مجلة المقتبس/العدد 29/الفقر والسقام

مجلة المقتبس/العدد 29/الفقر والسقام

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1908



أيّ مضنى يمدها باكتئاب ... أنة تترك الحشا في التهاب

يتشكى والليل وحف الإهاب ... ضمن بيت جثا على الأعقاب

صفعته فمال كفّ الخراب

تسمع الأذن منه صوتاً حزيناً ... راجفاً في حشا الظلام كمينا

يملأ الليل بالدعاء أنيناً ... ربّ كن لي على الحياة معينا

ربّ إن الحياة أصل عذابي

وجع في مفاصلي دق عظمي ... ودهاني ولم يرق لعدمي

عاقني عن تكسبي قوت يومي ... ربّ فارحم فقري بصحة جسمي

إن فقري أشد من أوصابي

يا طبيباً وأين منّي الطبيب ... حال دون الطبيب فقر عصيب

لا أصاب الفقير داء مصيب ... إن سقم الفقير شيء عجيب

بطلت فيه حكمة الأسباب

رجل معسر يسمى بشيرا ... كان يسعى طول النهار أجيرا

كاسباً قوته زهيداً يسيرا ... مالكاً في المعاش قلباً شكورا

راجياً في المعاد حسن المآب

وله أخت حكته خلقاً نزيهاً ... عانس جاوز الزواج سنيها

لزمت بيت أمها وأبيها ... مع أخيها تعيش عند أخيها

مثله في طعامه والشراب

كل يوم له ذهاب ومأتى ... في معاش من كدّه يتأتى

هكذا دأبه مصيفاً ومشتى ... فاعتراه داء المفاصل حتى

عاقه عن تعيش واكتساب

بينما كان في قواه صحيحاً ... ساعياً في ارتزاقه مستميحا

إذ عراه الضنى فعاد طليحا ... ورمته يد السقام طريحا

جسمه من سقامه في اضطراب

بات يبكي إذا له الليل آوى ... بعيون من السهاد نشاوى فترى وهو بالبكا يتداوى ... قطرات من عينه تتهادى

كشهاب ينقض أثر شهاب

إن سقماً به وعدماً ألما ... تركاه يذوب يوماً فيوما

فهو حيناً يشكو إلى السقم عدما ... وهو يشكو حيناً إلى العدم سقما

باكياً من كليهما بانتحاب

ظلّ يشكو للأخت ضعفاً وعجزاً ... إذ تعزّيه وهو لا يتعزى

أيها الأخت عزّ صبري ... إن للداء في المفاصل وخزا

مثل طعن القنا ووخز الحراب

قد تمادى به السقام وطالا ... وتراءى له الشفاء محالا

إذ قلاباً به السقام استحالا ... كان هيناً فصار داء عضالا

ناشباً في الفؤاد كالنشاب

ظل ملقى وأعوزته المطاعم ... موثقاً من سقامه بالأداهم

منفقاً عند ذاك بعض دراهم ... ربحتها من غزلها الأخت فاطم

قبل أن يبتلى بهذا المصاب

قال والأخت أخبرته بأن قد ... كربت عندها الدراهم تنفد

أخبري السقم عله يبتعد ... أيها السقم خل عيشي النكد

لا تعقني في عيشتي عن طلابي

مرضيني شقيقتي مرضيني ... وعلى الكسب في غد حرضيني

وإذا مسك الطوى فارفضيني ... أو على الناس للمبيع اعرضيني

علهم يشتروني مما بي

رام خبزاً والجوع أزكى الأوارا ... في حشاه فعللته انتظارا

ثم جاءت بالماء تبدي اعتذارا ... وهل الماء وهو يطفيء نارا

يطفئ الجوع ذاكيا في التهاب

خرجت فاطم إلى جارتيها ... وهي تذري الدموع من مقلتيها

فأبانت برقة حالتيها ... من سقام ومن سعار لديها وشكت بعد ذا خلوّ الوطاب

فانثنت وهي بين ذل وعز ... تحمل التمر في يد فوق الخبز

وبأخرى دهناً وبعض أرز ... منحوها به وذو العرش يجزي

من أعان الفقير حسن الثواب

ليلة تنشر العواصف ذعراً ... في دجاها حيث السحاب اكفهرا

ذا هزيم في الأذن وقرا ... حين تبدي صوالج البرق تترى

كهربائية سرت في السحاب

مدّ فيها ذاك المريض الأكفا ... في فراش به الموت أوفى

طرفه كالسها يبين ويخفى ... حيث يغطي طرفاً ويفتح طرفا

عاجزاً عن تكلم وخطاب

فدعته والعين تذري الدموعا ... أخته وهي قلبها قد ريعا

يا أخي أنت ساكت أفجوعاً ... ساكت أنت يا أخي أم عجوعا

فاشفي يا أخي برجع الجواب

قرأت منه أنه لا يجيب ... فتدانت والدمع منها صبيب

ثم أصغت وفي الفؤاد وجيب ... ثم هابت والموت شيء مهيب

ثم قامت بخشية وارتياب

خرجت فاطم من البيت ليلا ... حيث أرخى الظلام سدلا فسدلا

وهي تبكي والغيث يهطل هطلا ... مثل دمع من مقلتيها استهلا

أو كماء جرى في الميزاب

ربّ أدرك باللطف منك شقيقي ... وامنع الغيث أن يكون معيقي

ومر البرق أن يضيء طريقي ... ببريق أثر بريق

فعسى أهتدي في ذهابي

قرعت في الظلام باب الجار ... وهي تبكي الأسى بدمع الجار

ثم نادت برقة وانكسار ... أم سلمي ألا بحق الجوار

فافتحي إنني أنا في الباب فأتتها سعدى وقد عرفتها ... وعن الخطب في الدجى سألتها

ثم سارت من بعد ما أعلمتها ... تقتفيها وبنتها تبعتها

فتخطين في الدجى بانسياب

جئن والسحب أقلعت عن حياها ... وكذاك الرعود قل رغاها

حيث يأتي شبه الأنين صداها ... غير أن البروق كان ضياها

مومضاًَ في السماء بين الرباب

فدخلن المحل وهو مخيف ... حيث أن السكوت فيه كثيف

وضياء السراج نور ضعيف ... وبه في الفراش شخص نحيف

دب منه الحمام في الأعصاب

قالت الأخت أم سلمى انظريه ... ثكلت روح أمه وأبيه

فرأت منه إذ دنت نحو فيه ... نفساً مبطئ التردد فيه

ثم غاله الردى باقتضاب

وجمت حيرة وبعد قليل ... رمقت فاطماً بطرف كليل

فيه حمل على العزاء الجميل ... فعلا صوت فاطم بالعويل

وبكت طول ليلها بانتحاب

فاستمرت حتى الصباح توالي ... زفرات بنارها القلب صال

فأتاها ودمعها في انهمال ... بعض جاراتها وبعض رجال

من صعاليك أهل ذاك الجناب

وقفوا موقفاً به الفقر ألقى ... منه ثقلاً به المعيشة تشقى

فرأوا دمع فاطم ليس يرقا ... وأخوها ميت على الأرض ملقى

مدرج في رثائث الأثواب

فغدت فاطم ترن رنيناً ... ببكاء أبكت به الواقفينا ... أيها الواقفون هل ترحمونا

من مصاب دها وأيّ مصاب

أيها البواقفون لا تهملوه ... دونكم أدمعي بهن اغسلوه ثم بالثوب ضافياً كفنوه ... وادفنوه لكن بقلبي ادفنوه

لا تواروا جبينه بالتراب

بعد أن ظلّ لافتقاد المال ... وهو ملقى إلى أوان الزوال

جاد شخص عليه بعد سؤال ... بريال وزاد نصف ريال

رجل حاضر من الأنجاب

كفنوه من بعد ما تم غسلا ... وتمشوا به إلى القبر حملا

فترى نعشه غداة استقلا ... نعش من كان في الحياة مقلا

دون ستر مكسر الأجناب

ناحت الأخت حين سار وصاحت ... أختك اليوم لو قضت لاستراحت

ثم سارت مدهوشة ثم طاحت ... ثم قامت ترنو له ثم راحت

تسكب الدمع أيما تسكاب

أيها الحاملوه لأمشي ركض ... إن هذا يوم الفراق الممض

فاسألوه عن قصده وأين يمشي ... إنه قد قضى ولم يك يقضي

واجبات الصبا وشرخ الشباب

إن قلبي على كريم السجايا ... طاح والله من أساه شظايا

قاتل الله يا ابن أمي المنايا ... أنا من قبل مذ حسبت الرزايا

لم يكن رزء موتكم في حسابي

إن ليلي ولست من راقديه ... كلما جاءني وذكرنيه

قلت والدمع قائل لي إيه ... يافقيداً أعاتب الموت فيه

ببكائي وهل يفيد عتابي

رحت يوماً وقد مضت سنتان ... أتمشي بشارع الميدان

مشي حيران خطوة متدان ... أثقلته الحياة بالأحزان

وسقته كأساً بطعم الصاب

بينما كنت هكذا أتمشى ... عرضت نظرة فأبصرت نعشا

بادياً للعيون غير مغشى ... نقش الفقر فيه للحزن نقشا فبدا لوح أبؤس واكتئاب

قلت سراً والنعش يقرب مني ... أيها النعش أنت أنعشت حزني

للأسى فيك حالة ناسبتني ... إن بدا اليوم فيك حزن فإني

أنا للحزن دائماً ذو انتساب

رحت أسعى وراءه مذ تعدى ... مسرعاً في خطاي لم آل جهدا

مع رجال كأنجم النعش عدا ... هم به سائرون سيرا مجدا

فتراه يمرّ مرّ السحاب

مذ لحدنا ذاك الدفين وعدنا ... قلت والدمع بلّ مني ردنا

إن هذا هو الذي قد وعدنا ... فأبينوا من الذي قد لحدنا

فتصدى منهم فتى لجوابي

قال إن الدفين أخت بشير ... أخت ذاك المسكين ذاك الفقير

بقيت بعده بعيش عسير ... وبطرف باك وقلب كسير

وقضت مثله بداء القلاب

قلت أقصر عن الكلام فحسبي ... منك هذا فقد تزلزل قلبي

ثم ناجيت والضراعة ثوبي ... ربّ رحماك ربّ رحماك ربّ

ربّ رشداً إلى طريق الصواب

ربّ إن العباد أضعف أن لا ... يجدوا منك ربّ عفواً وفضلا

فاعف عن أخذهم وإن كنت عدلا ... أنت يا ربّ أنت بالعفو أولى

منك بالأخذ والجزا والعقاب

قد وردنا والأرض للعيش حوض ... واحد كلنا لنا فيه خوض

فلماذا به مشوب ومحض ... عظمت حكمة الإله فبعض

في نعيم وبعضنا في عذاب

أيها الأغنياء كم قد ظلمتم ... نعم الله حيث ما إن رحمتم

سهر البائسون جوعاً ونمتم ... بهناء من بعد ما قد طعمتم

من طعام منوّع وشراب كم بذلتم أموالكم في الملاهي ... وركبتم بها متون السفاه

وبخلتم منها بحق الله ... أيها الموسرون بعض انتباه

أفتدرون أنكم في تباب

بغداد

معروف الرصافي