مجلة المقتبس/العدد 4/النهضة الأميركية

مجلة المقتبس/العدد 4/النهضة الأميركية

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 5 - 1906



ملخصة عن إحدى المجلات الأوربية

ما برحت الأفكار حيرى في تكييف حالة الولايات المتحدة الأميركية وارتقائها في سلم الحضارة والعمران فقد مضت القرون ومواد ثروتها لا تنضب وأسباب عمرانها متوفرة وانقضت الأجيال والناس ينسلون إليها من كل حدب. ومع ما فيها من الاختلاط والحركة لا يزال أهلها عجائب في أطوارهم كما أن بلادهم أم العجائب. بلاد حوت الأضداد في الأجناس والأديان فمن ألمان إلى هولنديين إلى أيرلنديين إلى بافاريين ومن كالفانيين إلى كواكوز إلى برسبتاريين إلى بوريتانيين من شيع البروتستانت. ومنهم يتألف على اختلاف الأجناس اللاتينية والسكسونية والإنكليز السكسونية هذا الشعب العجيب المتناسل في تلك الأصقاع بين هاتيك الآجام والغابات الكبيرة والمروج الواسعة.

وأهل هذه البلاد من سكان العالم القديم نثروا في عالمهم الجديد جراثيم الترقي وأتوا تلك الديار كما قال كارلايل المؤرخ الإنكليزي حاملين على قواربهم الثخينة من الرجال أمثال شكسبير وكرومفل ممن كانوا أبطال إنكلترا الجديدة والغوغاء الوضيع في أسبابه الرفيع بآدابه. ومن أعظم ما امتاز به هذا المزيج من الناس فكر الإبداع ولم يعق تلك الأمة ما عرفت به هي وأصولها من حب التقليد. ففي أميركا الشمالية كل شيء ونقيضه. ففيها التمدن والتوحش. وفيها حب الفتح والتبسط في مناحي السلطة والدعوة إلى السلام والاحتفاظ به. وفيها الشجاعة المفرطة والاحتيال مع الحذر. وفيها الإعجاب بالعظمة والتمدح. والميل إلى العمل والعزوف عن السفاسف. وفيها التعبد بالتوراة وحرية الفكر. وترى فيها بجانب الأهوال والفظائع من صلب وضرب بالسياط جمعيات اعتدال عجيبة وأوضاعاً بديعة لتعليم العامة. وفي جانب المضنيات الاقتصادية الهائلة عطايا تمنح لمساكين الفقراء حوت في مطاويها الأبهة والتمجد. بل ترى فوق ما هناك من أعمال قاسية جافية إجراء يلتمسون من مواليهم زيادة أجورهم وأولاد أغنياء يملك آباؤهم الملايين والمليارات واللكوك والربوات ثم يروحون ويغدون في بيع الجرائد وينادون عليها بأعلى أصواتهم في الشوارع ويمتهنون أنفسهم بإصلاح الأمواق (بوياجية جزم) وبينا ترى فيها التشديد للمحافظة على الأيام المخصصة رسمياً لتمجيد المولى تعالى وتقديسه على نعمائ ترى التسامح مع المجتمعات الكافرة الشيطانية بأجمعها والترخيص لها بما تريد.

ومن أعظم ما امتاز به أهل هذه البلاد الجفاء والكبرياء وحب البيضاء والصفراء فيقصد كل فرد من أهلها إلى أن يكون حاكماً على غيره وظالماً متسلطاً لا يحيك فيه نصح الناصح، ولا يقنعه غير مدح المادح. قال توكفيل يظهر الأميركيون في صلاتهم مع الأجانب أنهم لا يحتملون أدنى انتقاد وينهمون للمديح فيستحسنون أقل مديح دقيق وفي النادر أن يرضيهم المديح العظيم وقال ستوارت ميل في معنى حبهم للمال: أن الأميركيين صنفان صنف يعنى بصيد الدولارات (الريالات الأميركية) وصنف يربي صيادين للدولارات. وقل في الأمم من يعبد الدينار ويتعبد به مثل هؤلاء الأميركيين وإذا رأيتهم حسبتهم لا يفكرون في غير الثروة والتبجح باختزان الدرهم.

ومعلوم أن المال لا يحصل إلا بالاكتساب والاكتساب لا يكون إلا بالحركة ولذلك عرف الأميركيون بالمضاء والحركة حتى قال فيلسوفهم أمرسون ونعم القول قوله: الإنكليزي أثبت الناس وقوفاً على قدميه وليس هذا النوع من الرزانة في السكون غاية ما يجب على المرء فإذا زاد هذا السكون في إنسان فسجل بأنه أميركي وأنك متى سألت أميركياً عن صحته يجبك بأنها في حركة عوضاً عن أن يقول لك إنها جيدة أو أنا في راحة. وقد خصت كل بلد من بلدانهم بمزية لا يضارعها فيها غيرها فامتازت شيكاغو بالصناعات وفيلادلفيا بالعلميات ونيويورك بالماليات وبيتسبورغ بالمعدنيات وهناك ترى ثروات لا تحصى تجتمع وتتفرق وأمجاداً تعلو وتسفل وكلها سائرة نحو التقدم آخذة في سنن النماء الذي ينسب الفضل في التوفر عليه أول مرة لرجل أميركا جورج واشنطون.

ولد واشنطون في مقاطعة فرجينيا سنة 1732 ومات فيها سنة 1799 وقد لقبه اللورد بايرون الشاعر الإنكليزي بسينسيناتوس المغرب لكثرة فضائله الشخصية. فقد كان بما خص به من قوة العقل واستقامة الإرادة حكيماً أكثر منه جندياً. فهو على التحقيق مؤلف قلوب أمة وقائد جماعة وزعيم عصابة. قال شاتوبريان الكاتب الفرنسي في كتابه الرحلة إلى أميركا ما نصه: ألق رائد الطرف في الغابات الغبياء التي لمع فيها سيف واشنطون تجد قبوراً بل تجد عالماً. فقد ترك واشنطون بلاد الولايات المتحدة غنيمة في ساحة قتاله. وكان على الجملة زعيم الحاجات والأفكار والمعارف والآراء في عصره قام بنصرة العقول ولم يضادها وتوخى ما يقتضي أن يراد وعمل بما وسد إليه. ومن هنا جاء عمله متماسك الأجزاء ثابت الدعائم على الدهر.

فواشنطون هو الذي أوجد الاتحاد ومثل النهضة الأميركية الأولى فكان الجندي النشيط الباسل والسياسي الذي أعلى شأن بلاده في الحكم الجمهوري والتقاليد الدستورية النافعة على حين كان تزبد كتيار يرغي بمياه جديدة تجري إليه. وبينا كانت تلك الأمواج المزبدة على وشك الفيضان وأنشأ واشنطون يجمع شمل المروءات المختلفة ويوجه الإرادات صوب النفع ويحسن بث الأخلاق التي تسفر عن تغلب الحرية والمدنية. فقد أثبت حقوق المرء المقدسة ورغب في الأخذ بزمام مستقبل ذاك الجنس المحتفظ بالتقاليد السائر مع الزمن في تعديلها واستبدالها بأحسن منها مخافة أن يكون من وراء نشوئها السريع اضطراب هائل يستحيل غالباً إلى نزع فوفاة.

وهكذا أسس واشنطون مدينته الجديدة على العدل والآداب العامة قال لما سلم القائد قورنفاليس الإنكليزي: رجائي أن تعلم هذه الحوادث إنكلترا بل تعلم الظالمين قاطبة في العالم أن أحسن طريق يقود على التحقيق إلى الشرف والمجد والفضل الحقيقي هو طريق العدل ومذهب الإنصاف ولذا كان الصراط السوي الذي سلكته الولايات المتحدة في ارتقائها أن لا تتساهل بمبادئ العقل والحكمة وهما نتيجة مادة جديدة سعياً وراء مطامع هي من الجنون المطبق فالولايات المتحدة على ما ذكر حرة مطلقة تفيض بالحماسة البطيئة وتتفي الفتوحات ولا ترضى لنفسها أن تكون مملكة على قدم الجهاد أبداً كمملكة قيصر أغطس.

هذا هو مبدأ واشنطون الذي سنه لأمته فلذلك جعلت الولايات المتحدة شعارها أن لا تتداخل أصلاً في شؤون غيرها وأن تضرب صفحاً عن الذهاب إلى أوربا. ولكن جاء بعد واشنطون وبنيامين فرنكلين جايمس مونرو السياسي العظيم خامس رئيس لجمهورية الولايات المتحدة وجعل شعاره أميركا للأميركيين فيقتضي إبعاد الأوربيين عن أميركا وهكذا كانت مقاصد زعماء السياسة في تلك البلاد امتناع أميركا عن التداخل في شؤون أوربا حتى لا تحمل هذه بأن تجعل أميركا مستعمرة لها. وهي القاعدة التي يجب أن يجري عليها كل شعب فتي أمام الشعوب القديمة يود أن ينمو حراً على ما تقتضيه قواه ومصالحه ولم تفكر الولايات المتحدة إلا في الاحتفاظ بحقوقها ومصالحها ولو أدى بها ذلك إلى سلب حقوق الجمهوريات الصغيرة بالقوة أحياناً. وبالجملة فإن معنى ما كان الأمريكان يتطالون إليه كان محصوراً في قولهم أنا وأود أن أكون.