مجلة المقتبس/العدد 30/صدور المشارقة والمغاربة

مجلة المقتبس/العدد 30/صدور المشارقة والمغاربة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 7 - 1908


عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى

نشأ للعربية في أوائل القرن الثاني للهجرة كاتبان بليغان يصح أن يدعيا واضعي أساس الإنشاء العربي وناهجي طريقة الكتابة المرسلة فكانا مناراً يهتدى به إلى يوم الناي هذا ونعني بهما عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى الكاتب. ظهر هذان الإمامان واللغة في نضرتها الأولى فكان لهما من فطرتهما السليمة أعظم مساعد لهما على النبوغ وزادت شهرتهما مساعد لهما على النبوغ وزادت شهرتهما لاتصالهما بالخلفاء والأمراء ومرانهما على الكتابة في الأغراض الكثيرة التي كانت تطلب إليهما فيخوضان عبابها مجليين مبرزين.

نشأ ابن المقفع في العراق على ما ينشأ عليه أبناء اليسار وكان والده ينتحل نحلة مجرس الفرس ولي خراج فارس للحجاج بن يوسف الثقفي في الدولة الأموية. ولقب المقفع لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده أي تشخبت لمدها لأخذ الأموال على ما يقال. وربي ابنه عبد الله تربية إسلامية وأولع بالعلم وهو مكفي المؤونة فجاء منه في سن العشرين ما يندر أن يكون مثله لأبناء الأربعين والخمسين. واتصل بعيسى بن علي عم السفاح والمنصور الخليفتين الأولين من بني العباس وكاتب له واختص به وأراد أن يدين بالإسلام فجاء إلى عيسى ابن علي وقال له: قد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجس فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام فقال: أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح اسلم على يده فسمي بعبد الله وكني بأبي محمد.

أهم كتب ابن المقفع التي طار ذكرها كتاب كليلة ودمنة الذي نقله عن الفارسية ورسالته المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان. قال القفطي وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور وترجم كتب أرسطو طاليس المنطقية الثلاثة وهي كتاب قاطيغورياس وكتاب باري أرمينياس (أوبارميناس) وكتاب أنا لوطيقا وذكر أنه ترجم إيساغوجي تأليف فرفوريوس الصوري. والأرجح أنه نقل هذه الكتب عن الفارسي أو نقلها له ناقل عن اليونانية وصاغها هو في قالب عربي فنسبت له إذ لم يثبت أنه كان يعرف غير الفارسية من اللغات. وعبارة ابن أبي أصيبعة في تاريخ الأطباء تشبه قول القفطي في تراجم الحكماء والغالب أنهما نقلا عن مصدر واحد مع تغيير طفيف في عبارتيهما.

قال ابن النديم واسمه بالفارسية روزبة وهو عبد الله بن المقفع ويكنى قبل إسلامه أبا عمرو فلما أسلما اكتنى بأبي محمد والمقفع بن المبارك إنما تقفع لأن الحجاج بن يوسف ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان ضرباً مبرحاً فتقفعت يده وأصله من خوز مدينة في كور فارس وكان يكتب أولاً لداود بن عمر بن هبيرة ثم كتب لعيسى بن علي على كرمان وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة شاعراً فصيحاً وهو الذي عمل شرط عبد الله ابن علي على المنصور وتصعب في احتياطه فيه فاحفظ ذلك أبا جعفر فلما قتله سفيان بن معاوية حرقاً بالنار وقع ذلك من المنصور بالموقع الحسن فلم يطلب بثاره وطل دمه وكان أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربي مضطلعاً باللغتين فصيحاً بهما وقد نقل عدة كتب من كتب الفرس منها كتاب خداينامة في السير كتاب آيين نامة في الإصر وكتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك كتاب التاج في سيرة أنوشروان كتاب الآداب الكبير ويعرف بماقراحسيس كتاب الأدب الصغير كتاب اليتيمة في الرسائل.

وقال أن أبا الجاموس ثور بن يزيد أعرابي كان يفد البصرة على آل سليمان بن علي وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة ولا مصنف له وقال: بلغاء الناس عشرة ابن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، محمد بن حجر، أنس بن أبي شيخ، وعليه اعتمد أحمد بن يوسف الكاتب، سالم بن مسعدة الهرير، عبد الجبار بن عدي، أحمد بن يوسف، وذكره في الشعراء الكتاب فقال أنه مقل وقال وقد كانت الفرس نقلت في القديم شيئاً من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية فنقل ذلك إلى العربي عبد الله بن المقفع وغيره وقال في الكتب المصنفة في السماء والخرافات أن عبد الله بن المقفع من جملة من كان يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم.

والراجح أن الحسد غلت مراجله في صدور بعض معاصريه والمعاصرة كما قيل حرمان فنسبوا إليه ما نسبوا من الزندقة لقصورهم عن بلوغ شأوه أو لغرض في أنفسهم قال ابن خلكان نقلاً عن الجاحظ: أن ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم قال بعضهم: كيف نسي الجاحظ نفسه. قلنا وعبارة الجاحظ في بعض رسائله بشأن ابن المقفع تشير إلى قصوره في علم الكلام فقط فإنه قال:

فصلٌ ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع ويكنى أبا عمرو وكان يتولى لآل الأهتم وكان مقدماًُ في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير وكان جواداً فارساً جميلاً وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله وكان يتعاطى الكلام ولا يحسن منه لا قليلاً ولا كثيراً وكان ضابطاً لحكايات المقالات ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت في خلص المتكلمين ومن النظارين فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم. وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم فيظن نفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء غلا بعد به. أهـ.

لا جرم أن إطلاق ابن المقفع لسانه في المعتزلة دعا أحد أئمتها إلى أن يصدر عليه هذا الحكم الغريب ولكن الجاحظ أيضاً على ثبوت تدينه لم يسلم من هذا الطعن كما رأيت. وأن مسألة التهمة في الدين من الأمور التي شاعت في كل عصر ومصر ويكون المتهمون بها في معظم الأحوال أبرياء وإلا فكيف تسجل الزندقة على ابن المقفع إذا جرينا مع الدليل. وليست الزندقة بحثاً عما يضمره الإنسان في نفسه لأن مثل هذا لا يطلع عليه إلا الله تعالى ويكفي أن يقال هلاّ شققت عن قلبه. بل الزندقة التي تذكر في الكتب وتترتب عليها الأحكام ويسوء أن يقال عن فلان أنه زنديق أمور تقوم عليها بينات ظاهرة من أقوال وأفعال وكلام ابن المقفع في الدين يدل على شدة تمسكه وفرط ميله على ما يتجلى لك من رسائله.

ولو كان ثم سبيل لما ينسب إليه لاسيما مع غضب المنصور عليه لكان الأقرب أن يتقرب مثل المنصور بمثل ذلك وفيه ما فيه من إرضاء العامة وشفاء الغليل من العدو بحيث ينتقم منه مع إسقاطه ولا يعدم المنصور حينئذ حيلة في قتله جهاراً بهذه التهمة. أما اتهام ابن المقفع بمعارضة القرآن فتنصرف على القاعدة في اتهامه بالزندقة وما نظن القاضي عياض والباقلاني إلا ناقلين عن أناس من أهل السذاجة ومع ذلك فإنهما قالا أنه أناب.

التهمة بالزندقة أمر نشأت منه مضار كثيرة حتى لم يخل منها مثل الإمام الغزالي الذي كان أعظم أنصار الدين فانظر إلى كتاب فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة الذي ألفه في الرد على أولئك الذين نسبوا إليه ما نسبوا فإن فيه الفناء وأغرب من ذلك القيام على أبي حاتم ابن حيان السبتي إمام المحدثين في عصره وصاحب الصحيح المشهور به والكتب الممتعة الكثيرة واستحصال الأمر بقتله لو لم ينج من ذلك بعوارض لا تخطر في البال.

ومعارضة القرآن أكثر ما تنسب للزنادقة المشهورين بالأدب والفضل يشيع ذلك أناس يقصدون إهلاك عدوهم بأي وسيلة كانت أو ناس هم أقرب إلى الزندقة ممن ينسبونهم إليها حتى أن أبا العلاء المعري على اضطراب الأقوال في نهاية أمره مع ما علم به من أحواله قد عزي إليه كتاب كان معروفاً في بلاد المغرب يسمى بالفصول والغايات ولا يتوقف من كان قريب العهد من عصره في أنه عمله في معارضة السور والآيات وكان كثير ممن يميلون إلى أبي العلاء المعري من أهل المغرب يعجبون مما وقع فيه من سخافة القول الذي ينحط عن جميع كلامه المعروف مع أنه ليس له يد في الكتابة كما علم من كتاب سر الفصاحة وكلامه في رسالة الغفران ينادي بخلاف ذلك.

وعلى الجملة فإن نسبة الزندقة إلى ابن المقفع لا تثبت بوجه من الوجوه التي تعقل في إثباتها وإذا نظرنا إلى ما يتعلق بالغيب فالحكم الشرعي أنه هو والناسبون إليه جميعاً في معرفة ما ينطوون عليه سواء لأنه لم يذهب أحد إلى أن الإيمان يتيسر إثباته بالبرهان إلا إذا ورد عن الشارع في شخص معين إثبات الإيمان أو لوازمه لرجل بعينه.

وتهمة الزندقة الشنعاء كثيراً ما يتهم بها المشتغلون بالفلسفة أمثال ابن رشد والفارابي وابن الصائغ وابن سينا ونسب هذا أنه عارض القرآن وقد كتب رسالة في رد افتراء من افترى عليه ذلك. ومن هنا تظهر لك حسن سياسة المأمون لأن فتح باب البحث عن الزنادقة وقد أوجب من المضار ما لا يحصى كما يعلم من التواريخ وربما كان عصر المأمون أقرب إلى قلة الزندقة في الحقيقة من العصور التي كثر اتهام معظم المفكرين بها وغيرهم ممن يراد الانتقام منهم.

عرفت بهذا أن كلام القائلين بزندقة ابن المقفع مع ما عرف من كلامه هو من ذاك الباب. قال المرتضى في أماليه روى ابن شبة قال: حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم فلمحه وتمثل: يا بيت عاتكة الذي أتعزَّل ... حذَر العذى وبك الفؤاد موكل

لإني لأمنحك الصدود وأنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل

وقال صاحب الأغاني نقلاً عن الجاحظ: كان والبة بن الحباب ومطيع بن إياس ومنقذ ابن عبد الرحمن الهلالي وحفص بن أبي وردة وابن المقفع ويونس بن أبي فروة وحماد عجرد وعلي بن الخليل وحماد بن أبي ليلى الاوية وابن الزبرقان وعمارة بن حمزة ويزيد بن الفيض وجميل بن محفوظ وبشار المرعث وإبان اللاحقي ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر ولا يكادون يفترقون ويهجو بعضهم بعضاً هزلاً وعمداً وكلهم متهم في دينه. قلنا واجتماع المتشاكلين قديم في الناس والغالب أنهم يتحرجون من إدخال من ليس على شاكلتهم في زمرتهم فيتهمون بما هم منه براء كما اتهم جماعة أبي حيان التوحيدي الذي نقل بعض مجالسهم الفلسفية في مقابساته وكانوا من أهل النحل المختلفة تجمع بينهم جامعة العلم والفلسفة كما جمعت بين ابن المقفع وأصحابه جامعة الأدب فقالوا أنهم كانوا يجتمعون على شراب واتهموهم بالمروق. وفي كتاب البيان والتبيين للجاحظ ذكر أناس كانوا شديد التصافي والالتحام مع شدة التباين في المذاهب.

أما كيفية مقتل ابن المقفع فقد اجمع مترجموه أنه كان بسبب كتابته أماناً لعبد الله ابن علي قال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طواليق ودوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور جداً وخاصة أمر البيعة وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي وهو أمير البصرة من قبله فقتله وكان سفيان شديد الحنق عليه لأن ابن المقفع على ما يقال كان ينال منه ويستخف به حتى عزم على أن يغتاله فجاءه كتاب المنصور بقتله فقتله سراً في داره ويقال أنه عاش ستاً وثلاثين سنة وسأل سليمان وعيسى فقيل أنه دخل دار سفيان سليماً ولم يخرج منها فخاصماه إلى المنصور وأحضره إليه مقيداً وحضر الشهود الذين شاهدوه وقد دخل داره ولم يخرج فأقاموا الشهادة عند المنصور فقال لهم المنصور: أنا أنظر في الأمر. ثم قال لهم: أرأيتم إن قتلت سفيان به ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت وأشار إلى باب خلفه وخاطبكم ما تروني صانعاً بكم أأقتلكم بسفيان. فرجعوا كلهم عن الشهادة واضرب عيسى وسليمان عن ذكره وعلموا أن قتله كان برضا المنصور.

ولابن المقفع شعر قليل ولكنه جيد نقل له صاحب الحماسة ثلاثة أبيات يقال أنه رثى بها يحيى بن زياد وقال الأخفش والصحيح أنه رثى بها ابن أبي العوجا وهي:

رزئنا أبا عمرو ولا حيّ مثله ... فلله ريب الحادثات بمن وقع

فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في انسداد لها طمع

لقد جر نفقاً ففقدنا لك أننا ... آمنا على كل الرزايا من الجزع

قال ثعلب البيت الأخير يدل على أن مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير ـ فتأمل.

ومما يذكر عن ابن المقفع ما رواه صاحب الأغاني وغيره قال حدثني اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني أحمد قال سمعت جدي أبا محمد يقول: كنت ألقى الخليل ابن أحمد فيقول لي أحب ن يجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع فجمعت بينهما فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علماً ثم افترقنا فلقيت الخليل فقلت له يا أبا عبد الرحمن كيف رأيت صاحبك قال: ما شئت من علم وأدب إلا أني رأيت علمه أكثر من عقله. ثم لفيت ابن المقفع فقلت له: كيف رايت صاحبك: قال ما شئت من علم وأدب إلا أن عقله أكثر من علمه. وقال المرتضى أن من جمعهما كان عباد بن عباد المهلبي فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهن.

قال الأصمعي: قيل لابن المقفع من أدبك قال: نفسي إذا رأيت من غيري حسناً أتيته وإن رأيت قبيحاً ابيته. ودعاه عيسى بن علي للغداء فقال: أعز الله الأمير لست يومي للكرام أكيلاً قال: ولم؟ قال: لأني مزكوم والزكمة قبيحة الجوار مانعة من عشرة الأحرار. ومن كلامه شربت من الخطب رياً ولم أضبط لها روياً ففاضت فلا هي نظاماً وليس غيرها كلاماً.

ومما يؤثر عنه وهو ما يدل على رأيه في الإنشاء أنه قال لبعض الكتاب: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعاً في نيل البلاغة فإن ذلك هو العي الأكبر. وقال لآخر: عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة. وقيل له ما البلاغة فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.

وفي البيان والتبيين عن إسحق بن حسان بن فوهة أنه قال: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط. سئل ما البلاغة قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة. فمنها ما يكون في السكوت. ومنها ما يكون في الاستماع. ومنها ما يكون في الإشارة. ومنها ما يكون في الحديث. ومنها ما يكون في الاحتجاج. ومنها ما يكون جواباً ومنها ما يكون ابتداءً. ومنها ما يكون شعراً ومنها ما يكون سجعاً وخطباً ومنها ما يكون رسائل فعامة ما يكون في هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة.

فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار من غير خطل والإطالة من غير إملال. قال: وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك كا أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته. كأنه يقول فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة المواكب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك ولا يشير إلى مغزاك. وإلى العمود الذي غليه قصدت والغرض الذي إليه نزعت.

قال فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف قال: إذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك لامقام وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فإنهما لا يرضيهما شيء وأما الجاهل فلست منه وليس منك ورضا جميع الناس شيء لا تناله وقد كان يقال رضاء الناس شيء لا ينال.

وقال عبد العظيم بن أبي الإصبع في تحرير التحبير في البديع في باب التهذيب والتأديب: قد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة ولا يقصدونه بتة إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام واتفق من غير قصد ولا اكتساب وإن كانت كلماتهم متوازنة وألفاظهم متناسبة ومعانيهم ناصعة وعباراتهم واثقة وفصولهم متقابلة وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هرون وأبي عثمان الجاحظ وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء.

وقال الأمين المحبي فيما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه: يتيمة ابن المقفع ـ يضرب بها المثل لبلاغتها وبراعة منشئها وهي رسالة في نهاية الحسن تشتمل على محاسن من الأدب وقد ذكرها أبو تمام وأجراها مثلاً في قوله للحسن ابن وهب:

ولقد شهدت والكلام لآلئٌ ... تؤم فبكر في الكلام وثيب

فكأن قساً في عكاظ يخطب ... وكأن ليلى الأخيلية تندب وكثير عزّة يوم بين ينسب ... وابن المقفع في اليتيمة يسهب

وقال جلال الدين في المزهر نقلاً عن أبي الطيب عبد الواحد اللغوي في مراتب النحويين قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.

وقال المعري في عبث الوليد: كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض وروى الأصمعي أنه قال كلاماً معناه قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحناً غلا في موضع واحد وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط بكله فخذوا البعض.

وروي أن بعضهم ذكر ابن المقفع فقال: ألفاظه معان ومعانيه حكم فصل خطابه شفاء وخصل بيانه كفاء. وسمع أبو العيناء بعض كلام ابن المقفع فقال: كلامه صريح ولسانه فصيح وطبعه صحيح كأن بيانه لؤلؤ منثور وروض ممطور. وقال جعفر بن يحيى: عبد الحميد أصل وسهل بن هارون فرع وابن المقفع ثمر وأحمد بن يوسف زهر.

وعبد الحميد هذا هو الذي يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان أحمد بن يوسف يقول في رسائل عبد الحميد الفاظ محككة وتجارب محنكة. قال صاحب الوفيات وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماماً وهو من أهل الشام وكان أولاً معلم صبية ينتقل في البلدان وعنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا وهو الذي سهل البلاغة في الترسل ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة.

وقال ابن نباتة: أنه البالغ إلى أعلى المراتب في الكتابة البليغة يقال أنه كان في أول عمره معلم صبيان بالكوفة ثم اتصل بمروان الجعدي قبل أن يصل إلى الخلافة وصحبه وانقطع إليه فما جاء الأمر بالخلافة سجد مروان وسجد أصحابه غلا عبد الحميد فقال له مروان: لم لا سجدت فقال: ولمَ أسجد على إن كنت معنا فطرت عنا يعني بالخلافة فقال: إذاً تطير معي قال: الآن طاب السجود وسجد وكان كاتب مروان طول خلافته.

وهو أول من أخذ التحميدات من فصول الكتب واستعمل في بعض كتبه الإيجاز البليغ وفي بعضها الإسهاب المفرط على اقتضاه الحال. فمن افيجاز أن بعض عمال مروان أهدى إليه عبداً اسود فأمره بالإجابة ذاماً مختصراً فكتب: لو وجدت لوناً شراً من السواد وعدداً أقل من الواحد لأهديته. وأما الإسهاب فإنه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس كتب إليه مروان كتاباً يستميله ويضمنه ما لو قرئ لأوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم وكان من كبر حجمه يحمل على جمل ثم قال لمروان: قد كتبت كتاباً متى قرأه بطل تدبيره فإن يك ذلك وإلا فالهلاك فلما ورد الكتاب على أبي مسلم لم يقرأه وأمر بنار فأحرقه وكتب على جزازة منه إلى مروان:

محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب

ولما اشتد الطلب على مروان وتتابعت هزائمه المشهورة قال لعبد الحميد: القوم محتاجون إليك لأدبك وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حسن الظن بك فاستأمن إليهم وأظهر الغدر بي فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي فقال عبد الحميد:

أُسر وفاءً ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره

ثم قال يا أمير المؤمنين إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين إليك وأقبحهما بي ولكني أصبر حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك فلما قتل مروان استخفى عبد الحميد فغمز عليه بالجزيرة عند ابن المقفع وكان صديقه وفاجأهما الطلب وهما في بيت فقال الذين دخلوا: أيكما عبد الحميد فقال كل واحد منهما: أنا خوفاً على صاحبه إلى أن عُرف عبد الحميد فأخذ وسلمه السفاح إلى عبد الجبار صاحب شرطته فكان يحمي له طشتاً ويضعه على رأسه إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقيل أنه قتل مع مروان في مصر قال المسعودي أنه رأى عقباً بفسطاط مصر يعرفون ببني مهاجر وقد كان منهم عدة يكتبون لآل طولون. وكان أبو جعفر المنصور يقول: غلبنا بنو أمية بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد والمؤذن البعلبكي. وقيل لعبد الحميد: ما الذي مكنك من البلاغة قال: حفظ كلام الصلع يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقيل له أيما أحب إليك أخوك أم صديقك قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقي. وقال أكرموا الكتاب فإن الله تعالى أجرى الرزاق على أيديهم. وقال: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة. ومن كلامه خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً.

قال صاحب وفيات الأعيان وكان كثيراً ما ينشد:

إذا خرج الكتاب كانت دويهم ... قسياً وأقلام الدوي لها نبلا ومما نقله عنه أنه ساير يوماً مروان بن محمد على دابة قد طالت مدتها في ملكه فقال له مروان: قد طالت صحبة هذه الدابة لك فقال: يا أمير المؤمنين إن من بركة الدابة طول صحبتها وقلة علفها فقال له: فكيف سيرها: فقال: همها أمامها وسوطها عنانها وما ضربت قط إلا ظلماً.

ولعبد الحميد كصديقه وضريعه عبد الله بن المقفع شعر نادر فمنه:

كفى حزناً إني أرى من أحبه ... قريباً ولا غير العيون تترجم

فأقسم لو أبصرتنا حين نلتقي ... ونحن سكوت خلتنا نتكلم

هذا ما وصلنا من أخبار هذين الإمامين ونحن نعلم أن ترجمتهما على ما أثبتناها هنا ليست مستوفاة من عامة وجوهها ولكن تلاوة كلامهما أحسن مترجم عنهما إذ كلام المرء قطعة من عقله.