مجلة المقتبس/العدد 3/حسنات القرن الماضي
مجلة المقتبس/العدد 3/حسنات القرن الماضي
عن الإفرنجية
تقدم في البحث السالف ما أصاب المجتمع الغربي من السيئات والمضنيات والآن نلم بما أتاه القرن التاسع عشر من الحسنات والمقومات فنقول: إن الثورة السياسية الاجتماعية العظيمة التي حدثت في القرن الماضي في أوربا قد أثرت في تحسين القوى العقلية في الأجيال الحديثة كما أحدثت الاكتشافات العلمية وانتشار التعليم بين السواد الأعظم من الناس نشوءً وارتقاء في المجتمع الحديث وفي الأفكار التي يجري عليها فتحكم فيه حكمها وها نحن نعطي البيان حقه من شرح النتائج الظاهرة من التربية الحديثة طبيعية كانت أو عقلية أو أدبية ونذكر ما أثرت في الشبان من تغيير طرق معيشتهم وأعمالهم وأفكارهم حتى صار من هم بعضهم أن يسيروا بالإنسانية نحو الكمال وإن كان ذلك الآن من المحال.
وأعظم هذه الحادثات وأولها هي الثورة الفرنسية إذ قوضت المبادئ التي كانت أساساً للحضارة الأوربية مدة قرون عديدة وبهذا كانت فرنسا مهد الإصلاح الاجتماعي العظيم والأرض التي نمت فيها وربت تلك الأفكار الأساسية التي استولت على المجتمع الحديث كمساواة الجميع أمام القانون واشتراكهم في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية وحرية العمل والصناعة وحرية الدين والفكر.
ولأمراء أن قد قل في العصور الغابرة عصر أثر في حياة الأمم الأوربية تأثيره في هذا القرن وما داناه قرن سابق ولا لاحق في أعماله. تلك الأعمال التي لم يقف نفعها عند حد الانقلابات السياسية بل تغيرت بها غايات الأعمال في المجتمع الإنساني وأماني الناس وأميالهم فدخلت الإنسانية كما قال بعضهم في طور جديد من الحياة مطالبة الإنسان بوضع أساس للحقوق كافة وللقوانين عامة على أن تكون روحاً لحق الحرية. نعم تغيرت المناحي والأفكار والعادات والنظامات الاجتماعية فتمثل للمرء ميدان الآمال الغريزية بعيد المضطرب ممتد الرواق وأيقن أن ساحة الجهاد شرع لكل العاملين فلم يفكر في غير تحسين حالته الاجتماعية بالعمل وتثقيف العقل. فانصرف بعضهم إلى العلوم والفنون وبعضهم إلى التجارة والصناعة وبعضهم إلى زراعة الأرض والاغتناء من غلاتها. وكل فرد من أعضاء هذا المجتمع يجتهد جهد طاقته في الأخذ بيد الترقي وإنعاشه من سقطته.
ولم يقنع الإنسان بأن يكون أداة حيوانية في تعاطي الأعمال بل بحث على العكس في إيجاد أدوات وآلات تقوم مقام الأذرع التي لم تكف للقيام بما هدته إليه فكرته الباحثة. فانقسمت العناصر القائمة بالجهاد الإنساني وتنوعت بتعدد التنظيمات الطبيعية والعقلية المنبعثة كم كل امرئ على حدته جرياً على ناموس تقسيم الأعمال. وما فتئت أنواع المعارف الإنسانية المنوعة تكمل وتكبر والنجاح مؤاتيها إلى أن تبلغ مكانة سامية لم تعرف في القرون الماضية. فالعمل وحب العمل هما من العلامات التي ينعت بها عصرنا هذا ولا أعني بالعمل العمل البهيمي المعهود في الأزمان الماضية بل أريد العمل المنتج المتأتي عن ذكاء وفهم. ولقد كانت الحاجة ماسة قديماً للأذرع وقوة الحيوانات لطحن القمح وإدارة المطاحن أما اليوم فقد توصل الفكر البشري إلى استبدال البخار والكهربائية بتلك العوامل بمعنى الفكر في قرننا الذي يحق له أن يدعى قرن الماديات هو العمل والعمل هو الفكر. فماديات اليوم تختلف عن ماديات أمس من حيث أن هذه كانت تعد الفكر مادياً وتلك تحسن المادة بدرس خصائصها الطبيعية والكيماوية للانتفاع بها في الأرباح والمتاجرات الصناعية.
وبفضل ارتقاء الأشغال العقلية رقَّ الشعور وسما الإحساس فصارت للمرء قيمة وللعالم مقام وانتهت الحال بتحرير الرقيق والإماء. وبارتقاء العلوم واستخدامها في الحرف والصناعات بلغ الإنسان بإيجاد موارد الإنبات وتوفيرها والاستكثار من الثروة العامة مبالغها. وراح العامل وعدته المعارف العلمية في صناعته يعنى بالتعلم والتفكر والبحث ويهتم بارتقاء الصناعات والعلوم على حين كانت أداة ساذجة تابعة للآلات الصماء. وليس كل ما تم في هذا القرن من صالح الأعمال إلا نتيجة من نتائج العلم العملي وأثر من آثاره. وحقاً أن ارتقاء العلوم الطبيعية والكيماوية في هذه الخمسين سنة الأخيرة قد أثرت تأثيراً بيناً في الصناعات وفي الطبقة العاملة من الناس بل في التجارة وعملائها بحيث امتنع على المرء أن يعيش عيشاً ساكناً خالياً من الهموم وإشغال الأفكار على نسبة نجاح مشروعاته وأعماله. وإذا كانت قيمة الغلات الأرضية والصناعية عرضة أبداً للتقلبات على اختلاف أنواعها لتقلب كيفيات الاستعمال وتبدله صار القائمون على الصناعات في قلق أبداً مضطرين إلى إيجاد طرق جديدة أخرى لنيل الأرباح التي تطمح إليها نفوسهم.
إلا وأن اكتشاف البخار والكهربائية واستخدامها في التجارة والصناعة بتقريب الأبعاد والمسافات وقد دفع بظواهر الحركة الاجتماعية إلى الرُّقيّ فلم تتزايد طرق المواصلات فقط بل اختصرت بحيث استحالت الساعات دقائق والأيام ساعات والشهور أياماً والسنون شهوراً. فقوى الحركة الحية التي لا تنضب قد سهلت الصلات بقصر المسافات في لمحة بين أقطار المسكونة التي تتبادل للحال نتائج نجاحها وأفكارها وأعمالها. ثم رأى المرء نفسه في حاجة تضطره إلى أن يقوم على الصناعات والعلوم بدون وناء وأن يستخدم قواه العقلية بأسرها ويوجهها نحو خصومه في البلاد الأخرى إذ ليست المسابقة مقصورة على شعب واحد ولا على بلد واحد بل قد امتدت شرارتها في أطراف الأرض واتصلت بأمم الكرة الأرضية كلها وخصوصاً بين من توفرت فيهم شروط الإنتاج والعمل. ومع هذا فلم يقف عقل الإنسان عند حد اختراع السلك البرقي والآلات البخارية بل قد تعداهما إلى خرق الأنفاق في الجبال العظيمة وحفر الترع في القفار والأصقاع المستنقعة حبَّ تسهيل الصلات بين أنحاء الأرض المختلفة وتنشيطاً لمقايضة غلات الأرض وثمرات العمل والذكاء.
ومن نتائج المواصلات السريعة العديدة بين الأرجاء الكثيرة والبلاد الشاسعة والأجناس المختلفة الطباع واللغات انتشار أفكار التمدن الحديث بين جمهور الناس والتسامح مع الآراء المتضادة. ثم أن الحاجة مست في تعليم الطبقة النازلة من الناس وتلقينهم احترام الإنسانية والبلوغ بهم إلى تكريم الوطني بتعليمهم حقوقهم وواجباتهم.
ومما تم في هذا القرن الجليل إعطاء المرأة حقوقها وتحريرها من رق العبودية التي رسفت في قيودها من قبل قروناً متطاولة فقد أنالها حقوقاً ساوت بها حقوق الرجل فصارت بذلك جديرة أن تربي أولادها وتلقنهم حب العمل وتطبعهم على بغض الرذيلة لإصلاح ما اختل من أحوال المجتمع البشري. ولم تكن حال النسوة في عصر من الأعصار مشابهة لحالهن اليوم فقد نلن بفضل القوانين المسنونة حظاً من العلم والأدب تشتد به سواعدهن في التغلب على مشاق الحياة. وقد عنيت معظم حكومات أوربا بإنشاء مدارس عالية وابتدائية لتعليم الفتيات العلم وتلقينهن أساليب العمل وإذا صحت عزائم الأفراد على اتباع سيرة الحكومات ومضافرتها في هذا السبيل من إنشاء المدارس للبنات ترتقي آداب المجتمع الإنساني ويحيى نظام العالم حياة طيبة رغيدة.
وقصارى القول فقد علمت مما مر بك بعض حسنات هذا القرن ولا يفوتك علم ما يناقضها. ومن نظر بعين البصيرة يتضح له كل الوضوح أن القرن التاسع عشر أفاد المجموع أكثر من الآحاد وإذا نظرت كل شيء في الوجود نظر المستبصر تراه ذا وجهين وجه النور ووجه الظل وأحدهما نتيجة لازمة للثاني. فإنك ترى الظافر في الحروب العظمى الوطنية يسكره النصر فيحتفل بما يؤيد تاريخه ويترنم بالأناشيد الوطنية ليخلد آثار سلاحه في رقاب الأعداء ويسجل عظمة أمته ناسياً ما أهرقه من الدماء وألوفاً من النفوس التي قضت نحبها في ساحة الوغى وألوفاً من العجزة من جراح أو أمراض أصابتهم في الحرب وكثرة الأيامى واليتامى ممن قضت عليهم أعمال القوة الوحشية أن يرفعوا باستلال أرواح ذويهم مجد أمته وعظمتها.
وبعد فلا يخفى أن كثرة انتشار الذكاء الإنساني في القرن التاسع عشر وازدياد مواد الغلات زيادة لا تنقطع بما تهيأ لها من وسائط العمل الطبيعي والعقلي وجمع الثروات العظيمة وسمو منزلة الذكاء الأدبية قد ولدت كلها سلسلة من الأهواء كانت فيما مضى مقصورة على طبقة قليلة من الناس. ذلك أن الإفراط في حب السلطة والصيت والطمع في الغنى والشرف وشدة الظمأ إلى البذخ والشهوات كان في القديم من خصائص الطبقة العالية والطبقة الغنية في الأمم فتناول اليوم أهل الطبقة الوسطى حتى أرادت السير على مناحي الطبقة العليا حذو القذة بالقذة. إذا عرفت هذا فقد ثبت لك أن الطموح إلى المطالب العالية والذهاب بفضل الشهرة لم يعم قط كما عم في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وقد أهلك هذا المرض الوبيل عدداً من القتلى أكثر مما أهلك من طبقات المجتمع المختلفة في أيامنا. ولئن تولدت الرغبة في الشهرة أحياناً من شعور شريف كريم وحملت المرء أن يفادي بمصلحته بل بحياته الخاصة توقعاً للنجاح فهذا الهوى يتبعه العجب أحياناً فيسود صحيفة صاحبه بحيث يبعده عن غايته المقصودة فيحدث أحياناً هيجاناً عصبياً يستحيل إلى زيغان في العقل واختلال في المدارك.
وهنا سؤال وهو لم كانت هذه الاضطرابات العقلية والأدبية؟ فالجواب عنها جواب لا يحتمل الريبة والمغالطة إن ذلك ينسب إلى ميل أبناء عصرنا فقد افتتن الشبان بأبهة الشهرة كأنها الغاية الأصلية في الجهاد الإنساني وكأنها غاية السعادة التي ينبغي الطموح إليها.
حتى أن الحكومات لتساعد حباً بزيادة نوابغ أبنائها على تنمية العجب وحب الذات في النفوس وتأصلهما في تلك القلوب الفتية الراغبة في المراتب العالية بما ينهال عليها من المكافآت الغرارة والتشريفات الزائلة وبعد أن تلقي أذهانهم خيالات غايتها تحسين مستقبلهم تتركهم وشأنهم على حين يدخلون معترك الحياة الحقيقية للشروع في الجهاد. نعم تسلمهم لقوتهم الخاصة عوضاً عن أن تكفل لهم ما يستطيعون معه أن يقوموا بواجبات صناعة شريفة.
ثم إن ارتقاء الأفكار الدستورية واشتراك الوطنيين كافة في الحقوق المدنية والسياسية والرغبة في الاشتهار بالمجادلات في دور الندوة قد كان من نتائجها الطبيعية الطمع في الزعامة وحب السلطة بحجة الرغبة في تحسين حال الأمة واتخاذ أسباب السعادة العامة. يشترك في الدعوة إلى هذا الأمر جميع طبقات الأمة. وكلما تأصلت الأفكار الجمهورية في العادات والقوانين زادت اللهجة بذلك وتوفر القوم عليه.
وهناك شيء آخر وهو أن الرغبة في المناصب والمراتب زادت زيادة خرجت فيها عن طور التعقل وحدود الاعتدال حتى عند من لم تساعدهم ملكاتهم على تحقيق شيء مما ينالونه. وأن قلة تمييز الحكومات بين مختلف الكفاءات والملكات في رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات قد دق عنق العدل وقتل روح المباراة وأطفأ نور القرائح قبل انبعاثه فصارت تعبث الشفاعة بالكفاءة الشخصية. فنتج من ذلك أن عدداً عظيماً من الفتيان رأوا بلوغ المراتب ومنازل التشريف غاية عملهم الوحيد فراح بعضهم يطمح فيها للوصول إلى الغنى وبعضهم يميل إلى الغنى للوصول إلى المراتب واتخاذ أسباب التصدر وكان عليهم أن يكون العمل سبب السعادة وغايته العالية.
بيد أن العلم والصناعات كانت عند كثيرين القاعدة التي استندوا إليها لبلوغ المناصب الاجتماعية السامية وسهلت لهم أسباب الغنى. وقد تولد من الطمع في التمول حب الشهوات والبذخ التي ما برحت تزداد نمواً في الطبقات الاجتماعية عامة كل يوم. وليس معنى البذخ الذي هو مقياس الثروة والغنى أو مظهر من مظاهر الراحة القائم بإنفاق مبالغ طائلة لامتلاك مجاميع جميلة من الأعلاق والنفائس أو العاديات المجلوبة من أقطار عديدة بل إن معناه الإشارة إلى النجاح والذكاء في كل من يحبون أن يشتهروا بحسن الذوق أو حب الصناعات والفنون. وما أقبح بذخاً غايته أن يحدث ضرورة ويستر في مطاويه الشقاء تحت رداء جميل من التمويه أو أن تكون غاية من يجعله ديدنه إغواء الناس ليخرج من ضائقة ويستلفت الأنظار إلى غناه فيربح من ذلك ما يسد مخمصته وينيله بغيته.
ومن أعظم الأعمال التي قامت في هذا القرن تأليف الشركات فإنها انتهت بتأسيس مشاريع عظيمة للانتفاع بموارد غلات الأرض وتنمية صناعتها. وهكذا كان من تأليف الشركات المالية وجمعيات الإحسان وأعمال وإن أسفرت عن معاضدة الثروة العامة فقد قطعت أيدي كثيرين عن العمل وأضعفت من همم الأفراد وخربت بيوتاً كانت من قبل عامرة. فإن ما يعمله الجماعة يستحيل على الفرد القيام به. وقد أكثرا اكتشاف ركاز كاليفورنيا وأوستراليا والترنسفال من الذهب في الأيدي وكانت التجارة في غنى عنه فنقص سعر الذهب وزادت قيمة المصنوعات والحاجبات مما جعل الإنسان في أحرج المواقف من جهاد الحياة. ونتج فقر وغنى من جمع رؤوس أموال عظيمة وتأليف جمعيات صناعية ومالية كبرى بل كان من وراء ذلك فراغ يتعذر إشغاله تعذر إملاء فنطيس (برميل) الدنائيد إذ بعدت غاية عملنا بقدر امتداد دائرتها وانفصمت عرى الموازنة بين رغائبنا وأسبابنا فبذلت القوى العصبية وأجهدت القرائح فوق طاقتها فكان من ذلك أمراض عصبية كثيرة.