مجلة المقتبس/العدد 47/كتاب العرب

مجلة المقتبس/العدد 47/كتاب العرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1910


أو الرد عَلَى الشعوبية

لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة من أهل القرن الخامس

تتمة ما في الجزءِ الماضي

ومنهم الحطيئة هجا أباه وأمه ونفسه فقال في أمه:

تنحي فاقعدي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا

ألم أوضح لك البغضاء مني ... ولكن لا أخالك تعقلينا

أغر بألا إذا استودعت سراً ... وكانوناً عَلَى المتحديثينا

وقال لأبيه:

لحاك الله ثم لحاك حقا ... أبا ولحاك من عمر وخال

فبئس الشيخ أنت عَلَى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي

جمعت اللؤم لا حياك ربي ... وأبواب السفاهة والضلال

وقال لنفسه:

أبت شفتاي اليوم ألا تكلما ... بشر فما أدري لمن أنا قائله

أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله

وأتى عيينة بن النهاس العجلي مادحا فقال عيينة لوكيله أذهب معه إلى السوق فلا يشيرن إلى شيء ولا يومن به إلا اشتريته له فلما انصرف عنه قال:

سئلت ولم تبخل ولم تعط طائلا ... نسيان لاذم عليك ولا حمد

ومن لؤم الغرائز أيضا في الناس أن منهم من يؤثر ريح الكرابيس عَلَى ريح اليلنجوج وريح الحشوش عَلَى نفحات الورد، ويهتاج من النساءِ لذات القبح والدفر، ويكسل عن الحسناء ذات العطر، ومنها أن الرجل يكون في رخاءِ بعد بؤس وسعة بعد ضيق فيسأَم ما هو فيه ويرغب عنه إلى ما كان عليه، وقال أعرابي قدم المصر فحسنت حاله:

أقول بالمصر لما ساَءني شبعي ... إلا سبيل إلي أرض بها جوع

إلا سبيل إلى أرض بها غرث ... جوع يصدع منه الرأس برقوع

وهذا وأشباهه من لئيم الغرائز كثير في الأمم وهذه الطبائع هي أسباب الشرف وأس الخمول فذو الهمة تسمو به نفسه إلى معالي الأمور وترغب به عن الشائنات فيخاطر في طلب العظيم بعظيمته، ويستخف في ابتغاء المكارم بكريمته، ويركب الهول ويدرع الليل، ويحط إلى الحضيض، وتأْبى نفسه إلا علواً حتى يسعد بهمته، ويظفر ببغيته، ويحوز الشرف لنفسه وذريته، ومن لا همة له جثامة لبد يغتنم الأكلة ويرضى بالدون ويستطيب الدعة وإن أعدم لم يأْنف من ذل السؤال والجبان يفرعن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه والشجاع يحمي من لا يناسبه بسيفه وبقي الجار والرفيق بمحبته والبخيل يبخل على نفسه بالقليل والجواد يجود لمن لا يعرفه بالجزيل وقال الله عز وجل (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) يريد قد أفلح من أنمى نفسه بالمعروف وأعلاها وقد خاب من أسقطها بلئيم الأخلاق وأخفاها وقد يكون الرجل مخالفاً لأبيه في الأخلاق وفي الشمائل أو في الهمم أو في جميع ذلك لعرق نزعه من قبل أجداده لأبيه وأمه وقال الشاعر:

وأشبهت جدك شر الجدود ... والعرق يسري إلى النائم

ومن الناس الشريف الحسيب وذلك الذي جمع إلى محاسن آبائه محاسن ومنهم الشريف ولا حسب له وذلك إذا كان لئيم النفس ومنهم من لا شرف له ولا حسب وذلك إذا كان لئيم النفس لئيم السلف.

وقال قيس بن ساعدة لأقضين بين العرب قضية ما قضى بها أحد قبلي ولا يردها أحد بعدي (أيما رجل رمى بملأَمة دونها كرم فلا لؤم عليه وأيما رجل ادعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له) يعني أن أولى الأمور بالمرء خصاله في نفسه فإن كان شريفاً في نفسه وآباؤُه لئام لم يضره ذلك وكان الشرف أولى به وإن كان لئيماً في نفسه وآباؤُه كرام لم ينفعه ذلك.

ومثله قول عائشة: كل شرف دونه لؤم فاللؤم أولى به وكل لؤُم دونه شرف فالشرف أولى به: وقال الشاعر في مثله

ومن بك ذا لؤُم ومجد يعده ... فأولى به من ذاك ما كان أقربا

فلا لؤُم عوداً بعد مجد يده ... ولا مجد معدوداً إذا اللؤم عقبا

والحسب مأْخوذ من قولك حسبت الشيء أحسبه حسباً إذا عدوته وكان الرجل الشريف يحسب مآثر آبائه وبعدهم رجلاً رجلاً فيقال لفلان حسب أي آباء يعدون وفضائل تحسب فالمصدر مسكن والاسم مفتوح كما تقول هدمت الحائط هدما فتسكن المصدر وتقول لما سقط إلى الأرض هد فتفتح الدال من الاسم وكذلك الأمم فيها أمة كرم بلبانها كالعرب فإنها لم تزل في الجاهلية تتواصى بالحلم والحياء والتذمم وتتعاير بالبخل والغدر والسفه وتتنزه من الدناءَ والمذمة وتتدرب بالنجدة والصبر والبسالة وتوجب للبحار من حفظ الجوار ورعاية الحق فوق ما توجبه للحميم والشفيق فربما بذل أحدهم نفسه دون جاره ووقي ماله بماله وقتل حميمه. منهم كعب بن مامة وكان إذا جاوره جار فمات بعض لحمته وداه وإذا مات له بعير أو شاة أعطاه مكان ذلك مثله. ومنهم عمير بن نسلي الحنفي أحد أَوفياء العرب وكان له جار فخالفه أخوه قرين إلى امرأَة فاشتد الرجل في حفظ امرأَته فقتله وكان عمير غائباً فلما قدم وخبر بذلك دفع قريناً إلى ولي المقتول فقتله واعتذر إلى أمه وعظم جرمه فقالت:

تعد معاذراً لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما

ومن أعجب أمر في الجوار قصة أبي حنبل حارثة بن مرَّ وكان الجراد سقط بقرب بيته فقصد الحي لصيده فلما رآهم قال أين تريدون قالوا نريد جارك هذا فقال أي جيراني قالوا الجراد فقال أما إذ جعلتموه لي جاراً فوالله لا تصلون إليه ثم منع عنه حتى انصرفوا ففخر بعضهم فقال:

لنا هضبة ولنا معقل ... صعدنا إليه بصم الصعاد

ملكاه في أوليات الزمان ... من بعد نوح ومن بعد عاد

ومنا ابن مرَّ أبو حنبل ... أجار من الناس رجل الجراد

وزيد لنا ولنا حاتم ... غياث الورى في السنين الشداد

وقال قيس بن عاصم يذكر قومه:

لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن

وقال مسكين الدارمي:

ناري ونار البحار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر

ما ضر جاراً لي يجاورني ... أن لا يكون لبابه ستر

وقال الحطيئة بعد محاسن قومه:

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا وإن كانت النعماء فيهم جروا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا

يسوسون أحلاما بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد

أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم ... من اللوم أوسدوا المكان الذي سدوا

ولهم الضيافة عامة شاملة في جميع البادين منهم والإيثار عَلَى النفس والجود بالموجود وأفضل العطا جهد المقل.

وقال عثمان بن أبي العاص: لذرهم يخرجه أحدكم من جهد فيضه في حق خير من عشرة آلاف درهم يخرجها أحدنا غيضاً من فيض: ولولا ما تواصوا به من الضيافة وتحاضوا عليه من الإيثار لمات الخير وأبدع به دون غايته.

وقال أرطاة بن سهية:

وما دون ضيفي من تلاد تحوزه ... إلى النفس إلا أن تصان الحلائل

وقال ابن أبي الزناد قال عبد الملك بن مروان ما يسرني أن أحد من العرب ولدني إلا عروة بن الورد لقوله:

وإني أمروءٌ عافي إنائي شركة ... وأنت امروءٌ عافي إناؤُك واحد

أتهزأُ مني أن سمنت وإن ترى ... بجسمي مس الحق والحق جاهد

أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد

يريد أنه يقسم قوته على أضيافه فكأَنه قسم جسمه لأن اللحم الذي ينبت ذلك الطعام يصير لغيره ويحسو قراح الماءِ في الشتاء ووقت الجدب والضيق لأنه يؤَثر باللبن فتوقف عَلَى هذا الشعر وعَلَى ما فيه من شريف المعاني.

وقال آخر:

إذا ما عملت الزاد فالتمس له ... أكيلا فإني غير آكله وحدي

بعيداً قصياً أو قريباً فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي

فكيف يسيغ المرءُ زاداً وجاره ... خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد

ولعل الطاعن أن يقول في هذا الموضوع فأين هو من ذكر مزرد وحميد الأرقط وهجائهما للأضياف وأين هو من مطاعمهما الخبيثة من الحيات والضباب واليرابيع والعلهن وشربهم الفظ والمجدوح وأكل ميلسرهم لحوم الإبل حيذاً غير نضج ونيا والعروق والعلابي وسقط المائدة لا يعافون شيئاً ولا يتقذرون أكل السباع ونهش الكلاب ويفخر عليهم بأطعمة العجم وحلوائها وآدابها عَلَى الطعام وكلها باليارحين والسكين فإما هذان الشاعران اللذان يهجوان الأضياف ويصفانهم بكثرة الأكل وجودة اللقم فإن أحدهما كان فقيرا ضعيف الحال فإذا نزل به الضيف لم يجد بداً من إيثاره بقليل ما عنده أو مشاركته فيه فيبيت طاوياً ويصبح جائعاً ويجيش صدره بما حل به والشاعر بمنزلة المصدور لابد من أن ينفث فيستريح إلى ذكر لقم الضيف ووصف أكله وحديثه قال هو أو غيره بذكر الضيف:

تجهز كفاه ويحدر حلقه ... إلى الزور ما ضمت إليه الأنامل

يقول وقد ألقى المراسي للقرى ... ابن لي ما الحجاج بالناس فاعل

فقلت له ما إن لهذا طرقتنا ... فكل ودع الأخبار ما أنت آكل

أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بياناً وعلماً بالذي هو قائل

وقال أيضاً يذكر الأضياف:

باتوا وجلتنا الشهرين بينهم ... كأَن أظفارهم فيها السكاكين

فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقى المساكين

أراد من الأضياف من يأْكل التمر بالنوى وهذا يدل عَلَى شدة فقره. وأما مزرد فكان شرهاً منهوماً والشره رفيق البخل وهو القائل:

لبكت بصاعتي صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتربع

فقلت لبطني أبشر اليوم إنه ... حوى أمنا مما تحوز وترفع

فإن يك مصبوراً فهذا دواؤه ... وإن يك غرثاناً فذا يوم يشبع

وقال الحطيئة:

أعددت للضيفان كباً ضارياً ... عندي وفضل هراوة من أرزان

ومعاذراً كذباً ووجهاً باسراً ... وتشكياً عض الزمان الألزان

وهذا شر القوم وليس من الناس صنف إلا وفيه الخير والشر عَلَى ذلك أُسست الدنيا وعليه درج الناس ولولا أحدهما ما عرف الآخر وإنما يقضي بأغلب الأمور ويحكمون بأشهر الأخلاق. وليس في ثلاثة من الشعراء أو أربعة ما هدر مكارم الأخلاق آلاف من الناس وبدد صنائعهم. فهذا كعب بن مامة آثر بنصيبه من الماء رفيقه النمري حتى مات عطشاً.

وهذا حاتم الطائيّ قسم ماله بضع عشرة مرة ومرة في سفره عَلَى عنزة وفيهم أسير فاستغاث به ولم يحضره شيءٌ فاشتراه من العنزيين فخلاه وأقام مكانه في القد حتى أدى فداءه. وكل فخر في طي فهو راجع إلى نزار ولهم الجبلان وهما بنجد وأخذهم بآدابهم وتخلقهم بأخلاقهم. وهذا عديُّ شاطر ابن دارة الشاعر ماله. وهذا معن في الإسلام كان يقول فيه حدث عن البحر ولا حرج وعن معن ولا حرج. وأتاه رجل يستحمله فقال يا غلام أعطه فرساً وبرذوناً وبغلاً وعيراً وبعيراً وجارية ولو عرفت مركوباً غير هذا لأعطيتكه. وهذا نهيك بن مالك بن معوية باع إبله وانطلق بأثمانها إلى منى فانهبها والناس يقولون مجنون فقال:

لست بمجنون ولكني سمح ... أنهيكم مالي إذا عز القمح

وهذا شيء بكثر جداً ويتسع القول فيه ويخرج الكتاب من فنه باستقصائه وكان غرضنا في هذا الكتاب أن ننبه بالقليل من كل شيء في عيون الأخبار. وأما تعييرهم إياهم بخبيث المطعم كالعلهز والحيات وخبيث المشرب كالفظ والمجدوح فإن هذا وأشباهه طعام المجاوع والضرورات وطعام نازلة الفقر والفلوات وقال الشاعر:

إذا السنة الشهبآء حل حرمها

يريد أنهم يأْكلون فيها الميتة وقال الراعي:

إلى ضوء نار يشتوي القد أهلها ... وقد يكرم الأضياف والقد يشتوي

وإنما كأن يكون هذا عيباً لو كانت العرب مختارة له في حالة اليسر كما تختار بعض العجم الذباب وبهم عنه غنى والسراطين والدجاج لهم معرضة فأما حال الضرورة فالناس كلهم يعسرون فمن لم يجد اللحم أكل اليربوع والضب ومن لم يجد المآء شرب المحدوح والفظ.

قال الأصمعي أغير عَلَى إبل حريثة فذهب فركب بحيرة فقيل أتركب الحرام فقال يركب الحرام من لا حلال له: وقال الشاعر:

يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع

ومما يدلك عَلَى أن أهل الثروة منهم على خلاف ما عليه الصعاليك والغثر قول الشاعر:

فما لحم الغراب لنا بزاد ... ولا سرطان أنهار البريض

فالتقى من أكل لحوم الغربان وعير بها قوما.

وقال آخر لامرأَة:

أكلت دماً إن لم أرعك نصرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

فلو كان شرب المجدوح عنده محموداً لم يجعل يمينه شرب الدم كما يقول القائل شركت بالله إن لم أفعل كذا وكذا.

وقال آخر:

نعاف وإن كانت خماصاً بطوننا ... لباب النقي والعجاب المجردا

يريد أنه يرغب وإن كان جائعاً عن أكل الخبز بالتمر إلى أكله بالشحم ونزل رجل من العرب فقدم إليه جراداً فعافها وأنشأ يقول:

لحى الله بيتاً ضمني بعد هجعة ... إليه دجوجي من الليل المظلم

فأبصرت شبحاً قاعداً بفنائه ... هو العير إلا أنه يتكلم

أتاني بيرقان الدبا في إنائه ... ولم يك في برق الدبا لي مطعم

فقلت له غيب إناءك واعتزل ... فهل ذاق هذا إلا أبا لك مسلم

وأما أكلهم العلابي والعروق واللحم النيء وتركهم طيبة الأطعمة والأطبخة وحسن الأدب عند الأكل فهذا لعمري هو الأغلب على من الأغلب عليه الفقر فأما ذووا النعمة واليسار والأقدار فقد كانوا يعرفون أطايب الطعام ويأْكلونها ويأْخذون بأحسن الأدب عليها.

فالمضيرة لهم واسمها يدلك على ذلك تطبخ باللبن الماضر وهو الحامض فاشتق اسمها منه.

والهريسة لهم سميت بذلك لأنها تهرس أي تدق ويقال للمدق المهراس والوشيقة لهم والعامة تسميها العشيقة سميت بذلك لأنها توشق أي تقطع صغاراً والعصيدة لهم وسميت بذلك لأنها تعصد إذا عملت أي تلوى وكل شيءٍ ألويته فقد عصدته ومنه قيل للمائل عنقه عاصد وقال مرود:

لبكت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتربع

وهذا هو العصيدة وقال أمية ابن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان:

له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي

إلى روح من الشيزى ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد

وهذا هو الفالوذ وهم أوصف الناس للطعام وألطفهم في ذكره. حدثني أبو حاتم قال حدثني الأصمعي قال حدثنا أبو طفيلة قال حدثنا شيخ من أهل البادية قال ضفنا فلاناً بحنطة كأَنها مناقير النغران وتمر كأَنها أعناق الورلان يوحل فيها الضرس.

وحثنا الأصمعي أيضاً عن أعرابي أنه قال تمرنا خرس فطس يغيب فيه الضرس كأَن نواهن السن الطير تضع التمرة في فيك فتجد حلاوتها في كعبك.

وحدثني عبد الرحمن عن عمه قال قال شيخ من أهل المدينة فأتاني بمرقة كأن فيها مشقاً فلم أر الأكبداً طافية فغمست يدي فوجدت مضغة فمددتها فامتدت حتى كأَني أزمر في ناي ولهم أطبخة كثيرة من أطبختهم الغسانية وهي لا تعرفها عامتنا كالحيسة والربيكة والخزيرة واللفيتة تركت ذكرها واقتصرت عَلَى ما تعرف وكانوا يقولون:

أطيب اللحم عوذه: يريدون أطيبه ما ولي العظم كأنه عاذ به. وكانوا يقولون إذا كنتم فسموا وادنوا يريدون بادنوا كلوا مما بين أيديكم وكانوا يكرهون أكل الدماغ ويرون استخراجه رغباً وحرصاً وقال قائلهم:

ولا يتقى المخ الذي في الجماجم

ومن قبائل العرب من يعاف إليه الشاة ويقولون هي طبق الاست وقال قائلهم:

وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل عَلَى عمد

وكانوا يمدحون بقلة الأكل وقال أعشى باهلة:

تكفيه حزة فلذان ألمّ بها ... من الشواءِ ويروى شربة الغمر

ويعيبون بالشره والنهم والكسل ويقول للبخيل الأكول أبرماً قروناً يريد أن لا يخرج مع أصحابه شيئاً ويأْكل تمرتين واسل البرم الذي لا يسير مع القوم وقال بعض الرجاز:

تسأَلنا عن بعلها أي فتى ... خب جبان وإذا جاع بكى

لا حطب القوم ولا القوم سقى ... ولا ركاب القوم إن ضلعت بغى

ويأْكل التمر ولا يلقي النوى ... ولا يواري فرجه إذا اصطلى

كأَنه غرارة ملأَى حثا

وقال الأحنف جنبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام فإني أبغض أن يكون الرجل وصافا لبطنه وفرجه.

وأن من المرؤة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه وقال قائلهم: أقلل طعاماً، تحمد مناما، وقال أيضا: غلبت بطنتي فطنتي.

وقال عمرو بن العاص لمعوية يوم حكم الحكمان: أكثروا الطعام فوالله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا.

ومثل هذا كثير لمن تتبعه فكيف تكون المعرفة بالطعام والأدب عليه إلا كما وصفنا فأما تركهم أنضاج اللحم فلا أعلمه إلا في موضع واحد وهو إذا سافروا وغزوا فإنهم يتمدحون بترك الأنضاج لعجلة الزماع وقال الشماخ:

وأشعث قد قدَّ السفار قميصه ... يجز الشواء بالعصا غير منضح

وقال الكميت:

ومرضوفة لم تون في الطبخ طاهياً ... عجلت إلى محورها حين غرغرا

ولم يزل الشرب إذا اجتمعوا والأحداث من أولاد الملوك وغيرهم يبادرون بالنشيل قبل النضج.

قال أعرابي نحر بعيره وشرب:

عللاني إنما الدنيا عُلل ... ودعاني من ملام وعذل

وانشلا ما أغبر من قدريكما ... وأسقياني أبعد الله الجمل

وأما أكلهم سقط المائدة فإنه أكرام للطعام وإعظام للنعمة وجنس من الشكر لواهبها ونبذه في المزابل استخفاف به وتصغير له وبخس بمؤْتيه حق عطيته، ومن وهب لك شيئاً صنته وعظمته سمحت لك نفسه بالزيادة منه، وإن احتقرته وازدريته كان حريا أن يقطعه والطعام أعظم نعم الله عَلَى خلقه بعد معرفته لأنه مثبت الروح وممسك الرمق فمن صانه فقد عظم نعمة الله واستوجب زيادة الله ومن امتهنه في غير ما خلق له فقد صغرها واستوجب سخط الله.

حدثنا يزيد بن عمرو قال حدثنا أيوب بن سليمان عن محمد بن زيادة عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال ولا أعلم إلا عن النبي بأكل سقط المائدة وزغبنا فيه.

والعجب عندي من قوم نحلتهم الإسلام ونبيهم محمد ثم تتابعت الأخبار عنه بشيء أمر به أو نهى عنه فيعارضون ذلك بالعيب وبالطعن من غير أن يعرفوا العلة ولا أن يكون لهم في الإنكار له نفع أو عليهم في الإقرار به ضرر.

وأما أكلهم باليارحين والسكين فمفد للطعام ناقص للذته والناس يعلمون إلا من عاند منهم وقال بخلاف ما تعرفه نفسه أن أطيب المأْكل ما باشرته كف آكله ولذلك خلقت الكف للبطش والتناول والتقذر من اليد المطهرة وعجب وأولى بالتقذر من اليد الريق والبلغم والنخاع الذي لا يسوغ الطعام إلا به وكف الطباخ والخباز تباشره والإنسان ربما كان منه أقل تقذراً وأشد إنساً.

وأما الشجاعة فإن العرب في الجاهلية أعز الأمم أنفساً وأعزها حريماً وأحماها أنوفاً وأخشنها جانباً وكانت تغير في جنبات فارس وتطرقها حتى تحتاج الملوك إلى مداراتها وأخذ الرهن منها والعجم تفخر بأساورة فارس ومرازبتها وقد كان لعمري لهم البأْس والنجدة غير أن بين العرب وبينها في ذلك فرقاً منه أن العجم كانت أكثر أموالاً وأجود سلاحاً وأحصن بيتاً وأشد اجتماعاً وكانت تحارب برياسة الملك وسياسة سلطان وهذه أمور تقوي المنة وتشد الأركان وتؤَيد القلوب وتثبت الأقدام والعرب يومئذ منقطعة ليس لها نظام ومتفرقة ليس لها التئام وأكثرها يحارب راجلا بالسيف الكليل والرمح الذليل والفارس منها يحارب عَلَى الفرس العربي الذي لا سراج لع وعَلَى السرج الرث الذي لا ركاب له والأغلب عَلَى قتال العجم الرمي والأغلب عَلَى قتال العرب السيف والرمح وهما أدخل في الجلد وأبعد من الفرار وأدل على الصبر.

وشجعاؤُهم في الجاهلية مثل عتيبة بن الحارث بن شهاب صياد الفوارس وبسطام بن قيس وبجير وعفاف ابني أبي مليل وعامر بن الطفيل وعمرو بن ود وأشباههم وفي الإسلام مثل الزبير وعلي وطلحة ورجال من الأنصار وعبد الله بن حازم السلمي وعباد بن الحصين وقال ما ظننت أن أحداً يعدل بألف فارس حتى رأَيت عباداً ليلة كإبل وقطري ابن الفجاءة وشبيب الحروري وأمثال هؤُلاء عدد الرمل والحصا ليس منهم أحد إذا أنت توقفت عَلَى إخباره وحاله في شجاعته إلا وجدته فوق كل أسوار والرجليون للعرب خاصة.

قال أبو عبيدة رجليو العرب المشهورون المنتشر بن وهب الباهلي وسليك بن عمير السعدي ولوفى بن مطر المازني وكان الرجل منهم يلحق بالظبي حتى يأخذ بقرنيه وإذا كان زمان الربيع جعلوا الماء في بيض نعام مثقوب ثم دفنوه فإذا كان الصيف وانقطع الغزو غزوا وهم أهدى من القطا فيأْتون عَلَى ذلك البض ويستثيرونه ويشربونه وحدثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي أن السليك كان يعدو فتقع سهامه من كنانته بالأرض فترتز وكان يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من الخيبة وأما الهيبة فلا هيبة.

وقرأْت في كتب العجم بهرام جور كان في حجر ملك العرب بالبادية فلما بلغه هلاك أبيه وأن الفرس عزموا عَلَى أن يملكوا غيره سار بالعرب حتى نزل السواد وصالبهم بالملك وجادلهم عنه حتى اعترفوا له بالحق وملكوه.

وقد كان كسرى أغزى بني شيبان جيشاً فاقتتلوا بذي قار فهزمت بنو شيبان أساورة كسرى فهو يوم ذي قار ثم كان من أمر العرب وأمر فارس حين جمعهم الله لقتالهم بالأمام وساسهم بالتدبير مالا حاجة بنا إلى الإطالة بذكره لشهرته.

ومما يدلك عَلَى تعزز القوم في جاهليتهم وأنفتهم وشدة حميتهم أن أبرويز ملك فارس وأشدها سطوة وأثخانا في البلاد خطب إلى النعمان بن المنذر إحدى بناته فرده رغبة بها عنه ولم يزل هاربا منه حتى ظفر به فقتله.

وكان لقريش بيت الله الحرام العتيق من الجبابرة المنصور بالطير الأبابيل لمْ يزالوا ولاته وسدنثه والقائمين لأموره والمعظمين لشعاره وكان يقال لهم أهل الله وجيران الله لنزولهم الحرم وجوارهم البيت وكان فيهم بقايا من الحنيفية يتوارثونها عن اسمعيل منها حج البيت الحرام وزيارته والختان والغسل والطلاق والعتق وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر.

وقد كان حاجب بن زرارة وفد عَلَى كسرى فرأَى العجم ينكحون الأخوات والبنات فسولت له نفسه التأسي بهم والدخول في ملتهم فنكح ابنته ثم ندم عَلَى ذلك فقال:

لحا الله دينك من أغلف ... يحل الخوات لنا والبنات

أحشت عَلَى أسرتي سوءةً ... وطوقت جيدي بالمخزيات

وأبقيت في عنقي سبة ... مشاتم يحيين بعد الممات

فتاة تجللها شيخها ... فبئس الشييخ ونعم الفتاة

ومما كان بقي فيهم من الحنيفية أيمانهم بالملكين الكاتبين حدثني بعض أصحابنا عن عبد الرحمن بن خالد الناقد قال كان الحسن بن جهور مولى المنصور خرج إلى بعض ولد سلمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب كتابا كان لعبد المطلب بن هلثم كتبه بخطه فإذا هو مثل خط النساء وإذا باسمك اللهم ذكر حق عبد المطلب ابن هاشم من أهل مكة عَلَى فلان بن فلان الحميري من أهل زول صنعآء عليه ألف درهم فضة طيبة كيلا بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه شهد الله بذلك والملكان: وقال الأعشى

ولا تحسبني كافراً لك نعمة ... عَلَى شاهدي يا شاهد الله فاشهد

قوله عَلَى شاهدي أي عَلَى لساني شاهد الله يعني الملك.

ومن ذلك أحكام كانت في الجاهلية أقرها الله في الإسلام لا يبعد أن تكون من بقايا دين اسمعيل منها دية النفس مائة من الإبل ومنها أتباع حكم المبال في الخنثى ومنها البينونة بطلاق الثلاثة وللزوج عَلَى المرأَة في الواحدة والاثنتين فهذه حالها في الجاهلية مع أحوال كثيرة في العلم والمعرفة سنذكرها بتمامها بعد إن شاء الله ثم أتى الله بالإسلام فابتعث منها النبي سيد الأنبياءِ وخاتم الرسل وناسخ كل شرعة وحائز كل فضيلة ونشر عددها وجمع كلمتها وأمدها بملائكته وأيدها بقوته ومكن لها في البلاد وأوطأَها رقاب الأمم وجعل فيها خلافة النبوة ثم الإمامة خالدة تلدة حتى يأتي المسيح فيصلي خلف الإمام منها فاردة لا يستطيع أحد ان يأْتي بمثلها وخاطبها وهي يوئذ لا عجم فيها فقال (كنتم خير أمة أخرجت للناس) فلها فضل هذا الخطاب والأمم طراً داخلة عليها فيه وأما قوله لبني إسرائيل (وفضلتكم عَلَى العالمين) فإنه من باب العلم الذي أريد به الخاص كقوله حكاية عن إبراهيم (وأنا أول المسلمين) وحكاية عن موسى (وأنا أول المؤمنين) وقد كانت الأنبياء قبلهما مؤمنين ومسلمين فإنما أراد موسى زمانه وكذلك قوله (وفضلتكم عَلَى العالمين) يريد عالمي زمانهم وقوله لقريش (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم) ليس فيه دليل عَلَى أن أهل اليمن خير من قريش في الحسب ولا أنهم مثلهم وهم من ولد إبراهيم ومن الذرية التي اصطفى الله عَلَى العالمين وليس لليمن والد من الأنبياء دون نوح وإنما خاطب الله بها مشركي قريش ووعظهم بمن قبلهم من الأمم الهالكة لمعصيته وحذرهم أن ينزل بهم مثل ما أصابهم فقال (أهم خير) من أولئك الذين كانت فيهم التبابعة والملوك ذوي الجنود والعدد فأهلكناهم بالذنوب والخير قد يقع في أسباب كثيرة يقال هذا خير الفارسين يريد أجلدهما وهذا خير العودين يريد أصلبهما وكانت قريش كما قال الله قليلا فكثرهم ومستضعفين فأَيدهم نصره وخائفين أن تتخطفهم الملوك فآمنهم بحرمه بمارهصه لهم وأراد من تمكينهم وإعلاءِ كلمتهم وإظهار نوره لهم وتغيير ممالك الأمم لهم ومن ذا من المسلمين يصح إسلامه ويصح عقده يقدم عَلَى قريش أو يعادل بها وقد قضى الله لها بالفضل عَلَى جميع الخليقة إذ جعل الأئمة منها والإمامة فيها مقصورة عليها أن لا تكون لغيرها والإمامة هي التقدم وهذا نص ليس فيه حيلة لمتأَول قال رسول الله الأئمة من قريش وروى وكيع عن الأعمش عن جابر قال قال رسول الله الناس تبع لقريش في الخير والشر وروى وكيع عن سفيان عن ابن خشيم عن اسمعيل عن عبد الله عن أبيه عن جده قال قال رسول الله أن قريشاً أهل صبر وأمانة فمن بغاهم الغوائل كبه الله لوجهه يوم القيمة وروى عن عبد الأعَلَى عن معمر عن الزهري عن سهل بن أبي حشمة أن رسول الله قال: تعلموا من قريش ولا تعلموها وقدموا قريشاً ولا تؤخروها وروى يزيد بن هرون عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن طلحة بن عبد الله قال أن لقرشي قوة رجلين من غير قريش قيل للزهري ما عنى بذلك قال فضل الرأْي قال وكان يقال قريش الكنية الحسبة ملح هذه الأمة علم عالمها طباق الأرض.

وحدثني يزيد بن عمرو عن محمد بن يوسف عن أبيه عن إبراهيم عن مكحول أن رسول الله قال لا يقومن أحد لهاشمي.

وحدثني يزيد بن عمرو قال حدثنا نصر بن خلف الضبي قال حدثنا علي بن عبد الله ابن وثاب المدني عن مطرف بن خويلد الهذلي قال سمع رسول الله رجل وهو يقول:

إني امرؤ حميري حين تنسني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر

فقال ذاك اضرع لخدك وأبعد لك من الله ورسوله.

وحدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا أبو زيد شجاع بن الوليد قال حدثنا أبو قابوس ابن أبي ظبيان عن أبيه عن سليمان قال قال رسول الله يا سليمان لا تبغضني فتفارق دينك قال قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله قال لا تبغض العرب فتبغضني.

وروى محمد بن بشر العبدي قال حدثنا أبو عبد الرحمن عن حصن بن عمير عن مخارق بن عبد الله بن جابر عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي.

وروى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن المؤمل عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله إذا اختلف الناس فالحق في مضر.

وروى أبو نعيم عن الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث عن المطلب بن أبي وداعة والمطلب بن ربيعة أن رسول الله قال إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقاً فجعلني في خيرهم فرقة وخلق قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً.

ثم يتلو العرب في شرف الطرفين أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة فإنهم لم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحا لا يؤدون إلى أحد أتاوة ولا خراجا وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ. ثم نزلوا بابل ثم نزل أزدشير بابك فارس فصارت دار ملكهم وصار بخراسان ملوك الهياطلة وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجر بن بهر مملك فارس وكان غزاهم فكادوه في طريقه بمكيدة حتى سلك سبيلاً معطشة مهلكة ثم خرجوا إليه فأسروه وأكثر أصحابه فسأَلهم أن يمنوا عليه وعَلَى من أسر معه وأعطاهم موثقاً من الله أن لا يغزوهم ولا يجوز حدودهم ونصب حجراً بينه وبين بلدهم جعله الحد الذي حلف عليه وأطلقوه فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة والحمية بما أصابه فعاد لغزوهم ناكثاً لأَيمانه غادراً بذمته وحمل الحجر الذي كان نصب أمامه في مسيره يتأول أنه ما تقدم الحجر فإنه لم يجزه فلما سار إليهم ناشدوه الله وأذكروه ما جعل عَلَى نفسه من عهده وذمته فأبى الإلجاجا ونكثا فواقعوه فقتلوه وقتلوا حماته وكماته واستباحوا عسكره وأسروا ضعفته ولبثوا في أيديهم أسرى ثم أعتقوهم وأطلقوهم وعبروا بعد ذلك زماناطويلا وقتلوا كسرى بن فيروز وهذا شيء يخبر به عن فارس فيما دونوا في سير ملوكهم من أخبارهم ومن أقر بهذا عَلَى نفسه لعدوه وإباحة لخصمه فما ظنك بما ستر وزين من أمره.

وكان فيما حكوا من الكلام الدائر بين ملك الهياطلة وبين فيروز كلام أحببت أن أذكره في هذا الموضع لأدل به عَلَى حكمة القوم وحزمهم في الأمور وعلمهم بمكايد الحروب قالوا لما التقى الفريقان ثم تصافوا للقتال أرسل أخشنوار ملك الهياطلة إلى فيروز أن يسأله أي يبرز فيما بين الصفين ليكمله فخرج إليه فقال أخشنوار قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الأنف مما أصابك ولعمري لئن كنا احتللنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه وما ابتدأْناك ببغي ولا ظلم ولا أردنا إلا دفعك عن أنفسنا وحريمنا ولقد كنت جديراً أن تكون من سوء مكافأَتنا عليك وعَلَى من معك ونقض العهد والميثاق الذي أكدت عَلَى نفسك أعظم أنفاً وأشد امتعاضاً مما نالك منا فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى ومننا عليكم وأنتم مشرفون عَلَى الهلكة وحقنا دماءكم وبنا عَلَى سفكها قدرة وإنا لم نجبرك عَلَى ما شرطت لنا بل كنت الراغب إلينا فيه والمريد لنا عليه ففكر في ذلك ومثل بين هذين الأمرين فانظر إليهما أشد عاراً وأقبح سماعا إن طلب رجل أمراً فلم يتح له وسلك سبيلاً فلم يظفر فيها ببغية وأستمكن منه عدوه عَلَى حال جهد منه وضيقة ممن معه فمن عليهم وأطلقهم عَلَى شرط شرطوه وأمر اصطلحوا عليه فاصطبر لمكروه القضآء واستحيا من الغدر والنكث أم أن يقال نقض العهد وختر بالميثاق مع أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك وما تراه من حسن عدتهم وما أجدني أشك في أنهم وأكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم عارفون بأنك قد حملتهم عَلَى غير الحق ودعوتهم إلى ما يسخط الله فهم في حربنا غير مستبصرين ونياتهم اليوم في مناصحتك مدخولة فانظر ما غناء من يقاتل على هذه الحالة وما عسى أن تبلغ نكايته في عدوه إذا كان عارفاً أنه إن ظفر فمع عار وإن قتل فالي النار فأنا أذكرك الله الذي جعلته عَلَى نفسك كفيلاً ونعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة وإشرافكم على الممات وأدعو إلى ما فيه حظك ورشدك من الوفاء بالعهد والاقتداء بآبائك الذين مضوا عَلَى ذلك في كل ما أحبوا وكرهوا فاحمدوا عواقبه وحسن عليهم أثره ومع ذلك إنك لست عَلَى ثقة من الظفر بنا والبلوغ لبغيتك فينا وإنما تلتمس منا أمراً نلتمس منك مثله وتبادي عدواً لعله يمنح النصر عليك فدونك هذه النصيحة فبالله ما كان أحد من أصحابك ببالغ لك أكثر منها ولا زائد لك عليها ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني فإنه لا يزري بالمنافع عند ذوي الرأَي أن تكون من الأعداء كما لا يجب المضار إليهم أن تكون عَلَى أيدي الأولياء ونحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه ووثقنا بما جعلت لنا من عهده إذا استظهرت بكثرة من مقالتي ضعف أحسه من نفسي ولا قلة من جنود ولكني أحببت أن أزداد بك حجة واستظهاراً وأزداد به للنصر أه.