراك حقائق كل علم على حدته دع عنك ما فيه من إدراك النتائج الأصليه التي تتفرع عن هذه الحقائق ولا يجب عليه أن يبحث عن تشعباتها ونسبها وتفاصيلها فليس ذلك من شانها وبعد أن يقف على مبائ العلوم باسرها يصبح ذا المام بمظاهر الكون جميعها وإذ ذاك يكون قد استعد استعدادا تاما للاخصاء فيصرف نفسه إلى جملة من ظواهر الطبيعة ويعمد إلى درسها واتقانها.

نرى من هذا أن الاجتماع نفسه يحث على التهذيب العقلي من وجه مضمن لأنه كلما عظم شانه سهل أمر معاش الفرد والاسرة. وبالجملة استدر المجتمع النفع العام. وهنالك وجه آخر ظاهر يؤيد التهذيب العقلي على أنه ليس له علاقة بالحياة العملية وهو مستقل عنها كل الاستقلال وهاك ما نقصد على سبيل الايضاح: - أكثر البشر لا يدركون عظمة الكون وذلك لقلة مادة العلم وكساد بضاعة التهذيب بينهم فالخادم وصاحب الحانوت وحامل العلم والأديب جميع هؤلاء لا يدكون عظمة مافي هذا الوجود من حي وجماد ولا يدكون ما يستطيع إدراكه ناس انقطعوا إلى درس حركات الطبيعة وظواهرها. هؤلاء يقدرون أن يبحثوا في دقائق الطبيعة ويسرحوا مخيلتهم في الكون بعد أن يكونوا قد اقصوا عن عقولهم المباحث والخواطر التي تتعلق بالحياة العملية. تصور ردهة مزدانه حوائطها بانوع الزين وقد دخلت إليها في جنح الدجى ولم يكن فيها الا شمعة منارة موضوعة بقرب زاوية في الحائط فبأن لك شئ من الزينة والنقوش وخفيت عنك أشياء وبينما أنت في هذا الحال انيرت مئة قنديل كهربائي فازالت من الردهة رداء الظلام الحالك ومثلتها لعينيك بما فيها من الزين والنقوش. هذا مثال ينطبق على ظواهر الكون كل الانطباق فالعلم يعلي شأن الحياة العقلية وكلما كان تهذيب الفرد اتم كل نظرة في الكون اوسع.

ينتج من هذا أن درس نظام المظاهر الطبيعية يوجد في الفرد علما عاما بأحوالها علي أنه يؤدي به إلى حدود يقف عندها العقل البشري في دهشة ويتقاصر عن تجاوزها كل بحث وعبروا عنها بقولها ما وراء الطبيعة. وهذا الدرس يمكننا من إدراك العلاقة بين الفرد واسرار الوجود ويخولنا أن نشارك الطبيعة ونتمتع بما تفيضه علينا من سوابغ النعم وعظيم اللذائذ.

أما العلم الذي يجب عل الفرد أن يتطلبه قعلم الاجتماع وهذا يتضمن الاطلاع على التاريخ ولاسيما ما كان يبحث منه عن الوطن وماله علاقة به وينبغي تتبع اصار الأمم والرجوع بها القهقرى إلى ما قبل انبلاج فجر حضارتها والبحث عن أثارها في ابان بدوتها لان هذا البحث هو المصدر الذي نشات منه الحقائق الاجتماعية المتفرقة وهو مهمل في دوائر التربية الحاضرة. ثم أنه يجب الوقوف على أحوال الأمم الشرقية لأن ذلك يفتضيه علم العمران ويوجبه. ودرس التاريخ يجب أن يتناول بالأكثر أحوال الأمة وكل ما ليس له علاقة بالاشخاص على أنه لا يجوز اغفال سيرة الرجال بتاتا ولا يجب أن يبخس حقه غير أن المؤرخين افرطو في الاهتمام به حتى انهم حصروا علم التاريخ بتراجم العظماء ومازال الاغمار في كل عصر يؤيدون هذا الرأي. وقد صرح كارليل أن علم التاريخ كتابة عن تدوين حوادث قام بها الملوك مضافا إليه ترجمة حالهم والناس الآن يميلون إلى الاطلاع على تواريخ الرجال الغابرين كما يرغبون في الاطلاع على أحوالهم المعاصرين. والغرض من درس التاريخ هو الاطلاع على نواميس النشوء الاجتماعي وهذا لا يتيسر بالوقوف على ترجمة حال الملوك والوزراء والبابوات والقواد ولا بالعلم بما شنوه من الغارات او قاموا به من الحصارات او احدثوه من المؤأمرات وابرموه من المخالفات والمعاهدات.

ثم انك إذا تدبرت الطرق التي ترقي بها المجتمع ت أن رقيه كان بادئ ذي بدُّ في تقسيم الأعمال وتوزيعها على الأفراد وكثيراً ما حدث التقدم بدون رضى الحكام. هذا يدلك على أن النشوء العمراني يجري مجراه فيكيف المجتمع وينوعه غير مبال بالعوائق التي يحاول الكبراء صده بها. ويليق بنا أن نعلم شيئا من الأعمال التي قام بها بعض الملوك ونطلع على أخلاقهم لما في ذلك من النفع لنا في إدراك مشاهد النشوء لتي حدثت في زمانهم والتي إن هي قصلت عن حوادثها وعن اشخاص كان لهم علاقة بها تعذر إدراكها حق الإدراك ثم أن المعرفة المتوسطة من هذا العلم تعيننا على إدراك الطبع البشري وتق بنا على بقاع نشرف منه على ما بلغه الإنسان عن طرفيق متناقضين وهما الصبر والخير فمن البشر من يسعى إلى دمار العمران وخرابه ومنعم من يسعى إلى إعلاء شانه وتوسيع نطاقه.

اما علم الأدب فلا ريب أن له شانا عظيما في تهذيب الفرد وأعداده لحياة تامة ولا يجب مع هذا أن يخص بوقت طويل لاسيما في تهذيب الرأشدين واعني بهم من بلغوا من العمر ما يناهز العشرين وذلك لأن البشر عموماً يرغبون العمل في أمور تلذهم ويستسهلون معاطاتها. فالتاريخ المتعارف والشعر والروايات وتراجم العظماء طالما عني بها كثيرون وانصبوا عليها وانصرفوا إليها أما العلم الذي يبحث عن طبيعة وظواهر الكون فليس للبشر ميل إليه ولذا وجبت العناية به أكثر من الأدبيات. على أن للدأبيات قدرا عظيماً عند أصحاب الهدونية يتخذونها من وسائل بلوغ السعادة لان عليها تترتب البلاغة في الحديث والطلاقة في اللسان ومنها تكتسب العبارة جزالة ورقة وبها تتولد اللذائذ العقلية وتنصبغ المشاريع الاجتماعية ولولاه لكان الحديث كناية عن ألفاظ يتفأهمون بها وهي خلو من الحياة كالجسم إذا فقد الروح.

بيد أن البشر يتطرفون جدا في متابعة تهذيب الفرد فمنهم من يفرط فيه ويغفله بتاتاً فيخسر فوائده جهلا. ومن سلك هذا المسلك هم السواد الأعظم من البشر ومنهم من يفرط فيه كان ينصرف بكليته إليه فيؤدي به هذا الإفراط إلى اضرار ربما كانت مهلكة.

قال أميرسون: إن من شرائط التهذيب الأولية أن يكون الفرد حيواناً قوياً وهو قول ينطبق على أفراد البشر بدون تفرقة. فالحياة التي تزري بالوجه الحيواني من الفرد ليست حياة. وإن كان يعذر صاحبها في بعض الاوال فإنه ملوم على وجه العموم ولو تقصينا أحوال البشر ومعارفهم لظهر لنا أنه لا يمكن انفصال العقل عن الحياة ولا أنفصال الحياة عن الأجسام وتتبين أنه لا يمكن أن يحيا الفرد يحاة تامة إلا إذا كان قوي البنية شديد العضل وأن الاعتداء على شرائع الصحة الطبيعية يؤدي بالفرد إلى مضار طبيعيه ويجلب مع الزمن مضار تشوش العقل وتضعضع أحواله. ثم إنه لا ينبغي للفرد أن ينصرف إلى التهذيب الأعلى الا بعد أن يكون عرف أنه اكمل الواجب عليه من سائر مطالب الحياة ولا يجب أن يكون تهذيبه عقبة أمام نشوء الجسم ولا أن يتوخى منه التمرين على الحركات القانونية التي تتضمن الالعاب اليدوية فإن هذه لا تنقع في الحياة الا قليلاً. ومن الخطأ الفادح الاهتمام االمفرط بالتهذيب بحيث تنتهي الحال بالإنسان أن ينصرف به عن سائر اللذائذ الطبيعيه وقد يولد فيه هذا الإفراط سآمة تناله في نفس الموضوعات والأشياء التي أخذ النفس بها ولعل هذا الكره متأت عن الضغط الشديد على النفس واكراهها على سلوك مسلم مذموم. وأن الإفراط في تهذيب النساء تهذباً عاليا مذموم في ذاته لما يجلب عليهن من الاضرار الجسيمة قال بعضهم: إن جامعتي غرتون وننهم في كمبردج ليستا على صواب في تهذيب البنات لإنهما متطرفتان والتهذيب الذي تستعملأنه مناف للصحة الجيدة. وهو قول حق إذا أخذ على بابه. على أن قائليه يخلطون في فهم معني الصحة الجيدة ويعنون بها سلامة الجسم من التوعك والانحراف الظاهرين. اما نحن فنريد منها أن يكون الفرد ذا مزاج قوي وأن يكون فيه نشاط الحركة. فنرى أن القول المار ذكره صحيح وإن كان فكره مغلوطاً فيه. وإن هناك بوناٌ شاسعاً بين معاني الصحة فالناس ينظرون إلى الظواهر.

ومن الغريب أن كثيراً من النساءِ يخدعن بظواهرهن فيظن الناظر إليهن انهن ممتعات بصحة جيدة غير أنهن في الحقيقة غير خليفات بإنشاء نسل صالح لحفظ النوع ذلك أن في المرأة فضلة من الكريات الحيوية ليست في الرجل خلقت لإنشاء النوع البشري فإذا ارهقت الأعضاء بالأهمال والإفراط في التهذيب الأعلى كان ذاك باعثاً على نقصان تلك الفضلة وقد تبقى المرأة قادرة على التوليد لبقاء ما يقتضيه في بدنها من القوة الحيوية فلا يشعر بذلك النقصان. ثم إن تتلف من الجسم مقادير عظيمة من الكريات في أعمال اخر غير أعمال التوليد كالحركات اللأزمة للحياة العميلية وما يندثر من الدماغ عند أعمال الفكرة وأعمال الروية وانفعال المتأثر به وما شاكل من الإتلاف الحيوي الذي يؤثر على التمادي في كريات التوليد فيضعفها. فنرى من هذا أن قوة التوليد في المرأة تضعف على نسب متفاوتة فطورا تضمحل فلا تستطيع المرأة الولادة وتارة تولد ولكنها لا تستطيع الأرضاع وفي بعض الأحوال تتأتي اضرار لا اقدر أن اصرح بها ومن العواقب السيئة التي تنجم عن الإفراط في تهذيب النساء وقوع النفرة والتباعد بين الزوجين وهو من النتائج الدقيقة التي لا تظهر الا لأصحاب التروي.

ولو هذبت لوائج المدارس عندنا (إنكلترا) بطرق مطابقة للعقل ولتأتي للنساء التهذيب الضروري لهن وتخلصن من مضار التربية الحاضرة ويجب أن يلغى منها كل ما يعبث بها من المضار ويبقى كل نافع. ولا يمنع ولاة الأمور من الغاء الطرائق الحضارة الا زعمهم انها موافقة لمقصود التربية.

على أن التربية بأسمى معانيها تقتضي الحصول على شئ من العلم ضروري لكيأن البر نافع لإنارة الاذهان وتوسيع العقول مقصود به أعداد الفرد بحياة كاملة وما تجاوز ذلك كان فيه غلو عقيم وإفراط سقيم.

سبق لنا في هذه المقالة أن الأخلاق توجب تهذيب الفرد وتحث عليه وهناك موجبات عمرانية فمنها ما هو غيري ومها ما هو اناني. أما الانانية فهي تحتم على الفرد أن يتحلى بالتهذيب العقلي لان به تترقى قواه ويطيب له المعاش وإن هو اغفله وجهله كان أشبه بالحيوان منه بمخلوق عأقل. والغيرية تتقاضى الفرد أن يبل من قواه شيئا في سبيل سرور غيره فإن لم مهذباً يستحيل عليه نفع المجتمع الإنساني.

وأفضل أنواع التهذيب هو التهذيب الفني واعتي به درس الفنون الجميلة كالموسيقى والتصوير والشعر ولا يجب أن يتوخى فيه فقط النفع الشخصي والسعادة الذاتيه وإنما ينبغي ايضا أن يعني به لأنه يهيئ الفرد لنفع محيطه وهذا هو الموجب الغيري. على أن للوجه الاناني شانا عظيما في هذا التهذيب لأن الفرد الذي يتعلم الموسيقى وسائر الفنون ينال من اللذة ما يتعذر استمتاع غيره بها ممكن ليس على شيئ من العلم بها.

إلا أن الإفراط في التهذيب الفني ليفضي بصاحبه إلى اضرار شأن الإفراط في سائر أنواع التهذيب العقلي ولذلك وجب الاعتدال لأن التطرف فيه يذهب الوقت ويضيع العمر سدى. واقبح المضار التي تنجم عنه مشاهدة في النساء اللواتي انصرفن إلى الفنون الجميلة واغفلن سائر الأعمال. ومع أن الأخلاق تحث على التهذيب الفني فهي تشدد النكير على الإفراط فيه ولا ترضى عن أساليبه في هذا العصر. وما أحسن البحث في الرذائل التي انبعثت عن الغلو في حب الموسيقى فأن ذلك يظهر كل الظهور أن المغالاة سوس ينخر عظام الأمم حتى ينتهي بها إلى العدم.