مجلة المقتبس/العدد 56/آلاسكا واللاسكاويون
مجلة المقتبس/العدد 56/آلاسكا واللاسكاويون
آلاسكا جزيرة تنيف مساحتها على مساحة فرنسا ثلاثة مرات أصبحت الآن معتركاً حيوياً جديداً لبني البشر إلا أن وعورة المسالك واختلاف الهواء بها ترك أربعة أخماس من أرضها في عداد المجاهل.
وقد كانت هذه البلاد الواقعة في أقصى الغرب الشمالي من أميركا الشمالية والمنفصلة عن قارة آسيا بخليج بهرنغ مستعمرة للدولة الروسية فباعتها من حكومة أميركا.
إن البحث لم يهتد إلى شيءٍ مهم فيما يتعلق بالسكان الأصليين من وجهة علم الأنساب بل ظل أكثره إن لم نقل كله ناقصاً مبهماً. فالشعوب النازلة سواحل البحر قد تمكن بعض المرسلين من درس أحوالها أما المتوغلة في الداخل فاكتفى العلم بأخذ روايات من ارتادوها من الذين ضربوا في عرضها للتنقيب عن معادن الذهب أو لصيد بعض الحيوانات التي ينتفع من جلودها للفراء الثمينة. وكلا الفريقان مما لا يعول على قولهما ولا يرجى أن يفيا البحث العلمي حقه أو بعض حقه.
ويستدل من آخر إحصاء لسكان هاتيك البلاد الذي جرى سنة 1900 للميلاد أن عددهم (29536) نسمة يدخل فيهم الأسكيمو ولكن ذلك مما لا يصح الاعتماد عليه لأسباب جمة أهمها أن أغلب تلك الشعوب من الرحل ولم يتيسر الوصول إلى بعضها لوعورة المسالك كما ذكر. أضف إلى ذلك ما دفعته إليهم المدنية الأوربية من آفاتها كالجدري والسل والزهري وداء السكر بعد اكتشاف مناجم كلوندبك الذهبية فإن هذه الأمراض الفتاكة فعلت وما زالت تفعل في الأهلين ما لا يفعله الأسل حتى أن كثيراً من القرى خوت على عروشها وأصبحت قاعاً صفصفاً قب انتشار داء الجدري انتشاراً مريعاً من وراء الغابة. ولهذا يتراءى لي أن عدد السكان تنازل إلى الخمسة والعشرين ألفاً وهم يقسمون إلى فريقين فالأول يضم إليه شعوب شيلكا وياكوتا وهايداج وأباعوت وأوك الذين يتفقون في الجنس والنسل. والثاني شعب واحد يدعى دنا ويختلف عن الأول باعتبار علم أصل الشعوب وسلائلهم وهو ينزل البلاد الواسعة التي تمتد من خليج الهودسون إلى قلب ألاسكا على أن هذا التقسيم المبني على علم ناقص لا يلتفت إليه ولا يعمل به إلى أن يقوم علماء الإنسان بالتتبع العلمية والبحث الكافي ويتفقوا على ذلك شأنهم في سكان أميركا الأصليين.
والذي يزيد المستطلع إشكالاً في أمرهم مشاكلتهم بعضهم بعضاً حتى أنك لتخالطهم م عنصر واحد لاتفاق أزيائهم وأخلاقهم ومهما كان النقابة دقيق الفكر بعيد النزر لا يتمكن من النقد الصحيح والتمييز المصيب فلنحسبهم الآن قوماً واحداً وندرس أحوالهم الاجتماعية.
يجد القائلون بأن سكان أميركا الصليين من المغوليين الذين هبطوا أميركا عن طريق خليج بهرنغ وصخور الأووسيك من الوثائق ما يقوي حجتهم وبرهانهم. لا جرم أن جولف استرايت الذي وصل إلى سواحل ألاسكا بعد اجتيازه جزر اليابان هو الذي نفخ في الساحلين من شرقي آسيا روح الجرأة والإقدام على ارتياد هذه البلاد حتى أصبح أمر إحدى السفن الشراعية اليابانية التي جرفها التيار الحار سنة 1833 ميلادية ودفعها إلى ساحل ألاسكا مشهوراً لأن البرابرة وفي الأصل اليام يام جعلوا منها مائدة كانت عيداً لأولهم وآخرهم.
أما الآن فقد وضع الحق وظهر ما كان باطناً من أن ألاسكا كانت مأهولة بالسكان في أزمنة ما قبل التاريخ كسائر أخوانها من البلاد الأفريقية ويثبت هذه الحجة ما تراه الآن في عادات الأسكاويين وأخلاقهم وطبائعهم ولغتهم فإن كل هذه لم تكن عليها مسحة تدل على أنها آسيوية.
ونحن نتوخى في عجالتنا هذه البحث عن حالتهم الأصلية قبل أن يمازجها ما اكتسبوه من الاحتكاك بالأوربيين فنقول أن هؤلاء قد اجتازوا دور التكامل البدائي للبشر وتباعدوا ما أمكن عن الهمجية حتى صاروا أقرب إلى البداوة منهم إلى التوحش قبل أن تطأها أقدام المكتشفين الروس.
وترى لهم في البلاد الساحلية الآن البيوت الواسعة القوراء وبعض المصايف والقصور التي أقيمت على منوال الأوربيين وبالإجمال فهم أرقى علماً وأوسع مدارك من شعوب البوروج الذين ما زالوا يلبسون جلود البهائم.
والغريب في أمر هاته البيوت الفطرية أنها على اتساعها وقد يختلف طولها بين المائتي متر وعرضها بين الخمسة عشر والعشرين متراص تكفي لإيواء عائلات كثيرة معاً ومع هذا لا ترى فيها نافذة خلا بعض الثقوب في سقوفها لانبعاث الدخان المتصاعد من المواقد واجتذاب نور الشمس إلى الداخل ولم يكن فيها ما يصلح في الخارج سوى بعض الأبواب كما أن سطوحها لم تكن مائلة من طرفيها كما هو الحال في غير بنايات بل لها ميل قليل يكفي لتسليط مياه المطر على الخارج وتنفع هذه السطوح خطباء القوم فيرتقونها ويتخذونها منبراً عند الحاجة.
وتنبنى هذه اليبيوت من عيدان الحطب التي لم تصقل ويقتطعونها بمقاطع خشبية لأن الحديد الذي فيه البأس الشديد والمنافع الجمة للناس لم يعرفوا به بعد.
ويعتاضون عن الحديد بقرون نوع من الحيوان يسمى عندهم وايثي أو بقواطع من شجر البابل وفي الشتاء حيث يهجم الثلج بخيله ورجله يضيفون إلى البنايات الداخلية طبقة من رفيع القصب وبمثل ذلك أيضاً يفرقون البيت أيضاً عن أخيه فيكون دساً بين العائلات التي تأوي إليه.
أما أثاث هذا البيت البدائي فهو موافق له كل الموافقة فلا تجد فيه من الرياش ما يضيق معه الرحب بل هو في منتهى البساطة وهناك مقاعد خشبية تحت الفراش أو هي أسرة النوم على طول جدار البيت والفراش هو من السل قش الحصر وقد زيد في نشجه عند موضع الرأس حتى أشبه بالوسادة كما أن غطاءهم أو لحافهم من جلود الغزلان المدبوغة أو نوع من الكلاب المجعدة الشعر وقد أوشك نسلها بالانقراض بينهم.
لهؤلاء البائسين الذين يطلق عليهم اسم همج بعض صناعات لو أنصف المطلعون عليها لقالوا بكبر عقولهم ورقة شعورهم وقد ترى بعض الصناديق من صنعهم على حين لا يعرفون المسمار ولا رأوا آلات النجارة. والحدادة غاية في الضبط وآية في الدقة وطول هذه الصناديق متر وعرضها ستون أو سبعون سنتيمتراً وعمقها سبعون أو ثمانون سنتيمتراً.
وصف أحد المراسلين صناعتهم هذه بقوله أنهم يأتون بخشبة من شجر الأرز ويشقونها على أربعة وجوه ثم يصقلونها ما أمكن ويلفونها جيداً فيتكون منها زوايا الصندوق الثلاث ثم يخيطون طرفا الخشبة الداخليين بخيطان قوية من جلود الوعل يدخلونها بالمسلة الإبرة المصنوعة من قرون نوع آخر من الوعل فتحصل معهم الزاوية الرابعة أما أسفله فإنهم يجعلونه من قطعة واحدة من الخشب وله حافة تتصل أطرافها بالزوايا الأربع فيخاط كذلك بدقة غريبة حتى أنك لا تجد فيه عوجاً ولا أمتاً. ويكون غطاء الصندوق من قطعة واحدة أيضاً يمدونها على شقوق الزوايا المتناظرة فيتم الصندوق الذي يعد من بدائع الإبداع. وبعد أن يحفروا على الغطاء شارة العائلة أو الفريق ويدهنونه بلون مناسب يضعون فيه الملابس القيمة والفراء الثمينة التي تلبس في الأعياد والمناسبات.
ويبلغ الشتاء أشده ويقرص البرد في بعض بلادهم فيتقون بأسهما بحفر مستديرة يفتحونها في بطن الأرض على سعة متر أو مترين كبيوت الأسكيمو وهنالك يختبئ العشرون أو الثلاثون منهم مجتمعين فيحصل الدفء بينهم.
وتعلو هذه الحفر أكواخ حقيرة ليس لها من النوافذ إلا واحدة في رأسها هي للجيئة والذهاب والهواء والنور أما سبيلهم إلى هذه الأنفاق فهو عمود من خشب نقروه حتى نتأت منه أرجل أشبه بالسلم.
وقد اتفق الأسكاويون على عادة غريبة جرى عليها أغلب الأقوام الفطريين وبينهم هنود أميركا الوسطى والجنوبية وهي عزل البنات اللواتي يبلغن أشدهن والنساء اللائي في المحيض في أكواخ خاصة بهن حتى يطهرن ولو جردنا صناعة السلال الدقيقة التي يصنعونها من رفيع القصب نجد كل صناعاتهم ساذجة للغاية. نعم إنهم يحيكون بعض الأقمشة المتينة من خيوط خاصة يستخرجونها من ألياف شجر الأرز ويخلطونها بأصواف وعول صيغين وكندا وأصواف الكلاب التي مر ذكرها فيتكون عندهم منها نسيج متين يفي بحاجتهم إلا أن ذلك مما لا يعد صناعة نافعة.
وهذه الكلاب هي من الحيوانات الداجنة التي يمكن أن يقال عنها أنها وحيدة هذا القوم فهم ينتفعون من جلودها وأصوافها وتفيدهم في صيدهم وجر عجلاتهم على الجليد ولكنها ويا للأسف قد أوشكت تنقرض كما ذكرنا وقل نسلها قلة يخشى من ورائها.
وللسلال التي أشرنا إليها شهرة واسع عند أهل الإخصاء في جميع شتات الآثار ورائع الصنائع وهي أهل لأن تكون كذلك لأن عملها جميل متقن وعلى الرغم من أنها لم تطل بطبقة صمغية فقد تجدهم يستخدمونها في امتياح المياه من الآبار ونقلها ولا يرشح الماء من هذا السجل الدلو أو السلة أبداً.
والأغرب من هذا أن النبات الذي يستعمل في صنع هذه السلال يختلف باختلاف الشعوب إلا أن أرقها وأدقها ما كان من ألياف شجر الأرز ويوجد من هذه السلال ما أربى عمره على خمسين عاماً تتداولها الأيدي صباح مساء أما صانعوها فإنهم من النساء على الأعم.
وللنساء ولع خاص بالزينة والتبرج فيذهبن مذهب الماديين حتى أن المقارنة النسلية بينهن على هذه الوتيرة.
وتلقى ذلك ظاهراًَ كل الظهور في بعض الشعوب فترى الأب لا يهمين على ابنه أوسبطه إلا حين تزوجه من امرأة بينا يكون للشاب الخيار بقبول الابنة التي انتخبها له والده أو رفضها.
أما ما يتعلق بوجود القرابة بين المرأة وزوجها فلم يكن لها من قاعدة مألوفة أو خطة مرسومة بل ترك ذلك لاجتهاد كل فريق منهم. فقد ترى لدجى بعضهم جوازاً بزواج أبناء العم بينا تلقى زواج فتى وفتاة خاضعين لزعيم واحد من المحظورات عند آخرين فالأولين لم تمنعهم لحمة النسب من الزواج والآخرين منعتهم صلة التبعية فقط.
وتجد الزواج عند بعضهم كأنه اتفاق وقتي أو هو أقرب إلى الاستمتاع منه إلى الزواج والأنكى من كل ذلك أن شرعتهم قد تركت جبل الرجال على غواربهم وأحلت لهم افتراس أية امرأة في حيهم. نعم إنهم اشترطوا في ذلك أن يتبارز الشاب الطالب مع زوج المرأة المطلوبة برزاً لا يتخلله سفك دم لأن لا سلاح لديهم فإذا ما غلب الأول الثاني على أمره وطرحه أرضاً جاز له التصريف الملق في امرأته. ولكن ماذا يفيد هذا الشرط وهل يغني عن الحق شيئاً ما دامت الغلبة للقوة؟ وإذا كانو الزوج الأول ممن يعتقدون قوة خصمه ويستنكف عن مبارزته فيحق حينئذ لذلك الخصم أن يذهب إلى بيت الأول ويدعو امرأته إلى اللحاق به وهنالك لا يسع صاحبتنا إلا الجري وراء زوجها الجديد البطل والدخول في داره وحرمه ويظل الأول منزوياً في إحدى زوايا بيته ينظر إلى هذه العادة الغريبة شرراً وقد اعتراه اليأس وأشبه الهرة التي كسرت إناء الحليب.
ويقيم الزوجان على أن يملك كل منهما ماله من أثاث البيت ورياشه إن كان هناك ما يقال له أثاث ورياش ولا يجوز لهما أن يشتركا في كل شيءٍ من أنواع القنيات ومتى توفى الزوج الرجل يسترد ذوو قرباه ما كان له في الدار من مال ومتاع أما إذا سبقت المرأة زوجها إلى الموت فلا يكتفي أهلها بأخذ ما لها في البيت فقط بل هم يضطرون الزوج إلى إعطاء هدية ذات قيمة لتكون عزاءً وسلواناً لهم على فقد ابنتهم.
ومتى فاجأ الحامل المخاض يدخلها بعض النسوة العجائز الحاضرات غرفة خاصة وبعد ولادتها يغسلن الطفل بالماء الفاتر ويرششن على جسمه مسحوق شجر الأرز ثم يضعونه في سلة على شكل سرر الأطفال ويعلقونها في دعامة البيت الخشبية أو غصن من أغصان الشجر وهذه السلال أو السرر مصنوعة بحيث يتسنى للأم أن تحملها على ظهرها أثناء مشيها.
ويخرج الطفل من سريره مرتين في اليوم على الأكثر لأخذ إفرازاته وتبقى هذه السلة عشاً له إلى أن يدرك حد الفطام والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ومتى أتممنها يدرج الطفل من عشه أو سجنه وتذهب الأم في ذلك السرير إلى جهة نائية من الحرج فتعلقه في إحدى الأغصان تقدمه إلى الملك الموكل بحفظ ذلك الوليد طول حياته.
وهنالك بدعة سيئة يجري عليها بعض الشعوب في أطفالهم. فهم يلفعون رؤوسهم عقب اليوم الثالث من ولادتهم بعمامة من قشور الشجر وهذه العادة القبيحة التي تغير من شكل عظم الرأس وتهصره وتشوه الخلقة هي في عرفهم علامة خاصة بالنبلاء. ثم يتلو ذلك التلفيع يوم خاص يجتمع فيه لفيف الأسرة أو يقيمون حفلة حافلة بتسمية اسم الوليد وبعدها تبدأ دروس التربية الجسمانية وبعد انقضاء السنة الرابعة عن ولادة الصبيان يجهزون عليهم بالضرب بعضي رفيعة صباح كل يوم صيفاً كان أو شتاءً ربيعاً كان أو خريفاً ليزيدوا حسن جلودهم على زعمهم وفوق ذلك فهم يرغمونهم على الاغتسال بالماء البارد في الأنهار الجارية.
ومتى بلغوا العاشرة من حياتهم يدفعونهم من أكواخهم إلى الخارج حفاة عراة ليقضوا ليليهم نياماً يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء أو أنهم يمضونه وأيديهم قيد ماء الجليد على ضفاف البحيرات ولا يجوز لهم رفعها إلا بعد أن تشرق الشمس عليهم فتحل عقال هؤلاء المحكوم عليهم بظلم العقول السخيفة.
وعندما يأزف زمان تكاثر الأسماك في الماء وتطفو عليها طبقات من السمك المنتن يبعثون بأولادهم تحت جنح الليل ليستنشقوا تلك الروائح الكريهة ويعتادوها ويمارسوا الفروسية تحت رعاية ملك الحفظ.
أما من حيث المعتقد فهم بعيدون جداً عن الاعتراف بإله قادر قائلون بتعدد الأرواح التي ملأت السهل والجبل وعلى رأيهم أن لكل منهم عملاً خاصاً به حتى أن العجماوات والشجر وآلات الصيد وكل ما يقع عليه نظرهم في هذا الكائن الهائل من جماد ونبات وحيوان له ملك موكل به ولذلك تراهم أبداً مشتغلين بالمراسم والعبادات ليرضوا هذه الآلهة الكثيرة وينعموا بالاً في هذه الحياة الدنيا.
مثال ذلك أن أفراد الشعوب التي تقتات من الصيد لا يتيسر لها أكل لحم الوعل الذي يصيدونه بهناء بل أنهم يحتفظون بالدماء والأمعاء لئلا تقع تحت يد وحش ضار فيأكلها وذلك لاعتقادهم أن الملك الموكل بذلك يطلع بقية الوعول على جلية الأمر ويريهم النقص الذي حصل من الصائدين في سبيل احترام رفيقهم فلا يعودون يجودون بأنفسهم ليصطادوا بل يلجئون إلى الجبال التي تناطح السحاب ويشكل على الملقين في العناية بهم أمر الصيد.
ثم أنهم عندما يأتون بصيد الوعل إلى بيوتهم لا يجوزون به الأبواب التي وطئتها أقدام النساء وفي عرفهم أن ظباء النساء وظباء الوعل أعداء متشاكسون.
وعندما يزمع أحدهم صيد الدب الأبيض يطلب إلى روح ذلك الحيوان أن تتمثل أمامه كحيوان مستسلم ولا تمسه بسوءٍ فإن ساعده ووفق إلى صيده يدهن وجهه على وجه الإنسان بألوان مختلفة علامة شكره على نجاحه ويبدأ بتلاوة قصيدة رثاءٍ يمدح فيها خلال الفقيد العزيز وسجاياه الغرّ (!).
ومن غريب عاداتهم في مباشرة طعام لحم الدب أنهم يبدؤون برأسه على أن يكون وجوه حاضري الوليمة مصبوغاً بالألوان وأن يعلق على رأس الدب في أعلى غصن من شجرة باسقة بحيث يراه أبناء جلدته عزيز الجانب رفيع الجناب في الحياة وبعد الممات. يقولون وبعد هذا لا يأنف الحيوان مقابلة الصيادين والتعرض لأسنة حرابهم وأخشابهم. ولا يقتصر هذا الاحترام على نوع الدب فقط بل يكاد يكون عاماً في جميع الحيوانات. وعندما يتجاذب الأهلون حديث الصيد ويخصون بالذكر الحيوان الذي يبغون قتله أو صيده بالفخاخ يمازج حديثهم أخشنة والأدب فيخفتون من أصواتهم لئلا يقرع مسامع الأرواح الموكلة بتلك الحيوانات كما أنه يكون منسجماً متناسقاً كقولهم: رفاقنا. لعل أولياء نعمتنا يتكرمون علينا برؤية أحدهم فيكون نصيباً منهم وعلاً أو غزالاً أو دباً إلى غير ذلك.
ولو اكتفوا بهذه التعاليم والتقاليد فقط لكان لهم فيه بعض العذر ولكنهم شملوا به الفاكهة أيضاً فحالما يبادرون بجنسي الثمار يكون لديهم راهب أو ساحر يتلو عليهم جهاراً دعاءً يليق بالمقام ويرضى به الملائكة الموكلة لتتم البركة ويحصل الخير. وبينا الراهب يتلو الأدعية والإذكار يقف زعماء الشعب وفي أيديهم العصي يراقبون أعمال الشبان حتى إذا ما رأوا أحداً فتح عينيه قبل ختام الدعاء أوسعوه ضرباً ولكماً.
على أن كل ما ذكر لا يعادل الحفلات التي يقيمونها عند حلول موسم صيد نوع من السمك فعندما تقع سمكة في يد الصياد في أول الموسم يرفعها على ساعدين لأنه محظور عليه أن تمسها يده فيأتي بكل وقار إلى رئيس الرهبان الذي يتقبلها منه بقبول حسن ويرفعها إلى مكان خص بها وهيئ لها من غصون الصنوبر.
ثم يقترح على شيخ جليل من الحضور تكون له الوجاهة والرجاحة في قومه أن يصف حول السمكة العصي التي تشير كل منها إلى أسرة من البيوت الكريمة بحسب درجاتها ثم يتناول الرئيس الراهب العصي واحدة بعد واحدة ويمس بها مسيح السمكة الأمامي الذي يعتدونه بيدها اليمنى ويخاطبها بقوله: لي الشرف أن أقدم لكريم مقامك الأسرة الفلانية التي حضرت إلى رحابك الواسع وأطلب إليك أن تسمحي لها بأن تكون موطئ قدمك إلى غير ذلك من ضروب الإطراء وصنوف المديح. وبعد إتمام هذه المراسم يضع السمكة في قدر جديد ويسلقونها على النار بين النشيد والترتيل ثم توزع بين زعماء القوم وتليها الأسماك التي تشرفت بالعيد بعدها وتطبخ هذه أيضاً ثم تعطى إلى من لم يكن حرم عليه أكل السمك شرعاً.
لرؤساء الدين عند هذه الطوائف شأن كبير لأنهم يعتقدون فيهم أنهم وسطاء بينهم وبين الملائكة أو الرواح الموكلة وتنتقل الرهبنة من الآباء إلى الأبناء وتتعاطى هؤلاء الرهبان بعض مواد تخدر الجسم في حين يعنون كل العناية بالاعتكاف والانقطاع عن الناس فيكون فيهم من وراء ذلك شيءٌ من الجمود والسكينة.
ومما يدعو إلى الانتباه الأنصاب القائمة في مداخل البلدان وقبالة البيوت وقد زعم المكتشفون من الروس أنها تماثيل تعبد والحقيقة أن هذه شارات خاصة لكل أسرة منها شارة فمنها ما يكون كالطير ومنها ما يكون كالسمك وأشباههما من الحيوان على أن هذه تخدم في تفريق البيوت بعضها عن بعض لأنها كلها مبنية على نسق واحد لا يمكن التمييز بينها إلا بمييزات خاصة وهذه التماثيل تفي بالغرض المطلوب. ولهم نوع من السحرة يطبون المرضى ولكتن بإخراج الأرواح الشريرة منهم لا بالعلاج النافع الذي لا يعرفونه. ثم هم يدعون أن كل أسرة منهم من نسل أحد الأرواح الموكلة ويعتقدون أن لهم صلة بالسماء كالصينيين أبناءِ ماءِ السماءِ ولله في خلقه شؤون.
حيفا.
عبد الله مخلص.