مجلة المقتبس/العدد 36/الحافظة والحفاظ

مجلة المقتبس/العدد 36/الحافظة والحفاظ

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1909


أي نعمة ينالها المرء أعظم من أن تعي ذاكرته كل ما تريد وعيه وتدخره إلى ساعة حاجة للانتفاع به. الحافظة من العوامل المؤثرة في ترقية الأفراد والجماعات وبدونها يصعب الوصول إلى إدراك الحقائق وتمحيصها لانا إذا لم نستعن في كل مطلب من مطالب الحياة بتجارب من سبقونا ونحفظ المأثور عنهم لننسج على منواله كنا أشبه بمن يريد أن يبني له يوم بناء وظلت العلوم والصناعات والآداب في طفولتها الأولى تجري على نظام مضطرب إذ يكون كل امرىء وما يختار.

والذاكرة والحافظة حاسة يحفظ بها الذهن على صورة دائمة أموراً مضت وتأثرت وقعت فهي بذلك كما قال مونتين الفيلسوف (1532 ـ 1592) وعاء العلم وصوان الحكمة. وقال لارشفوكلد الكاتب (1615 ـ 1680) جميع الناس يشكون من حافظتهم وما قط شكا أحد من عقله. وقال آخر: إن الذكاء بدون حافظة أشد بغربال لايكاد يمسك ما تضعه فيه. وقال أحدهم: الحافظة واسطة من وسائط الكمال وبدونها لا يستطيع امرؤ أن يقلد شيئاً وينسج على منواله. وقال لاكورنيل الشاعر: يجب لمن يعتمد الكذب أن يكون ذا ذاكرة جيدة. وهذا مثل قولهم إذا كنت كذوباً كم ذكوراً. وقال بيكته الأديب السويسري (1799ـ 1875): لقد كان للحافظة شأن مهم جداً عند الناس في العصور الأولى أكثر مما صار لها في القرون اللاحقة. كانت الحافظة قبل اختراع الكتابة هي التي تتولى خاصة نقل التقاليد الوطنية والدينية وعامة القوانين والعادات والشعر ولذلك كانت هذه الحاسة التي قلما نحفل الآن بأمرها عند قدماء الآريين مشابهة للفكر نفسه. اختلفت مذاهب الفلاسفة فيما إذا كانت الحافظة حاسة قائمة بذاتها أو فيما إذا كان لكل حاسة فينا ذاكرة معينة ومعظم الحكماء وعلما النفس على أن الحافظة حاسة مستقلة عن بقية حواس الإنسان ولا يكاد أحد يدرك كيف تعي الحافظة الأرقام والأعداد وتحفظ العبارات والمفردات وتحكم اللغات واللهجات وتردد الألحان والأصوات. ويقول علماء النفس أن الشروط النفسية اللازمة لجودة الذهن متوقفة على جودة تركيب أنسجة الدماغ وحسن تغذية هذه الأنسجة. والتعب والشيخوخة من العوامل المؤثرة في ضعف الحافظة لأنهما ملازمان لضعف تغذية هذه الأنسجة ولذلك قالوا درجة الحافظة لا تختلف بحسب الأشخاص بل تختلف في الشخص الواحد في أدوار مختلفة من حياته وإذا صرفنا النظر عن الآفات العضوية التي تضر بها فمن هناك أيضاً أحوالاً أقل منها تزيدها ضعفاً إلى ضعفها مثل اضطرابات المعدة وسوء الهضم والشقيقة فإن جميع هذه العوارض على الجسم تغيرها تغييراً محسوساً.

ولتركيب الدماغ وحالته تأثير ظاهر في الحافظة فقد ذكر بلين الطبيعي الروماني أن رجلاً نسي حتى رسائله بعد أن أصيب بشجة في رأسه. وزعم البابا كليمان السادس أن حافظته قويت قوة عجيبة عقب أن أصيب برضة شديدة في دماغه. وكيفما كانت الحال فللتمرين يد طولي في تخصيص الحافظة بشيء معين فالممثلون تقوى فيهم الملكة الحافظة الشفاهية وهي من اللوازم لهم في صناعتهم ورجال الشرطة تقوى فيهم الحافظة في تذكر صور الأشخاص وليس البشر كلهم سواء في الحفظ والاستظهار فمنهم من يحفظون الأشكال الهندسية وهم اللذين خلقوا رياضيين بالفطرة ومنهم من يرزقون حافظة قوية في الأنغام كالموسيقيين. وغيرهم في ذلك من الناس من يذكرون الكلمات بسرعة غريبة ومن الأطفال من تقرأ لهم بصوت عال عدة صفحات فيستظهرونها في الحال ويتلونها على مسامعك لأول مرة. وتذكر الألفاظ خاصة يمتاز بها الأولاد في العادة أكثر من الكبار في السن ممن لا تكون قويت فيهم حاسة التفكر فيحفظون الكلمات التي يسمعونها على أيسر وجد بدون أن يفهمونها والسبب في سهولة الحفظ عليهم فقدان قوة التفكر فيهم وعندما يبدأ التفكر في معظم الناس تضعف الحافظة فيهم وقد تزول من بعضهم. والحافظة الشفاهية إذا كانت هي وحدها في الإنسان لا تكون له سبيلاً إلى التفكر ومن فقد الأولى فلا يأسف لحاله لأنه يستطيع بقوة التفكر أن يأتي بالجيد من الأفكار ولكن الحافظة وحدها قد تكون من أكبر العوائق عن جودة التصور.

وبعد فإن للحافظة شأناً عرقية الفكر الإنساني وبدونها يكون كل شيء عقيماً لا ثمرة لأنها واسطة لبقاء الأفكار التي صدرت وأحسن ذريعة للحصول على أفكار جديدة ولم يعرف القانون الذي تسير عليه كما أن جوهرها لم يدرك الباحثون حقيقته وغاية ما عرف من أمرها أنها بالانتباه والتمرن وأن الكسل ابن الترف والكسل يجرح الحفظة أن لم نقل يقتلها.

ذكر التاريخ كثيرين من رباب الحافظة النادرة فمنهم في القديم ميتر يدانس الكبير ملك شمالي غربي آسيا الصغرى (123ـ 63 ق. م) فقد كان يحكم على اثنين وعشرين أمة مختلفة ويخطب أمام كل منها بلغتها ويدعو كل واحد من جنده باسمه. وذكروا مثل ذلك عن قورش ملك الفرس وليموسنقلس وسيبيون الآسياوي وإلا إمبراطور أدريان ويقال أن مزية الحافظة هيأت لاوتون الروماني تولي الملك. وتعلم ليموسنقلس اللغة الفارسية في سنة وكان ليبس اللغوي الأديب البلجيكي (1547ـ 1606) يحفظ تاريخ تاسيت المؤرخ اللاتيني بألفاظه حرفاً بحرف وقد قال أنه يرضى أن يقف جلاد وبيده سيف على رأسه وهو يتلو هذا التاريخ فإذا أخل بحرف واحد يضرب عنقه.

وكان لرينودي بون حافظة سعيدة يذكر جميع الأبيات اللاتينية واليونانية التي قرأها في صباه ويتلو صفحات برمتها من ديوان هوميروس وان كان مضى عليه أربعون سنة وهو لم ينظر فيه نظرة واحدة. وكان هوج دونو الفقيه المشهور في القرن السادس عشر يستظهر القوانين المعروفة في عصره بالحرف الواحد. وحفظ يوسف سكاليجة الأديب (1540ـ 1609) الإلياذة والاوذيسية في أحد وعشرين يوماً. ومن ألطف ما يروى في باب الحافظة أن أحد الفلاحين في فرنسا جاء إلى باريز يقصد صاحباً قديماً له قد استلف منه خمسة فرنكات منذ خمسة عشرة وطلب إليه أن ينقده ماله فتركه وعاد فدفع إليه ليرة واحدة وخمسة فرنكات وقال له: هذا يا صاح قد كنت نلت وأنا في المدرسة ليرة جائزة عن حافظتي فرأيتك أحد مني ذاكرة وأنك أحق بهذه الجائزة مني.

ليس في الدنيا خير محض فقد اخترعت الطباعة منذ نحو خمسمائة سنة فعم نفعها أهل الأرض كافة ولكن ما عتمت أن نتج عنها بعض شر إذ أصبح الناس يعتمدون على الكتب في جماع علومهم وآدابهم بعد أن كان جل اعتمادهم على محفوظاتهم ومخطوطاتهم. والغالب أن الاعتماد على الحافظة والحفاظ كان في الإسلام على أشد قبل تدوين الكتب وتأليف الرسائل والمصنفات ولما بلغ بعض الأئمة تدوين الكتب أسفوا وعدوه من دواعي تقهقر العلم وانقطاع سند الرواية وما زالت الحال ترتقي بعض الشيء في بعض الأعوام ثم يزهد في الحفظ حتى انتشرت الطباعة في بلادنا بانتشار الصناعات الفكرية فأمسى الناس يستندون إلى السطور بدل الصدور والقراطيس والأسفار بدل الحفظ والاستظهار فضعفت بهذا الضعف الحافظة وان قويت المفكرة وقلت الرواية وان لم تقل الدراية.

انقطع سند الحفظ إلا في بعض ما لا يسع الأمة جهله من القرآن وعلومه فأخذ بعضهم يفتاتون على من عرفوا قديماً بسعة محفوظهم ويزيفون ولكن بدون برهان ما رواه طائفة الراوين من أبناء الأذكياء الحافظين. ولو صح الاعتماد على إلقاء الكلام على عواهنه في هذا الباب إذاً لسقط التاريخ وارتفعت الثقة من كل خبر حتى من مجيء الرسم وحروب الملوك ودثور الشعوب والمدن وما إليها. وما أشبه من يكذب بادىء الرأي بلا دليل قاطع بمن يؤثر الهدم على البناء. وشتان بين المخرب والمعمر والمتلف والمخلف والمفسد والمصلح.

ما عُنيت امة بتدين دينها وحفظه ولغتها وضوابطها عناية المسلمين بدينهم ولغتهم فكان أمر حفظة الكتاب العزيز ما اشتهر في كل مصر وعصر ولا يزال في البلاد اثر من آثر تلك العناية. أما الأحاديث فقد عنوا بها قديماً وجمعوا أشتاتها وبينوا صالحها من موضوعها وضعيفها من قويها مما يدركه كل من كان له إلمام بالمراجعة ونظر في كتب القوم.

لم يكن العلم في القرون الأولى للإسلام بالإرث ولا بالمظاهر ولا بالوساطات والشفاعات بل كان بالاستحقاق وكدّ القرائح سير على قوانين بقيود وروابط ولذلك لم يكن ينال لقب حافظ من لم يحفظ ألوفا من الأحاديث بأسانيدها فقد كانوا يطلقون اسم المسند على من يروي الحديث بإسناده سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد رواية ويطلقون اسم المحدث على من كان أرفع منه والعالم على من يعلم المتن والإسناد جميعاً والفقيه على من يعرف المتن ولا يعرف الإسناد والحافظ على من يعرف الإسناد ولا يعرف المتن والراوي على منة يعرف المتن ولا يعرف الإسناد. وكان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى. والمحدث من عرف الإسناد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون وسمع الكتب الستة ومسند أحمد بن حنبل وسنن البيهقي ومعجم الطبراني هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة هذا أقل درجاته فإذا سمع ما ذكر وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد كان في أول درجات المحدثين. وكان السلف يستمعون فيقرون فيرحلون ويحفظون فيعملون قال بعضهم.

إن الذي يروي ولكنه ... يجهل ما يروي وما يكتب

كصخرة تنبع أموالها ... تسقي الأراضي وهي لا تشرب

سأل تقي الدين السبكي الحافظ جمال الدين المزي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل الذي جاز له أن يطلق عليه الحافظ قال: يرجع إلى أهل العرف فقلت وأين أهل العرف قليل جداً قال: اقل ما يكون الرجال اللذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من اللذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب فقلت له: هذا عزيز في هذا الرمان أدركت أن أحداً كذلك فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة. قال فتح الدين بن سيد الناس وأما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل في الحديث رواية ودراية وجمع رواة واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيخ شيوخه طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من علل طبقته أكثر مما يجهله منها فهذا هو الحافظ وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء فذلك بحسيب أزمنتهم.

وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث قيل له وما يدريك قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب: احفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح. وقال الحاكم في المدخل: كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث سمعت أبا جعفر الرازي يقول سمعت أبا عبد الله بن وارة يقول كنت عند اسحق ابن إبراهيم بنيسابور فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول صح من الحديث سبعمائة ألف وكسروا هذا الفتى يعني ابا زرعة قد حفظ سبعمائة ألف حديث. قال البيهقي: أراد ما صح من الأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين وقال غيره: سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل يحنث قال لا. ثم قال: احفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان سورة قل هو الله أحد وفي المذاكرة ثلثمائة ألف حديث وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ: كان أبو زرعة يحفظ سبعمائة ألف حديث وكان يحفظ مائة وأربعين ألفاً في التفسير والقرآن. وكان اسحق بن راهوية يملي سبعين ألف حديث حفظاً وأسند ابن عدي عن ابن شبرمة عن الشعبي قال: ما كتبت سواداً في بيضاء إلى يومي هذا ولا حدثني رجل بحديث قط الا حفظته فحدثت بهذا الحديث اسحق بن راهوية فقال: تعجب من هذا قلت: نعم قال: ما كنت لأسمع شيئاً إلا حفظته وكأني أنظر إلى سبعين ألف حديث او قال أكثر من سبعين حديث في كتبي. واسند عن أبي داود الخفاف قال: سمعت اسحق ابن راهوية يقول: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي وثلاثين ألفاً أسردها. وأسند الخطيب عن محمد بن يحيى بن خالد قال: سمعت اسحق بن راهوية يقول: أعرف مكان مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي. حفظ أربعة آلاف حديث ضرورة وقال عبد الله أحمد بن حنبل قال أبي الداود بن عمرو الضبي وأنا أسمع: كان يحدثكم إسماعيل بن عباس هذه الأحاديث بحفظه قال: نعم ما رأيت معه متاباً قط قال له: لقد كان حافظاً كم كان يحفظ قال شيئاً كثيراً قال: كان يحفظ عشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف فقد كان أبي هذا كان مثل وكيع. وقال يزيد بن هرون احفظ خمسة وعشرين ألف حديث وقال الآجري: كان عبد الله بن معاذ العنبري يحفظ عشرة آلاف حديث.

قال السبكي لم تر عيناي احفظ من أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي والوالد وغالب ظني أن المزي يفوقهما في العلل والمتون والجرح والتعديل مع مشاركة كل منهم لصاحبه فيما يتميز عليه المشاركة البالغة سمعت شيخنا الذهبي يقول: ما رأيت أحداً في هذا الشأن حفظ من الأمم أبي الحجاج المزي وبلغني عنه أنه قال ما رأيت أحفظ من أربعة: ابن دقيق العيد والدمياطي وابن تيمية والمزي فالأول أعرفهم بالعلل وفقه الحديث والثاني بالأنسب والثالث بالمتون والرابع بأسماء الرجال. وكان الدمياطي يقول: ما رأى شيخنا أحفظ من زكي الدين عبد العظيم وما رأى الزكي أحفظ من أبي الحسن علي بن المفضل ولا رأى ابن المفضل أحفظ من الحافظ عبد الغني ولا رأى عبد الغني أحفظ من أبي موسى المديني ألا أن يكون الحافظ أبا القاسم بن عساكر ولا رأى ابن عساكر والمديني أحفظ من أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي ولا رأى إسماعيل أحفظ من أبي الفاضل محمد بن طاهر المقدسي ولا رأى ابن طاهر أحفظ من أبي نصر بن ماكولا ولا رأى ابن ماكولا أحفظ من أبين بكر الخطيب ولا رأى الخطيب أحفظ من أبي نعيم وأبو نعيم ما لرأى أحفظ من الدارقطني وأبي عبد الله بن مندة ومعهما الحكم مكان ابن مندة يقول: ما رأيت أحفظ من أبي اسحق بن حمزة الأصبهاني وقال ابن حمزة: ما رأيت أحفظ من أبي جعفر أحمد بن يحي بن زهير القشيري وقال: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة الرازي وأما الدارقطني فما رأى أحفظ من نفسه وأما الحاكم فما رأى أحفظ من الدارقطني بل وكان يقول الحاكم ما رأيت أحفظ من أبي علي النيسابوري ومن أبي بكر ابن الجعابي وما رأى الثلاثة أحفظ من أبي العباس بن عقدة ولا رأى أبو علي النيسابوري مثل النسائي ولا رأى النسسائي مثل اسحق بن راهويه ولا أرى أبو زرعة احفظ من أبي بكر أبي شيبة وما رأى أبو علي النيسابوري مثل ابن خزيمة وما رأى ابن خزيمة مثل أبي عبد الله البخاري ولا رأى البخاري فيما ذكر مثل على بن المديني أولا رأى أيضاً أبو زرعة والبخاري وأبو حاتم وأبو داود مثل أحمد بن حنبل ولا مثل يحيى بن معين وابن راهويه ولا

رأى أحمد ورفاقه مثل يحيى بن سعيد القطان ولا أرى هو مثل سفيان ومالك وشعبة ولا رأوا مثل أيوب السختياني نعم ولا رأى مالك مثل الزهري ولا رأى الزهري مثل ابن المسيب ولا رأى ابن المسيب أحفظ من أبي هريرة ولا رأى أيوب مثل ابن سيرين ولا رأى مثل أبي هريرة نعم ولا رأى الثوري مثل منصور ولا رأى منصور مثل إبراهيم ولا رأى إبراهيم مثل علقمة ولا رأى علقمة كابن مسعود.

هذا كان مبلغ القوم في حفظ الحديث وروايته على كثرة المتشابه فيه وتوفر الأسانيد والرواة بحيث لو أراد أحد لهذا العهد أن يحفظ شيئاً مما كانوا يحفظونه لاختار استظهار اللغة الصينية واستسلها أكثر وذلك لضعف الحافظة من هذا المعنى وانقطاع سند هذه العلوم الجليلة إلا قليلاً.

كان الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون من أعيان حفاظ الإسلام قال ابن عساكر أنه أحفظ شيخ لقيه وشيوخ ابن عساكر زهاءُ ألف ومائتي شيخ وكان الفقيه أعلم الدين القمني يحفظ ما يسمعه من مرة واحدة. وكان الشافعي من أحفظ أهل دهره قضى عشرين سنة في تعلم الأدب والتاريخ وقال ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه ويروى أنه نظر في دريد صاحب المقصورة من علماء اللغة كان آية من آيات الله في اتساع صدره للرواية تقرأ عليه دواوين العرب فيسارع إلى إملائها من محفوظه.

وقيل أن أحمد بن حنبل إمام المحدثين كان يحفظ ألف ألف حديث. قال سعيد بن جبير من أعلام التابعين قرأت القرآن في ركعة البيت الحرام وقال اسمعيل بن عبد الملك كان سعيد بين جبير يؤُمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت وليلة بقراءَة غيره هكذا أبداً ولا عجب وهو الذي قال فيه أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا هو مفتقر إلى علمه.

وكان على الرازي يقول من فهم الكتاب (يعني الجامع الصغير لمحمد) فهو من أصحابنا ومن حفظه كان أحفظ أصحابنا وأن المتقدمين من مشايخنا كانوا لا يقلدون أحداً القضاءَ حتى يمتحنوه فإن حفظه قلدوه القضاء وإلا أمروه بالحفظ. وذكر صاحب نفح الطيب أنه كان خارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه مقلص تكن الفتيا في الأحكام والشرائع له وكان لا يجعل القالص منهم على رأسه إلا من حفظ الموطأ وقيل من حفظ عشرة آلاف حديث والمدوّنة.

كان بديع الزمان الهمذاني يحفظ خمسين بيتاً بسماع واحد ويؤديها من أولها إلى آخرها وينظر في كتاب نظراً خفيفاً ويحفظ أوراقاً ويؤديها من أولها إلى آخرها وينظر الأربعة والخمسة الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهذها عن ظهر قلبه هذّا ويسردها سرداً وهذا حاله في الكتب الواردة وغيرها. وكان أبو رياش أحمد بن إبراهيم من رواة الأدب يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة وعشرين ألف بيت شعر إلا أن أبو محمد المافروخي بزَّ عليه لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة فتذاكرا أشعار الجاهلية وكان أبو محمد يذكر القصيدة فيأتي أبو رياش على عيونها فيقول أبو محمد إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها فينشد معه ويتناشدان إلى آخرها ثم أتى أبو محمد بعدة قصائد لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما ـ قاله ياقوت في معجم الأدباء.

وكان الحفظ في كل فن شائعاً بين أهل الأدب وطلاب العلم على اختلاف ضروبه عند العرب على نحو ما يتضح من تصفح سير رجالهم ولو لم يكن استناد المؤلفين في الأغلب الأعلى ما في لوح محفوظهم لما تيسر لهم أن يؤلف أحدهم عشرات من المجلدات يعجز العالم اليوم عن نسخها وعن تصفحها.

فقد كان العرب قبل البعثة يروون قصائد شعرائهم وأغاني حداتهم كما يؤخذ من اجتماعاتهم في سوق عكاظ ومِربد البصرة ولم تكن بضاعتهم من ذلك كثيرة لأن أمراء الكلام لم ينبغوا إلا في الإسلام بظهور نور النبوة وفصاحة الكتاب العزيز. ولقد كان الراوية والنسابة ينشد عشرات بل مئات من القصائد كما يحفظ أحدنا لها العهد الأبيات القليلة غير متعلثم ولا متردد. خذ مثالاً لذلك حماد الرواية المتوفى سنة 155 فقد كان على قلة بضاعته من العربية يروي المئات من القصائد للجاهلين والمخضرمين كما يروي فاتحة الكتاب ويذر أشعار العرب وأيامهم وأنسابهم ولغاتهم كأنه يروي قصة وكان ملوك بني أمية يرجعون إليه في هذا المعنى ويحلونه منزلة عالية من الآجلة والإكرام روى الوليد ابن يزيد الأموي قال له يوماً وقد حضر مجلسه: بم استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف أنك لا تعرفه ولا سمعت به ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا محدثاً إلا ميزت القديم من المحدث فقال: ثم فكم مقدار ما تحفظ من الشعر قال: كثير ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام قال سأمتحنك في هذا ثم أمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفى عليه فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم ونوادره كثيرة.

وكان الأصمعي المتوفى سنة 211 أو قبلها صاحب لغة ونحو وإماماً في أخبار العرب وملحهم وغرائبهم قال عمر بن شبة: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة وقال اسحق الموصلي: لم أرَ إلا الأصمعي يدعي شيئاً من العلم فيكون أحداً أعلم به منه وحضر يوماً عند الفضل بن الربيع هو وأبو عبيدة معمر بن المثنى فقال له: كم كتابك في الخيل فقال الأصمعي مجلد واحد فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلدة فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً عضواً منه وسمه فقال: لست بيطاراً وإنما هذا شيءٌ أخذته عن العرب فقال للأصمعي: قم وافعل أنت ذلك فقام الأصمعي وامسك ناصيته وشرع يذكر عضواً عضواً ويضع يديه عليه وأنشد من قالت العرب فيه إلى أن فرغ منه قال: أبو حمدون الطيب بن إسماعيل شهدت ابن أبي العتاهية وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريباً من ألف جلد عن أبي عمرو بن العلاء خاصة ويكون ذلك نحو عشرة آلاف ورقة لأن تقدير الجلد عشر ورقات.

قال أبو نواس: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهم الخنساءُ وليلى فما ظنك بالرجال. قلت ولذلك جاء شعر أبي نواس أحسن شعر المولدين كما شهد له بذلك أصحاب الشأن في هذه الصناعة وفي مقدمتهم الجاحظ الذي فضل شعره على شعر العرب العرباء قال اسمعيل بن نوبخت: ما رأيت قط أوسع علماً من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلة كتبه ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطراً فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو.

قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب دخل أبو عمرو اسحق بن مراد الشيباني البادية ومعه دستجيتان من حبر فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب وكان أبو عمرو علاماً بأيام العرب جامعاً لأشعارها ويروي عن عمرو بن أبي عمر وقال: لما جمع أبي أشعار العرب كانت نيفاً وثمانين قبيلة وكان كما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفاً بخطه ويحكى أنه أخذ عن المفضل الضبي ودواوين العرب وسمعها منه أبو حيان وابنه عمرو بن أبي عمرو وحكى أبو العباس قال كن مع أبي عمرو والشيباني من العلم والسماع أضعاف ما كان مع أبي عبيدة ولم يكن من أهل البصرة مثل أبي عبيدة في السماع والعلم قال سلمة: أملى الفراءُ كتبه كلها حفظاً لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة وكان مقدار الكتابين خمسين ورقة. ويقال أن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة وكان الخليل يحفظ نصف اللغة وكان أبو فيد يحفظ الثلثين وكان أبو مالك يحفظ اللغة كلها وكان الغالب على أبي مالك حفظ الغريب والنوادر. وكان ابن الأعرابي أحفظ الناس للغات والأيام والأنساب وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: قال لي ابن الأعرابي: أمليت قبل أن تجيئني يا أحمد حمل جمل وقال ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي سمعت من ألف إعرابي خلاف ما قاله الأصمعي.

وكان قتادة عالماً نحريراً وأجمع الناس في أشعار العرب وأنسابهم وقال أبو عبيدة: ما كنا نفقد في كل يوم راكباً من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة فيسأله عن خبر أو نسب أو شعر وكان من أنسب الناس. وكان ابن الكنبي النسابة واسع الرواية من أعلم النسب بالنسب وكان من الحفاظ المشاهير قال: حفظت ما لم يحفظه أحد ونسيت ما لم ينسه أحد. كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن فدخلت بيتاً وحلفت أن لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن فحفظته في ثلاثة أيام وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين تصنيفاً وتوفي سنة 204.

وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارهم وأشعارهم قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه ومع أن كان يلحن ويخطي: إذا قرأ القرآن وإذا أنش بيتاً لا يقيم وزنه وإذا تحدث أو قرأ لحن اعتماداً منه لذلك فقد صنف قرابة مائة مصنف وكان يرى رأي الخوارج ولذلك كثر الطاعنون في نسبه ومشربه ومذهبه وتوفي سنة 209.

كان أبو المحاسن الرُّوياني المتوفى سنة 502 من رؤوس الأفاضل في أيامه يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري. وقال أبو بكر النحوي: لما قد أحسن بن سهل العراق قال: أحب أن أجمع قوماً من أهل الأدب فأحضر أبا عبيدة والأصمعي ونصر ابن علي الجهضمي وحضرت معهم وأفضنا مرة في ذكر الحفاظ فذكرنا الزهري وقتادة ومررنا فالتفت أبو عبيدة فقال: مال الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة ههنا من يقول ما قرأ كتاباً قط فاحتاج إلى أن يعود فيه ولا دخل قلبه شيءٌ فخرج عنه فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير والأمر في ذلك على ما حكى وأنا أقرب إليك قد نظر الأمير فيما نظر فيه من الرقاع ـ وكان نظر قبل أن يلتفت إليهم في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهم فوقع عليها فكانت خمسين رقعة ـ وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعة رقعة قال فأمر وأحضرت الرقاع قال: الأصمعي سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا فوقع له بكذا والرقعة الثانية والثالثة حتى مر في نيف وأربعين رقعة فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل ابقِ على نفسك من العين فكف الأصمعي.

ومالي وتعداد الأسماء على هذا النحو فكتب القوم طافحة بها وإنما يكفي منا التمثيل والقليل يغني. ولقائل أن هذا القدر من الحفظ كان بعضه شائعاً في القرنين الأولين والقرون الثلاثة وقد بالغ فيه الرواة حتى اتصل بنا على هذه الصورة وما حجتي في نقض هذا إلا وقوع أمثال أمثاله في كتب أهل القرون المتأخرة مما تواطأ الثقات على نقله وتحرزوا في إثباته. ولقد كان الغرب في هذه المزية كالشرق إذ قد حذا المغاربة في حضارتهم وعلومهم حذو المشارقة. فقد كان ابن عبدون أحد فحول شعراء الأندلس وكتابها متكثراً من الحفظ. قال الوزير أبو بكر بن زهر فبينما أنا قاد في دهليز دارنا وعندي رجل شيخ أمرته أن يكتب لي كتاب الأغاني فجاءَ الناسخ بالكراريس التي كتبها فقلتُ له: أين الأصل الذي كتبت عنه لأقابل معك به قال: ما أتيت به معي فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل رجل بذ الهيئة عليه ثياب غليظة أكثرها صوف وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان وقال لي: يا بني استأذن لي على الوزير أبي مروان فقلت له: هو نائم هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف حملتين على ذلك نزوة الصبا وما رأيت من خشونة هيئة الرجل ثم سكت عني ساعة وقال: ما هذا الكتاب الذي بيديكم فقلت له: ما سؤالك عنه فقال: أحب أن أعرف اسمه فإني كنت أعرف أسماء الكتب. فقلت هو كتاب الأغاني فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه قلت: بلغ موضع كذا وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به والضحك على قالبه فقال: وما لكاتبك لا يكتب قلت: طبعت الأصل منه الذي يكتب من لأعارض به هذه الأوراق فقال: لم أجيء به معي فقال: يا بني خذ كراريسك وعارض قلت: بماذا وأين الأصل قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي قال: فتبسمت من قوله فلما رأى تبسمي قال يا بني أمسك عليّ قال: فأمسكت عليه وجعل يقرأ فو الله إن أخطأ واواً ولا فاءً قرأ هكذا نحواً من كراسين ثم أخذت له في وسط السفر وآخره فرأيت حفظه في ذلك كله سواءً فاشتد عجبي وقمت مسرعاً حتى دخلت على أبي فأخبرته بالخبر ووصفت له الرجل فقام كما هو من فوره وكان ملتفاً برداءٍ ليس عليه قميص وخرج حاسر الرأس حافي القدمين لا يرفق على نفسه وأنا بين يديه ويقول: يا مولاي اعذرني فو الله ما أعلمني هذا الخلف إلا الساعة وجعل يسبني والرجل يحفض عليه ويقول: ما عرفني وأبي يقول: هبه ما عرفك فما عذره في حسن الأب. ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلاً ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافياً حتى بلغ الباب وأمر بدابته التي يركبها فأسرجت وحلف عليه ليركبنها ثم لا ترجع إليه أبداً فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظمته هذا العظيم قال لي: اسكت ويحك هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الأدب هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أيسر محفوظاته كتاب الأغاني ـ رواها المراكشي.

وروى أيضاً قصة تشبهها قال: أنه لزم أبا جعفر الحميري آخر من انتهى إليه علم الآداب بالأندلس المتوفى سنة 610 نحواً من سنتين فما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب أو مثل سائر أو بيت أو بيت نادر أو سجعة مستحسنة من أدرك جلة من مشايخ الأندلس فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب وأعانه على ذلك طول عمره وصدق محبته وإفراط شغفه بالعلم قال لي ولده عصام وقد رأيت عنده نسخة من شعر أبي الطيب قرئت عليّ أو أكثرها فألفيتها شديدة الصحة فقلت له: لقد كتبتها من أصل صحيح وتحرزت في نقلها فقال لي: ما يمكن أن يكون في الدنيا أصح من الأصل الذي كتبت منه فقلت له: أين وجدته قال هو موجود الآن بين أيدينا وعندنا وكنا في المسجد في زاوية فقلت له: أين هو فقال لي: عن يمينك فعلمت أنه يريد الشيخ فقلت: ما على يميني إلا الأستاذ فقال لي: هو أصلي وبإملائه كتبت كان يملي عليَّ من حفظه فجعلت أتعجب فسمع الأستاذ حديثنا فالتفت إلينا وقال: فيم أنتما فأخبره ولده بالخبر فلما رأى تعجبي قال: بعيداً أن تفلحوا يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي والله لقد أدركت أقواماً لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه حافظاً ولا يرونه مجتهداً.

ومن نظر فيما أُثر عن الأندلسيين وحدهم من هذا القبيل يكتب أوراقاً كثيرة وكنت قرأت في الاستقصا أن من جملة من غرق مع السلطان أبي الحسن لما قصد المغرب في البحر بأسطوله الغريق وكان مؤلفاً من نحو ستمائة قطعة مع من غرق من الفقهاء والعلماء والكتاب والإشراف أبو عبد الله محمد بن الصباغ المكناسي الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث يا أبا عمير ما فعل النغير أربعمائة فائدة.

وقيل أن صدر الدين بن الوكيل ويعرف عند المصريين بابن المرجل من أئمة الشافعية حفظ المفصل في مائة يوم ويوم والمقامات الحريرية في خمسين يوماً وديوان المتنبي على ما قيل في جمعة واحدة.

وذكر المقريزي عن حكايات أهل الأندلس في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ اشبيلية بل الأندلس في عصره أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب كان أعجوبة دهره في الرواية لأشعار والأخبار قال ابن سعيد: أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساءِ اشبيلية فجرى ذكر حفظه وكان ذلك في أول الليل فقال لهم: إن شئتم تخبروني أجبتكم فقالوا له: بسم الله إنا نريد أن نحدث عن تحقيق فقال اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا فاختاروا القاف فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن (أرق على أرق ومثلي يأرق) وسماره قد نام بعض وضج بعض وهو ما فارق قافية القاف وقال أبو عمران بن سعيد: دخلت عليه يوماً بدار الإشراف باشبيلية وحوله أدباءٌ ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة فمد الهيثم يده إلى الديوان المذكورة فمنعه من أحد الأدباء فقال: يا أبا عمران أواجب أن يمنعه منى وما يحفظ منه بيتاً وأنا أحفظه فأكذبته الجماعة فقال اسمعوني. وأمسكوه فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه فأقسمنا عليه أن يكف وشهدنا له بالحفظ وكان آية في سرعة البديهة مشهوراً بذلك قال أبو الحسن ابن سعيد: عهدي به في اشبيلية يملي على أحد الطلبة شعراً وعلى ثان موشحة وعلى ثالث زجلاً كل ذلك ارتجالاً.

ل ابن خلكان: كان أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أرَ قط من يحفظ مثله ويحفظ دون ذلك من علوم آخر منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك. وذكر صاحب الصبح المنبي أن العلم الفرد في قوة الحافظة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. ولقد شرط الملك المعظم عيسى لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة فحفظه لهذا السبب جماعة.

قال أبو عمر الطلمنكي دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون عليَّ الغريب المصنف فقلت انظروا من يقرأ لكم وأمسكت أنا كتابي فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده (وهو صاحب المخصص في اللغة الذي طبع مؤخراً) فقرأه عليَّ من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه. ولقد لازمن ثعلب ابن الإعرابي فما رآه نظر في كتاب. وأخبار الأصمعي في الحفظ والرواية أشهر من أن تذكر وكذلك خلف الأحمر والكلبي وعبيد ودعبل. وكان أبو تمام لا يلحق في محفوظاته وقيل أن كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع. قال أبو الحسن محمد بن علي العنوي كان المتنبي يلازم الوراقين فأخبرني وزان كان يجلس إليه: قال ما رأيت أحفظ من هذا الفتى بن عبدان السقا (المتنبي) قلت له: كيف قال اليوم كان عندي وقد أحضر رجل كتاباً من كتب الأصمعي يكون نحواً من ثلاثين ورقة لبيعه فأخذه فنظر فيه طويلاً فقال له الرجل أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك فإن كنت تريد حفظه فهذا يكون إن شاء الله تعال بعد شهر قال فقال له ابن عبدان: فإن كنت قد حفظته في هذه المدة فمالي عليك قال: أهب لك الكتاب قال: فأخذته من يده فأقبل يهذه عليَّ إلى آخره ثم استلمه فجعله في كمه وقام فتعلق به صاحبه طالباً بماله فقال ما إلى ذلك سبيل وقد وهبته لي قال: فمنعناه منه وقلنا: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام فتركه عليه. والأمثلة كثيرة في هذا الباب والله أعلم.