مجلة المقتبس/العدد 49/التربية الأوربية
مجلة المقتبس/العدد 49/التربية الأوربية
سادتي الأخوان الأعزاء:
أوعز إليّ بعض أصدقاء هذا المنتدى الكريم أن أحدثكم بما رأيت في رحلتي الأخيرة إلى أوربا فلم تسعني مخالفتهم لأن الطلاب أعزة وتبادل الأفكار مهم مع أشرف المطالب ولكن الموضوع كبير لا يتسع وقتي الآن للإحاطة بأطرافه كله ولا أوقات الحضور الكرام إلى وعيه وسماعه ولذلك أقتصر منه في هذه الليلة عَلَى الإشارة إلى طرف مما تأثرت به نفسي في درس معالم الحضارة الأوربية في أماكنها واستطلاع طلعها بالعمل بعد الاشتغال بدراستها بالنظر مدة. ولذا أستميح عذركم إذا لحظتم في أقوالي شيئاً مما لم يعتد بعضكم سماعه فأنا أقص عليكم شعوري ولا حرج عَلَى الشاعرين كما لا حرج عَلَى الشعراء.
أول ما يقع عليه نظر الداخل إلى أرض أوربية ذاك الانتظام الغريب في مرافق الحياة فيسقط لأول وهلة عَلَى نموذج صالح من استبحار العمران هناك بل يتجسم في عينه وذهنه ما سعت إليه ولا تزال تسعى تلك الأمم الراقية من الأخذ بأسباب الراحة والبسطة من طريق التكمل العلمي والنشوء الاجتماعي والعملي.
ولا يزال هذا النموذج من العمران يعظم في نظر السائح كلما طاف المعاهد وزار المشاهد وجال في القربى والدساكر والحواضر والقواعد. وكل فرع من فروع هذا الارتقاء العجيب يحتاج الناظر في وصفه إلى مجلد برأسه حتى يتجلى للسامع بعض التجلي وما راءٍ كمن سمعا.
مإذا أذكر لكم أيها الأخوان من حال أوربا ومدنية الغرب الراقية التي بلغها بقوة العقل وتطبيق العلم عَلَى العمل؟ أأحدثكم بصناعاتها التي تبهر النفس؟ أو باتساع متاجرها التي لا يحصيها العد؟ أو بارتقاء زراعتها التي تنادي بلسان حالها ومقالها بأنه لم يبق بعد ما بلغته غاية؟ أم أذكر لكم حال المجامع العلمية والسياسية والجمعيات الاجتماعية والنقابات التجارية والصناعة أم المدارس الجامعة والكلية والثانوية والابتدائية أم المتاحف والمعارض والمكاتب والمجالس والمصارف ودور التمثيل ومحال الطرب والأنس؟
كل هذه المشاهد كنت أختلف إليها في أوقاتها وأجتمع برجال العلم والأدب والسياسة منذ الصباح إلى ما بعد منتصف الليل ونفسي تتأثر بتغير المشاهد بحيث تملك عليّ مشاعري فلا استطيع التفريق في الحسنات كأني ابتليت بداء الاستحسان لا تقع عيني عَلَى شيء تسمع أذني بشيء ولا يتصور ذهني أقل شيء إلا وأخذ به جملة وتغرق النفس في استحسانه وتحار في وصفه.
ولقد عزمت أن أدون في مفكرتي ما يعرض لي من المناظر والمظاهر ويتردد في صدري من الأفكار والخواطر وأحضره من المحاضرات والخطب والدروس النوادر ولما كثرت عليّ الموضوعات كلّ القلم من التقييد وقلت إنك يا هذا تكتفي متى عدت لتحدث قومك بما رأيت من تسجيل ما يعلق في ذهنك وبعض مما فيه الغناء والكفاية.
نعم تركت التقييد عَلَى خلاف عادتي فصدق فيَّ قول الشاعر:
تكاثرت الظباءُ عَلَى خراشٍ ... فما يدري خراشُ ما يصيد
لولا أن اليأس من أعظم الأمراض في الأفراد والجامعات لطاوعت النفس وفطنت من نهضة هذا الشرق لمجارات الغرب ولولا أنني أعتقد بأن النجاح مقدور لكل مخلوق يعمل وأن الأجسام تتكون من الذرات وأن من الجزئيات تنشأ الكليات لسجلت بأن قيام الشرق العثماني وهو عَلَى نهضته المتثاقلة البطيئة التي نشهدها أمر متعذر إلا بعد قرون أن كتبت له الحياة. ولكن أمامي مثال الدولة اليابانية مملكة الشمس المشرقة رأيتها جارت أكبر الدول الأوربية في ثلاثين سنة وفاقت من كانت تعمل منذ ثلثمائة سنة من الدول الغربية فبلغت درجة عالية من الحضارة.
نعم إن اليأس يجب أن لا يتطرق إلينا وإن كنا ويا للأسف تحت وصاية الغرب اليوم في كل شأن من شؤون حياتنا السياسية والاجتماعية والعلمية والتجارية يصرفون علينا ما يريدون من ضروب المعارف ويربحون بعقولهم منا أنواع الأرباح والمكاسب ويستثمرون شرقنا بكل ما لديهم من ذرائع العلوم والفنون ونحن معهم باهتون شاخصون شأن عبد مع سيده أو جاهل مع عالم.
حضرت دروساً كثيرة في الكوليج دي فرانس وهي المدرسة العظمى التي تضم في صدرها زهاء أربعين عالماً من كبار علماء فرنسا يقرأ كل واحد منهم درسين اثنين في كل أسبوع في العلم الذي أخصى فيه وتفرد به طوال عمره وتكون دروسهم عامة يحضرها كل من أراد فتدل عَلَى كرم الفرنسويين في العلم.
وحضرت دروساً في مدارس أخرى ووقفت إلى سماع خطب ومحاضرات كثيرة فلم أر في أكثرها إلا تعصباً عَلَى الشرق وغمطاً لحقوقه.
أذكر لكم عَلَى سبيل المثال محاضرتين دعيت إليهما لتعلموا منهما مقدار ما يعده الغرب للشرق ومبلغ حكم أبنائه علينا ولكم بعدها أن تقيسوا حاضركم بحاضرنا وغابرهم بغابرنا وتضحكون بعدها أو تبكون.
فالمحاضرة الأولى كانت في قاعة السوربون الأولى أي كلية باريز وهي المكان الذي جرت العادة أن يكون معهد العاملين للعلم من الفرنسويين فأقامت جمعية آسيا الفرنسوية والجمعية الجغرافية حفلة للاحتفاءِ بأعضاءِ بعثة بليو إلى التركستان الصينية وكنشو بحضور جماعة من أعضاء المجمع الفرنسوي ولم يقل الحضور أقل من ألف وخمسمائة مستمع ومستمعة والمسيو بليو هو في الثامنة والعشرين من عمره طلق اللسان في آية البيان وهو أستاذ اللغة الصينية في المدرسة الفرنسوية في الشرق الأقصى. شرح في محاضرته ما لاقاه في رحلته التي بدأت في 15 حزيران سنة 1906 وانتهت في الصيف الماضي وأتى عَلَى ما وفق إليه من الاكتشافات الثرية والكتابية وغيرها في آسيا الوسطى مما حفظ لفرنسا شهرتها القديمة في البحث عن الآثار وقال أن التعصب هناك انتشر بانتشار الإسلام في القرن الحادي عشر للمسيح فكان من ذاك التعصب أن أتى عَلَى الآثار بجملتها. وقد قرَّع الشرقيين عامة والمسلمين منهم خاصة أنواع التقريع. أما رحلته فهي كسائر الرحلات العلمية التي يرحلها الغربيون إلى آسيا وافريقية فيكونون مقدمة للفتح والاستعمار وقديماً كان الشاعر يقول السيف أصدق أنباءً من الكتب فإذا أرادت الأمة أن تفتح بلد أخرى ترسل غليها السيوف والبنادق ثم تمهد البلاد بالمعارف أما اليوم فيرسل الغرب رجال العلم يرتادون البلاد أولاً ثم يرسلون مدافعهم وبنادقهم وآلات تدميرهم والأمثلة عَلَى ذلك كثيرة.
وقد ادعى بليو صاحب البعثة والغالب أنه عَلَى حق فيما ادعاه أن ما وفق إلى جلبه من الآثار قد أغنى مكتبة الأمة في باريز بألوف من المخطوطات الصينية ومنها شيءٌ في تاريخ الصين كما أغنى متحف اللوفر الشهير بتماثيل ورسوم ونقوش فأصبحت باريز بذلك عاصمة الدروس الصينية في أوربا ويحق لها أن تفاخر بأن مجموعة ما عندها الآن من الآثار الصينية ليس لها مثيل في الغرب حتى ولا في الصين نفسها قال وغاية البعثة في التركستان الصينية ولاسيما في مقاطعات قاشار وأرومشي البحث عن بقايا التمدن البوذي الذي سبق التمدن الإسلامي إلى هناك وأنه رأى جميع أهل التركستان من أهل الإسلام وإذ كان دينهم يحرم التماثيل والصور لم يظفر بكثير منها في الأماكن المطروقة إذ كانت تعبث بها أيدي المتعصبين منهم.
وقال أنه رأى لسوء الحظ أن قد سبقه إلى ارتياد تلك الأصقاع أناس من الألمان والإنكليز واليابان والروس وللغاية نفسها ولكنه وفق إلى أنه اكتشف بين قاشار وكوتشار في نصف الطريق في طومشونك تمثالاً بوذياً صغيراً بين الصناعة اليونانية والبوذية حريٌّ بأن يكون صلة بين الصناعة الشرقية القديمة والغربية وظفر في قاشار تحت أنقاض أحد المعابد في طبقة كثيفة بمخطوطات هندية فأحرز ثلثها بواسطة راهب انقطع في تلك المغاور ووصف تلك البقاع بأنه لا شجر فيها ولا عشب مع أنك تمشي ألوفاً من الكيلومترات اللهم إلا في بعض الواحات. وأكثر تلك الأصقاع جبال شامخة ومنحدرات كثيرة ورمال محرقة فكانت الحرارة في الصيف تصل إلى الأربعين درجة وفي الشتاء إلى الخمس والثلاثين تحت الصفر حتى كان الحبر يجمد في أيدي أعضاء البعثة متى أرادوا أن يقيدوا آثار بعثتهم وقد أخذ أحد أعضاء البعثة صورة طوبوغرافية من خط هذه الرحلة وفوائد فلكية في عدة نقاط وآب بمجموعة من الحشرات والحيوانات تغني المتحف الطبيعي وبصور كثيرة عرضت بالفانوس السحري عَلَى الحضور تلك الليلة حتى لكأنهم ذهبوا بأنفسهم إلى تلك الأصقاع النائية.
هذه المحاضرة الأولى التي تكهرب بها جسمي وتأثرت عواطفي وسمعت بها مهانة أمتي بأذني. والمحاضرة الثانية التي ألقاها المسيو تارديو من كبار السياسيين الفرنسويين وصاحب المقالات الافتتاحية في جريدة الطان في الدولة العثمانية فهو أول أخصائي في سياسة الشرق ولاسيما دولتنا يقلب القلم بين أصابعه كما تشاء حكومته. حضرت خطبة له في مدرسة اللغات الشرقية الحية ألقاها عَلَى طلبة تلك المدرسة العالية ممن يتخرجون الآن ليذهبوا إلى الشرق فيما بعد لخدمة حكومتهم ويكون منهم التراجمة والقناصل والسفراءُ ببيان لم أسمع من العرب ولا من العجم أبلغ منه لم يتمتم ولم يعطس ولم يكرر وقلما رأيت إنساناً درس موضوعه وأعد له المواد التاريخية والمستندات أكثر من ذلك ولكن سياسة المنافع والمصالح كانت تلوح صراحة من خلال كلام الخطيب فكان عجبي بتحامله عَلَى الدولة أكثر من عجبي بذلاقة لسان فقد تكلم عَلَى علاقة فرنسا بالشرق ولاسيما الدولة العلية فقال أن فرنسا صاحبة الفكر الأول في الحروب الصليبية قد أتى عليها زمن حالفت فيه الدولة العلية أيام قوتها لتستخدمها لأغراضها وقد جنى الفرنسيس ثمار هذا الوفاق ثم لما مضت سنون والدولة لم تر خيراً لها من تلك المحالفة نزعت يدها من يد حليفتها ثم عادت فرنسا فبعثت أبناءها إلى القريم ليحابوا مع الإنكليز والعثمانيين جيوش الروس لأن مصلحتها اقتضت إذ ذاك وأفاض في نشأة الامتيازات الأجنبية في البلاد المصرية والعثمانية وقال أن فرنسا في كل دور من أدوارها استخدمت الدولة العلية لمقاصدها وأن لها اليد الطولى في المسألة الشرقية أي استقلال بلاد البلقان واليونان وأنها لا تقصر كل حين في بتر عضو من أعضاء هذه الدولة حتى تموت وتفنى.
فيا أخواني وسادتي أيسمع عثماني هذا الكلام ولا يجهش نفسه بالبكاء ولا تذوب كمداً وحسرة وتسود الدنيا في عينيه؟
هذا بعض ما يعده الغرب للشرق فمإذا يعد الشرق للغرب؟
نحن يا قوم لا نحفظ كياننا ولا نحتفظ بلغتنا وديننا وآدابنا إلا إذا قاتلنا من يريدون قتالنا بالسيف الذي يقاتلونا به. وأعني به سيف العلم. نحن يقضى علينا أن نأخذ من تلك المدنية الغربية التي تدهشنا مكل ما ينفعنا لقيام مجتمعنا نأخذ عن رجال العلم منهم ونحتك بهم زمناً لنستفيد ونعرف الطرق التي يجب علينا سلوكها.
رأيت الدولة بعد انقلابنا الأخير بعثت بزمرة من الطلبة العثمانيين ليدرسوا في مدارس أوربا ولاسيما في مدارس باريز فقدرت عددهم قليلاً جداً بالنسبة لمجموع هذه الأمة. وإني لأخجل أن أقول لكم أن عدد الطلبة البلغاريين في روسيا وألمانيا والنمسا وفرنسا والبلجيك وإنكلترا أكثر من عدد الطلبة العثمانيين وإياكم أن تظنوا أن جميع طلبة الأجانب تبعث بهم حكوماتهم ليدرسوا عَلَى نفقتها بل إن لهمم الأفراد شأناً عظيماً في هذا الباب وكثيراً ما ينفق الطالب من مال أبيه عن سعة حتى لا يتم دروسه إلا وقد أتى عَلَى آخر فلس مما عنده وهو مغتبط بما صنع لأنه أحرز رأس مال ثمين لا يقدر بالملايين والكرات وعاد وهو يعرف كيف يخدم أمته وبلاده.
نحن مقصون كل القصور في إرسال أبنائنا إلى ديار الغربة يلتقطون درر العلم من بحار كليتها ومدارسها والعرب في هذا المعنى أكثر العثمانيين قصوراً. ولقد أحصيت جميع من يدرسون من أبناء سورية في أوربا عَلَى نفقة الحكومة أو عَلَى نفقاتهم فلم أقدر أن أوصلهم إلى ثلاثين طالباً أكثرهم يدرسون عَلَى نفقتهم فليت شعري أليس هذا العدد بقليل عَلَى قطر يناهز سكانه الثلاثة ملايين. هذا من سورية أرقى البلاد العربية وما أظن أحداً من أبناء العراق والجزيرة والحجاز واليمن وطرابلس وبرقة وغيرهم من الأقاليم العربية يدرس في مدارس أوربا فيكون هؤلاء الثلاثون طالباً لخمسة عشر مليوناً من العرب العثمانيين يصيب كل مليون نسمة طالبان وما أعظم ذلك من قصور وتقصير.
نعم هو تقصير وليس وراؤه وراء وخمود همم كاد يصدق به علينا حكم الغريب. وإني لأرجو أن لا تكون أقوالنا أكثر من أفعالنا فإن الكلام لا أثر له بقدر الفعل. نريد معاشر العرب أن نجاري الأمم الراقية بل سائر العناصر من أخواننا العثمانيين ولا نجاريهم عَلَى الأقل في مضمار التعلم؟
نتناغى بالوطنية ونندب حظ اللغة العربية ونحن أبناءها الذي نعقها ولا نتعلمها. أليس مما يزعج أن يخطب العربي أباه وأمه وأخاه وصديقه بغير لغته الأصلية؟ يعمل ذلك لا ليتمرن عَلَى تلقف غير لغته بل لأنه لا يعرف أن يتكلم ويكتب بلسان أبيه وأمه وقد يكون في الأكثر ممن يفرض عليهم فرض عين تعلمها ليفهم بها كتابه وشريعته.
أنا إن كنت عربياً وأحب العرب وأريد نهوضهم أيتيسر لي كل ما أريد إذا لم أخاطبهم وأخطبهم وأكتب لهم بلغتهم التي يفهمونها. أنا إن كنت أريد الاطلاع عَلَى مجد آبائي وأجدادي أأتمكن من ذلك بدون دراسة ما خلفوه من آثارهم وهل يتيسر لي إلا باللغة التي كتبوا بها؟ أقول هذا وأنا آسف كل الأسف عَلَى قصور العرب عَلَى تعلم لغتهم قصوراً لا أبالي إذا قلت أن فيه العار والشنار.
أيزهد سلالة العرب الأكارم في لغتهم ويتعلمها المستشرقون أكثر من علماء العرب أنفسهم؟ أيزهد العربي ابن العشرين في العربية ويتعلمها رجل أعجمي في الستين من عمره. وأعني به الكنت دي سارديج الفرنسوي. هذا الرجل من أهل الطبقة العالية في غناه كان والده سفيراً في طهران عن الملك لويز فيليب ملك فرنسا وقد كان هو موظفاً في السفارات وأخر وظيفة له رئاسة تراجمة سفارة فرنسا في مدريد ثم استقال وهو يسكن في الصيف في قصر له في لوزان في سويسرا وفي الشتاء في باريز وقد أقام في ذهنه منذ أشهر أن يدرس اللغة العربية للاطلاع عَلَى حضارة العرب ومدنيتهم الباهرة فاتخذ له أستاذاً صديقنا ووطنينا ميشيل أفندي بيطار وأنشأ يتخرج به فقطع شوطاً في التعلم وإذ كانت الدواعي تضره إلى المقام في قصره في سويسرا أكثر من باريز وكان أستاذه لا يستطيع أن يلحق به إلى سويسرا كتب إليه يلتمس منه التماس التلميذ من أستاذه أن يبعث إليه بدروس عشرين يوماً حتى لا يضيع وقته مدة مقامه في سويسرا ويحرم من الاستفادة والتحصيل فإذا آب إلى العاصمة يعاود من بدأ به.
هذا الرجل عَلَى أبواب الشيخوخة وهو في هذه السن يحاول أن يتعلم لغة شرقية لا عهد له بمعرفتها. أو أن يتعلم لغة القرآن ليدرس بها مدنية أهله وشبان العرب أنفسهم يترفعون عن أن يقضوا ولو بعض أوقات فراغهم في إحكام لغتهم. هذا هو مثال صغير من أمثلة الهمم في الشرق وأمثلتها في الغرب فهل فيكم يا شباب المستقبل وقرة عيون العثمانية العربية من يمشي عَلَى أقدام هذا الشيخ الفرنسوي حتى لا يجيء علينا وقت نضطر فيه أن نأخذ لغتنا بل ديننا عن أوربا ونكون تحت وصايتها حتى في أمس الأمور بتاً وأعقلها بقلوبنا؟
كل ما نراه من همم الغربيين ومتنانتهم هو محصول الكتاب والمدرسة فأنتم وأمثالكم شباب هذه الأمة في أيدي اقتداركم أن تجددوا لها شبابها إذا وضع كل منكم نصب عينيه الذهاب إلى الغرب وقضاء سنين في الدرس والبحث ليرى بعينيه ويحكم بنفسه عَلَى قصورنا عن الغربيين وفقرنا وغناهم وشقائنا وسعادتهم ليعلم أنني لا أغالي فيما أوردته لكم بل إنني عاجز عن الوصف والتعريف. ولا يقعن في أذهانكم أن الذهاب إلى أوربا بعيد المنال وأنه لا يتيسر إلا لكبار الأغنياء فالعيش في معظم البلاد الأوربية أرخص من الآستانة ومصر ودمشق وبيروت والمدارس رخيصة أجورها ولا يكاد لها أجور ومنها ما أجرة الطالب فيه مع الأكل والنوم والدرس ستون فرنكاً في الشهر ومثل هذا القدر من المال لا يصعب عَلَى أحد فيما أحسب أن يعده أو يستلفه عَلَى المستقبل مهما بلغ من ضيق ذات يده.
يا أبناء قومي ويا زهرات أمتي! أليس من العار أن تكون بلادنا التي لا تعيش إلا بالزراعة ولا تحيا إلا بالزراعة خالية من عارفين بها عَلَى الأصول الحديثة فلا يكون الذين يتعلمون منا هذا الفن في أوربا سوى طالبين اثنين أحدهما في المدرسة الزراعية في لوفان من أعمال البلجيك وهو رفيق بك بيضون من بيروت والآخر في كرنيون من أعمال باريز في مدرسة كرنيون الزراعية واسمه مصطفى أفندي الكيلاني من حماة. كلاهما من أبناء الأعيان ولهما أراض ومزارع فنعماً عملا بالاختصاص بهذا الفن الشريف المفيد ولكن أليس في أبناء سورية بل البلاد العربية أحد من أبناء الأعيان يملك أراضي وقرى غير هذين الشابين؟ بلى إن المالكين كثار ولكن محبي الدرس قلائل! هذا في فن الزراعة فمتى يقوم أناس لتعلم الكهربائية ومد الخطوط الحديدية والهندسة العملية والصناعات الحديدية واليدوية والتجارة وغير ذلك مما نحن فيه عيال عَلَى الأوربيين.
زرت مدرسة كريون الزراعية وهي عَلَى مسافة ساعة من باريز فرأيت شعارها مكتوباً بقلم غليظ في مكتبتها بما معناه: الأرض هي الوطن ومن توفر عَلَى تحسينها يخدم وطنه ولكن قومي غفر اتلله لهم يحتقرون هذا الفن فيما أرى. فإن كنا نختلف في البديهيات فمتى نتفق في غيرها؟
زرت كرنيون ورأيت فيها عبد القادر الكيلاني يلبس مشلح الزراع ويدرس كما يدرس أبناء الأعيان في فرنسا ويجاريهم في ذكائه وأطلعني عَلَى عَلَى ما في مدرسته من متاحف ومعارض واصطبلات وحظائر لتربية الماشية وحدائق لغرس النبات والبقول وغابات للنزهة والانتفاع وأدوات للعمل وحرث الأرض وكرثها.
رأيت كل هذا وأكبرته وقلت في نفسي لو حذا السوريون في الزراعة وتربية الماشية حذو الفرنسيس فيها وتربتهم تلاءم تربتنا وأقاليمهم أشبه بأقاليمنا لاغتنينا غنى يغنينا عن الهجرة وتطلب الوظائف الاتكالية فقد ذكروا لي أن خروفاً علفته إدارة المدرسة سنتين عَلَى الطريقة العلمية فبيع في أحد المعارض بسبعين ليرة. فأين خرفاننا التي يباع الواحد منها بسبع ليرات. مهما علفناها بجهلنا وبساطتنا وأطعمناها السمسم المقشر أو الشيح والقيصوم والعرار والعرعر.
ولكن الآمال معقودة بأن نعلف خرافنا عَلَى طريقتهم ونستثمر تربتنا عَلَى أصولهم نربي عقولنا عَلَى مناحيهم ونطبع دوابنا وماشيتنا بحسب سنتهم فيكون إذ ذاك أبناء عبد القادر في التوفر عَلَى زكاء التربة في نفعهم لهذه الأمة عَلَى مستوى جدهم الذي زكى النفوس في عصره. وتزكية التربة لا تقل عن تزكية التربية والمآل واحد.
مدرسة كرنيون الزراعية هي التي أوصى أبناء الأعيان وغيرهم التخرج فيها لتخصب بهم تربتنا بعد إجدابها وتملأ جيوبنا بعد فراغها والمال مبدأ كل عمل وفاتحة كل ارتقاءٍ مادي وأدبي.
نحن لا نرقى الرقي المطلوب إلا إذا تعلمنا العلم العملي وزهدنا قليلاً في شقشقة الألسن والنظريات المجردة. ومن جملة المدارس التي زرتها في فرنسا وتأثرت أيضاً بنظامها مدرسة جزيرة فرنسا في مقاطعة الواز. زرتها بدعوة من صديقي مرسي أفندي محمود أحد كتاب مصر فكانت زيارتها وزيارة مدرسة كرنيون من اسعد الأيام التي قضيتها في أرض الفرنسيس وإني أحب أن أقص عليكم قصة هذه المدرسة لتعرفوا الغرض منها فأقول:
قام منذ عشر سنين في فرنسا رجل من رجال الصحافة اسمه أديمون ديمولانس درس طرق الحضارة والتعليم والتربية عند الألمان والإنكليز والأميركان وقابل بين طرائقهم وأخلاقهم وعاداتهم وبين ما عند الفرنسيس منها ووضع لذلك الكتب وكتب المقالات وأنشأ مجلة العلم الاجتماعي التي تدور عَلَى هذا الغرض ومن جملة كتبه سر تقدم الإنكليز السكسونيين الذي نقل إلى العربية فعمت فائدته العرب كما عمت الإفرنج.
وقد وفق ديمولانس صاحب تلك الدعوة بأنه التف حوله أناس من أرباب الغيرة عَلَى ارتقاء بلادهم والاهتمام بمستقبلها فكانوا يعطونه بالمئات لقيان الغرض الذي حاول بلوغه وتربية أبناء الفرنسيس عَلَى الطريقة الأنكلو سكسونية العملية فأسست لذلك ثلاث مدارس كبرى عقيب دعوته الأولى مدرسة بروش أسست سنة 1899 باسم جماعة من المساهمين وأخرى في إقليم نورمانديا لجماعة من كبار الصناع منها وأخرى في ليانكور أسست سنة 1901 وهي التي أريد أن أحدثكم عنها.
ليانكور قرية سكانها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة وهي عَلَى نحو ساعة من باريز إلى الشمال من مقاطعة ألواز وفيها ما في سائر بلاد فرنسا من أنواع المرافق والرفاهية والمعامل الكبرى الصناعية والزراعة الراقية الغنية بل فيها من دور التمثيل فقط ثلاث دور وقصر الدوك دي لاروشفو كول الواعظ المشهور صاحب الكلمة المأثورة الذي أسس بنك التوفير في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر قامت هذه المدرسة العملية. وقصره هذا في أرض مساحتها مائتا هكتار أي نحو ثلثمائة فدان لم يبق منها إلا دائرة حشمه أما دائرة قصره فقد أتى عليها رجال الثورة الأخير فدكوها وجعلوا عاليها سافلها وقد جعلت تلك المدرسة في تلك الدائرة فوسعت كل صفوفها ومرافقها ومعاملها.
في هذه البقعة الجميلة الواسعة بل الأبعدية الكبيرة والحانوت الفخم التي حوت الغابات والمروج والحدائق والغدران والآكام والسهول يتربى رجال المستقبل عَلَى الطريقة الإنكليزية وفيهم الفرنسويون وأكثرهم من أبناء الباريزيين وعدد قليل من الأميركان والإنكليز والبرتقاليين والأميركيين والمصريين. ويعيشون في هذا البيت كأنهم في أسرة لا في مدرسة وقد رفعت عنهم أكثر القيود التي تقيد طلبة المدارس الداخلية واختصر منها عَلَى ما يحفظ به النظام والآداب مثل الحظر عَلَى أحدهم أن يركض ويرفع صوته في المدرسة أو في حجر الدروس وأن يلعب في الأماكن التي هي مرر لإخوانه وأن لا يخرج من المدرسة ولا يركب في قارب في الغدير بدون رخصة أولاً وأن لا يبتاع أي شيء كان من المدينة بدون استئذان وأن لا يدخل جرائد ولا كتباً إلا إذا وقع عليها المدير ولا يدخن ولا يلبس ثياب اللعب عندما يخرج من غرفة المائدة وقت الظهر ولا يركب دراجته إلا يومي الخميس والأحد وأن لا يعبث بما حوت حديقة المدرسة ومكتبتها وأن لا يتكلم بعد أن يطفئ النور في غرفة النوم مساء ولا قبل أن يستيقظ رفاقه صباحاً وما عدا ذلك فهو حر أن يلعب اللعب الذي يختاره في الأوقات التي خصصت لذلك منذ الظهر إلى حوالي الساعة الرابعة بعده.
وكل هذه القيود لا تكبر عَلَى التلميذ لأنه يعرف أنه لا بد منها لكل عائلة كبرى وما هذه المدرسة إلا كذلك. والمدرسة تقسم إلى ثمانية صفوف أسسها الأستاذان الإنكليزيان هو كنسن وسكوت ومديرها اليوم المسيو لبلا وهو فرنسوي لأن قانون فرنسا يحظر عَلَى الأجانب إنشاء مدارس باسمهم في البلاد. وفي المدرسة نحو عشرين معلماً ومعلمة وناظرة. ورئيسة المدرسة الآنسة باري من أقرباء أدمون ديمولانس صاحب الدعوة إلى الأخذ بطريقة الإنكليز السكسونيين في التربية ومن أولئك المعلمين معلمان إنكليزيان واثنان ألمانيان.
ويقسم تلامذتها بحس أسنانهم واستعدادهم ولا يختلط الكبار بالصغار إلا في بعض ساعات النهار وهذه المدرسة تعد التلامذة لنيل شهادة البكلوريا أو العالمية ولكن عَلَى غير الطريقة التي يحشى بها رأس التلميذ بالمواد النظرية وهي عن العلم العملي بمعزل. فالمدرسة تربي الإرادة والعين والذوق واليد والجسم أكثر مما تربي الذهن والذاكرة.
وأسماء الصفوف كصفوف سائر المدارس ويشترك جميع المعلمين في التعليم ويلاحظون الدروس أيضاً ولا يراجعون التلامذة فيما تعلموه خارج الصفوف النظامية لأن النهار يكفي لذلك ويتولى الأولاد بأنفسهم أمور لعبهم وحفظ النظام العام وسائر شؤون الحياة وربما لا تروق أكثر الأولاد هذه الطريقة خصوصاً وأكثر من فيها من أبناء الأغنياء والأمراء اعتادوا أن يخلقوا وحواليهم الخدم والحشم ويتولوا من أمورهم ما يتقاعسون هم عن عمله ويصغرون خدودهم كبراً من القيام به.
ويقسم التلامذة بعد الصفوف والفرق إلى بيوت وكل بيت يديره أستاذ ويعهد إلى النساء بالإدارة البيتية والعناية بالمرضى وتعليم الموسيقى وتعليم الأحداث من الطلبة وهن يعشن في المدرسة نفسها وعلى الطلبة أن يحضروا ثلاث جلسات في الأسبوع لتعلم لعب الكوكي والكريكة بنظارة أساتذة فيف هذه الألعاب. وفي المدرسة دار للتمثيل كما فيها ميدان للعب السيف ومحل لتعلم الرقص والموسيقى ومحال دروسهم أشبه بمكتب منه بقمطر تلميذ لكل واحد منضدة عليها عليها دواة وورق نشاف يتصرف فيها كما يشاء ويرى فيها الدروس التي يدرسها بطريقة عملية أكثر منها نظرية.
فيتعلم مع العلم صناعة من الصناعات التي هي أحب إلى قلبه كالزراعة والنجارة والحدادة والتصوير والتجليد وصنع المقوى والفخار والجلد وغيرها وذلك بنظارة أساتذة هذا الشأن يدلونه عَلَى الطرق التي يسلكونها ولا يعملون بعده بل يدلونه عَلَى غيوب عم له ويده وعينه هما اللتان تعملان ليتعمد بذلك عَلَى نفسه فإذا عاد إلى أهله يستطيع أن يصنع بذاته عملاً من مثل ذلك فلا يكون لا فرق بين ما عمله في المدرسة ويعمله بعد الخروج منها ويتولى أكثر شؤونه كما قلنا بنفسه حتى يسهل عليه كل جهاد في حياته فإن الرياضيات التي يقومون بها في البستان والحقول والرحلات في الخلاء سواء كانوا مشاة أم ركاباً عَلَى الدراجات تزيد في قواهم وقابليتهم للرياضات البدنية ولا يقل النوم عندهم عن عشر ساعات للصغار إلى تسع للكبار ليستريحوا من أتعاب النهار.
وتمتاز هذه المدرسة بأن يرحل تلامذتها بمراقبة أساتذتهم إلى بعض البلاد المجاورة كالبلجيك وهولاندة أو غيرهما من مقاطعات فرنسا البعيدة ليعتادوا الاستغناء عن الرفاهية ويحسنوا التخلص عند الحاجة من مشاكل الأحوال التي كثيراً ما تصادف الإنسان في حياته وذلك أيضاً ليتحملوا بصبر وحسن خلق معاكسات الوقت ونكد الأيام وتنوثق عرى المحبة بينهم ففي عيد الفصح تنقسم المدرسة ثلاث فرق بحسب سن التلامذة المؤلفة منهم فتذهب كل واحدة في جهة خمسة أيام وكل من حسنت أخلاقه ودروسه يرحل به أيضاً كل ثلاثة أشهر مرة أو مرتين يوماً أو بعض يوم إلى مكان بعيد وللمدرسة في فصل الصيف شهران أيضاً عطلة فتكون عطلتها السنوية من حيث المجموع ثمانين يوماً وتستوفي المدرسة أجرة من كل طالب إلى سن الحادية عشرة 2500 فرنك فإذا تجاوز هذا السن تأخذ منه ثلاثة آلاف يدخل في ذلك أكثر حاجاته ما عدا بعض الدروس كالرقص والموسيقى والرسم فإنه يدفع أجرتها عَلَى حدة. وهو مبلغ كبير بالنسبة لأهل بلادنا ولكنه لا يستكثر في مدرسة مثل هذه النفقات الطائلة عَلَى الأساتذة والعيشة والرحلات ويطبق فيها العلم عَلَى العمل وتربى الحواس بالعمل أكثر من تربية الذاكرة.
حدثني أحد أساتذة المدرسة قال كان فكر مؤسسيها ديمولانس أن تكون عَلَى الطريقة الإنكليزية المحضة ولكن لم تمض حتى انقلبت أوضاع الدروس والرياضات إلى ما يشبه الطريقة الفرنسوية لأن ما توهمه ديمولانس من أنه يمكن تطبيقه في بلاد قد غإلى فيه كثيراً ولو كان حياً_مات منذ نحو سنتين_لرجع عن كثير مما نعاه عَلَى قومه وعد عدمه نقصاً في تربيتها وسبباً في ضعفها. وهو قول حق سديد لأن ما يوافق أمة لا يطبق بالحرف عَلَى أخرى وللعادة والمحيط والتقاليد دخل كبير في أوضاع الأمة عَلَى أن هذه النغمة قد أفادت فرنسا وغيرها بلا شك وأطلعت الشرق عَلَى التربية الفرنسوية مع ما هي عليه من الحسن هي في رقيها دون التربية الإنكليزية السكسونية من وجوه وإن كانت هذه دونها من وجوه ولعل بلادنا تستفيد من كل ذلك عبرة.
تقدم أن تلامذة مدرسة لياكنور هم من الفرنسيس وخليط من البرتقاليين والأميركان والإنكليز والمصريين وهكذا شأن معظم المدارس في فرنسا ولاسيما في كلياتها الجامعة فلا يتعلم فيها الطلبة من الذكور فقط بل يتعلم فيها الطالبات من الإناث وإني لا أذكر أنني حضرت خطبة أو درساً أو مجلساً علمياً ولا زرت متحفاً ولا مطبعة ولا إدارة جريدة إلا ورأيت الفتيات سبقنني إلى تلك الأمكنة ومعظمهن روسيات وإنكليزيات وألمانيات وبلقانيا وبولونيات. والبولونيات أكثر الفتيات الأجنبيات في فرنسا وأكثرهن عناية بتعلم اللغات الأجنبية حتى أن الواحدة منهن لتكلمك فلا تحسبها إلا فرنسوية لكثرة إتقانها للغة الفرنسوية وإجادتها النطق بها مما لا يكاد يتيسر مثله لغريبة ولا لغريب عن اللغة وهن مع هذا أكثر النساء الأوربيات تفانياً في أحكام ملكة لغتهن وحرصاً عَلَى آدابها وتلقينها.
ولقد كانت المرأة البولونية تعلم أولادها لغتهم في الغابات والحقول عندما كانت الحكومة الروسية تحظر عليه إلى قبل بضع سنين تعلم لغتهم لتجعلهم روساً مع الزمن فلما دالت دولة الجهل ونال البولونيون كسائر العناصر السلافية بعض حريتهم عقيب إنشاء الدوما الأولى كان من البولونيون أن فتحوا في شهر واحد في البلاد التي وقعت منذ قرن ونصف تحت سلطة الروس زهاء أربعة آلاف مدرسة يعلمون فيها العلوم العالية والدروس المنوعة بلغتهم ولم ينقصهم أساتذة ولا أعوزهم بالطبع التلامذة.
فالمرأة البولونية وإن عنيت بتعليم اللغات الأجنبية عنها تحتفظ بلغتها ووطنيتها احتفاظاً أسأل الله أن يرزقنا نحن بعضه حتى أنها إذا تزوجت من أجنبي لا تلبث أن تصبغ أولادها بصبغتها بحيث اضطر بسمارك أن يسن في عهده قانوناً يحظر فيه عَلَى الضباط الألمان أن يتزوجوا من البولونيات إذ ثبت له أن الوطنية الألمانية كادت تضعف ويعروها الانحلال في القسم الذي أصاب مملكة بروسيا من إرث صاحب بولونيا.
فيا ليت شعري متى يكون نساؤنا بل رجالنا في هذه المنزلة من صحة الوطنية مع الحرص عَلَى الجامعة العثمانية التي هي عدتنا في شدتنا وبدون هذه الجامعة السياسية لا يرجى لنا بقاء بعد الذي رأيناه من تكالب الغرب عَلَى الشرق فنحن إن أنصفنا لا ننزع من يدنا من الجماعة لأن يد الله مع الجماعة ومن رأى كيف كانت حالة سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة قبل الوحدة السويسرية والألمانية والأميركية يدرك سر الاجتماع والتعاضد ويعرف أن المركب الكبير يستحيل أن تأتي عليه الأنواء بقدر ما تضر بالصغير فقد يغرق هذا أو يستغرق في غيره ولا من يسمع به.
تعلمنا أوروبا وأمريكا كل يوم معنى من معاني الوطنية والجامعات الجنسية فإن كان بعض الاجتماعيين يدعون اليوم إلى إنشاء جامعة أوروبية واحدة وبعضهم إلى إنشاء جامعة أمريكية واحدة وبعضهم إلى إنشاء جامعة صفراء من اليابان والصين واحدة أفلسنا نحن أبناء العثمانية أحرياء بأن نزيد في تكاتفنا وتكافلنا ونرفع من بيننا سوء التفهم بسعي العقلاء منا.
طال المقال وبت أخشى عليكم الملال فهل تأذنون بأن أختمه بجملة واحدة للمقارنة بين أخلاقنا وأخلاق الغربيين وهي الأخلاق التي كانت من أعظم الوسائط في ارتقائهم كما كان لنقيضها واسطة في بانحطاطنا وذلك أنني تبنيت بالاختبار أن الإفرنج أكثر تفكراً منا في مصادر الأحوال ومواردها فهم لا يقدمون مثلنا عَلَى أمر قبل لأن يوقنوا من أنفسهم الغناء فيه فالصانع في الغالب لا يتطال إلى أن يكون سياسياً والمحامي لا يعمل في الزراعة وهكذا اختص أهل كل طبقة بطبقتهم وتفرد كل عالم بما بعلم ولم يتعده فالاختصاص أو الاخصاء هو الذي كان واسطة نجاح الغرب ودعوى معرفة كل شيء هي التي كانت واسطة انحطاط الشرق.
الغربي يفتخر بأنه لا يعرف غير ما تعلمه في مدرسته وحصله من حرفته ولكنه تعلمه فبرز فيه وأحاط بأطرافه وصبر حتى نضج فتناول ثمار جنية. أما نحن فنسارع إلى الرقود فنهب دفعة واحدة كما نخمد كذلك.
الغربي يهمه نجاح العمل من حيث هو عمل نافع لأمته ولنفسه ولذلك جاءت مصانعهم ومعاهدهم بل وجميع شؤون حضارتهم فخمة خالدة وكانت مصانعنا ومعاهدنا وسائر أعمالنا مختلة معتلة لا تدوم إلا بدوام من عمل لها أول مرة فإذا ما ذهب تذهب بذهابه.
الغربي استفاد ويستفيد بتجارب غيره لأن من عادته أن يحسن الانتفاع بكل شيء ونحن من عادتنا أن نهزأ في الأكثر بكل شيء.
الغربي يدخل الإصلاح إلى داره وبيته وأمته بالتدريج ونحن نحب أن نطفر طفرة في إصلاحنا والطفرة محال لأن سنن الفطرة لا تغالب ولا تعاند. الغربي يحب النظام حتى صار ذلك طبيعة ثانية له ونحن لا يهمنا النظام ولا التنظيم. الغربي معتدل عَلَى الأكثر في عامة أحواله ونحن أميل إلى الإفراط أو التفريط الغربي عبد الواجب ونحن قلما نقوم بفرض أو واجب فالغربي كما أحسن تقسيم الأعمال والاخصاء فيها أحسن استخدام الوقت إحسانه لاستخدام عناصر الطبيعة فنجده جد ولكن في أوقات الجد وهزله هزل ولكن في أوقات الهزل ونزهته نزهة ولكن في أوقات النزهة وعمله عمل ولكن في زمن العمل والشرقي ويا للأسف ليس بذلك.
أحسن الطبائع في الغربي خلق الاعتماد عَلَى النفس وإنكار النفي فهو يعتمد عَلَى كفاءته أولاً ثم عَلَى محيطه أمته وقد يهتم عَلَى الأكثر بمصلحة أته اهتمامه أو أعظم بمصلحة نسه ولذلك جاء كل غربي راقٍ أمةً برأسه وأمة تتألف من أفراد هذا حال وادهم الأعظم ينبسط ظل عمرانها ويمتد عَلَى الأرض سلطانها. فالله أسأل أن يهب هذا الشرق المحبوب نفثة من تلك الروح العالية وهذا لا يرجى لنا إلا بكثير سواد أمثالكم يا طلاب المدارس العالية فطلاب المدارس العالية هم ولا جرم أهل المطالب العالية فاعرفوا مقدار أنفسكم ومقدار الآمال التي تعلقها عليكم أمتكم نصر الله وجوهكم وبيض بكم وجوهنا.