مجلة المقتبس/العدد 38/قوى النساء
مجلة المقتبس/العدد 38/قوى النساء
كتب باولو لومبروز العالم الإيطالي مقالة في المجلة الباريزية قال فيها ما تعريبه: حكم الناس منذ قرون بأن الرجل من الجنس القوي والمرأة من الجنس الضعيف. فجميع مظاهر النشاط والمتانة والقوة الطبيعية من امتيازات الرجل. عضلاته كالفولاذ ويحمل السيف ويحارب ويتسلق الجبال الخطرة ويتحشم البحار وهي في أشد أنوائها ويرى الموت وجهاً إلى وجه.
أما المرأة اللطيفة المزاج فإنها ترى أن قصم ساق زنبقة يعد منها قوة فهي التي يغمى عليها وهي جالسة على الكرسي وتصرخ مذعورة إذا رأت عنكبوتاً أو فأرة. فلذا يسأل السائل من أين تنبعث قوتها أي جوهر شجاعتها ومقاومتها ورباطة جأشها على أن المرأة في الغالب تظهر بمظهر الغيرية والإخلاص وسلامة العقل وإنكار النفس والمفاداة وكل ما يعرف به الإنسان الخارق للعادة.
القوة والمتانة الطبيعية هما أساس القوة الأدبية وشرط لازم لهما وقد أبان التاريخ والإحصاء والبحث بأن المرأة ليست دون الرجل في المقاومة الطبيعية للأمراض والأوجاع والأتعاب فإنا نرى النساء المتوحشات البربريات يقمن بأشق الأعمال فيحرثن الأرض ويطحنّ الحب ويحملن الأثقال بيناهن مرضعات أو حاملات.
ومن الغريب إنا نرى الضعف في النساء والقوة في الرجال عند بعض الشعوب المتوحشة على صورة معكوسة فنرى المرأة عندهم تضع ولداً فلا تلبث أن تنهض وتتولى في الحال أعمالها على حين يبقى زوجها في الفراش كالنفساء وهذا مما دلّ على مضائها الغريب.
وإنا لنرى النساء في بلاد الهرسك يقرنَّ بالسكة بدل البقر كما نراهن في بلاد الألب ينقلن أحمال العلف عوضاً عن البغال.
وليس من رياضة مهما صعبت واقتضت صاحبها من الجرأة والثبات والشجاعة إلا قامت به المرأة بنشاط وبرزت في مضاميره أي تبريز. فنراها تركب الخيل وتسبح وتلعب بالسيف وتركب الدراجة وترتاض في الجبال وكل ذلك مما يقتضي له عدا أعصاب من حديد ومقاومة فائقة حضور ذهن وحذر واحتقار للموت أي ما لا يمكن القيام به إلا إذا اتفقت القوة الطبيعية مع القوة الأدبية.
وهناك أحوال كثيرة لا ندعوها رياضة لما يقتضي لها من النشاط والشجاعة والثبات في المرأة ونعني بذلك اكتشاف البلاد الجديدة لما فيها من المخاطر وما ينبغي لدخولها من الجرأة. ومن الناس من يظن أن مجد الاكتشاف لا يحرزه إلا الرجال على حين هناك عدد كبير من النساء المكتشفات والسائحات اللائي لم يهبن الأخطار واستهنّ بكل ما ينبغي للنجاح.
فقد رأينا العقيلة كودرو طافت مع زوجها أقطار غويانا الموبوءة واجتازت نهر البرازيل المأهول بالهنود ومات زوجها سنة 1899 فلم تكن أقل منه مثابرة على السياحة وحدها. وليفنكستون وهو أعظم سائح إفريقي في عصرنا كانت ترافقه زوجته في أكثر رحلاته وهي التي أنقذته من الهلاك في شوبانكا وقضت كالأبطال وهي لا تريد أن تغادره في الزامبين. وقد اكتشف بكير سنة 1864 نهرت ألبرت نيانزا وكانت زوجته اكبر مساعدة له بجرأتها ونشاطها. وصحبت جوزفين بري زوجها سنة 1902 إلى القطب الشمالي وهي على قلة ما لقيته من الرفاهية في تلك الرحلة استطاعت أن تربي لها ولداً. ورافق كنود رامومسين أخواته في رحلته إلى غروانلاندا. وطاف بوتانين الروسي وأجفالفي المجري مع زوجتيهما في آسيا الوسطى وكانت زوجة الثاني باريزية الأصل والرتبية فكتب لها السيد أن تعود إلى أوربا فوضعت لها كتاباً بديعاً في رحلتها أما زوجة الأول فبقيت إلى الآخر وقضت وهي لا تخاف دركاً ولا تخشى.
وإن ما حدث لرينهارد زوجة السائح المبشر كان من المدهشات حقيقة فقد كانت ترافق زوجها مع ولد لها في بلاد التبت وكانت سياحتهما خطرة وشاقة من وراء الغاية. ولقد داهمهما لصوص من أهل التبت بالقرب من لاهاسا فهرب جميع من كانوا معهما. وبعد أن بقي المبشر كامناً مع زوجته في السياج خرج قاصداً أحد المساكن القريبة يطلب معونة من فيه وظلت زوجته في انتظاره فلما نفذ صبرها عرفت أن اللصوص قتلوه وعندئذ قامت تسير وحدها عائدة من حيث أتت مع زوجها وهي تتوقع الموت في كل دقيقة وبعد أربعة أسابيع قضتها ماشية في صعبات وآلام لا تصدق بلغت مدينة قاتسين لو ناجية هي وطفلها.
هذا ولا تشارك المرأة الرجل في مخاطر الرحلات والوحدة والحميات المؤذية والجليد والحر والمخاوف بل إن لها في الدفاع عن حياض البلاد يداً طويلة يدعوها إلى ذلك حبها لوطنها أو لأولادها. فقد عرفت جان دارك المحاربة الفرنسوية المشهورة بأيامها الغر المحجلة كما عرفت كاترين سفورزا في القرن الخامس عشر في إيطاليا فإنها بعد أن رأت زوجها يذبح تحصنت في قلعة فورلي وقاومت حصار قيصر بورجيا ثلاثة أسابيع وبقيت في مقدمة رجالها ليل نهار راجلة وراكبة وهي لم تترك سلاحها ولما أعيتها الحيل أرادت أن تقتل نفسها بنسف الحصن ولكنها بقيت حية مع زمرة من أصحابها وعادت تقاتل بين أشلاء القتلى إلى أن أسرت وعندها صاحت إني أسلم نفسي لملك فرنسا.
والتاريخ لا ينسى نساء مدينة سين وقد ضيق الحصار عليها الملك شارلكان فهببن يتألفن ثلاثة توابير مؤلفة من بنات جنسهن خاصة لا يقل عددهن عن ثلاثة آلاف فلبست قائدة التابور الأول لباساً بنفسجياً وقائدة الثاني لباسر حرير أحمر والثالثة اكتست بالبياض. وبمثل هذا قامت حنة هاشيت يصحبها نساء بوفي للدفاع عن مدينتهن وجاكلين روبنس عرضت حياتها للخطر لتخبأ في قاربها الذخائر اللازمة سان أومار خلال حرب انتقال الملك الإسباني.
ولكم من امرأة اشتهرت بإقدامها وشجاعتها بحيث يكاد ينكر عليها المرء ما يصدر عنها وهي التي عرفت بالضعف ووصفت بكثرة التأثر وكان الذي يحملهن فيالغالب على تقحم المهالك تعصب ديني أو كراهة للظلم أو حب للحرية يقيمهن ويقعدهن. وعلى هذا رأينا شارلوت كورداي فأدت بنفسها وقتلت مارات المظالم وحدها ولما سئلت عما أتت أجابت: إن حب الحرية علمني أسباب الوصول إلى الظالم لأقتله. وقالت: ما أتعس بلاد كفرنسا يعجب فيها من امرأة تفادي بحياتها دفاعاً عن بلادها.
ومن النساء صاحبات القوة الأدبية يخرج أولئك الروسيات بالمئات متخليات عن ثروتهن وراحتهن ورفاهيتهن في قصورهن الآمنة الوادعة منذرات على أنفسهن الدعوة إلى الثورة. يعرف الناس اسم صوفيا بوروفيسكايا التي مشت إلى المشنقة هادئة دون أن يبدو عليها الضعف ساعة. ويذكرون فيراساسولتش التي قتلت القائد تريبوف جلاد العدميين في روسيا وبرأتها محكمة المحلفين فأقرت بأنها كانت تؤثر أن يحكم عليها لأنها تكون إذ ذاك آمنة من أنها عملت ما تقدر عليه للدفاع عن حقيقتها. وقضت الفتاة فيرافنير البديعة الطلعة المحببة إلى النفوس ست سنين وهي روح جميع المكائد التي حدثت في روسيا فتجتاز البلاد من أقصاها إلى أقصاها وهي تحمل قذائف في مشدها وتختبئ متوارية عن أنظار رجال الشرطة ولإنقاذ أوراق ومستندات محظورة. وقد سجنت هذه الفتاة الفتانة التي خلقت للحركة والاضطراب والشجاعة والثورة عشرين سنة في سجن شلوسبورج وخرجت منه بحماستها الأولى ومراميها التي طالما سعت لها سعيها.
ويرى العدميون (نيهيلست) أن من الأخلاق التيفطر عليها النساء فكانت من قلواههن الأدبية أنهن إذا سجن والرجال في الحبوس أو نفين إلى سيبيريا يعشن أكثر من الرجال ولا ييأسن كالرجال على حين يموت الرجال أو ينتحرون أو يجنون لا قليلاً أو يغضبن من وحدتهم ومن بعدهم إلى الأبد عن عالم الأحياء.
ولعل أحدهم يقول أن أمثال هؤلاء النساء هن من النادرات يرزقن عاطفة الحب والمفاداة والمقاومة وأنه قد ينشأ مثلهن وكم ترى في النساء من النابغات في الأدب فجورج ساند وأليصابات بروفنيك وجورج أليوت وبشير ستاف ومدام هومفري وأرد كلهن من الأديبات اللائي يقلُّ أمثالهن في الرجال على أن النساء والرجال أيضاً الذين اشتهروا بقواهم الأدبية وأفكارهم السياسية لا ينبغن إلا في مجتمع أو في دور يكون فيه مستوى المكارم والآداب راقياً جداً.
وقد أظهر البحث أن نصف النساء من الشجاعة على جانب عظيم إذا نميت فيهن هذه القوة أتين بالأعاجيب ولكن من ينظر إلى النساء نظراُ مجرداً من التدقيق يراهن إلى الوناء والضعف والجبن والتعلق بأهداب الأمور التافهة والألاعيب الصبيانية.
والفرق عظيم بين القوة الأدبية في الرجل وبينها في المرأة فالرجل ينشأ على ذلك بالفطرة أو بالتربية ويبقى كذلك مهما شقيت حياته أو سعدت بيد أن الرجال الأقوياء من حيث الطبيعة بل من حيث الأدب هم أندر مما نتصورهم. والمرأة لا تعنى بقوتها الأدبية عندما تكون حياتها سعيدة أو عادية إلا أن الحاجة إذا مست وأصابها شقاءٌ وبؤسٌ ومرض في أسرتها ينقلب كيانها في الحال ويصبح المتوسطات والرخوات منهن قويات شديدات يقاومن المصاعب أي مقاومة ويطعن صدور العوائق بسلاح قد يكون غير ماضٍ ولكن له من نار الحمية الموقدة ما يشحذ غراره ولا يطفأ أواره.
ولكم شهدنا النساء يأتين من ضروب الشجاعة حين الحاجة ما لم يخطر ببال فكم رأينا عقائل كان أزواجهن على جانب عظيم من سوء الأخلاق والعشرة معهن وكن صابرات على الأذى حتى إذا فقد بعولتهن ثرواتهن وسيقوا إلى السّجون والمطابق يعطفن عليهم ويأخذن في الإنفاق عليهم من كدهنّ وعملهن.
ورأيت امرأة أخرى كانت شرسة الطباع تناكد زوجها وتسيء عشرته فلما أضاع ماله راحت وهي في سن الأربعين تراجع دروسها التي تعلمتها وتقدمت لنيل شهادة التعليم وأخذت منذ ذاك الحين تصرف على زوجها وأولادها من كسبها القليل وتعمل أعمال المطبخ والبيت بيدها وتشتغل من الصبح إلى المساء وكانت من قبل لم تتنزل لتبل يدها بالماء ولا لترفع ثيابها بنفسها أما زوجها فبقي سنين يعيش من كدح زوجته يلعن الزمان ويدخن الدخان ولا يفارق داره إلا للنزهة.
ورأيت امرأة أخرى كان زوجها أحد رجال الإدارة وكانت مرفهة تعيش عيش الأميرات فأصيب زوجها بالروماتيزم فأخذت تمرضه وتعنى به بنفسها ثماني عشرة سنة ليل نهار حتى أنها لم تنزع عنها لباسها خلال العشر سنين الأخيرة لتكون على مقربة من سرير زوجها وتقوم بخدمته حق القيام بل إنها قضت بعض السنين الأخيرة ولم تخرج إلى الشوارع حتى صار منظر المركبات والقطارات في عينها غريباً. كلمتها ذات يوم وأنا أعجب بها فقالت لي أنها لم تسأم قط لأنها أدركت أنها تقوم بواجب وكانت كل ساعة من ساعاتها ولها ما يشغلها فيها وأنها لم تمرض منذ أخذت في تمريض زوجها وكانت تغتبط عندما ترى زوجها يشكر لها بعينيه عنايتها به قالت وكنت سعيدة أن أتوفر على إطالة حياته فلما قضى نحبه لم يبق لي مطمع في الحياة وأسفت عليه كثيراً وإن أدركت أن آلامه انتهت بالموت.
وغريب أمر النساء في مفاداتهن بكل عزيز عليهن في سبيل ما يوطدن النفس على القيام به فإذا انصرفت أذهانهن إلى عمل من مثل ما تقدم يزهدن في الملاذ والبنين والبنات وينسين أن جمالهن ظل زائل وأنهن يضعن حياتهن بمفاداتهن ولكن ما يلذهن هو أن يغنين فيما صرفن وكدهن له وليس الرجال كذلك ولعلهم يؤثرون الانصراف إلى عمل عام أكثر من الميل إلى عمل خاص.
أعرف أسرة غنية كان لها ابن كف بصره فأرادت أن تصحبه برفيق فاختارت له ابن بستانيها وجعلته له ترباً يغدوان ويروحان معاً فدرسا الحقوق معاً وصرفا على هذه الحال منذ كان الأعمى ابن عشر سنين إلى أن صار ابن أربع وعشرين سنة ولما أتما دراسة الحقوق افتتحا لهما مكتب محاماة وقضيا فيه سنتين ولكن ابن البستاني ضاق ذرعه من تحمل صاحبه وانفصل عنه وإن كان طيب السريرة ولم ينس أيادي أسرته عليه قائلاً أن السأم أصابه فلا يتحمل عشرة صاحبه.
كما أعرف رجلاً غنياً فقد زوجته وهي تضع له ابنة فلم تحدثه نفسه يوماً أن يعنى بتربية هذه مع أنه كان يحبها حباً جمّاً وما ذلك إلا لأن الرجل بما فيه من قوة أدبية يأتي من الأعمال ما يزيد بنتائجه الاجتماعية أكثر مما تقوم به المرأة مع شخص. وعلى ذلك فالواجب على الرجال أن يشفقوا على النساء إذا رأوهن يعشن في الأحايين عيشاً طيباً المرأة لا تنزع بها نفسها إلا أن تكون خادمة خاضعة تقوم بوظائفها اليومية المحدودة ولكنها حين الحاجة يكون شأنها أن تنقل فتكون ملكة وليس غير المصائب تحملها على تغيير كيانها فعلى الرجل أن يحترمها في حال بؤسها وسعادتها.