مجلة المقتبس/العدد 42/سير العلم والاجتماع

مجلة المقتبس/العدد 42/سير العلم والاجتماع

مجلة المقتبس - العدد 42
سير العلم والاجتماع
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 8 - 1909



اللغة العثمانية

معلوم أن اللغة التركية العثمانية اليوم مؤلفة من ثلاث لغات التركية الأصلية والعربية والفارسية وإن الألفاظ العربية في العهد الأخير كثرت فيها جداً حتى تكاد تجد في الصفحة الواحدة ثلاثة أرباعها من الألفاظ العربية وربما أكثر وقد شق هذا الأمر على إقدام إحدى جرائد الأستانة فقامت تطلب تصفية اللغة العثمانية من الألفاظ العربية وقد ردت الجرائد الأخرى على هذا الرأي ويفته وفي مقدمتها جريدة تصوير أفكار بقلم صاحبها أبي الضيا توفيق بك الكاتب المشهور فقال من مقالة له ما تعريبه: زعمتم أن يوسف الثاني ملك النمسا كان أخذ على نفسه نشر اللغة الألمانية بين المجر فانتبه المجريون لما يراد بلغتهم وأخذوا يطرحون منها الكلمات الزائدة من اللاتينية والألمانية فتم لهم أن يكونوا اليوم أمة وأن البلغار وإن كانوا في الأصل أتراكاً أبدلوا لما نزل قسم منهم أوروبا مذهبهم ولسانهم بالنصرانية والسلافية فغدوا ينظرون إلينا نظر الخصومة كأننا لسنا منهم وليسوا منا في شيء، ولكننا لو نظرنا إلى تاريخنا وكيف تألفت جنسيتنا لا نحتج بمثل هذه الحجج.

فإنا لقوم (الترك) قد دفعتنا أيدي بكواتنا وأمرائنا وكنا عبارة عن ألف أو ألفين من الرجال اضطرتنا غارات جنكيز إلى الرحيل عن أوطاننا فجئنا إلى القرب من هذه العاصمة ونزلنا قصبة سكود ومنذ ذاك العهد حتى أواخر سلطنة سليمان القانوني أيام بلغنا غاية الغايات في فتوحاتنا ووصلت قوتنا إلى أرقى مراقيها أخذنا ننتشر في قارات الدنيا الثلاث الكبرى فجمعنا تحت لواء حكومتنا نحو عشرين إلى ثلاثين جنساً ومثل هذا العدد من الأديان والمذاهب حتى لقد استولينا أيضاً على جزء من بلاد المجر المبحوث عنها آنفاً.

وإذ تعذر في العهد الأخير أن تتقدم سياسة التغلب إلى الأمام التي لم تكن مبنية على مقصد خاص على نحو ما كانت سياسة بطرس الأكبر امبراطور روسيا مثلاً ولما لم تكن سياستنا نتيجة فطنة وتأمل قائمة على أساس متين انحلت عرى هذه الأجناس المتحالفة التي لم يدرك بادئ بدءٍ أن الضرورة تدعو إلى توحيدها لأدنى خلل عرض لقوة الدولة.

ثم إن الرابطة التي تربطنا والشعوب الإسلامية ومن هم قوام روابطنا كالعرب والأكراد وبعض العشائر المغولية التي سقطت إلى هذه الأرجاء وتوطنت فيها ومن تركناهم ن أولاد الفاتحين ومن تفرقوا من المجاهدين اتباع بكوات الروملي فانتشروا في تلك الديار أن تلك الرابطة قد دعت إلى أن يمتزج هؤلاء بأهالي البلاد الأصليين أي بالبلغاريين والصربيين والارناؤد والبوشناق فأخذ هؤلاء يدينون بالإسلام حتى أصبح نحو نصف سكان تلك الأقطار الواسعة من المسلمين، واضطر أولئك المسلمون إلى تعلم أمور دينهم وبهذه الواسطة انتشر اللسان العثماني وتغلب الفكر الديني على الجنسي وأنشأ أولئك الشعوب يعتقدون بأن السلطنة العثمانية حامية الدين وسلامتها سلامة لهم في الدارين وبفضل هذا الاعتقاد غدا أهالي البوسنة المسلمون خاضعين للحكومة النمساوية وهم لا يقلون عن 510000 نسمة ينظرون إلى النمسويين نظر الأعداء مع أنهم من عرق واحد، ومثل ذلك قل في البوماقيين والجناقيين وغيرهم من سكان بلغاريا ممن يرون السلافيين أعداءهم على حين هم وإياهم من أصل واحد ولا يستثنى من ذلك إلا الأرناؤد فإنهم في بلادهم يفضلون الجامعة الجنسية على كل جامعة فيدين المرء فيها بما يريد ولا من يسأله عن معتقده دان بالإسلام أو بالنصرانية لأن مسائل الاعتقاد من الأمور الوجدانية النفسانية ولكن يبقى للجنسية القول الفصل بينهم فإذا استباح حماهم أجنبي يقوم المسيحيون والمسلمون يذودون عن حياض بلادهم قومة رجل واحد بمعنى أنه لم تنشب قط ولا تنشب فتنة باسم الدين في بلاد الارناؤد فاللسان التركي الذي نستعمله منذ ستمائة سنة مؤلف من ثلاث لغات وقواعد صرفه ونحوه هي من الأصول المتحصلة من القواعد التي اقتبسها العجم عن العرب ولذلك أصبح لغة قائمة برأسها ولهجة خاصة بالعثمانيين فقط، وبقدر ما بين التركية الشائعة فيما وراء النهر والتركية المستعملة في آذربيجان والتركية التي يتكلم بها بعض الشعوب الأتراك في قافقاسيا والتركية المستعملة بين التاتاريين في القديم من الفروق فالفرق كذلك بين لغتنا ولغتهم.

وبالجملة فإن ما فقدته الدولة العثمانية من أملاكها بعد دور الفتح من البلاد وما خسرته بعد عهد السلطان سليمان من النفوس مما لا يقل عن ثلاثة أرباع السكان وما نحن مضطرون ومفتقرون إليه من تعلم اللغة العربية التي هي لسان شريعتنا وعقيدتنا مع كل هذا هل جذب العربي التابع لنا التركي إليه وصبغه بصبغته أم نحن صبغنا العربي بصبغتنا، وما أدري كيف نشأ خيال الخوف من فقدنا وطنيتنا إذا لم تداركه بتصفية لساننا فقد رأينا جميع أبناء العرب النازلين في المدن والبلاد الواقعة بين الاسكندرونة وبغداد يتكلمون بالتركية ولقد أنسنا بشرف اللقاء في مجلس النواب بأناس من مبعوثي العرب يطلق عليهم لقب آغا ولكنهم يفوقون بفضائلهم وكمالهم كثيراً من وزرائنا فكان الحلبيون والرهاويون والعينيون (أهل أورفه وعنتاب) والمواصلة والكركوكيون والسليمانيون والبغداديون يتكلمون ويكتبون بهذه اللغة العثمانية الممزوجة من التركية والعربية والفارسية بلسان يشف عن فضل بيان وإحسان لا يضاهيهم فيهما إلا قلائل منا وما ذلك إلا أثر من آثار انتشار آداب التركية الجديدة بينهم لا التركية القديمة.

وعاد الكاتب المشار إليه في عدد آخر يقول في الرد على مناقشيه: إن اللسان العثماني هو لسان الأمة التي أنشأت هذه الدولة العثمانية من الأتراك وغيرهم من الشعوب الذين اتحدوا معهم افترق كل الافتراق عن تركية الجغتاي لمقصد سياسي بل من الواجب عليه أن ينفصل عنها وذلك لاشتراك الشعوب الكثيرة التي دخلت دائرة اتحادنا فأنشئت هذه الهيئة الاجتماعية ولذا لا تجد حاجة لها أن تتخاطب وتتكاتب بألف باء أويغور وتركية ما وراءِ النهر.

فما دامت ألف بائنا اليوم هي آلة الكتابة المشتركة التي اتخذها العرب وأضاف إليها الفرس أربعة حروف فعبروا بها عن لغتهم وما دمنا نرى من الواجب علينا أن نقلد العرب بسائق الدين ونقلد الفرس بسائق الأدب ونحن في حاجة ماسة إلى الأخذ من مؤلفات العرب والفرس والانتفاع بما خلفوه من علومهم منذ ألف وثلاثمائة سنة وما دامت مصنفاتنا العثمانية منذ ستمائة وخمسين سنة قد دونت من هذه اللغات الثلاث فنشأت عنها اللهجة العثمانية ما دام الأمر كذلك فنحن نأخذ في كل عصر من خزائن معارف هذه اللغات الثلاث ولا نتخذ عنها بديلاً، ولعمري ماذا نجني من الفوائد إذا قلدنا اليوم البخاريين والخوقنديين والكشغريين بلهجاتهم وكتابتهم ولكن هذه الشعوب إذا قلدتنا في لهجتنا تقترب من منهاج معارفنا فتستفيد من ذلك فوائد حسنة.

مقاومة الكحول

يشتد حملة الأقلام وأمراء البيان في الممالك الإفرنجية يوماً بعد يوم في مقاومة المسكرات وذلك بواسطة جمعيات نذر أعضاؤها على أنفسهم أن يقعدوا للمسكرات كل مرصد وقد كانت سويسرا من أول الأمم التي قاومت انتشار الابسنت منذ ثلاثين سنة فصدعت الحكومة هناك بأمر الشعب وإرادة الشعب حكم وعملت على ما اقتضاه منه المقاومون للمسكرات على كثرة خصومهم بادئ ذي بدء والموافقون على المنع رجال الصحة والأدب والجمعيات الطبية والسياسية والكنائس والأحزاب السياسية المتطرفة من كاثوليك وبرتستانت ولم يقف على الحياد في هذا الباب سوى الحزب الراديكالي.

وقد سبقت فنلندا سويسرا في مقاومة المسكرات فأصدرت حكومتها أمراً منذ سنة 1882 بمنع بيع المسكرات بالمفرق للناس والاتجار بها وجعلت بيعها بيد جمعيات تنفق ريعها على ما من ورائه فائدة عامة، وهذه الجمعيات تقاوم السكر بكل ما فيها من طاقة وتصد العامة من غشيان الفنادق وتدفعهم إلى الاختلاف إلى المطاعم الصحية التي لا تبيع المسكرات وأخذت تلك الجمعيات تدخل في دروس المدارس مضار المسكرات وتنفر الدارسين من تعاطيها، وحذت النمسا حذو الأمم العاملة على تقليل المشروبات فأنشأت جمعيات تصد العملة عن الشرب وأفلحت في تكثير سواد أفرادها وأنصارها وقد جعلت جمعية نقابات العملة شعارها: إن المشروبات الروحية منبع الأضرار العظيمة على طبقة العملة تسلبهم قواهم الطبيعية والعقلية اللازمة لهم في جهاد الحياة.

وهكذا ترى الحال في معظم الأمم الأوروبية ولاسيما في الممالك الصغرى مثل السويد والنرويج والدانيمارك وهولانده والبلجيك وبلغاريا، وهذه الإمارة الأخيرة أخذت منذ أسست سنة 1878 تقلد الأوروبيين في مناحيهم وأحبت مخالفة القواعد التي كانت مرعية فيها على عهد حكم العثمانيين عليها من وضع العقبات في سبيل المسكرات ولكنها عادت ففكرت في العاقبة حتى قل فيها تعاطي المشروبات كثيراً في البلاد التي تكثر فيها الكروم وأخذ البلغاريون يرددون المثل البلغاري السائر بينهم وهو أن الماء لا يقلق الرأس ولذلك جعلوا شربهم الماء الصرف وقد لا يتناولون المسكرات في بعض أعيادهم وهي لا تتجاوز الخمسة أو الستة أيام في السنة كلها.

وانتبهت بعض ولايات أميركا الشمالية إلى مضار المسكرات فسنت منذ سنة 1846 قانوناً لحظر بيعها بالمفرق ومن هذه الولايات كنساس وميسيسيبي وألاسكا وغيرها وقد عادت بعض الولايات أيضاً بعد أن رأت فائدة المنع مثل ولايتي الأباماوجيورجيا فسنت قانون الحظر لتنقذ سكانها السود من الموبقات وسكانها البيض ولا سيما النساء من اعتداء الزنوج عليهن وبذلك أخذ يقل توقيف المعربدين والجناة شهراً عن شهر في تينك الولايتين قلة محسوسة.

أما المملكة العثمانية فمع أن دين حكومتها هو الإسلام والإسلام أشد الأديان في حظر المسكرات فتراها أمس واليوم تشدد على المسكرات طاهراً ويهمها في الباطن ولاسيما قبل أن تكون دستورية ترك الأمور لطبائعها حتى تستفيد الديون العمومية من رسوم المسكرات، ويا حبذا لو فكر مجلس الأمة في سن قانون شديد للمشروبات الروحية والإكثار من الرسوم عليها إكثاراً لا يستطيع معه حتى الأغنياء تناولها وبذلك تنتفع البلاد نفعاً تقدره قدره بعد سنتين عندما يصبح معظم أبنائها متعلمين مهذبين بفضل التعليم الإجباري، وبعد تعريب ما تقدم منعت الدولة العلمية دخول الالكحول التي تعمل من غير العنب إلى بلادها وأن لا يدخل إليها من الالكحول (اسبرتو) إلا ما كان ممزوجاً ببعض الأجزاء فيستعمل في بعض الصناعات فحبذا يوم تمعنه على اختلاف ضروبه.

الإعلانات

يؤكدون أن الولايات المتحدة تنفق في السنة 250 مليون ليرة على نشر الإعلانات حتى أن بعض أصحاب معامل الصابون ينفقون كل يوم على إعلاناتهم 250 ليرة وقد أرسل أحد المخازن مؤخراً إلى زينه قوائم ببضائعه عدد صفحات كل قائمة ألف صفحة ووزنها ثلاث ليبرات فكان ما كلفه ذلك أجرة نقلها في البريد فقط 640 ألف دولار أو 128 ألف ليرة انكليزية، وقد أنفق أحد أصحاب معامل الأمواس هذه السنة خمسين ألف فرنك زيادة عن السنين السالفة لنشر إعلاناته فباع ستة ملايين موسى زيادة عن القدر الذي كان يبيعه في الأعوام الماضية.

الصحة في أسوج ونروج

أهل المماليك الصغرى في أوروبا من أسعد الناس حالاً وأنعمهم بالاً، فترى نروج متقسمة إلى مناطق طبية ولكل مقاطعة طبيب تعينه الحكومة وتدفع إليه راتبه وفي كل مديرية مجلس صحة يرأسه مفتش صحة وطبيب له سلطة تامة على المديريات والأفراد ويلقنون الطفل في المدرسة مبادئ حفظ الصحة فيجد فيها التلميذ حمامات ورشاشات (دوش)، وجميع الأمة تعتقد بتأثير المكتشفات العلمية والطبية وكلها تقوم بالواجب في أي مكان كان والناس يقومون أحسن قيام بالتدابير الصحية دون أن يتأففوا أو يحالوا التملص منها، وقد كان معدل الوفيات في أسوج 7و17 في الألف سنة 1881 فنزل سنة 1906 إلى 3و14 ومعدل وفيات الأطفال 7و112 في الألف فنزل إلى 83 وكان عدد سكان أسوج سنة 1881 ـ 4572245 فأصبح سنة 1906 ـ 5327055، وكان معدل الوفيات في نروج 16 في الألف سنة 1880 ووفيات الأطفال 9و95 فنزل سنة 1906 إلى 5و13 في الألف و 4و69 في الأطفال وبعد إن كان عدد سكانها سنة 1880ـ 1908512 أصبحوا سنة 1906ـ 2296300 كل ذلك بالمحافظة على الصحة على ما يوجبه الشرع والعقل.

العطورات والأخلاق

جاء في إحدى المجلات الافرنجية: الظاهر أنه تمكن معرفة أخلاق الناس من الطيوب التي يستعملونها حتى أصبح الآن من القواعد النفسية الجديدة قولهم: قل لي كيف تتطيب حتى أقول لك من أنت كما قالوا قل لي من تعاشر لأقول لك من أنت كلما قوي الشعور في الأعصاب الشامة كانت طبيعة المرء مهمة وعقله حصيفاً ولطيفاً فروائح الطيب الهندي والرائحة المعروفة برائحة قبرص وجلد إسبانيا وكلها مما لا يحمد أمره لأن مستعمليها يكونون من أرباب التأثر والهذر والرفاهية يصابون بكسل مزمن في عقولهم ويميلون إلى الإسراف ويستمدون للسمن، أما المولعون بعطر المسك فهم من فطرة أحط من أولئك أيضاً ويعرفون بالبلادة والتوحش على أن استعمال عطر المسك مع عطر آخر يدل على عقل راق، وفي العادة إن المولعين بعطر البنفسج من المستنيرين الذين يحبون الجمال على اختلاف مظاهره ولكن من يستعملون ماء الكولونيا يفوقون غيرهم بكثرتهم ووفرة فضائلهم، ويصعب إعطاء صفة لمستعملي عطر الكوريلبسيس الياباني لأن طبائعهم غريبة يجمعون إلى حب الغرائب فطرة خبيثة قد تكون نائمة في نفوسهم فلا تلبث أن تنبعث في حالة غير منتظرة وتظهر متجلية كالشمس في رابعة النهار.

هبات الأميركيين

بلغ ما جادت به نفوس المحسنين وأغنياء الأميركان منذ الحرب الأهلية حتى الساعة بليون ريال على أقل تعديل جادوا بها على إقامة المدارس والمكاتب والمستشفيات غيرها من الأعمال العلمية والخيرية العامة، ومن أوائل المحسنين المستر سلاتير وهب مليون ريال لتهذيب الزنوج والمستر بيبادي وهب كثيراً من ماله فمنح دفعة واحدة خمسة ملايين ريال لتصرف في سبيل التعليم، ومن محسنيهم المستر ليلاندستانفورد أنشأ جامعة كبيرة فمنحها دفعة واحدة عشرين مليون ريال، ومن محسنيهم أو محسناتهم مسز اليصابات اندرسون ومسز رسل ساج ومنهم مورغان وكارنجي وروكفلر فهبات الأول مكتومة وإن كان يعرف منها الشيء الكثير وبلغت هبات الثاني مئة مليون ريال وهو عاقد العزم أن يوزع ثروته البالغة ثلاثمائة مليون في الأعمال التي يعود نفعها على مجموع امته وجاوزت هبات الثالث مائتي مليون ريال، يجودون بأموالهم التي اكتسبوها في الغالب من التجارة والاقتصاد من الأمة التي كان بعض أفرادها خداماً لهم وأعواناً على إثرائهم وذلك على طريقة لا تدخل الكسل على الناس بل على العكس تدعوهم إلى اقتفاء آثارهم والائتمام بهديهم ولطالما سمعنا أن فلاناً يجود بمبلغ كذا إذا جاد الناس بمثله فلا يلبث المبلغ المطلوب أن يجمع فيدفع الكريم ماله راضياً، ولو جمع ما جاد به هؤلاء الأغنياء وأمثالهم على المعاهد العلمية والصحية فقط خلال الأربعين سنة الأخيرة لا بتيع به ممالك كبرى من ممالك الشرق ولاحتقر الشرقي نفسه وأمته ونعى فقرها المدقع وجهلها المطبق.

كليات إيطاليا

نشرت مجلة التعليم الدولية إحصاءً بكليات ايطاليا السبع عشرة وما فيها من الطلبة فكان مجموع من في كلية نابولي 5856 طالباً منهم من يدرسون العلوم ومنهم الطب وبعضهم الصيدلة وفي كلية رومية 3069 وفي تورين 2083 وفي بولونيا 1695 وفي بافيا 1360 وفي بادو 1299 وفي بيز 1186 وفي بالرمة 1131 وفي جين 1095 وفي كاتان 842 وفي بارم 532 وفي مودين 431 وفي ماسراتا 356 وفي كاكلياري 245 وفي سين 240 وفي ساساري 198 وإذا أضفنا إلى هؤلاء التلامذة مجموع ما في الكليات الحرة وهي كامارينو وفرار وبروز واورين يبلغ مجموع الطلبة في الكليات الإيطالية 24644 منهم 4356 في الطب و 3322 في العلوم و 2271 في الصيدلة.

الأمويون والعباسيون

التي رفيق بك العظم خطبة في نادي دار العلوم في القاهرة في أسباب سقوط الدولة الأموية والعباسية قال فيها: كان الأمويون شديدي الحذر من آل علي كما ذكرنا وكان هؤلاء بعد نكبتهم في خلافة يزيد قليلي الجرأة على الظهور لشدة العمال عليهم ومراقبتهم لحركاتهم وسكناتهم ولأن الخلفاء من بني أمية كانوا مع شدة حذرهم منهم يراعون مكانتهم ويحسنون إليهم فلم ينزع أحد منهم إلى الخروج عليهم لضعفهم إلا زيد بن علي فقد خرج في خلافة هشام فقتل في الكوفة وقتل ابنه يحيى في خراسان أما تميم أبي هاشم فقد كان بأمر سليمان بن عبد الملك لأنه خاف جانبه لما رأى فيه من النجابة والذكاء.

وربما كان هناك سبب آخر لضعف آل علي من بني فاطمة وهو أن الذين بقوا منهم أحياء بعد نكبتهم في كربلاء كانوا أطفالاً لا يصلحون لقيادة الناس فالتف الشيعة حول محمد بن علي المعروف بابن الحنفية من غير ولد فاطمة وهكذا ساقوا الإمامة في بنيه من بعده كما ساقها غيرهم إلى بني فاطمة أيضاً وانتقلت من ثم إلى أبي هاشم إلى بني العباس.

لا جرم أن سليمان بن عبد الملك جنى على دولته بقتل أبي هاشم لأن آل علي كانوا لشدة ما عانوا من المراقبة والاضطهاد شديدي الحذر بطيئي الخطى في الوثوب على الخلافة الأموية والظهور لمنازعة الأمويين عليها فتلقى العهد بها آل العباس وهم بعيدون عن سوء الظن والمراقبة لم يعانوا مشاق الدعوة ولم يذوقوا طعم الاضطهاد فيخافون الوقوع فيه: ولذا ما لبث أن عهد إلى محمد بن علي بالأمر حتى نهضوا بأعباء الدعوة بجرأة عظيمة وكان لابراهيم بعد موت أخيه محمد ما كان مع أبي مسلم بتفويض أمر الزعامة إليه وقيام هذا بث الدعوة أحسن قيام حتى استفحل أمرها وظهرت على خصومها.

أحس الأمويون بهذا الخطر السريع فبادروا ابراهيم الإمام بالقتل فنهض أبو العباس السفاح بعد قتل أخيه ابراهيم وعاجل الأمويين بالوثوب عليهم قبل أن يدب الفشل في أهله وشيعته منتهز الفرصة وقوع الشقاق بين الأخوة وأبناء الأعمام من آل مروان وتلظى المملكة الأموية بنار الفتن وظفر بما أراد وقضى على دولة الأمويين في المشرق فذهبت كأن لم تكن بالأمس.

على أن ظفر العباسيين على هذا الوجه وبهذه السرعة له بواعث وأسباب أخرى كاختلال نظام الدولة وغيره أرى أن ألم بها على قدر ما يمكنني من الاختصار.

تعلمون أن الدولة تموت برجل وتحيا بآخر وأن الرجال في الدول قليل والدولة الأموية لما فقدت رجلها فقدت جانباً عظيماً من قوتها وأعني بأولئك الرجال الرجال المخلصين الذين يخدمون الدولة بمنتهى الصداقة بقطع النظر عما ينسب إلى أفراد منهم من القسوة فيتهمونهم من أجل ذلك بالظلم إذ الرجال يصطبغون بصبغة الدولة ويتشكلون بشكلها والدولة الأموية لما كانت دولة مطلقة لزم أن يسير عمالها على سننها.

من رجال الدولة الأموية المخلصين، موسى بن نصير، والحجاج بن يوسف، وخالد بن عبد الله القسرى، ويزيد بن المهلب، وقتيبة بن مسلم وإضرابهم ومن خطاء الخلفاء الأمويين أنهم لم ينصفوا أمثال هؤلاء الرجال فأحرجوا من أحرجوه منهم حتى أخرجوه فقتلوه كخالد بن عبد الله وقتيبة بن مسلم ويزيد من المهلب الذين ذهبوا ضحايا سوء التفاهم، وموسى بن نصير الذي زج به في السجن في نظير فتحه الأندلس ومات أقبح ميتة ففقدت الدولة بفقد هؤلاء الرجال وأمثالهم جانباً لا يقدر من قوتها وأخذت تنحط من ثم هيبتها أما الحجاج فموته في الحقيقة مبدأ افول نجم الدولة الأموية لأنه كان يدها التي بها تضرب وعينها التي بها تبصر فإنه بعد أن أخمد لهم فتنة ابن الزبير كان والياً على الكوفة واليه ولاية خراسان وكلا المكانين عش الفتنة ومنبع الدعوة الأمامية ومع هذا فقط ضبط البلاد وأرهب ببطشه المنازعين للدولة والنازعين إلى الشغب، وأحسن في انتقاء العمال والقواد فامتد ملك الأمويين على عهده إلى كابول من بلاد الأفغان شرقاً والتركستان الصينية شمالاً ولو وجد بعده من يخلص من الولاة للدولة إخلاصه ويكون في مثل حزمه وعزمه لطال عمر الدولة الأموية بلا ريب.

ولعل نوابغ الرجال يكثرون في مبدأ نشوء الدولة وإن كانت هذه النظرية تحتاج إلى تمحيص.

ومما ساعد أيضاً على اختلال نظام الدولة الأموية تباعد أطراف المملكة بما صار إليهم من الفتح إلى عهد هشام بن عبد الملك إذ اتسعت دائرة ملكهم إلى ما لم تبلغه قبلهم غير دولة الرومان.

فما بين النهرين المعروف بالجزيرة وإيران وقسم من الأفغان والتركستان والتبت والقوقاس وأرمينيا وشبه جزيرة العرب وسورية ومصر والمغرب والأندلس كل هذه الممالك دخلت في حوزتهم وأصبحت خاضعة لسلطانهم، وضبط مثل هذا الملك المترامي الأطراف مع صعوبة المسالك والمواصلات لذلك العهد متعذر جداً ولاسيما على أمة حديثة عهد في سياسة الأمم، ولذا فقد كانت الفتنة في طرف من أطراف المملكة بين الجنود والأمراء المتنازعين على الولاية وتنتهي بقتل وال وقيام غيره وربما انتهت بغلبة المشاغب أو المتنازع وضم البلاد إلى حوزته واستقلاله بالولاية عليها دونه وفصلها عن جسم الدولة والخليفة لا يعلم ذلك أو لا تصل قدرته إلى إخماد نار الفتنة في تلك البلاد النائية.

مثاله ما وقع في المغرب في خلافة الوليد بن يزيد سنة سبع وعشرين ومائة إذ تنازع عبد الرحمن بن حبيب من ولد عقبة بن نافع الفهري فاتح إفريقيا مع حنظلة بن صفوان وإلى إفريقيا فكانت الغلبة للأول واستأثر بالسلطة على البلاد وبقيت إفريقيا مستقلة عن الخلافة الأموية حتى قيام الدولة العباسية.

ومثل هذا وقع في الأندلس وفي بعض الأطراف السحيقة ولا يخفى ما في هذا من الوهن والخطر على المملكة.

ثم إن من الامور الثابتة في الاجتماع أن الدول الحربية الفاتحة لا تزال في أفق مجدها ما دامت على جانب الخشونة وما دام الراعي والراعية مترفعين عن الانغماس في الترف والاستغراق في ملاذ الحضارة، وقد عرفنا هذا في كثير من الدول البائدة كدولة اليونان وخلفاء داراً والاسكندر (أي البطالسة) والرومان حتى لقد قال مونتسكيو في تاريخه أسباب صعود الرومان وهبوطهم: إن دخول الرومانيين إلى الشام كان مبدأ ضعفهم بسبب ما كان متسلطاً على أهلها وملوكها من الرخاوة والترف.

والدولة الأموية إنما هلكت في نفس تلك البيئة التي هلك بها الرومان من قبل وبعد أن حافظت على خشونتها الأولى إلى خلافة هشام بدأت في خلافة الوليد بن يزيد المعروف بالتهتك تنحط عن خشونتها التي عرفت بها وأخذ الخلفاء من ثم يميلون إلى الترف والراحة والاستغراق في الملاذ تبعاً لأحوال البيئة التي نشأوا فيها وهذا بالضرورة كان من الأسباب التي عجلت على دولتهم يضاف إليه انقسام العرب في خراسان التي هي منبع الدعوة العلوية والعباسية إلى مضرية ويمانية وتنازع رؤسائهم على الولاية في إبان استفحال الدعوة.

مثاله ما وقع بين الحارث بن سريج والكرماني وبين هذا وقحطبة وبينهما وبين نصر ابن سيار حتى ملت نفوس العرب هذه الحال وسئمت ممارسة الحرب ورأوا أنفسهم اتباع ضحايا لقحطان وعدنان تزهق في سبيل المتنازعين على الخلافة من قريش حتى قال قائلهم:

تولت قريش لذة العيش واتقت=بنا كل فج من خراسان اغبرا

فليت قريشاً أصبحوا ذات ليلة=يعومون في لج من البحر أحضرا

لا جرم أن الذي بث روح الشقاق بين العرب في خراسان إنما هم أهل الدعوة الهاشمية 3 من علويين وعباسيين والذي أنجح قصد أبي مسلم في نشر الدعوة العباسية وقلب الدولة الأموية تواطؤ سكان البلاد الأصليين على قهر الأمويين وفل عصبيتهم العربية وقد عرف ابراهيم الإمام منازع الفرس وعلم أن دولته تقوم بغير العرب من الناقمين منهم وأن العرب شديدو العصبة للأمويين لاصطباغهم بالصبغة العربية الخالصة فكتب فيما كتب إلى أبي مسلم أن لا يبقي على عربي في خراسان أن استطاع فجعل رجال الدعوة يضربون العرب بعضهم ببعض لأن قسماً كبيراً منهم ممن نقم من الأمويين قبل الدعوة وصار من القائمين بها العاملين على تشييد دعائمها تعبداً واعتقاداً.

هكذا أثمر الغرس الديني الذي غرسه قبل ذلك بقرن ابن سبأ وإضرابه من الموالي الناقمين من الدولة السائدة واستحال على العرب في المشرق استبقاء السلطة خالصة لهم دون الأمم الأخرى المحكومة منهم وقد جرت سنة الوجود هذا المجرى في كثير من الأمم من قبل.

قال مونتسكيو: اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون للمالك حدود طبيعية تمسك باعنة الملوك عن تجاوز هذه الحدود وتعدي بعضهم على بعض ولما تجاوز هذه الحدود الرومانيون أهلكهم البرث أي قدماء الفرس وبددوا شملهم ولما تجاوزها البرث أنفسهم اضطروا لأول أمرهم للرجوع إلى أراضيهم.

وأقول أن العرب أصيبوا بما أصيب به الرومان والبرث وطبائع الاجتماع تعذر أولئك الأقوام على ما فعلوه مع العرب وحسب العرب أن نشروا بينهم دين الإسلام فلا مؤاخذة ولا ملام ولاسيما أن الإسلام يرمي بطبيعته إلى محو الحدود السياسية والجنسية بين الشعوب كما ترمي إلى مثل هذا مبادئ جماعات السوسيا لست أو الاشتراكيين أو الاجتماعيين لهذا العهد.

ورب قائل يقول أن هذا الانقلاب أي انقلاب الدولة الأموية إلى عباسية لم تكن نتيجته كلها كما يريد أولئك الأقوام المغلوبون للعرب إذ دولة الأمويين عربية قرشية ودولة العباسيين ليست كذلك.

الجواب على هذا يأتي من وجهين، الوجه الأول، إن أمم المشرق لذلك العهد قلما كانت تقدر قيمة الحرية الكاملة لفنائها في وجود زعماء الاجتماع الشرقي أو كما قال مونتسكيو أن أمم آسيا لم يكن ميلهم إلى الحرية كميل أمم أوروبا إليها اليوم أي لعهده 4 ليحملهم على الخروج من الأسر والاستعباد وإنما كان ميلهم إلى تغيير الملك ولا صبر لهم على بقائه طويلاً.

وسواء صحت هذه النظرية أو لم تصح فإنه يجوز لنا تطبيقها على الأمم التي دخلت تحت حكم العرب لذلك العهد باعتبار أن الإسلام جمع بينهم جميعاً فلا فرق عند الفرس وغيرهم أن يكون الخليفة أو الملك عربياً أو غير عربي ما دام الملك آئلاً إلى غير الدولة التي نقموا منها وما دام مصير أكثر السلطة إليهم بعد فل حد العصبية العربية التي كان قائمة في دولة الأمويين متسلطة بقوتها على كل شيء.

وقد كان ما أرادوه بقيام الدولة العباسية التي لم يكن لها من العربية إلا الاسم وهي مصطبغة بالصبغة الأعجمية مشتبكة مع العناصر الأخرى بالنسب والصهر مشاركة لهم بمصالح الدولة.

هذا الوجه الأول أما الوجه الثاني فانتظار النتيجة الطبيعية لمثل هذا الانقلاب ولوفي المستقبل البعيد وتلك النتيجة هي أن اصطباغ الدولة أو الأمة السائدة بصبغة أهل البلاد يحيلها مع الزمن إلى عنصر هذه الصبغة والعكس بالعكس إذ من الشعوب من اصطبغوا بصبغة العرب بعد الفتح فاندمجوا فيهم ومن الشعوب من اصطبغ العرب بصبغتهم فاندمج هؤلاء فيهم وهذا ما وقع لسكان آسيا الوسطى بعد قيام الدولة العباسية ثم سقوطها وقيام غيرها من الحكومات الوطنية على أنقاضها وهكذا رأينا دولة الفرس وغيرها من الدول الإسلامية ديناً المختلفة جنساً قد عادت إلى أصلها وهي قائمة إلى الآن وستبقى قائمة عزيزة الجانب منيعة الجناب إلى الأبد إن شاء الله.

وهكذا نرى الخلافة الإسلامية التي من أجلها أو باسمها تلك الدماء الغزيرة صارت إلى غير العرب اليوم وفي دولة هي أعز دول الإسلام مكاناً وأجدرها بحفظ بيضة الخلافة ولم يمنع الذين أن تكون أن تكون إليها الخلافة كما لم يمنع أن تكون فيمن يقع عليه اختيار الأمة ورضاها في عهد الصحابة الكرام ولو من غير بني هاشم والتاريخ يعيد نفسه.

أما ما يقوله بعض المؤرخين من ظلم الدولة الأموية ويعزى إليه دمارها فمبالغ فيه وما كان منه صحيحاً فهو في نظري ثانوي بالنسبة للأسباب التي ذكرتها وتكاد تكون نتائجها طبيعية وليس من دولة في الأرض قائمة بالعدل المحض حتى الدول المقيدة ناهيك بالمطلقة.

ومن قال أن دولة الأمويين كانت ظالمة وأن ظلمها هو الذي جر عليها الدمار فجاهل بأحوال الاجتماع أو متعصب لدولة أخرى ولو طولب بالدليل على أن الدول التي قامت دولة الأمويين على أنقاضها كالفرس والروم والغوط وغيرهم كانت أعدل منها لما استطاع إليه سبيلاً.

والحقيقة أن الخلفاء الأمويين كانوا أشداء على خصومهم دون سائر الناس وكانوا في منزلة من العناية بالرعية والاهتمام بالعدل بين الناس فوق منزلة كثير من الحكومات المطلقة وحسبك أن أشدهم قسوة وهو عبد الملك بن مروان استهل وصيته لابنه الوليد حين الاحتضار بقوله: يا وليد اتق الله فيمن أخلفك فيهم، والشواهد على مثل هذا كثيرة لا يسعها المقام وحسب تلك الدولة فضلاً فتوحها العظيمة التي سودت دين العرب ولسانهم على أحسن أجزاء المعمور إلى اليوم وتلك الأيام تداولها بين الناس.

التماسيح المقدسة

اعتاد بعض الآسيويين أن يعبدوا بعض الحيوانات المفترسة معتقدين أنها تحفظ في جسمها أرواح من افترست، وما زال هذا المعتقد شائعاً في الهند وفي شبه جزيرة مالقه، والزحافات في الأكثر هي التي تعبد من دون سائر الحيوانات ولاسيما إذا كانت طويلة كالتماسيح المقدسة التي تعيش في الأقاليم ذات البطائح ولكثرة اختلاف الناس إلى زيارتها تأنس بهم وتعتاد الخروج من الماء إذا ناداها الكاهن بدون أن تذعر فيناولها قطعة من اللحم وتبدي الدلال والتجني والناس مجتمعون عليها وربما رسموا عليها صوراً ورسوماً، وعند قيل راجبوتانا في الهند عدة تماسيح مقدسة يربيها في قصره وقد أنشأ لها غديراً كبيراً تشرب منه وتتمدد فيه ومئات من الهنود يأتون إلى زيارتها كل يوم ويتبركون بها.

تراجع الكثلكة

وضع يوسف كاب الفرنسيسكاني تقريراً في حالة المؤمنين بالمذهب الكاثوليكي وغير المؤمنين به فقال أنه يقل القائلون بمذهب كنيسة رومية منذ سبعين سنة وأن جماعتها لا يخرجون من دينهم علناً بل لا يهتمون لأوامره ونواهيه فكأنهم بذلك خرجوا ضمناً وأن لم يخرجوا علناً، وأكد أن من ضعف إيمانهم هم خمسة ملايين نسمة في ألمانيا وأربعة في النمسا والمجر وخمسمائة وخمسون ألفاً في أوستراليا ومليونان ونصف في البلجيك وسبعمائة ألف في كندا وأربعة ملايين ونصف في إسبانيا والبرتغال وأربعة عشر مليوناً في الولايات المتحدة وثمانية ملايين في أميركا الجنوبية وثلاثة وعشرون مليوناً في فرنسا ومليونان وربع في بريطانيا العظمى وستة ملايين في إيطاليا وثلثمائة ألف في بلاد القاع (هولاندة) وستة ملايين ونصف في روسيا ونصف مليون في سويسرا أي أن المنحلين من الكثلكة بلغوا ثمانين مليوناً من أصل مائتي مليون.

المضغ

سأل أحدهم الوزير غلادستون وهو في الثامنة والثمانين من عمره ما هو سر طول حياتك فقال له: إنني أمضغ مضغاً جيداً كل ما أتناوله من الطعام وجودة المضغ في الحقيقة من الشروط الجوهرية في الهضم وبدونها يختل نظام الصحة، وليس المصابون بسوء الهضم في العادة إلا اكولين اعتادوا أن يقطعوا الأطعمة ويبلعوها بدون سحقها بأضراسهم سحقاً كافياً وما خلقت أضراسهم إلا لتمضغ الطعام فيتعبون معدهم ويوسدون لها عملاً ليس من شأنها فيعرضونها للتمرد والإمساك والتهاب الأحشاء وهي أسباب الألم فينبغي لهم من ثم أن لا يلوموا فيه إلا أنفسهم، فتعلم إجادة المضغ من الضروريات للعالم أجمع ومن لا يمضغ يسيء الهضم ومن يسوء هضمه يعرض نفسه للمخاطر، وللمضغ قواعد أولاً التأني فبدلاً من أن يقضم الطعام قضماً ويخضمه فيجعل لقمة واحدة بحسب الإقلال منه وتجزئته أجزاءً صغرى ما أمكن وتخميره وتليينه باللعاب وإحالته كتلة تجعل على اللسان بحيث يسوغ بلعه بدون جهد، وهذا من العادات التي يجب اتباعها وهي لا تتوقف إلا على قليل من العناء بادئ بدءٍ وشيءٍ من الانتباه حتى لا ينسى الآكل ما هو آخذ بسبيله.

وقد قال غلادستون أيضاً: تكلم قليلاً خلال الطعام أو حافظ على السكوت كل المحافظة وعدّ بروية عدد المضغات وهي تختلف باختلاف الأطعمة ولا تبلع إلا بعد هرس الطعام هرساً شديداً بحيث لا تحرك ماضغيك فقط بل شفتيك وخديك وإذا بدأت فحدق النظر في ساعتك وامعن نظرك في الإبرة التي تدل على الثواني، وبعد بضعة أيام تعتاد هذه الطريقة التي يجب عليك المحافظة عليها كل المحافظة.

وقصارى القول إن الواجب إحالة الطعام إلى حساءٍ إذا مزج باللعاب تتحد أجزاؤه وهذه أفضل طريقة لمعرفة ما يتناوله المرء ويذوقه، ومن المعلوم أنه يجب بذل العناية.

عادة المضغ بتناول ما يوافق المعدة من الأطعمة فلا يؤخذ منها الصلب وما يصعب خضمه وقضمه والأحسن اختيار اللحوم والبقول الطرية، وما المعدة إلا خادمة أمينة إذا لم تكلف شططاً وما يكون منافياً للصحة وكم من أناس يعبثون بمعدهم بإكراهها وإضرارها، وقد أصدر الحكام المسيطرون على مراقبة المدارس الأميركية أمراً يوعزون به للمعلمين والمعلمات في المدارس أن يعلموا الأولاد كيفية الأكل ولا يغفلوا عنهم خلال المائدة وأن لا يسمحوا لهم بالحياد عن قوانين الصحة وأن يضطروهم إلى إجادة المضغ وهذه من أفضل الطرق التي يجب على المدارس والبيوت أن تحافظ عليها.

كتب التبت المقدسة

أوسع الكتب المقدسة هي على التحقيق كتاب أهل التبت فإنه بلغ 325 مجلداً والتبت دانت بالبوذية التي أتتها من شمالي الهند نحو القرن السابع للميلاد فترجم علماء التبت في مئة مجلد كتاب ماهايانا المقدس ثم أضيفت إليه الشروح والحواشي على العادة في خدمة الكتب المقدسة حتى بلغ 325 مجلداً وفي كل مكتبة الأمة بباريز ومكتبة بطرسبرج ومكتبة لندرا نسخة من هذا الكتاب.

الإسلام في ألمانيا

أنشأت البعثة الشرقية الألمانية في بوتسدام مدرسة دينية لدرس دين الإسلام خاصة وسيكون موضوع المحاضرات التي ستلقى هذه السنة في المدرسة على اللغة العربية والفارسية والتركية وفي القرآن والفقه وأصول الشعوب الإسلامية في السياسة وفي الإسلام والشرق القديم وقد اختارت المدرسة ثلاثة من المشايخ لتدريس هؤلاء المستشرقين ما يلزمهم من أصول اللغة والدين.

نقود الورق

بلغت نقود الورق التي يتعامل بها في الولايات المتحدة 2420341 دولاراً منها ما قيمته عشرة ريالات ومنها خمسة ومنها عشرون ومنها ألف ريال ومنها عشرة آلاف ريال وهي أكبر ورقة وقد ضاع أو تمزق من هذه الأوراق النقدية ما قيمته مليون دولار.

صحة الأطفال

قالت مجلة الكورسبوندان: رأت نيويورك منذ عشر سنين أن معدل وفيات الأطفال فيها 214 في الألف فوفرت العناية بالصحة حتى نزل معدلهم اليوم إلى 144 أي إلى نحو الثلث وقد عمدوا إلى طرق ثلاثة في هذا الشأن أولها اختيار اللبن الجيد الطاهر وتنزيه المرضعات في الهواء الطلق والخلاء ومراقبة الحبالى من النساء فكانوا يأخذون المرضعات من البيوت الضيقة القذرة في تلك العاصمة حيث تزدحم أقدام السكان من الفقراء وتضيق بها أنفاسهم ويبعثون بهن إلى الضواحي ولاسيما إلى ضفاف نهر الهودسون والنهر الشرقي وإلى مستشفيات الساحل ومراكب المستشفيات التي تطوف البحار وتنزه المرضعات والأمهات ويعلمنهن مدة تجوالهن دروساً في صحة الأولاد ومتى شعرت إدارة الصحة بأن امرأة حامل تحملهن على العناية بصحتهن وعلى الاهتمام بها وذلك قبل أن يضعن حملهن بستة أشهر.

المنتحرون

بلغ عدد المنتحرين في ألمانيا منذ تأسيس الامبراطورية الألمانية إلى اليوم 380 ألفاً وقد كثر عدد المنتحرين سنة 1907 فكانوا 9753 رجلاً و 3024 امرأة، وفي كل مئة ألف من أهل فرنسا ينتحر 8، 23 وفي المئة ألف في سويسرا ينتحر 8، 22 ثم تجيء الدانيمرك 22 وألمانيا 2، 20 ثم تأتي بريطانيا العظمى وسائر ممالك أوروبا بقلة المنتحرين فيها وفي اليابان ينتحر 9، 17 في كل مئة ألف أما بلاد النروج فمعدل المنتحرين فيها 5، 5 في المئة ألف وهي أكثر البلاد ميلاً إلى الدعة وقلة القنوط.

التربية والدين

تساءلت إحدى المجلات العلمية عن كيفية تربية الولد على مبادئ الدين أو تركه غفلاً منها واستشهدت على ذلك بأقوال المفكرين وعلماء الأخلاق والتربية فقد فضل الفيلسوف تولستوي أن ينشأ الولد على الجهل بتلقينه الدين كما هو الحالة الآن على أن يعلم ديناً مملوءاً بالأكاذيب قال إننا لا نلاحظ هذا الغلط بل إن الأولاد يشعرون به وهذا التعليم يشوش الفكر وقال الين كي بحذف الدين من المدرسة ولكن يجب على الوالدلين العقلاء أن يشرحوا لأولادهم التوراة والإنجيل وذهب كارل روتجر مذهب روسو في أن الواجب عدم ذكر الله للأولاد حتى إذا شبّ يصبح مسيحياً حقيقياً وأوصى كوبو بأن يلتزم الآباء الامتناع عن الأسئلة الدينية ويعلمون أن كل ما يحبون الاطلاع عليه من مختلف المعتقدات وينبغي للآباء أن لا يحاذروا إذا سألهم أبناؤهم أسئلة لا يعرفون جوابها أن يقولوا لا ندري لأن نصف العلم لا أدري.

التربية العقلية

اتفقت الآراء على أن الواجب تلقين الطفل مبادئ التربية الطبيعية بتقوية عضلاته والسهر على صتحه ونشاطه وتهذيب أخلاقه وتربية عقله وإنارته، ووقع الاختلاف بين علماء التربية ففريق يقول أن تربية العقل عبارة عن إنارة الفكر وتحسين الذوق وتلقين الأدب وحب الجمال والتكمل، وآخر يقول بأن الواجب تهيئته لعلم واسع ومعرفة صحيحة، ويقول بعضهم أن الواجب تنمية ذكائه، على أن الذكاء ليس مما ينال بالتعمد وتنشأ قواه بالأسباب بل يتكوّن من دون أن يبحث عنه ويقصد بالذات مباشرة فينشأ من أسباب عديدة ومن الانتخاب الطبيعي الذي يحيا به الأشخاص المستعدون ومن عمل كل فرد لما يضمن له بقاءه ويحسن عيشه ومن بواعث الحياة الاجتماعية التي تتزايد اليوم بعد اليوم وتتنوع أساليبها، فالولد يبحث من نفسه عما يحصله من المقدمات لعقله فيعرف الأشياء بدون أن نحتاج إلى تعريفها له ويفكر ويتأمل من تلقاء نفسه بدون أن نضطر إلى أن نحثه على ذلك ويشرع بنفسه في توخي الطرق إلى التخلص من مآزق الحياة فتراه إذا فرغ من درسه في المدرسة يعقد له صلات عديدة مع غيره ويبحث في الشؤون بذاته ويهتم بما يجري حواليه وينصت لأحاديث المسنين أكثر منه ويشاركهم في موضوعاتهم ويغتنم كل فرصة ليعد عقله وفكره، وأحاديث الأسرات على المائدة وما يتبادل فيها من الأفكار بين أهل البيت ويطرق فيها من مختلف الموضوعات في ساعات الفراغ أكثر فائدة لعقل الطفل من كل من يتمرن عليه في المدرسة، فيا سعادة من يكبر في بيئة ذكية وينمو عقله فيها بذاته بمجرد اشتراكه بالحياة العامة وبهذا ثبت معنا أن لا تربية تقوم مقام التربية التي يراها الطفل خارج المدرسة مما يفتح ذهنه ويعوده النظر والبحث والنشاط وينمي ذهنه بما يتوفر عليه من تمرينه المتواصل فيما يحتاج إليه في حياته ونعني به الذهن العملي.

لا جرم أن تربية الأولاد في المدارس الداخلية لا تخلو من عيوب تتعذر ملافاتها فهي نافعة في تنظيم العمل ومعودة للطفل على الصبر في مضمار الدرس ولكنها لا تفيد إلا فيما ينتج جمع المعارف أما إذا كان يطلب منها أعداد ذكاء الأطفال ليحسن به الانتفاع فطلب باطل لما عرف من الفروق بين وجوه الأولاد الداخليين والأولاد الخارجيين في المدارس فسحنة الولد الخارجي أكثر انتباهاً ونظره أبعد مرمى وإذا قلّ عمله ودرسه بالنسبة للتلميذ الداخلي فهو أنجح في التمارين التي تطلب ذهناً صافياً وعقلاً حاضراً حتى إذا أنجز دروسه زمان الدراسة ودخل معترك الحياة يجد نفسه أكثر ملاءمة معها فلا يثقل عليه الجهاد فيها لأنه كان أقرب إليها ولم ينفصل عنها كما انفصل تربه الداخلي الذي يكون قضى وقته في حياة صناعية أو مصنعة منعزلاً عن الناس بعيداً عن المجتمع اللهم إلا اجتماعه مع أولاد من سنه فكيف بعد هذا يهتم بحوادث الحياة الخارجية وبحركة الأفكار وبالوقائع العظيمة التي تجري في العالم وتضطر العقول مهما بلغ من إهمالها أن تفكر وتدبر.

لا يكاد يصل إلى التلميذ الداخلي من حوادث الكون إلا المبهم الغامض وما من يحدثه بما يجري في القرب والبعد وإني لأعرف تلميذاً داخلياً أخبر ذات يوم أن روسيا تحارب اليابان منذ أشهر فلم يدهش لهذا الخبر وبذلك تبين لعلماء التربية أن حياة المدارس الداخلية بما فيها من عزلة العقل تخدر قواه وإذا قدر لها أن تتمرن ففي ميدان ضيق جداً وأعني بها دروس المدرسة فقط ومن أجل هذا نقرأ في وجهه ضرباً من البلاهة ومثال الملل الذي لا يعلل والإهمال وقلة الاهتمام الذي يدخل في حياته نقصاً ومن الأسف أن ذلك أكثر فشواً في الطلبة العاملين منه في الطلبة الخاملين وفي المأخوذين بدروسهم منه في المتساهلين بها فهم الذين يبوّون بسيئات المدارس الداخلية، أما المضار الأدبية الناشئة من تربية الأولاد في المدارس الداخلية فمقررة عند علماء التربية فتربية الطفل في المدارس الخارجية هي التي يأخذ منها رأس ماله العقلي وذكاءه العملي الذي لا يتكون إلا بدروس الحياة نفسها وما عدا ذلك فباطل ومضر إذا لم يلاحظ ذلك أولاً فالنظر لا يفيد كالعمل بحال.

يحتاج الطفل إلى معارف حالية لا ليطبقها وينتفع بتطبيقها بل ليتهذب بها فالجهل المطلق في الأمور يؤدي إلى البلاهة لأن الذهن لا يشتغل في باطل لا طائل تحته فالواجب تغذيته إذا أريد تشغيله والذهن لا يتحرك إلا بحوادث تعرض له ومبادئ يتلقاها ولا يتيسر له اتساع العقل إذا لم يكن لديه شيء من المعارف يستعمله وكلما اتسع أمامه ما يترامى إلى سمعه تنمو قوى عقله، فالمعرفة حسنة في ذاتها وهي لا تنمو إلى على هذه الصورة، نعم إن من الحوادث ما لا خطر له وهو من العقم على جانب ولا غناء فيها لسامعيها ولذلك ليس فيها كبير أمر لأعمال الفكر والحوادث الغريبة ذات المعنى المهمة في ذاتها والوقائع التي تبعث العقل على التفكر هي التي يستفيد منها العقل وتقع على التصور وتهز الفكر إلى الحركة، وبديهي أن درس الحوادث التاريخية العظيمة هي أكثر إشغالاً للفكر من الحوادث الصغيرة في التاريخ الأدبي ولا شبه بين المادة العقلية التي تستخرج من معرفة قاعدة نحوية وبين المادة التي تؤخذ بدراسة قانون الجاذبية، ولقد لاحظ كويو أن من المعارف ما هو باطل متعب للذهن إذا دخلت إليه تحدث فيه فراغاً ولا تملأه بشيء.

فالواجب في مثل هذه الحال أن يترك الطفل منذ نعومة أظفاره يستمتع بشيء من إرادته ليمكن نموها بالتدريج ويجب أن لا يلاحظ الدرس على الدوام ويفرض على الدارسين حتماً، فقد قيل أن لا شيء يعادل البحث الشخصي للوقوف على الأشياء، فالمرء يحفظ ما وقع نظره عليه أكثر من غيره وما نظر إليه بعناية لأن ما اكتشفه بذاته يستقر به غالباً فالتمرين على الملاحظة الشخصية هو من الأسف مما يصعب في المدارس، يجب أن تترك للتلميذ بعض حرية في اختيار ما تتجه إليه رغبته من الدروس وأن يزاد من شرح الموضوعات التي تهمه أكثر من غيرها فقد جرت عادة المدارس أن تترك دراسة بعض المواد لاختيار التلميذ وهذا من شأن أن ينوع العاملين ويجعل حرية للطالب ولا بأس بأن تجعل للتلميذ حصة من اللعب في كل درس يراد منه العناية به فإن التربية العقلية لا تنتج النتائج الحسنة إلا إذا حثت نشاط العقل وجعلت منه له دافعاً وحيثما فقدت الإرادة يفقد الفكر لا محالة.

وترك التلميذ وما يختار من أنواع المطالعة من أعظم ما يثقف عقله فهو إذا أغرم بالمطالعة يتلقف بدون عناء معارف غريبة في تنوعها فإذا كلم غيره كلمة يدهش سامعه من الأمور التي يعرفها ويتساءل كيف تعلمها ولم يتعلم ذلك إلا في كتاب وقع إليه عرضاً فتصفحه مأخوذاً بما حواه واعياً ما أهمه من موضوعاته والقارئ في قراءته لا يتلقف حوادث بل أفكاراً فتكون له صلة فكرية مع أرباب العقول السامية ويسير على مناحيهم ما وسعته الحال بحيث يحاول إدراك كل ما يمر به فإن كل ما يمكن أن يعمل لتربية ذوق الطفل وتعويده المطالعة يساعد كل المساعدة على تقدمه العقلي ومن اقتصر على كتب الدراسة أقفر عقله وافتقر ذهنه.

وكما أن تحصيل المعارف ضروري فمن اللازم أن يكون للمرء ذاكرة جيدة فمن يتعلم سريعاً وجيداً يعد ولا جرم من أهل السعادة وإن الرأي الشائع بأن جودة الذاكرة وجودة الذكاء لا يتفقان لأحد هو من الآراء التي لا سند لها يرجع فيه إلى البحث الأكيد لأن معظم نبغاء البشر كانت ذاكرتهم نادرة فإذا كان في المكنة تحسين الذاكرة بتمرينها فالواجب أن لا يقصر فيه على أن في الذاكرة شيئاً لا يتيسر ترقيته بالتمرين وأعني به قابلية الاستظهار وإذا صح بأنه من الممكن تنميتها فلا مانع من إعطائهم دروساً يستظهرونها ويسمعونها على أننا لا نرى التلامذة بعد دراسة سنين يستسهلون التعلم أكثر من يوم بداءتهم فإن حاسة التذكر بالأشياء هي من الاستعدادات الفطرية تولد مع المرء وتنمو بسرعة فائقة وتبلغ غايتها في سن الثانية عشرة ثم تنحط كلما تقدم المرء في السن فما النفع يا ترى من تمرين الذاكرة؟ إن بتمرينها يحمل إلى عقل الطفل معلومات مقررة وتذكارات بنصها يحتاج إليها ثم تنمي فيه حاسة الانتباه وهو جماع الربح الذي يستخرج منه فتمرين الذاكرة هو أول جهاد عقلي وأول عمل ذهني يطلب من الطفل فهو يحثه ويحمله على أن يحصر أفكاره في موضوع معين وهذا يشبه كل الشبه ما ينبغي له بعد من إعمال الفكر متى طلب منه أن يفكر وحده مختاراً وقد يتعذر عليه الافتكار اختياراً بدون تمرين عقلي حازه بتمرين ذاكرته، فتسميع التلميذ ما حفظ في صفه هو في محله فبالتمرين تقوى الذاكرة، والغاية أن نجعل من الولد إنساناً يفكر لا ببغاء يتكلم، والمعرفة لا تغذي العقل إلى على شرط أن تتجانس أي أن تتحول ويستخدمها العقل في أساليب جديدة عقلية وإن من خواص تذكر النصوص أن تنقل إلينا الأفكار متوسعاً فيها في صورة مقررة ومتى تأملنا من جديد في الأمور التي استظهرناها لا يسعنا إلا أن نكرر كلمة كلمة العبارة التي حفظناها فتدخل في تضاعيف فكرنا من تلقاء ذاتها كأنها استشهاد بسيط ليست ذات قيمة عقلية ومتى امتلأ رأسنا من هذه الصور والعبارات التامة الصياغة هل نصوغ نحن أكثر منها؟ فإن ما يقتضي لنا لتأليف بعض الأفكار الخاصة هو أن نحيط علماً بالمسائل في ذاتها وأن نقتبس ما فيها من الفكر بقطع النظر عن حرفيتها، ولا يتأتى إلا نقل النص ولكن إذا كان للمرء أمور يعرفها يزيد عليها أموراً حديثة فإنا إذا حفظنا فكراً ونسينا العبارة التي عبرت عنه نبدأ من تلك الحال في الإبداع بالفكر.

فالفكر مرن للغاية وهو العقل الفعال له في ذاته قوة التمدد تهيئ له سبيل التوسع إلى ما وراء الغاية وفي صور مختلفة فإذا انتقل من عقل إلى آخر يصبح كأنه فكر آخر جديد ويكون كأنه ملك قائله وهو أبو عذره ولا يعبر عنه بأسلوب واحد، أما العبارة التي تستظهر فهي زهرة من مجموع أعشاب يابسة جافة متمددة والفكر الذي يبرز من الذهن كالبذرة التي تنمو ويكون منها زهرات حية فالواجب إذاً تقوية الطفل على حفظ الأشياء التي يكلمونه عنها أكثر من الأسلوب الذي تعبر به، يعلمونه المعاني أكثر من الألفاظ وهذا ما يجرون عليه في بعض الدروس مثل درس التاريخ مثلاً فإنه مطلب من مطالب الذاكرة ولكنه يتطلب ذكرى الحوادث لا الصور التي عبر بها عنها، وفي هذا المعنى يليق توجيه الذاكرة وتربيتها ومن أجمل التمارين أن يقرأ الطفل العبارة طويلة كانت أو قصيرة بحسب تقدمه العقلي وأن يسأل بعد ذلك عما تعلمه وبهذا يتأكد فيما إذا قد فهم المعنى لأول نظر وأنه انتبه إلى الأفكار الرئيسة وأنه حفظها متسلسلة ويبين له على هذا الوجه ما هو التعلم بفهم وذلك بدرسه مفكرات عقلية في موضوع يتلوه الإنسان وبهذا ترقى في التلميذ جودة الذاكرة التي لا تكتفي بجمع المسائل بل تميز بين ما يمكن أن ينفعها وتختار أجودها وتطرح العرض منها وتبقي على الجوهر، يجب أن يصل الفتى إلى أن يطالع كتاباً برمته ويستظهر منه الضروري مما يحوي.

ومما يحسن أيضاً تمرين الطفل بالأسئلة المتوالية على أن يغترف في الحال من ذهنه ما هو في حاجة ماسة إلى ذكره، ولا يكفي أن يكون العلم مكنوناً في ذهنه كالكتب المركونة في صندوق بل ينبغي أن يكون كل حين تحت الطلب وينتفع بها ويعثر عليها في الوقت المطلوب على أيسر وجه، فالتلميذ الذي لم ترب ذاكرته في هذا المعنى بتمارين خاصة لا يكون ما وعاه من الأفكار إلا هاجعاً نائماً صعباً على الانبعاث لا تجيبه عند الدعوة وتستعصي عليه إبان الحاجة، ضع للتلميذ سؤالاً في المسائل التي تغلب عليه معرفتها يرتبك ولا يذكر الجواب وليس هو في متسع من الوقت يستخرج فيه من أعماق قلبه ما سبق له وعيه، سله أن يورد لك بعض الأمثلة من أكثر المسائل تداولاً فلا تكاد تأخذ جواب مسألة أو اثنتين إلا بعد اللتيا والتي فعلمه غير حاضر معه، وهذا من العيوب المؤسفة جداً ولاسيما في الحياة العملية التي يجب للمرء حضور ذهن ليتخلص من المآزق وينجو من المضايق، فذاكرة الذكي والحالة هذه هي التي تورد في الوقت المطلوب ما يطلب إليها إيراده، لا جرم أن هذه الخاصية من الخواص التي تولد مع المرء ولكن يتيسر تنميتها بالترويض والتمرين.

ليست المخيلة من القوى التي تطلب لجمالها بل لها منفعة خصوصية على أننا يجب أن نكون على مثل اليقين بأنها لا تقوى بدون ذلك فبالمخيلة يتيسر لنا أن يسبق تفكرنا أعمالنا وبهذا نطلع على الاحتمالات المختلفة في المستقبل فهي ضرورية لإنسان ذكي، تجد المخيلة عند معظم الأولاد حادة للغاية فهم يحبون أن يتمثلوا الأشياء في أذهانهم ويجعلوها مسلاة لهم بل لهواً ولعباً فيخترعون من أنفسهم صوراً ليتلذذوا بالنظر إليها في باطنهم وكل فرصة تمكنهم من استخدام هذه القوة وترويضها يفرحون بها ويبسمون للقياها وهذا التبسم من التربية العقلية يسهل عليهم لأنها مستميلة لقلوبهم جامعة لأهواء نفوسهم وبهذه الطريقة يثق المؤدب من حسن الإرادة من يؤدبه، لا بد للتصور بادئ بدءٍ من مواد يقتنيها ومن المعلوم أنه مهما بلغت حاسة الاختراع فينا لا نتمكن من الإبداع العقلي إلا بصور ننتزعها من الحقيقة فكل ما فينا من إرادة يكتفى بتحويله قليلاً وترتيبه على صور منوعة فنحن لا نستطيع أن نتصور أمراً إذا لم يسبق لنا رؤية مثال منه، والأقوال مهما بلغ من سلطانها على نفوسنا لا تكون إلا إلى العجز في إدراكنا أمراً أياً كانت منزلته إذا لم تذكرنا بشؤون من عالم الحقيقة يتأتى إدراكها مباشرة.

فالواجب إذاً تزويد الطفل بتصورات عقلية واسعة المادة، أره كثيراً من الأشياء تجلب بها دهشته وربما لا تجد منه ارتياحاً إلى ما أنت ملقنه إياه ولا اطمئناناً إلى ما تحسنه له فهو يختار بذاته ما يهتم به، ضع أمام عينيه صوراً ورسوماً ولوحات واعمل على أن تكون كتب درسه طافحة بالرسوم وهكذا إذا تزود بصور شتى مصنوعة وتصورات وتذكارات يستطيع أن يعمل بذاته ويؤلف من عنده، أما نحن فلا يعنينا أمر خيالاته فهو حر فيها وهي من خصوصاته فإنا نراه إذا ترك وشأنه ينسى العالم الحقيقي فيجعل له من ذاته عالماً يجول فيه خياله ويرى مدهوشاً في مضيق الصور الباطنية، فتصوراته مهما بلغت درجة غرابتها ومهما كانت طفلية فهذا ليس من شأننا معه.

بيد أنه لا يكفي المخيلة أن تعمل بل الواجب أيضاً أن تتعلم على العمل وهنا تبدأ مهمة المربي إذ يقضى عليه أن يحول هذه الحركة في الفكر إلى أنحاءٍ تزيد في ذكائها وبعد ذلك تدعو الضرورة إلى تمرين الذهن على أسلوب حسن فهو جزء من التربية التامة ومن الخطر أن لا يفكر فيه، وقد رأى بعض أرباب الأفكار القائلين بتلقين المحسات (المحسوسات) بأن الأنسب تدريج عقل الطفل على النظر في الحوادث المقررة المقيسة الحقيقية أي تربيته تربية علمية صرفة وإلا فتضعف قواه المفكرة لقلة المران ويتكون عقله ناقصاً أو أن يعمل بنفسه ويضيع في الخيالات الغربية لقلة الملاحظة، فالأحرى أشغال الذهن أكثر من كل شيء، ولا سبيل إلى التأثير في الذهن إلا بالكلام والمطالعة ومتى قرئت للطفل مثلاً قصة جميلة تأخذ في الحقيقة بمجامع قلبه ويستغويه وتضطره إلى تأليف بعض الصور.

وينبغي للمربي أن يلاحظ فيما إذا كان الطفل الذي يعلمه خاضعاً لما يحببه إلى نفسه ولا يعنى بما يلقيه عليه، ينبغي أن يحقق نظره منه المشهد الذي تقصه عليه فأنت لا تعطيه في الحقيقة إلا بعض الدلائل وبها يقضى عليه أن يكمل الصورة بأجمعها وبهذا يتهيأ أمامنا التمرين الأول الذي نركبه أو يعدنا إلى التركيب وهو يتطلب من الفكر شيئاً من البديهة والإرادة، إذا كانت المطالعة في موضوع يستدعي التصور والتفكر فيكون فيه تنشيط الخيال وتوجيهه نحو وجهة معينة حرة وبفضل الاتجاه الذي يوليه للعقل يدرك صوراً أجمل وأكثر تنظيماً مما يستطيع أن يخترعه بذاته وبفضل الحرية التي يطلقها له تكون مهمته محببة إلى النفس خفيفة على الطبع.

هذا هو الربح الذي تستخرجه المخيلة من التعليم الأدبي ومما لا يخلو من الفائدة أن نبين كيف يتأتى الانتفاع في هذا المعنى بالتعاليم العلمية التي ترمي إلى تحصيل المعارف أكثر مما تقصد إلى تهذيب العقل وهذه التعاليم تشغل المخيلة ولكن لا مباشرة، فكل تعليم وصفي أو نقلي فيه بحث عن المجردات يضطر المرء إلى أن يتمثله، هكذا الحال في العلوم الطبيعية والجغرافية الوصفية والتاريخ، فقد أدرك المعلمون أن هذه التعاليم يجب أن تعرض أولاً في صورة مجردة بأن ترسم ما أمكن أمام عيون الطفل الأمور التي يكلمونه عنها أو يصورونها له للوصول بعد إلى المجردات والعموميات، فإن قصة تاريخية يمكن أن تؤثر في المخيلة نفس التأثير الذي تؤثره رواية فاجعة أو قصة عادية إذا كانت مؤلفة بخيال واسع.

وبعد ذلك تأتي التمارين المؤلفة تأليفاً خاصاً أي التي يحاول التلميذ الاختراع فيها، إنا نريد أعداد مخيلات عامة مستعدة للتوليد لا أن نكتفي بأن نعيش أبداً من رأس مال الغير فالواجب إذاً تمرين الطفل على التأليف بنفسه، ويجب أن يعنى بأن تكون هذه التمرينات بالطبع متدرجة في الصعوبات مبتدئة بشرح مادة تعطى له إلى أن تبلغ حرية الاختراع، ومما ينفع بيان مزية هذه التمرينات في التأليف من حيث التربية فقد أغرق من قالوا بإبطال الطريقة القديمة في التأليف واليوم اقتصروا من التمرين على التأليف على القدر الجزئي وقد ظهر من مناقشات حديثة أن بعض المربين شرعوا يدهشون من هذا القصور فقد كان من معايب الطريقة القديمة أنها تقود التلميذ خاصة إلى التوليد الأدبي ومن حسنها أنها تترك مجالاً واسعاً للتمرينات التي يستطيع المرء بها أن يبرهن على مقدرته العقلية فهي من ثم محرض قوي نافع للعقل وبها يجب علينا أن نفكر فما أحرانا أن نغير وجهة الدروس لنجعل التلامذة أقل عناية بالأدبيات منهم بالعلميات على أن لا نضيق نطاق التمرين العقلي والتأليف والاختراع.

تجب العناية بالرسم لما فيه من المزايا في التربية فالرسم إذا أدركت حقيقته ووجهت وجهته نحو التربية العقلية يساعد كل المساعدة على ترقية المخيلة فهو يعلمنا النظر إلى الأشياء بذكاء ويقوي فينا حاسة التمثل والذاكرة المصورة والمخيلة المبدعة، وإذا أريد استخراج المنفعة الحقيقية المنتظرة من هذا التعليم فالواجب التمرين عليها، ولقد ضل من علماء التربية من جرد تعليم الرسم من كل نظر للطبيعة ومن التطبع على الاختراع فما كانوا يرمون إلا إلى أعداد نساخين جيدين وأي فائدة لتعليم الرسم إذا لم تتحرك المخيلة.

لتعليم اللغات مقام رفيع في طريقة تدريسنا وليس هذا بعجيب فإن فهم الإنسان للغته وإجادة الكتابة والتكلم بها هو من أثمن المساعدات للذهن، ومعرفة اللغات الميتة يفتح أمامنا ميدان الفكر القديم كما أن معرفة اللغات الحديثة ضرورية لتتبع حركة الفكر الحديث، فباللسان يجد الفكر ما يعبر عنه فهو أداة من الألفاظ تتقدم وتتأخر على الدوام منها إلى الفكر ومنه إلى الألفاظ وتتطلب فكراً عاملاً أبداً، ولا عجب من ثم إذا صرف وقت طويل في التعليم المدرسي من حيث تنمية القوة الشفهية فإن هذا الاهتمام في محله والواجب أن يعنى فقط بأن تكون هذه الدروس بحيث يستخرج منها الشبان أعظم المنافع العقلية.

وهنا نبدأ أولاً بالكلام على التمرين الذي يذهب العقل فيها من الألفاظ إلى الفكر فمن أول الدلائل وأدلها على بيان ذكاء الطفل أن يفهم ما نكلمه به وإذا كان لا يفهم معنى الكلمات وكان من الصعب علينا إلا قليلاً أن نشرحها له فيجب عليه أن يحرزها وهو استدلال يستلزم منه أن يكون ذا ذكاءٍ مدهش وبعد أن يتقدم فيه تعليم اللسان يصبح معنى الكلمات المستعملة مألوفاً له ولا يتعب فهمها ذهنه بل تكون له مفهومة بذاتها بدون أدنى تعمل ويبقى عليه دائماً ألفاظ جيدة وتراكيب جمل غير عادية ليدرك معانيها وكلما نظر درساً جديداً يجد أمامه مادة خاصة من ألفاظ تقف أمامه بعض الشيء، فنحن في مطالعاتنا نعثر كل ساعة على جمل لا تفهم لأول وهلة وبعض الأفكار لا يتأتى أن يعبر عنها بصورة واضحة وتعابير مستعملة، ومهما بلغ من استعمالنا اللغة والذكاء فلا بد في شرح صورها الشفاهية من درجة خفيفة لا يرقى إليها المرء إلا بمحاولة الفهم، وهذا الجهد نافع للعقل ولذلك كانت اللغة التي نريد اقتباسها زمان الدراسة غير مألوفة لنأكل الألفة وكان درسها عبارة عن تمرين عقلي حقيقي.

وبهذا النظر لا نرى بداً من التوصية باستعمال الترجمة فإنها في الحقيقة إحدى الرياضات المدرسية الدالة على فرط الذكاء فيضطر الولد فيها أن يفرض عدة وجوه للمعاني الكثيرة التي يحتملها النص وتمييز أوجه الشبه بينها ويستخرج من مجموع معنى الجملة المعنى الخاص بها الذي يجب إعطاؤه لكل كلمة فيتمرن على هذه الصورة ذكاؤه وعقله، ولا فرق بين أن يكون هذا التمرين بلغة حية أو ميتة ويجب أن يلاحظ فقط أن الطريقة المتبعة في تعليم اللغات الحية مباشرة ترمي إلى ترك التمرين على الشرح والترجمة، وهذه الطريقة سامية من حيث العمل ومهيأة للتلميذ بأسرع ما يمكن لاستعمال اللغة ولكنها قلما تمرن العقل فيجب أن يفكر المربي في التعليم بهذا تمرين الحسن أو بما يعادله على الأقل.

وإن استعمال الترجمة والشرح ليمكن حتى من لغة المرءِ الأصلية فإن معنى شرح عبارة هو حلّ معناها الحقيقي وترجمتها إلى لغة شائعة وبذلك يتعود المرء على ما هو لازم له من جودة النظر في الكلمات فلكم رأينا، مناقشات قامت خاصة على ما أحدثه سوء التفاهم في اللغة فإنا ندخل في براهيننا تعابير مهمة أو مدرسية تكذب فكرنا أو تمنعنا من إيضاحها كل الإيضاح.

وهناك تمارين أخرى تقودنا من الفكر إلى الألفاظ فإننا نحاول أن نوجه للتعبير عن فكرنا لفظاً مستعملاً ولطالما دهشت من الألفاظ الكثيرة التي يقتدر التلميذ الصغير على الإفصاح بها عن أفكاره بدورات تدل على حذق وبقليل من الألفاظ، حتى أن محاولتنا التعبير عن أفكارنا مما يفيدهم، ومن النادر ولاسيما عندما نفكر في مسائل قليلة الصعوبة أن نكون على استعداد مما نقوله قبل أن نبدأ في الكلام في الكلام فالفكر يبقى منتشراً مشوشاً وهو على سهولته في حيز القوة لا يخلو من إبهام إذا أريد إخراجه إلى العمل ومن المحتمل كثيراً أنه يبقى في هذه الحالة المختصرة إذا لم نبحث عن طريقة لبيانه وتكميله بالتعبير عنه فالفكر لا يتم إلا بالجملة.

فالواجب والحالة هذه تمرين طلبتنا على التكلم وسؤالهم على الدوام وتمرينهم على الإفصاح عما يجول في خواطرهم ببيان رائق وهذا أحسن واسطة لتنبيه عقولهم حتى في خلال الدروس فإنهم إذا لم يكونوا إلا سامعين لما يلقى عليهم لا يلبثون أن يكونوا خاملين غير مهتمين بالدرس. وتيسير للمعلم إذا تكلموا أن يستدل على، هم في حالة يعملون معها أذهانهم ويستعملون قواهم العقلية فأنت ترى تلامذتنا الذين اعتادوا أن لا يفكروا إلا والقلم بأيديهم مرتبكين في الأحايين التي يحتاج فيها إلى حضور ذهن. وليس معنى هذا أن يجعلوا خطباءَ بل أن يمرنوا على التعبير عن أفكار حتى أمام الجمهور بدون ارتباك ولا غموض. فالتمرين اللفظي يضطر إلى التفكر بسرعة وإيجاد تعبير للفكر الذي يعرض في الحال فهو يقوي الصفات العقلية التي تجعل المرءَ عاملاً.

التمارين المكتوبة ترقي الانتباه لتأليف الكلام في آونات الفراغ وتمكن صاحبها من العمل بعقله متتابعاً ومن التفكر طويلاً وتضطره إلى إيجاد بعض الأفكار في موضوع معين وتنظيمها والإبانة عنها أحسن إبانة في حين أن التمرين اللفظي يعلم استخدام الذكاء فالتمرين الكتابي هو العمدة لترقية العقل في الأكثر والمرء يتعلم التفكر إذا أخذ يكتب فالصور والحقائق تسير دائماً جنباً إلى جنب في الأشغال العقلية. إنشاءُ الكاتب وفكره متلازمان حتى أنك تشك في التأليف الرديء الإنشاء فيما إذا كان فيه خطأ في الفكر فإذا كانت الجملة رديئة التركيب شرشة الأساليب يستحيل أن يكون الفكر واضحاً على نسق متتابع. فلنعمل إذاً بكل ما فينا من قوة على تحسين إنشاء تلامذتنا فإننا بذلك نربي عقولهم. ومن أعظم الخدم التي نخدمهم بها أن نعلمهم لغة فصيحة ثابتة صريحة لأن مستقبلهم العقلي موقوف عليها. يقولون أن للغة الفرنسية هذه الصفات إلى درجة أمازت بها وحقيق ما يقولون. إن الإدارة حسنة فعلينا أن نعلم الفتيان كيف يحسنون استعمالها. منذ بضع سنين أتى على اللغة الفرنسوية بحران غريب أوشك أن يفسد اللغة وأعني به كثرة الكتابات والاستعارات والظاهر الآن أن هذا الوباء قد كاد يضمحل لولا أننا لم نبرح نعثر على بقايا من هذا المرض في لغة بعض معاصرينا من الكتاب لا يستقل بعددهم. أما نحن فندعو إلى الوضوح في العبارة وأنت ترى أي معنى يجب أن توجه إليه وجهة التمرين على الإنشاء للانتفاع منه انتفاعاً عقلياً فلا ينبغي النظر إلى الصور الجميلة بل إلى الصفات العقلية. فنحن في مبحثنا هذا لا نرمي إلى أن نخرج أدباءَ بل إلى تربية ذهن الطفل بتمرينه عَلَى الإفصاح عن أفكاره بذكاءٍ.

وها قد وصلنا إلى التمرين الذي يقصد به تربية الفكر فإنه لا يكفي حث الدماغ عَلَى العمل بكل الأسباب الممكنة فيمكن أن يفكر المرءُ كثيراً وتكون مادته فائضة أبداً ولا يكون إلا متوسط الذكاء وكل هذا العمل في الدماغ يجب أن يكون منظماً منسقاً متجهاً إلى وجهة واحدة ولكل جهاد فكري غاية والمطلوب أبداً إيجاد شيءٍ من تقرير حقيقة أو البحث عن أحسن واسطة لتحقيق غاية فالواجب من ثم أن نمرن عقلنا عَلَى العمل بصورة نافعة.

يميل الطفل إلى التفكر لهوى في نفسه يتلذذ به فيفرض كيفما اتفق قضايا لا يتعب نفسه في مراقبتها ولا يهتم في الحقيقة للاجتهاد وبهذا يبقى كثير من الناس طول حياتهم في حكم الأطفال. وإن المرء ليعجب أن يرى أموراً تثبت بأقل نظر بمجرد المناقشة فيها والخوض في الأحاديث خوضاً عادياً فالواجب العمل عَلَى ما يخالف هذا الدليل منذ الصغر بالجري عَلَى نظام عقلي حسن.

وأن حكم الطفل عَلَى الأشياء ليصحح خلال الحديث كلما خالف الواقع فمن خصائص عقله أن لا يمس الوقائع والحقيقة فالواجب إرجاعه إليها فكل فكر متلظ هو فكر متهور إذا وضع عَلَى محك النظر لا يلبث أن يكذب بالبحث والنقد فالواجب إذاً الرجوع أبداً إلى الحقائق ويجب أن لا يفوتنا الاحتراس من أن الأوهام في الأحكام تصدر في العادة من نقص في الأخلاق لا من ضعف القوة المنطقية فين عَلَى الأمور التي لا يحق لهم أن يبتوا فيها حكماً لا لأن العمل العقلي الذي يصدر به الحكم شيء الترتيب بل لقلة اهتمامهم وخفة أحلامهم ونقص في استقامة عقولهم. وعلاج ذلك أن يشعر الطفل بما في كل قضية مهما كانت من الأمور الجدية أبداً وهناك تدخل التربية العقلية كما ينتظر في التربية الأخلاقية.

والواجب أيضاً تربية قوة التعقل فإن بعض قضايانا ليست مستخرجة من التجربة مباشرة بل هي مستندة إلى آراء أُخذت من قضايا سابقة ففكر يولد لنا فكراً آخر ولنوسع في تأكيده وإثباته وما جودة الأحكام إلا أن يكون للمرء تسلسل في أفكاره لا يناقض أحدها الآخر بل أن يعضد أولها آخرها فيتألف منهما مجموع متماسك الأجزاء. أنا نستطيع أن نعود أولادنا عَلَى صحة الحكم وذلك بإشراكهم معنا في الحوار والمناقشة معلنين لهم نقص تصورهم بأن نعيد أفكارهم إلى الطريق السوي متى حادت عنه ولذلك ألف مناسبة للإشراف لي عقل الطفل في الحياة اليومية أو أثناء الدرس والتعليم.

وأنا إذا سما بنا النظر إلى ترقية التربية العقلية أكثر مما هي الآن في أطفالنا ليجب علينا أن نجعل في المدارس تمرينات خاصة لتربية القوة العقلية ودروساً في المنطق العملي. وليس في طريقة تعليمنا اليوم شيءٌ مما يشبه هذا فإنا لا نعلم التلاميذ المنطق إلا في أواخر سني الطلب وبعض القواعد المنطقية الصحيحة التي يدرسونها عَلَى هذه الصورة هي سطحية مبتذلة قليلة التطبيق على العمل ويكاد يكون نفعها في التربية الفعلية قليلاً جداً.

لا جرم أن المربين يستندون عَلَى تلقين العلوم المجردة للطفل لترقية القوة المنطقية في عقله ولكن في الرياضيات والهندسة صورة قاسية من تقوية العقل وهذه القسوة فيها تجعل هذه الدروس قليلة النفع ولذا لا يسهل كثيراً الفرق بين تقوية العقل على طريقة جيدة أو رديئة فلاتقاء السفسطات والأمور المخالفة للمنطق نحتاج إلى دقة وحذاقة أكثر من احتياجنا إلى ذهن يعي الهندسة. وكل منا يعرف أن المرءَ قد يكون مهندساً بارعاً ويكون حكمه بعيداً عن الصواب في جميع المواد الأخرى. وهل معنى هذا أننا ننسب لدرس العلوم المجردة قلة غناء في التربية عَلَى حين نتوقع نحن منها نفعاً عقلياً كبيراً يخالف ما يراه بعضهم كل المخالفة.

فكل تمرين للطفل نافع لما يتطلب فيه الجهد والتعمل. فأي مقاومة خاصة يقضي على دارس العلوم المجردة أن يتغلب عليها وأي حاسة تتمرن بها؟ فإن هذه العلوم متى فهمها المتعلم وأدركها يقوم له البرهان عليها والصعوبة الأولى في الاهتداء إليها وفهمها وللنجاح فيها يجب أن يكون صاحبها أهلاً لان يجعل لأفكاره المجردة كل التجربة قريبة من العقل ما أمكن ببيان الصلات بينها بمعنى أنه يتوصل إلى أن يلاحظ عليها ملاحظة حقيقية. يجب إدراك ما بين المسائل الكثيرة من الارتباط في النظريات التي قد تحدث ولا تتسلسل وفي مثل هذه المآزق يستدل على فلسفة العقل وقوتها. وأنت ترى أن الصعوبة في بلاغ الذهن إلى تلك المجردات لتحقيق هذه الأعمال العقلية ومن هنا نشأ الجهاد والتعب وفي هذا التمرين الحقيقي فائدة العلوم المجردة هو تمرين العقل على المجردات.

إن التعلم عَلَى سهولة مأتاه في المجردات والترقي بالتمرين المتصل إلى مجردات أعلى منها هو أرقى أنواع التهذيب العقلي وبدون أفكار مجردة لا تتجاوز معدل الذكاء الحيواني ولا نفكر إلا بصورة خاصة كنحو ما يلزمنا في حياتنا اليومية. في حين إن جميع الأعمال العقلية ذات الشأن والتشابيه المركبة والعموميات والتصورات الصعبة كلها بنت المجردات وربيبة النظر فمعنى إدراك الأفكار المجردة الاستعاضة عن الفكر الحقيقي المرتقي في تصوير الأشياء بفكر هو في حيز القوة يستعمل كما لو كان راقياً. فالعقل الممرن الصريح المعتاد على التفكر في الأمور المجردة يشعر من نفسه بهذه القوة ويقودها ويكتفي برسم الأعمال العقلية بدون أن يقوم بها بالفعل فينشأ من ذلك تخفيف عن الفكر يشبه ما حدث من نوعه عندما استعاض تصورنا عن الأشياء الحقيقية بصورة بسيطة من هذه الأمور. وبذلك تنمو قوة إدراكنا ونظرنا في العواقب نمواً مدهشاً ونعمل أعمالاً مختصرة بدون جهد أعمالاً يتجاوز ارتقاؤها طوقنا وذكاءَنا. وعلى هذه الصورة يرتقي العلم بأن يدخل أفكاراً مجردة في أفكار مجردة أعلى منها ويوجد طرقاً أقرب إلى الجادة لحل المشاكل تتطلب حلاً ماهراً وبذلك يسمو المرء إلى نظر أعلى في مجموع ما يعيه وإلى المدركات الواسعة فذكاء المرء يمكن أن يقاس بما فيه من قوة عَلَى اقتباس المجردات فأنا نرى الطريقة التي يفرض إتباعها واضحة أمامنا فيجب أن يسري تعليمنا من الأعيان إلى المجردات لا لأن للعقل ميلاً إلى الجري على هذه الصورة بل لأن هذه هو الطريق الوحيد لبلوغ الارتقاء العقلي.

نعم إننا بذلك نكثر على العقول الفتية من الجهد وربما خيف من أن تتجاوز مثل هذه التمرينات القوة التي خصصت لها ولذا من اللازم أن يجري عَلَى سنة التدريج في إيراد الصعوبات.

فإن ذهن الطفل لا تتأتى ارتقاؤه إلا بالتأني من سنة إلى أخرى باجتياز محطات تناسب تغيرات نموه الطبيعي ولا تتقاضى زيادة عما تحتمله سنه. ولا يعدم أحد منا أمثلة على هذه التربية الخرقاء من تحميل الطفل الذكي فوق طاقته بجهل والديه أو مربيه فيدفعونه إلى ما يجب أن يحموه عنه ويعودونه الشدة في التربية حتى تنهك قواه فيقوى عقله قبل الأوان لكثرة ما يحملون إليه من المحركات ولكنه قد يضل ثم يقف هذا الارتقاء عن جريه ويظل الطفل وسطاً في حياته. ألا فلنمتنع من كل طريقة في التربية تكون إلى الشدة وتظهر منها نتائج خارقة للعادة لقاء عياءٍ أكيد يصيب الطفل ولنعمل على العكس ما يضمن للطفل استمتاعه بقواه كما نريد على النحو المستقيم وأن نطلق سراحها خلال الدرس حرة في موازنتها الطبيعية والأدبية.

وبعد فإن الواجب تقوية الذكاءِ على صورة معتدلة ويمكن تقويته بالإرث لأن رقي الدماغ الذي يمتع المرء بصحته الطبيعية من شأنه الانتقال بالوراثة. الذكاء أمر نافع وكل من يرى الارتقاء العقلي الذي بلغه البشر بالعمل فكان أثمن هبة حصل عليها وتحدثه نفسه أن يبذل كل مرتخص وغال لترقية الذكاء البشري درجة أخرى وما أظننا نغص إذا رأينا الجيل المقبل أرقى منا في منازعه بما نعنى بع تلقينه أرقى تربية من تربيتنا نحن لا نغالي في آمالنا ونعرف ما يتطلبه النشوءُ الاجتماعي لإدخال التكامل عَلَى عنصر من السذج البله وأن المرء بذاته لا يتحول على أيسر وجه وإن الارتقاء العقلي الذي يتأتى لنا أن نرجوه من التربية الحسنة هو محدود بالطبيعة. فالطفل يولد على شيءٍ من الذكاء قلَّ أو كثر بمعنى أنه يكون ذا مزاج معتاد في رقيه فترتفع منزلته إلى قياس عقلي معتدل ومهما بولغ في تلقينه فلا يتيسر أن يتجاوز به هذا القياس. ولقد رأينا كثيراً من الفتيان والفتيات لم يربوا التربية الكافية فوقفوا في درجات عقلية يتأتى له تجاوزها وكان لهم استعداد طبيعي لم يحسن القائمون على تربيتهم استخدامه فأست تربيتهم مقيدة بقيود تزيدهم بلاهة بدلاً من أن تزيدهم ذكاءً. فالذكاء كالصحة والقوة الطبيعية في الإنسان لا يكون من الإكثار من أسبابه سوى إهلاكها لا نماؤها والأخذ بيد كل إنسان إلى حيث تصل قواه هو الحسن والإحسان بعينه وأن ما نقصد إليه في هذا المبحث الاقتصار إلى التربية الضرورية حتى يرتقي العقل الحر ممتعاً بما فيه من كفاءة أوثية. نعم إن العقول مختلفة في مداركها فالكسلان الغليظ الذهن يظل أبداً كذلك والذكي بالفطرة يزداد ذكاؤه مضاءً بالعمل والتدريب والمتوسط متوسط والمستعد إلى التقدم تزيد قواه العقلية نشاطاً والتربية لا تزيل الفروق الإرثية بل تزيدها فالنفوس المستعدة تستفيد أكثر من غيرها من أسباب الترقي وتتقدم تقدماً محسوساً. والتمرين الشديد الذي تتطلبه التربية العقلية العالية لا يتأتى قبوله إلا لمن كانت عقولهم عاملة بطبيعتها أما غيرهم فلا استعداد لهم إليها. لئن كان تعديل أساليبنا في التعليم على النحو الذي أوردناه نافعاً للجميع فهو نافع خاصة لبعض الناس وذلك لأنه يزيد تنشيط بعض الأذكياء المستعدين للنبوغ ولا ينبغي أن نستاء من هذه النتيجة ونقلق منها فإن ذكاء الطبقة المختارة من الخاصة هو مولد النجاح الذي يستفيد منه المجموع (انتهى معرباً عن مبحث طويل في مجلة التربية الباريزية).

سكة الحجاز

قالت مجلة الطبيعة الفرنسوية: كان الحجاج يسلكون إلى مكة طريق القوافل من جهات الساحل أو الداخلية ويجيء الفرس والهنود من الشرق ناعجين أيضاً طريق القوافل باجتياز صحارى بلاد العرب ويسير غيرهم وعددهم ليس بقليل عن طريق جدة عَلَى البحر الأحمر عَلَى مسافة 75 كيلومتراً من مكة ويسير حجاج افريقية من طريق البر مجتازين شبه جزيرة سينا في حين أن غيرهم يأتون من البحر إلى جدة. ولهذا كان هذا الثغر من البلاد المهمة للغاية يجتمع فيه كل سنة عدد عظيم من الحجاج قادمين من مصر وافريقية الشمالية وبلاد الهند والعثمانية وروسيا الجنوبية. أما حجاج سورية فهم أيضاً كثار العدد يقصدون إلى مكة من طريق القوافل فيجتازون بلاد العرب من الشمال إلى الجنوب من الخط الذي يربط دمشق بالمدينة ومكة. وبعد أن يجتمع هؤلاء الحجاج بالقرب من دمشق يؤلفون ركباً تخفره من غارات البدو كتيبة من المشاة ومدافع جبلية وذلك عَلَى طول الطرق البالغ 1800 كيلو متر ويقطعه الحجاج في أربعين يوماً. وإذا أضفت إى هذا الحرس المؤلف من نحو مئة بدوي يعهد إليهم العناية بالمتعبين من الحجاج أو المرضى منهم وألوف من الجمال والبغال التي تستعمل لحمل الأثقال والذخيرة اللازمة لطعام الحرس والحجاج تتمثل لك تلك الصعوبات التي يجلبها إعداد مثل هذه القافلة وتسييرها ويجب أن لا يفوتنا بأنه من المتعذر الامتيار طول الطريق وإذا استثنينا بعض الأنحاء في الطريق نجد الحال في هذه الدرجة من الصعوبة في استقاء الماء القابل للشرب. فكل شيء يجب والحالة هذه نقله عَلَى ظهور المطايا.

ونرى من جهة ثانية أن القيمة التي يكلفها هذا الحج فاحشة وإن اختلفت باختلاف الحجاج في غناهم ورفاهيتهم ومتى كان مع الحاج جمال لنقل أثقاله وحمله قد تبلغ كلفة الحاج من دمشق إلى مكة ألف فرنك ولكن كثيراً من الحجاج يذهبون مشاة وبعضهم يستخدمون عكامة أو خدمة لتقليل النفقة.

ولقد فكر القوم منذ زمن طويل في واسطة لتقليل هذه الصعوبات إلى أقل ما يمكن واختصار المسافة بإنشاء طريق حديدي من دمشق إلى مكة وبقيت الحال عَلَى هذه المنوال إلى يوم 1 أيار 1900 وقد أصدر السلطان السابق عبد الحميد بإشارة أمين سره عزت باشا الدمشقي إرادته بإنشاء السكة الحديدية ودعا السلطان العالم الإسلامي للإعانة لتمديد الخط فتقاطر المسلمون يدفعونها عن رضى حتى بلغ ما جمع في برهة قليلة ما يكفي للمباشرة بالعمل ما عدا بعض التخصيصات التي أعطتها الحكومة أو الأفراد.

وإذ كان من المتعذر الحصول عَلَى عملة من سكان البلاد يكفون للقيام بهذا العمل وكان الواجب الاقتصاد من النفقات عَلَى القدر الضروري عمدت الحكومة إلى استخدام الجنود في تمديد الخط فعهد إلى جنود من المشاة بالأعمال الترابية وإلى كتائب السكك الحديدية بنقل الأحجار وأعمال البناء أما سرايا الاستحكام فاستعملوا في الأعمال الميكانيكية في الورشات ووضع الأسلاك البرقية. وبالجملة فإن إنشاء سكة حديد الحجاز قامت بأيدي العاملين من المسلمين ما خلا مهندس ألماني واحد اسمه المسيو مايسنر.

يسير هذا الخط من دمشق إلى المدينة متجهاً من الشمال إلى الجنوب وجهته متوازية مع طريق الفواقل الذي لا يبعد عنه إلا في بعض المحال وذلك تفادياً من الصعوبات في تمديده ويمتد عَلَى القسم الأعظم من الطريق عَلَى سطح يرتفع بالتدريج من الشاطئ 898 متراً فوق سطح البحر إلى دمشق حتى إذا كان في الكيلومتر 888 فما بعده ينزل حتى يبلغ المدينة فيصير عَلَى 700 متر من سطح البحر بعد أن يكون بلغ في محطة الهدية أي في الكيلومتر 1126 - 345 متراً من سطح البحر.

وقد أرد بادئَ بدءِ تمديد الخط من درعا والاكتفاء من دمشق إليها بالخط الذي كانت مدته شركة فرنسوية ولها الحق بالشعبة التي تصل بين درعا ومرفأ حيفا على البحر المتوسط. وهي شعبة مهمة للغاية لسكة حديد الحجاز لأنها تصله مباشرة بالبحر وبعد أخذ ورد طويل ترك تمديد الخط من درعا إلى حيفا لسكة حديد الحجاز ولكن لم يتيسر الاتفاق عَلَى إعطاء الحق الأصلي من دمشق إلى درعا لإدارة سكة الحجاز فمن ثم اضطرت هذه الإدارة أن تجعل دمشق مركز سيرها وتبني خطاً جديداً موازياً للخط الأول بين دمشق ودرعا. ويجتاز الخط بين هذين البلدين ببلاد حوران وهي إقليم غني بالجملة وكان قديماً انبار رومية ويزيد غناه بفضل خصب التربة فيه ويرتقي كما هو المأمول ارتقاءً حسناً إذا تيسر له الخلاص من عصابات قطاع الطرق التي تعيث فساداً في أرجائه ويجتاز الخط بعد درعا وجهة متآزية مع جبال موآب التي تمتد عَلَى شواطئ بحيرة لوط ويقطع صقعاً متموجاً بالزروع ومغطى بالمراعي يسير فيه البدو ومعهم قطارات من الجمال. وفي ذاك الإقليم تجد مدينة عمان القديمة التي لا تزال آثارها ماثلة للعيان.

وبعد ذلك يصل الخط إلى بادية العربية الصخرية أو السعيدة ومن تلك النقطة تبدأ الصعوبة في الحصول عَلَى الماء الضروري لتسيير القطارات وشرب الركاب. وعند الكيلومتر 458 أي من محطة معان تصل إلى واحة ذات حدائق ونخيل تسقيها عينان نضاختان مياهها باردة صافية وفي جوار هذه المحطة خرائب مدينة بترا القديمة.

ومن بعد معان إلى العلا والمدينة تتبدل هيئة البلاد كل التبدل فتشتبك بجبال عالية قد تبلغ قمم بعضها 3000 متر عن سطح البحر ممتدة عَلَى ول البحر الأحمر وتنتهي عَلَى خط عمودي من البحر بأرصفة متتابعة وهناك اسناد تشقها أودية لا ماء فيها تطيل مسافة هذه الأرصفة والأودية فبعد أن تتجه تارة اتجاهاً عمودياً نحو الصخور الجبلية تكون طوراً متآزية ثم ينقطع أثرها في البادية. وتختلف سعة هذه الأودية اختلافاً كثيراً فتكون واطئة أحياناً بحيث يبلغ علوها في بعض الأماكن زهاءَ مئة متر.

وفي سفح هذه الاسناد يسير الخط الحديدي إلى المدينة مجتازاً ما أمكن الأودية المختلفة التي تكاد تكون وجهتها متآزية. وبذلك تيسر الاقتصاد في نفقات بناء الخط إلى أقصى ما يمكن.

ولقد قلنا آنفاً أنه ما عدا محطات معان وذات الحج وتبوك والأخضر والعلا فليس من ماءٍ في تلك الأصقاع بل أنك ترى الأودية إلا في بعض أحوال نادرة جافة حتى في موسم المطر. وموسم نزول الأمطار في تلك الأصقاع يكون في شهر تشرين الثاني وشباط وآذار ومن النادر أن تهطل في شهري كانون الأول وكانون الثاني والمطر يبقى في المكان الذي يهطل فيه حتى في أشهر المطر فبعض الأنحاء لا يبلغها الماء على حين يصل منه إلى غيرها كميات كبيرة تجري في الأودية فتغرقها ولطالما كانت سبب انقطاع المجاري في خلال إنشاء السكة الحديدية ومناخ هذه الأصقاع العالية جيد جداً ولجفاف الهواء تبلغ درجة الحرارة 55 في أشهر القيظ إلا أنه مما يحتمل لما يعدله من الريح البليل الذي يهب في تلك الأرجاء طول السنة لا يصعب احتمال هذا الهواء إلا في الأودية المحصورة جداً مثل التي في جوار العلا حيث تكون سبباً لانتشار الحميات وتنزل درجة الحرارة في الشتاء إلى 4 أو 5 ومن النادر أن تنزل إلى الصفر. وأهم الاحتياطات التي يجب اتخاذها التوقي من اختلاف درجة الحرارة بين النهار والليل.

وبعد أن يخرج الخط الحديدي من معان يعود فيدخل في إقليم قفر يشبه الذي اجتازه في الشمال فتتخلله أودية كثيرة قليلة العمق. وقد اقتضى لقطعها إنشاء مجار من الحجر أما تربتها فقاسية جداً وهي قاحلة ومملوءة بالحجارة.

وبعد أن يقطع الخط الحديدي في بطن الغول على ستين كيلو متراً من معان قمة جبل يبلغ ارتفاعها 1168 متراً عن سطح البحر يعود فيهبط نحو ذات الحج سائراً في وادي رتم الذي تختلف سعته وبعضهم كلما اقترب من ذات الحج وهي واحة فيها نحو مئة نخلة محيطة بقلعة قديمة لرد هجمات البدو الرحل وما من منزل حول هذه الواحة الحقيرة. وهذه الأراضي القاحلة المنبسطة تقطعها من مكان إلى آخر أودية تكون إلى تبوك البعيدة 692 كيلو متراً من دمشق وهي واحة مهمة فيها زهاء ألف نخلة ولها معقل حصين وسكانها نحو ثلثمائة نسمة.

وفي تلك الأصقاع المقفرة حيث تشتد حرارة الهواء الجاف بما تبعثه فيه الشمس من أشعتها تجد النور بهيجاً وتصبح وتبدو الأصقاع البعيدة غريبة في أنوارها فتنقطع الآكام المنفردة في شرق السكة الحديدية والجبال التي تحاذي البحر الأحمر بما فيها من نقوش النباتات والأوراق المحبوبة التي ترى عن بعد من الجهة الغربية تحت سماء مدهشة بصفائها وتكسو الشمس هذه الجبال عند الشروق والغروب بألوان منقطعة الشبه والنظير.

وكلما توغل الخط في قطع المساوف نحو الجنوب يصل إلى أصقاع منبسطة قاحلة ولكن تجري إلى الأودية ثم كمية وافرة من ماء المطر أثناء الشتاء ولذلك قضت الحال باجتياز هذه الأودية لإنشاء مجارٍ عظيمة القناطر ولا سيما في وادي اتيل وقد أقيم عليه جسر من الحجر طوله 134 متراً وله 20 قنطرة فتحة كل منها ستة أمتار. وهذا هو أهم عمل في الخط.

ثم يقترب الخط من الصخور البركانية الجبلية فيتجاوز في حارات العمارة الاسناد الأولى بواسطة نفق طوله 160 متراً وذلك بالقرب من محطة الأخضر فيدخل ثمت في أودية مختلفة محاذياً لها إلى العلا على مسافة تسعمائة كيلو متر من دمشق بعد أن يكون قد قطع عدة محطات وأهمها المعظم والمطلع ومدائن صالح.

وتتألف واحة المهمة التي يبلغ سكانها 3600 نسمة من غابة نخيل وليمون وطولها من 5 إلى 6 كيلو مترات وعرضها خمسمائة متر. وانتهى الخط الآن بالمدينة وهي على مسافة 1300 كيلو متر من دمشق وسيشرع بإكمال الخط بين المدينة ومكة. وقد بحث في عدة طرق لتمديد هذه الشعبة الأخيرة بين البلدين الطاهرين إحداهما تسير تواً من المدينة إلى مكة والأخرى أطول مسافة تقترب من البحر وهذا الفرع الأخير الذي يبلغ طوله 442 كيلو متراً هو الذي شرع ببنائه اليوم وبه يصبح طول السكة الحديدية من دمشق إلى مكة 1754 كيلومتراً.

إن عرض خط الحجاز 1، 05 متر وهو غير متساو في رسمه فترى فيه في بعض المحال انحداراً طوله 20 ملمتراً في كل متر ودورة تبعد عن التخطيط الأصلي مئة متر أما تمديده فلم يستدع سوى فرش التراب ووضع الخطوط ما خلا جسرين من الحجر أحدهما بين محطتي عمان والقصر والآخر عَلَى وادي ايتل وهناك جسور لا شأن لها وهي كثيرة لأن الحاجة مست في عدة أماكن إلى إنشاء جسور في ممر الأودية التي تجف في الصيف وتطفح في الشتاء.

وما عدا جسر طوله 15 متراً له منافذ من حديد فإن جميع أعمال البناء من الحجر وذلك لكثرة العملة من الجند ولسهولة جلب الحجر من المحال القريبة. وقد أنشئت بعض الأنفاق القصيرة لاجتياز القمة التي تفصل بين مصاب بعض الأودية وجعلت هذه السكة من خطوط حديدية وزن المتر منها 21 كيلو غراماً تستند إلى خشب أو حديد ولكن الإدارة اضطرت بعد قليل إلى الاستعاضة عن الخشب بالحديد لكثرة فعل الشمس فيها فمجموع وزن المتر من هذا الخط ويدخل فيه قضبان الحديد الذي يسير عليه القطار والذي اسند عليه وغيره هو 103 كيلو غرامات أما فرش الخط فمن حجارة مكسرة من الأحجار البركانية.

وعدد المحطات المهمة قليل وهي تتألف من بناية لمكاتب الاستثمار ويقيم فيها المستخدمون ومن محطة للقاطرات وأحواض ماء وآلات رافعة للماء اللازم للقاطرات ثم طرق لتخزين المركبات. ولبعض هذه المحطات ورشات لإصلاح أدوات الخط وآلاته الثابت منها والمتحرك. وتجد بين هذه المحطات الرئيسية على مسافة عشرين إلى ثلاثين كيلومتراً محطات أخرى أقل شأناً من تلك وليس فيها سوى بناء هو عبارة عن مسكن للمستخدمين ويضاف في كل 70 إلى 80 كيلو متراً إلى هذه المحطات ما يلزم للقاطرات من أسباب حمل الماء اللازم ففي بعضها آبار وللبعض الآخر برك وهذه البرك قديمة البناء أنشئت لسد حاجات القوافل تمتلئ ماء في الشتاء فيستعمله الحجاج والبدو الذين يقصدونها للاستقاء منها مع إبلهم. وسعة بعض هذه البرك 36 ألف متر وبعضها 70 ألفاً وإذ كانت غير مغطاة ممتدة السطح وقليلة العمق يصبح الماء بعد مدة قليلة كريهاً ويتبخر سريعاً من حرارة الشمس. أما المحطات ذات الآبار وأكثرها قليلة العمق غالباً فإن مياهها تنضب بسرعة. فلا سبيل من ثم إلى إيجاد الماء الكافي للقاطرات والاستثمار إلا في بعض المحطات البعيد بعضها عن الآخر في الغالب وهذه الصعوبة في قلة الماء تزيد كلما توغل الخط متقدماً نحو المدينة. وللتغلب على هذه الصعوبات أضافوا أولاً إلى كل قاطرة مركبة حجمها 12 متراً مكعباً ثم استخدموا أحواضاً بمركبات تنقل الماء إلى المحطات التي يضطر فيها القطار إلى الاستقاء ولكن هذه الوسائط لم تخل من عوائق تجعل الخلل دائماً. فعقدوا العزم من ثم على حفر آبار عميقة جداً في كل 70 إلى 80 كيلومتراً ليمتاح منها الماء إلى البرك المغطاة. وقد جعلوا في الأماكن التي لم يتيسر فيها الحصول من الآبار على نتائج مرضية أحواضاً عظيمة مغطاة عمقها من 6 إلى 7 أمتار لتجمع فيها مياه المطر وتستعمل للشرب وجعلوا لها أدوات لتصفيتها من الأوساخ. ويحمل ماء الآبار والبرك إلى المحال اللازمة بواسطة مضخات بالبخار والأغلب بواسطة طواحين هواءٍ.

وقد حاولت الإدارة أن تفتح آباراً ارتوازية وحفرت بعضها إلى عمق 110 أمتار فلم تظفر بماءٍ ينبض وعللوا ذلك بأن السبب فيه إن ذاك السطح من الأرض يعلو من 800 إلى 1000 متر عن مساواة نهر الأردن فتسيل مياه الأمطار التي تتساقط هناك في الأحافير الكثيرة في الأرض نحو ذاك النهر. وربما كانت النتائج من ذلك أحسن كلما اقترب الخط من المدينة حيث تجري المياه إلى وجهة مخالفة.

ومعلوم أن سورية وبلاد العرب فقيرة جداً بغاباتها وليس فيها مناجم فحم أما الأصقاع التي يجتازها الخط الحجازي فهي خالية من كل ذلك بالمرة. فوقود القاطرات والوقود اللازم لتدفئة المستخدمين وطبخ طعامهم والاستصباح كل ذلك يجلب من الخارج إلى دمشق أو حيفا ومنها يحمل إلى المحطات الكثيرة حتى المدينة أي إلى مسافة زهاء 1400 كيلو متر وبهذا يرتفع سعر طن الفحم ارتفاعاً فاحشاً ولذا تبحث الإدارة في الاستعاضة عن هذا الوقود بزيت ثقيل يجلب من روسيا أو من الموصل على مقربة من بغداد.

كما أن الإدارة تفكر في طريقة تحفظ بعض التسويات الترابية فإن الخط في كثير من الأماكن ولا سيما في جهات العلا يجتاز أصقاعاً تربتها من رمال تسفيها الرياح الشديدة التي تثور في بعض فصول السنة فترتفع تلك الرمال تغشي الطريق وتسده وتحمل تلك التسويات التي أقيمت بهذا الرمل ولثقوبة هذه التسويات غطوا الحدور والسطوح بطبقة من تراب صلصالي مزجوها بالحصا من حجم مناسب وهو يوجد عَلَى أيسر وجه في جوار الخط.

أما أدوات الخط فتتألف من 43 قاطرة و512 مركبة نقل للبضائع و31 مركبة للركاب. هذا وقد بدئ بإنشاء الخط الحجازي في أوائل سنة 1900 وتم مؤخراً إى المدينة عَلَى مسافة 1300 كيلو متر بمعنى أنهم مدوا 140 كيلومتراً في السنة وقد كلف كل كيلو متر بما فيه المحطات والأدوات المتحركة من 35 إلى 40 ألف فرنك وهو قدر زهيد بالنسبة إذا اعتبرنا الأحوال التي لتخلل العمل هناك من الصعوبات عَلَى أن أيدي العملة من الجند هي التي ينسب إليها الفضل في تقليل النفقة.

نرى للخط الحجازي من حيث المنافع العثمانية مكانة عسكرية وسياسية كبرى لأنه سيصل عما قريب بخط حديدي لا ينقطع بين الأستانة وبين قطر بعيد كثيراً عنها ويسكنه قوم صعب قيادهم. أما من حيث التجارة فأي فائدة له؟ وليت شعري هل يكفي نقل البضائع والركوب لوفاء رأس المال الذي صرف عَلَى الخط والنفقات اللازمة لاستثماره وهي ليست قليلة. وهل يختار الحجاج الذين يقصدون مكة الركوب في هذا القطار على السير في طرق القوافل يا ترى؟ هذه مسائل يحلها المستقبل ثم ألا يخشى من انتشار الهواء الأصفر بهذا الخط بين البلاد عَلَى الرغم من المحجر الصحي في تبوك الواقعة على سبعمائة كيلو متر من دمشق اه.

هذا ما نشرته مجلة الطبيعة الثقة في العلوم الطبيعية والرياضية بشأن سكة الحجاز وقد ختمها الكاتب بما لا تكاد تخلو منه كتابات الإفرنج عن الشرق وضعف الأمل في مستقبله وأعماله ونعني بذلك أن الخط الحجازي لا شأن له من حيث التجارة لأن الحجاج قد يؤثرون طريق القوافل عَلَى الركوب فيه وأنه يكون واسطة لنقل الوباء من القطر الحجازي إلى القطر الشامي. وكل هذه هو الخطأ بعينه لأنا نرى الحجاج يؤثرون الركوب في الخط الحجازي عَلَى ما فيه الآن من خلل في إدارة واستثماره وقلة وسائط الراحة ولو وفرت العناية به لظهرت الفوائد التجارية المادية ظهور الشمس في رابعة النهار ويكفي الآن أن الخط بين دمشق والمدينة قد حسن تجارة البلدين كثيراً بل أن من بعض الأراضي عَلَى طول الخط ما عمر أو كاد الآن بفضل المواصلات. والإفرنج يقولون: مدد الخط الحديدي في قفر ونحن نضمن له العمران فما بالهم يحللون لأنفسهم ما يحرمونه علينا ثم أن دعوى أن الخط الحجازي ينقل جراثيم الوباء مسألة فيها نظر بعد أن تحجر الحكومة على الحجاج في تبوك أياماً على أنه قد تمر السنين ولا ينتشر الوباء في الحجاز.

العهر والزواج

ألقى المسيو مالابرا أحد أساتذة الفلسفة في باريز محاضرة في مدرسة الدروس الاجتماعية العالية قال فيها: إن من يذهبون إلى أن التصريح بشرح المحظورات والرذائل أما الطلبة مما يضر بآدابهم ويعرفهم ما كان يجب السكوت عنه معهم هم في ضلال من آرائهم. وإن ما يرونه من جهل الأطفال في هذه الأمور مما يحفظ عليهم طهارتهم وعفتهم هو الخطر والخطل وذلك لأن الجهل لا يعد فضيلة ولا يقوم مقامها لأن للجهل حداً وزمناً يقف عندهما وعندئذ يسرع العطب إلى الفضيلة. ثم أن من يتوهم بأن الشاب يبقى إلى السادسة عشرة من عمره غير عارف بأسرار الرجولية هو من العماية بمكان. لأن الشاب لا يلبث أن يتعلم من بعض أقرانه الذين هم أعرف منه بهذه الأمور لم يتعلم ذلك من والديه أو معلمه فالوالدة خصوصاً هي أعرف بالزمن الذي يجب أن تنصح به لأبنها بما ينبغي له اتقاؤه من المفاسد وهي أقدر من غيرها عَلَى نصحه النصح اللازم بدون أن تمس أصلاً من أصول الحياء. ولكن معظم الوالدين يتسامحون بإعطاء هذه النصائح ويتخذون من جهل أبنائهم بما يترتب عليها من المفاسد حجة عَلَى سكوتهم. ومن المعلمين من تضيق صدورهم بشرح ما ينبغي ذكره للشبان مجتمعين ويؤثرون أن يذكروها لبعضهم منفردين ومنهم من يرون أن يعهد بحث هذه النصائح لطبيب الأسرة وآخر للرئيس الديني والأحسن أن يكون أمرها بيد المعلمين.

يجب أن يقال للأولاد أنكم إذا أحببتم أن تكونوا في حياتكم أهل شرف وحشمة أن تعرفوا أن الأمم يضمحل أمرها متى فقدت آدابها وأنه لا سبيل إلى شخص أن يكون في مبدأ أمره فاسقاً ثم يكون في دور آخر صاحب فضيلة محترم المقام. فمن فصول الأخلاق فصل اعتادوا ويا للأسف أن لا يشرحوه لكم عَلَى حين هو جدير بالشرح وأعني به علاقة الرجل بالمرأة لما في ذلك من المخاطر والأهواء والشرور والمفاسد التي تعبث بمعنى الفضيلة والشرف والعدل. إن من أبشع ضروب السفسطة ما يزعمه بعضهم من أن خيانة المرأة من أعظم الجنايات وينتفرون خيانة الرجل وربما عدوها من أنواع الظرف واللباقة عَلَى حين هما مشتركان في الجريمة وارتكاب المآثم والرياء. ولعلهم يرون أن المرأة مخلوق بلغ مبلغاً عظيماً من الطهر والعفاف وهما لها من الأمور الطبيعية السهلة وأن الرجل هو من هذه الوجهة محتقر مرذول لا سبيل إلى مطالبته بأن يسير عَلَى غير ما يسير عليه الخنازير أو العصافير. أو لعل بعضهم يقول بأن خيانة المرأة وهي تأتي إلى البيت الأبوي بولد ليس منه يشارك أهله في العطف والإرث ويسيء استعمال الحقوق الطبيعية التي هي لأهله الأصليين من دون الدخلاء لا تعد شيئاً ولكن الرجل الذي يضع أبنه في غير بيته هل هو أقل ظلماً لأسرته والمجتمع من تلك المرأة وهذه تحمل الطفل في أحشائها تسعة أشهر وترضعه وتربيه وتتعب به أما الوالد فيقضي حظه في ساعته ويذهب مختالاً. ولكن هذا الظلم في الحكم عَلَى الجنسين ليس إلا اعتقاداً عاطلاً قديماً ورثناه عن الأجداد الذين كانوا ينظرون إلى المرأة نظرهم إلى حيوان مفترس أو دابة ركوب وأنها خادمة الرجل وملكه ومتاعه نهبها في الحرب أو ابتاعها من السوق وبذلك كانت سرقتها خرقاً لحقه وجنايتها إهانة لعظمته وتمكينها من نفسها ضرباً من ضروب الاعتداء عَلَى حق غيرها وهي لا حق لها يعرف بتة.

نعم ليس ثمت أدبان فمن سار سيرة سيئة دنيئة مع امرأة لا يستطيع أن يكون عفيفاً مخلصاً عادلاً بقية حياته ومن أسخف ما يقولونه حتى كاد يسري مسرى المثل أن الشبيبة طور من أطوار الحياة لا بد من قضائه أي أنه يتسامح مع الشاب أن يأتي ما يأتي. وكم من رجال أُفسدوا بهذه الحكمة السخيفة ومن وجدانات يعبث بها كل يوم من تاثيراتها. فمن أفظع الأمراض التي يصاب بها الشباب مرض الزهري فقد أثبت الإحصاء أن واحداً من كل سبعة رجال يصاب به في فرنسا وواحداً من كل أربعة يصاب به من طلبة باريز فهذا الطاعون الجديد كما يسمونه يحمل معه أمراضاً كثيرة منها العقم والفالج العام والموت فكما أنه مرض عقام فهو معدي حتى من بعد خمسين سنة فإن أصيب به يحمله إلى غيره حتى بعد هذه المدة فقد ثبت أن الإصابات عَلَى هذه الصورة ليست نادرة بل أن 19 في المئة من النساء يصبن به من رجالهن وينقلنه إلى أولادهن وأن عشرين ألف طفل في سنة يولدون ميتين أو يموتون في الشهور الأولى من ولادتهم بسبب هذا الطاعون ومن يعيش منهم يبقون في عاهات وسقوط نفسي وجسدي كاحديداب ظهورهم ووقر في آذانهم وعقلة في ألسنتهم وضعف في قواهم العقلية وبلاهة وحمق. فأي شاب عاقل يعرض أولاده لهذا المرض بصنعه ويورثه هذه المصائب ولا تؤاخذه نفسه على ما أتى قائلاً أنه يكفر عن سيئات ارتكبها ويؤخذ بجنايات أتاها دع عنك ما ينال الشخص نفسه من ضعف القوى العقلية وضعف النشاط والفتاء مما يجعل فيه استعداداً للسل وللأمراض العصبية والعقلية فمن يسرف في حبه على صورة دنيئة جنونية يوشك أن يهينه ولا يهين المرء حبه إلا إذا أهان نفسه فقد قيل ما من امرئ يأتي ما يخجل منه بدون أن يصدر عنه ببعض المقت والقذارة. وبهذا رأيتم أن العفة تطالبكم بالاحتفاظ بها لا للحيطة على النفس فقط بل حرصاً عليها من التدنس والعار.

وأني لأعجب لمن يعمد إلى إغواء فتاة ثم لا يعلم أنه كما تدين تدان ويستاءُ إذا بلغه أن أخته أو إحدى أقاربه قد اتخذت لها خليلاً حتى يكاد يموت خجلاً وربما أدى به ذلك إلى ارتكاب الجنايات. وأني لأرثى لحال تلك الفتاة التي أُغويت وتركها مغويها بما فيه من دناءة. ومن قال بأن جريمته تغتفر إذا استفاد من فتاة أغواها قبله إنسان فهو شريكه في الجرم لا محالة ومن أمثال هؤلاء الشبان كثر العهر والفجور أحد الأدواء الاجتماعية في هذا المجتمع. فمن دناءة الطبع أن يبيع المرء جسمه من كل طالب فهل ترون أقل دناءة من يبتاع جسم غيره؟ فقد قال فيكتور هوغو كلاماً حرياً بالإمعان:

يقولون أن الرق زال من الحضارة وهذا وهم لأنه ما زال بحاله ولكنه رق لا تنوءُ تحت عبئه إلا المرأة وهو ما يسمى بالعهر. لا يثقل على المرأة أي على اللطف والضعف والجمال والأمومة وذلك من موجبات الخجل للرجل.

وأن من يقول أن الشاب بما يأتي يقوم بواجب طبيعي لا نجيبه إلا بأن ما يعمله هو من نتائج التفكر. ويتأتى له أن يفلت من مخالب هذه المفاسد إذا صحت عزيمته وسلمت إرادته فالإرادة وحدها هي الباعثة عَلَى الشهوات وإذا قيل أن مقاومة الطبيعة صعبة فإنا نقول بأن ما يصرف من القوى في جهاد النفس والهوى أقل مما يسرف منها إذا سار المرء بما تمليه فطرته الرديئة. ومن خلص نفسه من هذه المآزق كان خليقاً بأن يعد مالك نفسه ثبت الإرادة متين الأخلاق كريم العواطف وكل ذلك من صفات الرجولية.

فعليك يا هذا أن تعلي قدر الحب وأن تبتذله لأنه أجمل ما في الأرض وأقدسه وأن تعلي قدر المرأة بحيث لا تهان لأنها في البيت والمجتمع حارسة الكمال وهي في ذاتها جزءُ بل أشرف جزءٍ من الكمال في الحياة وعليك أن تتمثل أبداً المرأة في ذهنك صورة حية كما تتمثل أختك وأمك صورة الطهر واللطف واعتقد بما قاله تورية: إن من يتزوج شاباً وهو سليم البنية ويختار فتاة شريفة سالمة من العاهات ويمازج حبها شغاف قلبه ويبذل كل نفسه وقواه ويجعلها رفيقة أمينة له وأماً ولوداً ويميل لتربية أولاده ويكون لهم خير مثال بعد وفاته هذا هو الحقيقة وما عدا ذلك خطأ وجناية وجنون.

ولا أسهل عليك من التوقي من ضروب الإغواء والغواية إذا أزمعت أن تتزوج شاباً وفكرت فيمن تكون أليفة حياتك ممن ربما تكون عرفت صورتها من قبل وأحببتها وكتمت حبها في صدرك فتشاطرك في الحياة آلامها وأفراحها وه تكون لك عوناً كما أنت لها عون بما تشعر به من حبك لها حباً دائماً جميلاً وتتخذ من جسدك وروحها أحسن مادة تؤلف منها جسد ولدك وروحه.