مجلة المقتبس/العدد 4/الاقتصاد

مجلة المقتبس/العدد 4/الاقتصاد

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 5 - 1906



لبول لروابوليو الاقتصادي الفرنسي

في الإنسان كما في سائر أنواع الحيوان سائق طبيعي يدعوه أبداً إلى السعي وراء ما يحفظ حياته ويطيل حبل أجله. فحب الحياة أمر فطري ولذلك احتاج الإنسان حرصاً على بقائه إلى طعام يقوته ولباس يدفع عنه عوادي الحر والقر ومسكن يأوي إليه وغير ذلك.

كان الإنسان أول أمره قليل الحاجات جداً وذلك أيام كان يهيم في الغابات والآجام ويقتات من الثمار الطبيعية أو مما يصيده من الحيوانات والطيور والأسماك ويكتسي من جلود هذه الحيوانات ويأوي إلى المغاور والكهوف وأصول الأشجار الضخمة والأدواح الباسقة.

أما الآن فما أكثر حاجات الإنسان فإن تقدم المدنية ونمو العمران أحدثا أشياء كثيرة أصبحت اليوم من ضروريات الحياة. فبعد أن كان الإنسان في أدواره الأولى لا يعاني كبير أمر في سد حاجاته غداً الآن مقيداً ينوء تحت أعباء الحياة ومطالبها وليس في حاجاته ما يسهل نيله سوى استنشاق الهواء وشرب الماء وما خلا ذلك فمحتاج إلى فرط كد وعناء. تنوعت المآكل والملابس وتغيرت المساكن وتزايد حب الزينة والظهور في مظاهر الأبهة والتفخل وعظم الميل إلى التلذذ بأمور مادية ومعنوية وأدبية على ضروب شتى لا يحصرها حد ولا يحصيها عد.

وبديهي أن الرجل في المجتمع الإنساني لا يستطيع نيل مطالبه العديدة إلا بسعي خاص لحصولها أو بدفع ما يقابلها من المال الذي هو ثمرة عمله أو ثمرة عمل سابق أتى به من قبله. وكيف كان الحال فالحصول على المطالب لا يمكن إلا من طريق السعي والعمل. ومهما اختلفت أعمال البشر وتنوعت فإنها ترمي إلى غاية واحدة وهي سد مطالب الحياة. وقد حقق أهل الأخصاء في هذا الشأن أن الأعمال المشار إليها خاضعة لقوانين عامة. فكما أن الأجسام وقوانين الأجسام تابعة لقوانين عامة مقررة في العلم الطبيعي فكذلك مساعي الإنسان المصروفة في تقاضي الأشياء النافعة له خاضعة لقوانين عامة. وهذه القوانين هي موضوع علم الاقتصاد ولذا يقال في تعريف هذا العلم أنه علم تعرف به القوانين العامة التي تبين مبلغ تأثير مساعي الإنسان في الحصول على المواد المختلفة والانتفاع بها مما لم تمنحه الطبيعة عفواً. ويمكن إرجاع هذه القوانين إلى أصل واحد وهو أن كل إنسان يجته لنيل قدر وافر من المنافع مقابل قليل من السعي وسر ذلك أن الإنسان ميال بالطبع إلى الراحة والكسل ولولا دافع حب الحياة وطول البقاء لما أجهد نفسه في شيء من أمر معاشه وعندما يبتغي شيئاً من المواد النافعة للقيام بحاجاته مباشرة أو بالواسطة فإنه يبحث عن الطرق التي تقلل من تعبه وتوفر له النفع والفائدة.

وإذا أمعنا النظر في هذا الأصل نراه منبعثاً من عاطفة حب الذات المنطوية في جوانح كل إنسان. وهذه العاطفة هي ولا جرم أعظم العواطف عملاً وأشدها تأثيراً. فهي المحرك الأكبر في غالب الأعمال، والباعث الأقوى في أكثر المشاريع، والمؤثر الأعظم في جل الأمور إن لم نقل في كلها. ولهذه العاطفة المكانة العليا في الاقتصاد والإثراء وتوفر الرفاهية وتقدم الحضارة.

ظن بعضهم أن عاطفة النفع الذاتي هي الأنانية بعينها المضادة لحب خير الغير فحكموا بوجوب عدم الالتفات لتلك العاطفة جرياً على ما تقتضيه قواعد الأخلاق. ولاشك أن الأنانية من الرذائل التي يجب على كل حال اجتنابها ولكن عاطفة حب الذات والنفع الشخصي هما غير الأنانية وبينهما بون شاسع.

فالأنانية أن يضع الإنسان نفسه مكاناً علياً وينزل غيره في دركات الانحطاط فيرى احتقار الغير والازدراء به أمراً طبيعياً ويرى نفسه خليقة بالتجلة والتعظيم دون سواها. فينشد المنافع والملاذ من أي طريقة كانت مشروعة أو غير مشروعة أضرت بغيره أو لم تضر. ومن تستحكم فيه هذه الخصلة يكون قلبه كالحجارة أو أشد قسوة وطبعه شر الطباع لا تثنيه شفقة، ولا تعطفه رحمة، ولا تستميله مروءة ولا نخوة.

أما عاطفة النفع الشخصي فهي شعور يدفع الإنسان إلى استجلاب النفع لذاته من طرقه المشروعة بدون أن يلحق ضرراً بغيره ويرق لمصاب سائر الناس في غالب الأحيان ويتصدق من ثمرة مساعيه بما تهديه إليه نفسه. ولا يتجرد امرؤ في العالم عن هذه العاطفة لأنها من نتائج حب الحياة الطبيعية. غير أن تقدير النفع الشخصي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمزجة والمحيط والفكر والتربية وغير ذلك. ومن زهدوا في الدنيا واختاروا عيش التقشف في صوامع التعبد فإنهم لم يريدوا بذلك إلا تحصيل نفع أعظم ونيل لذة أسمى من منافع الدنيا وملاذها. وما صلاتهم وصيامهم إلا رجاء الخلاص من العذاب الأليم وأمل الحصول على لذة النعيم الأبدي الذي وعد به المتقون. ولا ينافي حب النفع الذاتي حب الخير للغير وقد يشترك الاثنين في معظم الأحيان. ودليل ذلك أن الإنسان أكثر ما يفكر في مصالح عياله ورفاهيتهم وضمان مستقبلهم. والأسرة منشأ القومية فمن أحب نفسه حباً خالصاً أحب عياله وأسرته ومن أحب عياله حباً شريفاً أحب مواطنيه وقومه. ولذلك كان حب الذات عاطفة شريفة تنافي الأنانية بتاتاً.

والإنسان مدفوع بهذا العامل لتقاضي حاجياته. والحاجيات من أهم المباحث التي يدور عليها علم الاقتصاد. وهي كما هو معلوم كثيرة متنوعة جداً تزداد بارتقاء الحضارة وتقدم العمران حتى أن بعضهم حدَّ الحضارة ببلوغ الحاجات درجة الكمال ولعل كثيراً من الناس يتساءلون: هل تقليل الحاجات أنفع للمجتمع الإنساني أم تكثيرها؟

قال أحد الفلاسفة القدماء: إذا أردت أن تكون ذا ثروة وغنى فقلل من حاجاتك ومطالبك بدلاً من أن تسعى في تزييد أموالك. وقال أرسطو: ما أقل القدر الذي يكفي لعيش الإنسان عيشة راضية. وقامت طائفة من الحكماء في هذا العصر بإحياء معالم الحكمة القديمة فاتخذت هذه الأقوال دليلاً مهماً وصارت تحث على الزهد والقناعة وجعلت تبدي أفكاراً كلها خيال في خيال وإليك جملة من أقوالها:

ما كانت حياة العظام الذين قاموا بأمر الإنسانية والفضيلة مثل المسيح وبوذا وزردشت وسبينوزا حياة سعيدة إلا لأنهم كانوا زاهدين قنوعين يحيون حياة روحية فهؤلاء ولأمراء خلقاء بأن يتخذوا مثالاً حقيقياً للاقتصاد.

يقول بوليو:

إنني لا أخشى من التصريح بأن هذه الأفكار الخيالية ليست على شيء من الأهمية في نظر العلم والمدنية. نعم إن من مقتضى قواعد الأخلاق أن نجعل نصب أعيننا مثال المسيح وبوذا وغيرهما من الزهاد المتقشفين كي يعدل فينا حب الثروة المفرط ويعرف الفقراء الذين خانتهم الحيل وأعوزتهم الوسائل أن سعادة الدنيا لا تتوقف على الثروة والمال بل قد يمكن للمرء أن يعيش مع الفقر عيشة طيبة إذا رضي وقنع. بيد أنه لا يتأتى للبشر كافة أن يعيشوا مثل المسيح وبوذا ولو فعلوا ذلك لما تيسر الوصول إلى هذه الدرجة السامية من الرقي والحضارة - انتهى بتصرف يسير.

دمشق

عبد الوهاب