مجلة المقتبس/العدد 25/الرياضة المعقول

مجلة المقتبس/العدد 25/الرياضة المعقول

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1908



قل استعمال الألعاب الرياضية في هذه البلاد لأن الفقير لا يقدر فوائدها قدرها ويروض جسمه من حيث لا يشعر بأعماله اليدوية وحركاته اليومية أما الغني فيرى في الأكثر أن اللعب لترويض الجسم منقصة وسبة لا ينطبق مع الوقار والرزانة. ولما كان أجدادنا ينصرفون إلى الألعاب المختلفة آونات فراغهم كانت أجسامهم أصح وأمراضهم أقل. دام ذلك إلى عهد قريب وضعفت اللعاب الرياضية بيننا بضعف العلوم ويدلك على عناية قومنا بالرياضة قديماً أنهم أفردوها بالتأليف وعددوا ضروبها وأساليبها.

ولقد كان صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي إذا استراحا قليلاً من جهاد الصليبيين يصرفون شطراً من أوقاتهما في ركوب الجياد والسباق في سهل اللوان بظاهر دمشق ولا يريان ذلك نكيراً. ولما أنكر أحد علماء ذاك العصر على احدهما ما يأتيه من هذه المسليات المضيعة للأوقات قال له: إننا نستعين على تقوية أجسامنا لئلا نضعف عن النزال ومقارعة الأبطال. ولم يزل في بعض بلاد الشام أثر من آثار هذه الألعاب بين أبناء الطبقة المتوسطة والدنيا ومن أهمها ركوب الجياد للسباق والركض والوثب والسبحة ولعب العصا والصراع كما ترى منها بعض الشيء في هذا القطر.

بيد أن الغربيين سبقونا أشواطاً إلى كل محمدة ومن جملة ما يمتاز به خاصتهم وعامتهم عن خاصتنا وعامتنا الألعاب الرياضية يأتونها كأنها من الضروريات كالأكل والشرب والنوم حتى قال بعضهم أن على نسبة ارتقاء الألعاب الرياضية في أمة تقوي أجسامها وتطول أعمارها وتصح عقولها والعقل السليم في الجسم السليم. أدركوا أن غاية الحركات الطبيعية بث القوة في عامة الجسم لا جعلها قاصرة على بعض الأعضاء فانبساط القلب المفرط ينشأن من الإفراط في إنهاك أحد الأعصاب بالعمل وإفناء قوى بعض الحواس. فترى الجبار ممن اعتاد رفع الأثقال قوي العضلات ولكنه ضعيف الساقين إذا أريد على الجري انقطع نفسه وخانته رجلاه ولئن كانت أعضاؤه متينة فآلته التنفسية سيئة السير ولا يعالج هذا النقص إلا بتمرينات منظمة حتى أن المصارع نفسه ليحتاج إلى الرشاقة في حركاته إذا عرض له أوتوموبيل في سكته أو حريق في داره ليتأتى له أن يقفز ويصعد الدرج ويزحل على الحبل. أما عامة الناس فهم كلما استحكمت قوتهم وزادت خفة أجسامهم يستعدون لتسلق الجبال وحمل الأحمال والقفز والسباق. وهذا الميل إلى كل ضرب من ضروب الرياضة وإن أريد به التسلي فهو من الضروريات لقوام البنية حتى يكون من الناس كما يقول الفيلسوف هربرت سبنسر (حيوانات صالحة) أي أناس لهم في تراكيبهم الطبيعية ومن أعصابهم وحواسهم الباطنية ما يؤهلهم للقيام بما في طاقتهم بدون أن ينقص عضو من عضو شيئاً أو يقوى عصب بضعف أخيه. ولذلك كثرت أساليب الرياضة وكلها تدور على قوانين طبيعية مبنية على علم التشريح والحياة والميكانيك. وممن قام يدعو إلى طريقته في الرياضة رجل من أهل السويد اسمه لنج نظر في الطرق المتبعة في التريض فخالف المتبع منها في التربية الطبيعية التي من شأنها إعداد أناس منبسطة قلوبهم فاستعاض عما كان أهل الرياضات يستعملونه من قبل بالتجارب من الألعاب بأساليب له معقولة معتقداً أن أحسن رياضة لتحسين الجنس الإنساني في مجموعه تقليل أسباب الضعف وتقوية الأبدان تقوية تامة. تعلم هذا الرجل التعليم العالي وانصرف إلى اللاهوت والأدب لأول أمره فصنف فيهما وألف فشغله ما هو فيه من الأشغال العقلية عن النظر في الألعاب الرياضية إلى أن التقى بمهاجرين فرنسويين في كوبنهاغ أوائل القرن الماضي فعلماه المسايفة لعب السيف والترس فمهر فيها حتى عين معلماً لحمل السلاح في كلية لوند وكان حاد الفكر والتصور صعب المراس لا يقف في أمر يتعاطاه عند حد التوسط فاهتدى بذكائه إلى أن وراء المسايفة وإحسان الكر والفر مقصداً أسمى فأخذ نفسه بدرس منافع هذا الفن ونظر في التشريح وعلم النفس وتوغل في التاريخ فرأى أن السكنديناويين كانوا يستعملون الرياضة واليونان من قبلهم كذلك وتبين له أن ما هو ماثل في مصانع اليونان وتماثيلهم من جمال الوجوه وتناسب الأعضاء وصحة الجسوم إنما كان بفضل الرياضات التي يرتاضونها وثبت له أن تحسين النسل وجماله وجودة الصحة الطبيعية والأخلاقية تنشأ من استعمال الرياضة المعقولة.

قام هذا الخاطر في ذهنه ولم يرتح وجدانه إلا عند ما تعدم إلى حكومة السويد أن تمنحه شيئاً من المال يستعين به على نشر طريقته فردته رداً غير جميل وعدته ممخرقاً أخرق فسخط من ذلك وهو غضوب عبوس إلا أنه لم ييأس. وكان نجاحه في ثباته على المطالبة فصدر الأمر الملوكي سنة 1813 بإنشاء مجمع علمي للألعاب الرياضية في استوكهلم عهد إليه إدارته ووفق إلى تحقيق الأفكار التي كانت تخالج صدره وإن كانت تلك الأفكار مشوشة مرتبكة لأول أمرها إلا ا، العمل يجليها والبحث يهذب أصولها وفروعها وساعده على نياته ما تم للعلم من الاكتشافات الحديثة وزيادة انتشار فن الطب ومعرفة ما بين أعضاء الجسم من الصلات.

أما طريقته فهي في الحقيقة مجموع أعمال صحية غايتها تقوية الأعصاب وأن يقاوم المرء المؤثرات المضرة ويستعد لدفع الأخطار التي تحيق به. وبفضل الجهاد الذي جاهده لنج في أعماله زاد في مدة نصف قرن معدل قامات الجنود في تلك البلاد ثلاثة سانتيمات وطالت الأعمار فصار معدل الزيادة تسع سنين عن ذي قبل. ولما بت ذلك بالبرهان والإحصاء أرادت بعض دول الغرب أن تجري على طريقة السويديين فأدخلت طريقة لنج إلى المدارس الجامعة وثكن الجند ولكن العنصر اللاتيني لم يفلح كثيراً في الجري على تلك الخطة لأن أهل شمالي أوروبا أرقى منه في معنى التوفر على الواجب والمبالغة في الخضوع لضروب السخرة المملة فلا يتبرمون من تكرار حركات واحدة وحضور جلسات طويلة على نمط واحد كما يتبرم أهل العنصر اللاتيني.

وبعد فإن من فوائد السباق وفضائله في التربية أنه يضطر صاحبه إلى تعلم النظام ويعده للقيام بالفروض الجندية ولذلك ترى الجدافين في القوارب وهم مضطرون إلى تطبيق حركاتهم بعضهم على بعض وأن يسيروا بنظام تام يأتون في ذلك مثالاً من أمثلة النظام والتكافل وكذلك الحال في لاعبي الكرة بخضوعهم لأمر زعيمهم. هذه الألعاب أحسن مدرسة للشبان كل يوم لأنها لا تبقي عضلة لا تتحرك في خلالها وتثير الحركات التنفسية مع رفع الأعضاء وبذلك يقوى الصدر وتكبر رقعته وتتحسن ضربات القلب وتتصلب الأعصاب وتمرن المفاصل.

ولكن هذه الطريقة في الألعاب على ما هي عليه من النفع بحيث جرى العمل بها في الثكن والمدارس يصعب أن يجري عليها من يتعلمونها بعد لأن الثكنة أو المدرسة إذا خصصت للجندي والتلميذ ساعة كل يوم للرياضة فمن الصعب على من يدخل في مدرسة هذا العالم أن يصرف هذا القدر من وقته كل يوم. بيد أن القوم اخترعوا صوراً من الألعاب لا يحتاج معها المرء إلى شيء من الأدوات ولا تأخذ له من الوقت أكثر من عشر إلى خمس عشرة دقيقة.

وقد كثر تحدث الناس في إسكاندينافيا مهد طريقة لنج بطريقة اخترعنها موللر الدانيمركي وما وفق إلى إتقانه في كل فرع من فروع الألعاب وهذا الرجل يحسن تعاطي المجداف والسباحة والتزحلق والصراع والمشي وحمل الأثاقل والقفز والملاكمة والسير السريع وقد نال في ذلك 123 جائزة حتى قال فيه أحد المصورين: إنك يا هذا أجمل مخلوق رأيته في حياتي. بل أنه كتب مؤخراً أنه سيزيد نفسه جمالاً ورقة مع أنه الآن في الأربعين من سنه. وتاريخ هذا الرجل غريب في بابه وذلك أن أباه كان مختل الصحة مبتلى بعدة أمراض وهو كان في صغره كثير الأمراض أيضاً وقد قال عن نفسه: إني لما ولدتني أمي لم يكن وزني أكثر من ثلاث لبرات ونصف بحيث كانت علبة لفائف تسعني وفي السنة الثانية أصبت بزحير كدت أهلك عقيبه كما أصبت في تلك السن بجميع أمراض الأطفال. ولما دخلت المدرسة أصبحت أمرض كل سنة مرتين أو ثلاثاً بالحمى والبرداء والإسهال وغيرها فأنت ترى أن مالي من الصحة والقوة الآن لم أرثهما وأني لم أكن من أهل العافية والسلامة في طفولتي.

ففي سنة 1874 وكان عمره إذ ذاك ثماني سنين وقعت إليه كتب بالألعاب الرياضية مترجمة من الإنكليزية والألمانية ولما قرأها ربت فيه ذوق التمرينات الطبيعية وأخذ يتمحض لها وترك دروس اللاهوت التي كان أخذ بدراستها لأول أمره وتعلم الهندسة العسكرية صم صار مهندساً ملكياً وبعد أن قضى عشر سنين في هذه الصناعة عين مديراً لمصح في جوتلاند شبه جزيرة دانيمركية وهناك نشر كتاباً في الأعلاب الرياضية سماهطريقتي انتشر انشتاراً غريبلاً فطبع منه في 3 أغسطس سنة 1904 إلى شهر مايو من السنة التالية ثلاثون ألف نسخة هذا وسكان الدانيمرك نحو مليونين ونصف فقط. وترجم إلى الألمانية فطبع منه 70 ألفاً وإلى الإنكليزية فطبع منه 25 ألفاً وإلى السويدية 20 ألفاً وإلى الإفرنسية 20 ألفاً. ولئن كان لنشر هذا الكتاب يد في التفنن بالإعلان عنه فإن سهولة طريقته كانت أعظم سبب لانتشاره إذ ليس فيها قيود ولا تعقيد بل أن الربع ساعة يقضيها المرتاض في غسل جسمه ومحن جلده (دعكه) وتغمير بدنه تكفي فيمحن جسمه وهو يستلقي على قفاه ويتلوى ويتوتر ويتثنى بحيث لا ينتهي من اغتساله إلا وقد تحركت جميع أعضائه وأعصابه ويكون قد نظف جسمه وبشرته.

وهذه الطريقة نافعة أكثر من غيرها من الألعاب الرياضية لأنها تجعل تنعيم البشرة وغسلها من الأعمال الرئيسية وتلين أعصاب البطن وتجعل لتنفيس الجلد شأناً عظيماً وقد كتب موللر إني ضحكت من أناس في أرباب المسابقات والصراع يغتبطون بأن أجسامهم لا ترشح عرقاً عندما يتعاطون أعمالهم مع أني موقن بأن مسام أجسامهم متسخة بالأدران والأدهان البشرية وصفرة وجوههم واكمداد ألوانهم أكبر دليل على سوء صحتهم. وقد علق موللر على ترويض البطن شأناً كبيراً في تحسين الهضم والعون على انتظام وظائف الأحشاء وتحسين حالة الكلى والكبد.

وسواء شاعت طريقة لنج أو طريقة موللر أو طريقة الجيوجيتسو اليابانية في الألعاب الرياضية فإن ما يهم في هذا الباب انتشار الرياضة البدنية بين جميع الطبقات لا أن تبقى محصورة في طبقة خاصة فيجب أن يتعلم الطفل اعتياد العناية بجسمه وغسله وتقويته ومحنه وأن يواظب على ذلك ما دام حياً. ومن أجل هذا تجد الحكومات الأوروبية تنشط جمعيات الألعاب الرياضية. وقد كتب وزير حربية فرنسا إلى جمعية اتحاد الألعاب الرياضية في العهد الأخير يقول: يجب أن لا تبقى بعد الآن غير طريقة واحدة في التعليم الطبيعي تستعمل في الثلاثة أدوار من أدوار التربية الوطنية وهي المدرسة والمجتمع والجندية وهذه الطريقة هي كبر الصدر وسلامة الرئتين والقلب وتقوية الساقين طريقة تحسن جسم المرء أدبياً وصحياً وتعده كأحسن الناس للحياة والعمل والقتال إذا اقتضت الحال.