مجلة المقتبس/العدد 26/القضاء على الشقاء

مجلة المقتبس/العدد 26/القضاء على الشقاء

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1908



كتب فريديك بياسي أحد أعضاء مجمع العلوم الأدبية والسياسية في باريز مقالة في الشقاء الإنساني وتخفيف ويلاته أو نزع شأفاته فقال أنه على كثرة الباحثين في تخفيف ويلات الإنسان والكاتبين فيه ما زال الناس يقولون بأن الشقاء إن لم يزد عما كان فهو لم ينقص ولم يوفق أحد من أولئك العالمين إلى فتح دور النعم والرضى العام. ومهما كان من حسن نية واضعي القوانين وواضعي الأدوية فليس من السهل الاهتداء إلى طريقة تنهض الإنسانية من كبوتها المزمنة في يوم وليلة ولا من الهين اللين القضاء على ما يحف بالبشر من الآلام والأوصاب.

ومع هذا فلا أزال أقول أن هذه المعضلة ليست مما يتعذر حله وهذا الداء لا بد من شفائه وهو مما يجب على كل ذي ذمة يحترم طبيعته ويهتم لما يلقى عليه من أعباء المسؤولية أن يسعى إلى بلوغ تلك الضالة المنشودة سعيها ويعقد ناصية الأمل بشفاء الداء. ولا يتم ذلك بسن القوانين واتخاذ الذرائع الخارجية للحيلولة دون هذه الويلات لتقف عند حد القشور دون النفوذ إلى اللباب بل لا يرجى الفوز بهذه الأمنية إلا إذا غيرت الأفكار والأخلاق ولا يدخل التغيير والإصلاح اللذان يقللان من الشر ويدفعانه إلا إذا أدخل الإصلاح من الداخل لا من الخارج على من يتألف منهم المجتمع. وما على من يود الوقوف على أسباب هذا الشر والشقاء إلا أن يبحث ويستقصي وعندها يتجلى له فيما إذا لم تكن الأسباب كلها اختيارية ومعظمها مما يدخل في طوقنا ويصدر عن إرادتنا. فإذا صحت إرادتنا وطردنا شيطان الجهل الذي يضل عقولنا وابتعدنا عن الشهوات المفسدة والسيئات والخطيئات المهلكة وكلها مولدة للشقاء فنكون قد قضينا على الداء في موطنه واجتثثنا عرق الفساد من أصله.

لا ينبغي الخلط بين لفظتي الشقاء والفقر واختلاف طبقات الناس فالفقر نسبي وليبس من لوازمه أن يكون مضنياً. قد قال البارون روتشيلد الغني المشهو في نحو النصف من القرن الماضي عندما بلغه موت أغادو من أغنياء الإسبان: يا حسرتا على أغادو فقد كنت أظنه في سعة من العيش أكثر من ذلك. وذلك لأنه بلغه أنه لم يترك سوى ستين مليوناً من الفرنكات. وقالت عجوز للفيلسوف جول سيمون عندما زار منازل مدينة ليل للبحث في حالة ساكنيها: الحمد لله على أن لنا أحذية من قش. تريد ذلك تشبيه نفسها بجيرانها الذين قضي عليهم أن يضطجعوا على الأرض بلا غطاء ولا وطاء. ومن المحقق أن الفقر يحالفنا من بعض الوجوه إذ ليس من الناس إنسان إلا ويحرم من الاستمتاع بلذة شريفة ولا يصد عن أمنية مطلبوة. ولكن هذا الحرمان إذا لم يبلغ حده فينا وفي الموجودات التي نعزها لا يمس جوهر الحياة ومتى حصلنا بفضل العمل والعناية الكثيرة اليومية على ما يبلغنا الضروريات إلى حد محدود وأخذنا بحظ من الطعام واللباس والمسكن والمنام لنا ولذوينا. متى حصلنا بفضل الكد على ما نقدر به قدر كفاية أنفسنا بأنفسنا ونستحق به أن نحيا فلا يحق لنا أن نتكلم في الشقاء وإذا فعلنا فنكون قد جلبنا على أنفسنا الإهانة. وما على المرء إلا أن يغتبط وهو في ثيابه القليلة بل وعليه أن يفاخر بها ويباهي بسعادتها إذا كان غنياً عن مسألة أحد على حين لا يظفر بزخارف الحياة الدنيوية والبذخ العالمي إلا بإراقة ماء الوجه ومقاساة الهموم والغموم.

الشقاء حالة تصيب المرء بغلطات ارتكبها هو مباشرة أو هو نتيجة سيئة لأغلاط ارتكبها من يلوذ به أو هو عقبى سوء سلوك سببه الجهل والفساد والشهوة والمطامح السيئة وانحلال عرى التضامن فيصير به الإنسان كلاً على غيره عاجزاً مادياً أو أدبياً عن كفاية نفسه وآله تنقطع حيله عن المقاومة وتحرير النفس من ربقة العبودية والانحطاط الذي أصابه أو قبل به فأمسى غريقاً في لجة مزبدة بالنقص الإنساني وما هو إلا الفضيحة والألم والخطر على مجتمعاتنا. بيد أني أكرر ما قلت بأن هذا الانحطاط وذاك التسفل الذي يصيب كثيرين من البشر يسهل تعيين تأثيراته المضنية التي كانت سبباً فيه وإن من السهل وضع الدواء لداء هذه العوارض ما خلا الحوادث والنكبات التي قد يتأتى تخفيف ويلاتها أيضاً.

قال الكاتب لابولاي إذا أردت أن تنزح بحر الآلام البشرية فلا تحاول أن تأتي ذلك باتخاذ بعض الكؤوس الكبيرة تجعلها سلاحاً في يد المشرّع فإن البحر تجري إليه المادة على الدوام وخير ما تأتيه أن تحول دون تلك المصادر التي تأتي إليه بالمياه. أصلح الغلط وافثأ سورة الغضب وسدد الأميال الفاسدة واجعل الحكمة عوضاً عن الجنون وحسن الألفة بدل الشقاق وعندها ينزل ذاك البحر اللجي عن معدله بالطبع وتتحسن الحالة العامة. ولنفهم هذه النصيحة ولننظر ما هي تلك المجاري والأنهار التي تجري إلى ذاك البحر الذي لا يغاث الناس فيه ويهلك من يهلك.

فالحرب هي أول المدمرات والمهلكات. أما الحرب فلا أحاول أن أقضي عليها بعد الذي علم من تنافس الأمم فيما تتخذه من أسباب الحذر والحيطة. وما دام يخشى شر الحريق فلا أحسن من الاستسلام الآن على أصحاب المضخات ودفع مبالغ لضمانة البيوت والمحال وإذا لم نؤد إليهم ما يلزم لإعالتهم فلا نلومن إلا أنفسنا ولعله يقال بأن المال الذي يصرف في هذا السبيل فاحش ولكن إذا توصلنا إلى إلغاء الخطر فلا معنى إذ ذاك للإنفاق على الضامنين وأرباب المضخات وإذ أن خطر الحرب صعب تقليله وهي مخاطرة يمكن توقي الوقوع فيها أكثر من خطر الحريق لأن الحرب توقد نارها الحكومات والأمم فهي ذاً شر لا يجري دائماً بالرضى لأن كثيراً ما يتحمل الناس مصائبها مكرهين وما الحرب إلا صناعية تضمحل ذات يوم فتصل الأمم بكثرة ما تعلمها التجارب إلى درجة تعلم معها أنها لا تربح شيئاً من تحاسدها وإلحاق الأضرار وأن الأريح لها أن تحترم أنفسها وتتعاون وما يقال في تحاسد الأم ومنافستها وتباغضها يقال أيضاً في الأحقاد الاجتماعية وشدتها وما سبب ما نرى من بوادي الحرب وبواردها مهما كان من تجليها أو خفائها بين الأمم والجماعات إلا أننا نعتقد في الغالب بأن الأغراض والحقوق متغايرة ويصعب بث روح السلام فيها لأن عظمة الأمة وقدرتها وثروتها تتجلى لنا كأنها غنائم قضي علينا أن نتضارب من أجلها وليست إرثاً عاماً عهد إلينا تنميته بحسن العشرة والمعونة المتبادلة فبدلاً من أن نفتح تخومنا للتجارة لتأتينا بما ينقصنا من الغلات ونفتح لنا مصارف نصرف فيها ما يزيد عندنا منها لا نفكر إلا في وضع العقبات في تلك التخوم لأنا موقنون بأن الواحد إذا كسب يلزم عليه أن يخسر الثاني وهذا لأننا لا تعلم أن رأس المال هو ثمرة العمل وبذر لا يحفظ وينمو إلا إذا استجال إلى أجور وبذلك يضم إلى العمل المنتج قوة أخرى تقضي قضاءها على الهموم والأحقاد. ألا فلنصلح الأفكار والعدل والإحساس لنحكم الرضا والمعونة المتبادلة بدلاً من التخوف والحسد.

ليس ثمة غير الخطيئات العامة كعداوة الأجناس بعضها لبعض وعداوة أهل اللغات المتباينة وعداوة الدين وعداوة الطبقات وهناك خطيئات شخصية كلما زادت تصبح خطيئات عامة ولا تبقى قاصرة على فاعليها. كان علماء الأخلاق هم المتشددين سابقاً في النقمة على انتشار المسكرات والموبقات ولكن من منا اليوم لا يشعر بما شعروا هم به من قبل ونددوا بسيئاته.

ليست الحكومات وحدها هي التي تبوء بتبعة إكثار الضرائب على الناس كما قال فرنكلين بل هناك ضرائب كثيرة وضعناها بأنفسنا على عواتقنا وذلك إن كسلنا يتقاضانا مما يعادل تلك الضرائب وشراهتنا تسلبنا ضعفي ذلك وعُجبنا ثلاثة أضعافه.

وهناك سلسلة من سلاسل المصائب الإنسانية هي هي سبب البلاء واللأواء وأعني بها الخصومات وضروب القسوة وسوء معاملة النساء والأولاد والأمراض التي تنجم عن الخصومات وقلة العفة وضعف البصر ورجفان اليد وأعمال تؤدي بفاعلها إلى الجنون وتضعف الجنس وتورث الأبناء بجهل الآباء أمراضاً يجنيها عليها آباؤهم. ولا تنس أن تذكر في تلك السلسلة نهب الوقت والمال وصرفهما في الملاذ والبذخ والإسراف وما يصرف في الحفلات والأعياد مما جمع بعرق القربة وإنهاك القوى وكذلك ما يجري في سباق الخيل فإن أدعى قوم بأن السباق نافع للجياد فهو ولا جرم غير نافع للناس.

وسواء كان المرء بيده شقاؤه أم لم يكن وهو به جدير أم لم يكن فينبغي النظر إلى الأصل فيه فإن من الناس من يقولون بأن للأقدار أيضاً يداً في الشقاء وإسعاد السعيد وذلك لأن العوارض والأمراض والمصائب هي التي تحمل على البيوت فتخربها وتعبث بالنفوس فتشقيها. أما أنا فأقول أن معظمها صادر عنا ونتيجة لازمة لسيئاتنا نحن لا نحسن تناول الغذاء وجعل نسبة بين طبيعة الأغذية اللازمة للقوة العضلية والعصبية والدماغية وبين كميتها. نحن لا نحسن لبس الثياب ولا نجيد التصرف ولا نُعنى بأمور الصحة والنظافة المطلوبة واستجادة الهواء والمسكن الذي يقينا التعرض لضروب الأدواء نحن وعيالنا. لا نحسن انتخاب دور نسكنها وأهلنا بحيث تضمن لنا الهواء النقي والتعرض المطلوب للنور الذي يلقي الحياة. ولا تحفل بالأسباب المختلفة اللازمة للرفاهية كل حين وبدونها تهزل الحياة ولا تنمو ويصبح المرء عرضة للأمراض على اختلاف أنواعها كالحميات الطفحية والرمد والخناق والسل. ومتى دققنا النظر في الشؤون وأعملنا العناية معملها نجد أننا لو أحسنا العناية والحذر والعلم لكنا نجونا من تلك السيئات والنزلات.

بقي هناك شيء لا ينبغي لنا أن نغلو فيه لأنه قليل وأعني به المصائب التي لا ضامن من الوقوع فيها كالأمراض التي تصيب أعقل العقلاء وأكبر أرباب الانتباه. هناك الموت الذي لا ينجو منه إنسان والحريق الذي لا يكون أبداً نتيجة سوء التدبير. والغرق والفيضانات والمقذوفات وسقوط السكك الحديدية. فهذه المصائب لا ينفع فيها إلا التسليم وهذا ما أعنيه بتولي القضاء على الشقاء لا تلك الضروب من الحوادث التي ليست في الحقيقة مادة الشقاء وأس أساس كل بلاء. على أنها ليست كلها مما يتعذر شفاؤه بل أن العلم بما بلغه من الارتقاء قد أحدث أساليب كثيرة لاستئصال شأفة تلك المواد فإذا لم تستطع أن تمنعها كلها ففي وسعك على الأقل أن تقلل صدماتها وتعدل من نتائجها. نعم إن الحذر قد لا يمنع من قدر. ولكن ليس هناك ما يمنع من التوقي منه بأن يبذل في سبيله ما لا بد منه من العناية ما أمكن. والضمان إذا لم يحل دون حرق العقار وضياع السفينة والموت بأخذ المرء من وسط أشغاله وعياله فهو على الأقل يهيئ السبل لإعادة بناء البيت وفتح المعمل والاستعاضة عن تلك السفينة فلا يدخل المرء إلى داره مع الحزن والخراب والفضيحة فيكون قد أتى بحشف وسوء كيلة.

وما أسباب الشقاس في الحقيقة إلا نتيجة أغلاط ناشئة من الجهل وأغلاط ناشئة من سلوك إذا تدبرنا مصيرها وتعلمناه وكانت لنا إرادة في إصلاح النفس كان في الإمكان الخلاص من الشقاء. فالمسألة متوقفة على قليل من المعرفة وقليل من الإرادة فعلينا أن نثير بصائرنا وبصائر غيرنا. والإرادة الثابتة تحول دون الشقاء. وجماع النجاح في ثلاث كلمات: المعرفة والإرادة والقدرة. والعلم والإرادة تولدان القدرة. ويقول تولستوي: إن داء الدواء لا يخرج عنا وليس هو محصوراً في تدابير الإدارة التي تتخذها الحكومات ولا في إدخال الإصلاح على المجتمع بطريقة عرفية قاسية وما الدواء إلا بيدنا بل القسم الأعظم منه فينا

فإذا أريد تحسين حالة الإنسانية فالواجب أولاً تحسين حالة الإنسان. وربما قام المشككون وقالوا وهل في الاستطاعة تغيير الناس فنقول لهم نعم نحن نستطيع تغييرهم بتأن ويجب علينا أن نسعى إلى تغييرهم وهذا في الإمكان.