مجلة المقتبس/العدد 42/غنى العثمانيين

مجلة المقتبس/العدد 42/غنى العثمانيين

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 8 - 1909



لا يعقل أن تكون المملكة العثمانية على هذه السعة والاعتدال وفيها من الأنهار والحراج والمعادن ما فيها ومن ذكاء سكانها وزكاء تربيتها العجب العجاب وتصبح في هذه الدركة من الفقر والانحطاط.

لا يعقل أن تكون بلاد هذه السلطنة التي ضمت إلى صدرها كثيراً من ممالك الأقدمين كالفينيقيين والغسانيين واللخميين والحثيين والحميريين والصفويين والنبطيين والبابليين والآشوريين والمقدونيين واليونانيين والفراعنة وتكون مساحة ولاياتها الثلاثين خمسة أضعاف ألمانيا ولا يكون فيها من السكان سوى نحو ثلاثين مليوناً على حين يبلغ سكان ألمانيا زهاء خمس وستين.

لا يعقل أن بلاداً فيها من الأنهار العظيمة مثل سيحان وجيحان ودجلة والفرات وقزل ايرمق واردار وغيرها من الأنهار أن تمحل ولا تخصب مع أن الخالق خصها بتربة ممرعة فيعطي مد الحنطة في بعض جهاتها مئة مد ثم تقرأ الفقر المدقع في وجوه أهلها.

لا يعقل أن بلاداً لها عشرات من الموانئ على شواطئ البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر وبحر الادرياتيك والمحيط الهندي وهي متاخمة لممالك البلقان وأوروبا من جهة ولبلاد السودان وصحراء إفريقية وشماليها من جهة وروسيا وإيران من أخرى ثم لا تستطيع أن تبعث بغلاتها إلى البلاد الخارجية لتتناول منها ثمنها نقداً لسد العجز المحسوس بين وارداتها وصادراتها.

ولكن من نظر في الأمر نظر متدبر وعرف أن حكومة الاستبداد تحرق الأخضر واليابس وتخرب العامر والغامر وأن الجهل مبيد الأمم برمتها دع عنك عمرانها لا يستغرب ما قدر لهذه السلطنة بل يعجب كيف أبقى الاستبداد فيها عقولاً تفكر وأيدي لتعمل ونفوساً تشعر بالتأخر.

كان همّ الحكومة المطلقة في هذه السلطنة أن تحتال لسلب النعمة الباقية من يد الأهين فكانت تشاركهم في أموالهم على غير رضاهم وهي لا تحميهم في أنفسهم وأموالهم ولا في مرافقهم وصحتهم وكيف تهتم لإسعادهم وهم عبيدها إذا طلبوا أن تخفف عنهم العذاب قاتلتهم وأن أرادوها أن تحاسنهم خاشنتهم، وكيف بطلب من الجاهل ما يطلب من العالم وهل ينفق امرؤ إلا مما عنده وهل الحكومات إلا أفراد مجتمعون.

لسنا في صدد بيان مساوئ الدور البائد بل نريد الإلمام بغنانا وذكر شيءٍ من مستقبلنا، وغنانا في دور هذه الحكومة النيابية السعيدة مناط بهمتنا وهمتها إن عملت وعملنا حسبت بلادنا في عشر سنين في جدول البلاد الراقية وإلا فنبقى دستوريين بالاسم لا نستثمر من قوانيننا الجديدة وخيرات بلداننا العتيدة فائدة يعم نفعها.

نحن نطالب الدولة اليوم أن تؤسس لنا من المرافق العامة ما لا طاقة للأفراد أن يقوموا به من مثل إنشاء السكك الحديدية حتى تربط الأستانة مع أقصى بلاد العرب وتتصل وأن باشقودرة وطرابزون بالقدس وبغداد بالقاهرة ودمشق بطرابلس الغرب فتصبح ولايات الروم ايلي والأناضول وبلاد العرب متصلة كالحلقة الواحدة بشرايين من حديد ويتيسر لفلاح ملاطية وحكاري في الديار الكردية أن يبيع غلاته وثمراته من ابن طنطا والاسكندرية في الديار المصرية فلا تباع اقة الخبز الجيد بعشرين بارة كما في بعض بلاد الأناضول وتباع في دمشق بثمانين وتباع بمئة وستين في القاهرة.

نطالب الدولة أن تنشئ السدود وتجفف المستنقعات حتى ينتفع بكل شبر من الأرض يمكن زرعه وتشجيره ولا تهلك البلاد المجاورة لتلك المياه لقلة ريها كمن يصبح عطشاناً وفي الماء فمه وأن تصلح سقياها فلا يذهب ماء الفرات ودجلة بل مياه كثير من الأنهار والخلجان بلا فائدة وترى حواليها البلاد قاحلة تنتظر ماء الأمطار لتروى وما هي بمضمونة معظم السنين، وبذلك تجود صحة السكان النازلين بالقرب من تلك الأراضي وتقل الحميات والأمراض الوافدة فيهم فينمون ويتناسلون فتزيد البلاد بهم قوة.

كانت الأوبئة والطواعين تنتاب البلاد العثمانية قبل أن يعرف الأهالي والحكومة معنى التوقي المشروع فتهلك من سكانها مئات الألوف ولو ذكرت تواريخ المتأخرين ما انتاب البلاد كلها من الموتان فقط في المائتي سنة الأخيرة لزال العجب من قلة النفوس في بعض الولايات قلة لا تكاد تصدق، ولكن الزلازل والأوبئة والحريق والغارات مهما بلغ من تدميرها السكان والمكان يتأتى جبر ما أوهته ورنق ما فتقته وتعويض ما خسرته لو كان في البلاد شيء يقال له عدل وعلم.

مثال ذلك مدينتنا بيروت ودمشق فإنهما منذ جلب إليهما ماء نهر الكلب وعين الفيجة في أنابيب تقي الماء من الجراثيم الضارة قلت الأمراض قلة محسوسة حتى أن الهواء الأصفر انتاب سورية مرتين في العهد الأخير ولم يعرج على بيروت مع انتشاره كثيراً في صيدا وطرابلس المجاورتين لها وكذلك في دمشق منذ أخذ بعض أهلها يتسربون من ماء الفيجة الطاهر فلو تيسر لسائر مدن سورية مثلاً ما تيسر لنا من الماء النقي كالقدس وعكا ونابلس وطرابلس وصيدا واللاذقية وحمص وحماة وحلب وغيرها من الأمصار لما جاء على سورية ربع قرن إلا وسكانها ضعف ما هم الآن.

هذا في أبسط الأشياء وأقربها تناولاً فما الحال لو تشعبت خطوطها الحديدية عريضة كانت أو ضيقة بحيث لا تخلو قرية فيها خمسة آلاف نسمة من الارتباط مباشرة مع أمهات المدن فحاصبيا وراشيا وقطنا ودومة والنبك والقنيطرة وصلخد وعاهرة والسويداء والعمرانية وسلمية وبصر الحرير وعجلون والسلط والكرك كل هذه القصبات مراكز أقضية مهمة لا اتصال لأكثرها مع حاضرة الولاية إلى على ظهور الدواب والبغال والجمال فلو اتصلت بدمشق مثلاً كما اتصلت الزبداني والبقاع وبعلبك وحمص وحماة ومعان وشمسكين ودرعا إذاً لتوفر عمرانها وغزر سكانها واغتنت أرضها بغلاتها وثمراتها وسهل على البعيد أن يقتني أراضي لا يصل إليها على المطايا إلا في أيام طويلة فيبلغها مع القطار في ساعات.

ومثل ذلك قل عن ولايتي حلب وبيروت ومتصرفيتي القدس وجبل لبنان بل قله عن ولايات طرابلس الغرب واليمن والحجاز والبصرة وبغداد والموصل وديار بكر ومعمورة العزيز وبتليس وقسطموني ووان وارضروم وطرابزون وسيواس وقونية وانقره واطنه وجزائر البحر الأبيض وآيدين وخداوندكار والأستانة وادرنة وسلانيك ومناستر ويانيا وقوصوة واشقودرة ومتصرفيات بنغازي والزور وبيغا وجاتلجه وازميد.

ليس عند الدولة اليوم من الخطوط الحديدية ما يكفي لخمس ولايات فقط وقدروا عدد ما لديها منها بنحو سبعة آلاف كيلومتر تدفع على أكثرها ضمانات كيلومترية كل سنة لا تقل عن ستمائة ألف ليرة ولو كان رجالها في العهد الماضي على شيءٍ من الذمة والعقل لما فادوا بمصلحة أمتهم لقاء منفعة ذاتية تافهة إلى هذا الحد ولكانوا أنشؤوا معظم تلك الخطوط بأيدي شركات عثمانية تستلف من أوروبا ما يقتضي لها من المال بمقابل معتدل تسدده من مداخيل الخطوط التي تمدها فكما لم يعسر على الحكومة العثمانية إنشاء خط حديدي من دمشق إلى المدينة وهو لا يقل عن ألف ومئتي كيلومتر في واد غير ذي زرع لا يصعب عليها أو على الأمة أن تنشئ خطاً حديدياً مثلاً من دمشق إلى بغداد والمسافة بينهما ثمانمائة كيلومتر أو من دمشق إلى الأستانة والمسافة ألف ومئة كيلومتر تمر بأقاليم كلها عامرة بطبيعتها مشهورة بخصبها وجودة تربتها.

ولكن البلاد حتى اليوم لم تبرح كمن خرج من تحت الردم لا يكاد يفيق لكثرة ما لقيه من مصائب الأدوار السالفة والحكومة على سعي القائمين بشؤونها في العاصمة لم تستطع حتى الساعة أن تدبر ميزانيتها على ما ينبغي والعجز لم يزل يربو على أربعة ملايين ليرة كل سنة فقد بلغت نفقات الحكومة هذا العام 29929521 ليرة عثمانية ووارداتها 24587217 ليرة على ما أدخل عليها من تعديل رواتب الموظفين وغير ذلك من أنواع الاقتصاد وكان يرجى أن تزيد الأعشار هذه السنة زيادة محمودة لأن معظم أرباب النفوذ والفنى لم يعتادوا أن يؤدوا للخزانة في السنين الغابرة أكثر من خمس وارداتهم في الأغلب بل بعضهم ما كانوا يدفعون عشر العشر دع عنك سائر التكاليف.

وآخر إحصاء رأيناه في زيادة أعشار هذه السنة أنها زادت في السلطنة عن السنة الماضية مائة وخمسين ألف ليرة مع أن أعشار ولاية سورية وحدها زادت ثلاثة وأربعين ألف ليرة ولو عنيت حكومة هذه الولاية بتلزيمها حق العناية لما قلت الزيادة عن مئة ألف ليرة من الأقضية والألوية التي تدفع الأعشار بدلاً فضلاً عن لواء حوران الذي يدفع عشراً مقطوعاً بلغ هذه السنة تسعين ألف كيلة من الحنطة ولو استوفت من أهله الأعشار بحسب ما يجب عليهم أداؤه لأخذت هذا القدر المأخوذ من قضاء واحد فما بالك بسائر الأقضية على أن بعض الولايات كحلب مثلاً أصيبت هذه السنة بنقص غلاتها وثمراتها للجراد الذي انتشر في أرجائها ولكن حال سائر الولايات ليس كذلك.

ولا علة لهذا إلا أن موظفي المالية والإدارة ضعاف في معظم الولايات والأهلون أكثر منهم جربذة واحتيالاً فتمكنوا كما كانوا في العهد السالف من التزام الأعشار بالأثمان البخسة ويفكر ناظر ماليتنا اليوم في تخفيض العشر من اثني عشر ونصف في المئة إلى عشرة فقط لتبقى للفلاح بقية صالحة من وارداته يعمر بها أرضه ويكسو أهله ويرمم اصطبله وداره ويستكثر من الماشية لأن الحكومة تستوفي الآن من الفلاح جميع ما يملك كل سبع سنين، كما يفكر في زيادة رسوم الكمارك أربعة في المئة فتصبح خمسة عشر في المئة بدلاً من أحد عشر فإذا حسبنا قيمة ما تتقاضاه الدولة من الكمارك سنوياً 3868866 ليرة عثمانية كما هو المقدر في الميزانية الأخيرة والكمرك بعد عشرة في المئة لا تقل الزيادة عن مليون ونصف ليرة يسد بها جانب مهم من عجز الميزانية من قابل، ولا شك أن ضرائب الأملاك ستزيد أيضاً لأنها قليلة بالنسبة ولا سيما على أرباب السعة الذين كانت الحكومة السالفة تتسامح معهم بأكل حقوقها عن قصد والمأمول أن يزيد كل شيء على تلك النسبة من مثل بدلات العسكرية التي ستتقاضاها الحكومة من غير المسلمين في السلطنة.

قلنا ومن أمثل الأعمال تخفيف الأعشار في السلطنة أو إلغاؤها إن أمكن والاستعاضة عنها بضرائب على الأراضي بحسب موقعها وخصبها والزيادة في الكمارك وربما لا يخلو هذا الصنيع من زيادة قليلة في ثروة البلاد ويرغب السكان بعض الشيء عن البضائع الأجنبية ويستعملون ما أمكن من مصنوعات بلادهم فإذا لم يقل الوارد من السلع الأجنبية فلا أقل من وقوفه عند هذا الحد، ويقدرون قيمة صادراتنا بنحو اثنين وعشرين مليون ليرة عثمانية ووارداتنا بنحو ثلاثة وثلاثين مليوناً أي أن البلاد الأجنبية وأوروبا خاصة تأخذ منا كل سنة عشرة ملايين نخسرها من مجموع ثروتنا وإذا أضفنا إليها قيمة ما تدفعه الحكومة العثمانية ربا ديونها وهو لا يقل عن تسعة ملايين ليرة لأن ما عليها من الديون يبلغ نحو مئة مليون من الليرات فتكون السلطنة العثمانية قد خسرت نحو عشرين مليون ليرة كل سنة على أقل تعديل.

والطريقة الاقتصادية لسد هذا العجز في المزانية هو الوقوف في النفقات عند حد معين والسعي في استثمار الأسهل فالأسهل من خيرات البلاد بحيث لا تتكلف الدولة الإنفاق على مشروع إلا إذا كانت الأرباح فيه تربو على الخسارة منذ أول سنة كإصلاح ري العراق مثلاً الذي يحتاج إلى عشرة ملايين ليرة مثلاً تأتي الدولة والأهالي بمليوني ليرة على الأقل تأخذ منها الحكومة لا أقل من مليون ليرة فإصلاح ري العراق بالاستدانة من أوروبا ربح ظاهر لا محالة ولا سيما إذا تقدمه إنشاء خط حديدي من بغداد إلى دمشق كما هو رأي السير ويلكوكس المهندس الانكليزي المشهور.

وإذا عنيت نظارة الغابات باستثمار غابات السلطنة على الأصول المتبعة في أوروبا وصانتها من فأس الأهلين وأنياب مواشيهم تزيد ثروة المملكة زيادة محمودة تؤثر في المجموع فلا تتناول ما يلزمنا من الأخشاب من النمسا أو رومانيا مثلاً بل نبتاعه من حراج قونية وقسطموني وآيدين وتكفي سائر حراج الروم ايلي والأناضول وسورية للوقود فتكفينا مؤونة الفحم الحجري أو البترول أو غيره من الوقود الذي تجلبه من الخارج.