مجلة المقتبس/العدد 4/ريح سموم

مجلة المقتبس/العدد 4/ريح سموم

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 5 - 1906



وبربك القيوم، ما الذي تظنه يدوم، صوت سمعته في الكروم، وقد مرت عليها ريح سموم، فجفت الأرض وعادت جزرة كثيرة الكلوم، وسقطت الجفان عن فسائلها، وفزعت أوراقها إلى الغيوم، صوت صاروخ من وراء النجوم، ما الذي تظنه يدوم؟

من صروح زاهية فخيمة، من رياض زاهرة كريمة، من بروج شاهقة عظيمة، من معامل حديثة أو قديمة، ما الذي تظنه يدوم.

من أسراب منورة تحت الأنهار، من أرتال فيها تدفعها الكهربائية أو يجرها البخار، من بوارج ماخرات في البحار، من أساطيل تنذر بالدمار، من معالم في الأمصار والأقطار، ما الذي تظنه يدوم.

من أنفاق تحت الأديم ملؤها عجاجة، تنفثها وتثيرها القطر الولاجة، من قباب بين السحاب وهاجة، من جسور فوق المياه جسيمة، من متاحف في عواصم العالم فخيمة، ما الذي تظنه يدوم.

من سدود محكمة منيعة، من خلج كونتها الطبيعة، من ترع تؤلف بين البحار، وتجمع بين بعيد المطارح وشاسع الديار، من خطوط حديدية تطوق الأرض، من أسلاك برقية تطوي المسافة في الطول والعرض، ما الذي تظنه يدوم.

من أبنية ذات الطبقات العشرين، من أحياء في المدن الكبرى يأوي إليها المساكين، من معابد وبيع لا أثر فيها للدين، من أصقاع لا صوت فيها للصالحين، ما الذي تظنه يدوم.

من قصور مكتنفة برياض خضراء، من صروح الكبراء والأمراء، من بيوت الرؤساء والأغنياء، من أكواخ البؤساء والفقراء، ما الذي تظنه يدوم.

من شرائع ودساتير ونظامات، من تقاليد وعوائد وخرافات، من أديان وعقائد وخزعبلات، من دول وممالك وحكومات، من أحزاب وطوائف وجماعات، ما الذي تظنه يدوم.

صوت صارخ من وراء الغيوم، صوت ريح سموم، أي شيء يدوم.

مهلاً مهلاً أن هذه كلها لصالحة في ذاتها، إن هذه كلها لحسنة في وقتها، لكل شيء من العز والمجد أركان، لكل شيء من أبناء البطر والأشر أعوان، لكل برهة من دهره الوسنان، ساعة أو عام أو حين من الزمان، الطويل من الدهر والقصير سيان، ولكن قل لي بربك القيوم مبدع الشمس والنجوم، أتظنها إلى الأبد تدوم.

إلى حين يا أخي إلى حين، إي ورب العالمين إلى حين، وبعد فقل لي هل أنت من الممترين، أم أنت من المفندين السائلين.

أما في زمانك تأملت المغاور في الصخور، فاذكر أن الأمطار والرياح تكونها، والأمطار والرياح تهدمها، إن كل صالح مقبول حتى يظهر على ميدان العالم قائم على المظالم البشرية، أو مناضل عن الحقيقة الأخوية، أو باذل مهجته في سبيل الإنسانية، إن كل شيء في مركزه حريز حصين، إلى أن يزلزله رجل حصيف رشيد، أو امرأة صالحة ذات رأي سديد، فيعلو إذ ذاك صوت المطالب بحقوق المستضعفين المستذلين، ويلحق الجبارون بالأخسرين، أبد الآبدين ودهر الداهرين.

وبعد أن تلاشت ريح السموم فوق الجبال، تلاها نسيم لطيف الاعتلال، فدخلت معه غابة من الصنوبر كثيفة الظلال وسمعت من خلال الأغصان، صوت المحبة والمعروف والحنان، سمعت صوتاً يقول ورب الأكوان، لا يدوم إلا بالإحسان والعرفان، لا يدوم إلا السجايا الروحية الفريدة، سجايا النفس البشرية الخالدة، لا تدوم إلا آثار النهضات الجليلة، ومآثر الأنفس السامية النبيلة، وما أسخف الجدل الوهمي أمام مشروع جليل، وما أوهن التعاليم الوضعية في وجه خطب جسيم، وما أوهى الأقوال والآراء إذا قوبلت بنظرة من رجل عظيم، أو صادفت نفحة من نفحات حكيم، وعندما يرفع مثل هذا رأسه وصوته ولا فرق عندي رجلاً كان أو امرأة يقف دولاب الأعمال، ولا يبقى شيء على حال، عندئذ يبطل الجدال، وتنكسر شوكة المال، وتحشر الرجال، وتكبر الآمال، يومئذ تنقلب المجتمعات، وترتعد فرائص الطغاة الجفاة، عندئذ تتغير العادات وتهب على الأرض الذاريات السافيات، فيسأل السائل من وراء النجوم أين مالكم ونفوذكم، أين تقاليدكم وعقائدكم، أين شرائعكم ودساتيركم، أين حصونكم وصروحكم، أين مصانعكم ومعاهدكم، أين زخرفكم وسفاسفكم. فقل أن هي الأبرهة من الدهر الوسنان، ساعة أو عام أو قرن من الزمان، قل وبرب الأكوان، لا بقاء لما سوى آثار الجد والعرفان، والمعروف والحب والإحسان، فهي هي الجبال الراسيات، وهي هي الحصون الواقيات، وهي هي الباقيات الصالحات، بلى ورب السماء والنجوم، لن تدوم إلا آثار النفوس الطاهرة ووجه ربك الحي القيوم.

لبنان

أمين ريحاني