مجلة المقتبس/العدد 6/شبيبة عظيمين

مجلة المقتبس/العدد 6/شبيبة عظيمين

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 7 - 1906



ملخصة عن الإنكليزية

كان غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا في صباه كما هو الآن خطيباً مصقعاً ولسنا مفوهاً لا تسنح له فرصة كلام إلا وتجد لسانه في النطق يسابق الكهرباء في السريان ولم يتخذ لمران قوة بيانه وفصاحة لسانه إلا أعقد المسائل السياسية وأهمها فلم يسمع منه في شبيبته سوى قراع الكتائب والسيف والمدفع وطبل الحرب وميدان الوغى. زادت حميته وقويت حجته وشكيمته في عهد أبيه المسكين الذي قضى أيام ملكه على فراش المرض وبين أيدي الطبيب والجراح ولقد نسي الابن إذ ذاك أباه ولم تأخذه عاطفة من عواطف حب الابن والده وتغلبت عليه شهوة الملك فكنت تراه في خلال مرض أبيه - وكان يقضي عليه أن يختفي عن الأنظار ويلازم فراشه في ساعاته الأخيرة ليخفف آلامه قبل أن يتجرع حمامه - لابساً ثياب الحرب ممتطياً صهوة جواده يطوف الطرق ويتنقل من بلد إلى آخر ويخطب القوم حتى قال فيه بعض كبار الساسة على ذاك العهد أن هذا الأمير كبعض الممثلين له شغف باللباس والكلام ولو كان من أبناء فرنسا لعذرناه على الطيش والحمق.

ومن حسن حظ ألمانيا أن قيصرها لم يكن رجل قول بل كان الفعل أقرب إلى قلبه والعمل أسهل لديه من تحريك اللسان فلما تولى الملك استبدل الفتيان والصبيان بالشيوخ والكهول فجدد بذلك حياة الإمبراطورية وقيد اسمها في سجل الدول الكبرى التي يدير دفتها الشباب وتدبر أمورها الفتوة فكأنه قدَّ من حديد أو صيغ من فولاذ لا يستقر على حال يتجول في الأرض فكأنه ملك من ملوك القرون الوسطى تقمصت نفسه في نفس غليوم.

أشتهر عن غليوم بأنه من رجال العمل ولكن شتان بين عمله وعمل غيره من الملوك وحسبنا على صدق هذا القول ما تكتبه الصحف عنه كقولها غليوم السائح وغليوم الخطيب وغليوم ينادي بأنه ملك ملوك الأرض وغليوم يؤنب أشراف مملكته ويمتدح جندها وإمبراطور ألمانيا يغير ثياب الجند وملابس رجال البلاط والقيصر غليوم يطرد بسمارك ويتفرد بالملك والسياسة وإمبراطور ألمانيا يضرب الأرض بأعدائه وإمبراطور ألمانيا الشاعر المصور المستعمر.

وقد يعجز القلم عن ذكر ما للإمبراطور من الصفات الكريمة والسجايا الفاضلة التي تميز الملوك عن غيرهم ومن تلك الصفات شجاعة الإمبراطور وأمانته وإصلاحه ويحكى عنه في صباه أن معلماً أراد أن يتقرب إليه في شبابه ليقربه الأمير أيام ملكه فدنا منه وأسرَّ إليه بأن الفحص سيكون في باب كذا من كتاب كذا. هذا ليجدَّ الأمير الصغير في التحصيل ويفوز على أقرانه في حلبة الامتحان ولكن شجاعة غليوم وإخلاصه عكستا آمال المعلم المتملق فإن الفتى صبر حتى جاء وقت الامتحان وتقدم بقدم ثابتة وجأش ساكن إلى لوحة الكتابة وكتب عليها يكون الامتحان في كذا كما أسرَّ إليَّ المعلم.

وكان روزفلت رئيس الولايات المتحدة في شبابه يحتقر أكثر المشتغلين معه في السياسة لعلمه بأنهم ثرثارون لا يؤثر عنهم عمل يذكروهم فئة تقول ما لا تفعل وتخاف التصريح بآرائها وأفكارها ولقد كتب في صباه كثيراً وكان أغلب ما كتبه في المسائل السياسية والحربية التي عرضت له في حياته وله بعض الكتب في التاريخ وفنون الصيد والرياضة البدنية وغيرها يصف فيها الحياة في غرب أميركا.

وكتب زهاء عشرين كتاباً في أقل من عشرين سنة. وقد ظهر أول كتاب من قلمه سنة 1882 ثم كمنت قوته الأدبية ست سنوات وأخرج بعدها في سنة 1888 رسالة كبيرة مزج فيها العلم بالسياسة وحلل فيها نظام الحكومة الجمهورية تحليلاً دقيقاً وباح بآراء مهمة جعلت له مركزاً سامياً بين أقرانه سيما وقد أفرغ في تلك الرسالة كل ما مر عليه من تجارب في ثماني سنين قضاها في وظائف الحكومة السامية ومن كتبه كتاب سير الأبطال وحياة الفكر والعمل وحياة أوليفر كرومويل وتاريخ نيويورك وقد جمعت وطبعت كلها في خمسة عشر مجلداً وله غير هذه الكتب مقالات كثيرة نشرت في المجلات الإنكليزية والأميركية.

وقد صرح روزفلت بجميع أفكاره الحرة في كتاب كبير اسمه منتهى الكمال ضمنه ما استطاع من الآراء السياسية والاجتماعية وحلَّ فيه كثيراً من المشكلات التي عرضت له في صباه وقد أظهر روزفلت بهذا الكتاب للملأ أنه هو الرجل الوحيد الذي يمكن لأمة كبيرة قوية أن تضع ثقتها فيه. ومن آرائه في هذا الكتاب أنه ليس المجرم الحقيقي هو الذي يسلب ويقتل ويكون هدفاً لسهام العقاب والقصاص إنما المجرم الحقيقي هو السياسي أو الصحافي الكبير الذي يثق به الناس وهو غادر منافق يسعى لمنفعته الخاصة والمجرم الحقيقي هو الغني الكبير الذي يلعب بالعدل ويعبث بالقانون ليموت ويترك بعده القناطير المقنطرة من الذهب للورثة الفاسدين. إن المجرمين الحقيقيين هم أرباب المال الذين يظلمون العمال الفقراء حقوقهم ويشربون دماءهم ويبذلون كل مرتخص وغال في سبيل الذهب ويسيرون إلى الأمام ولو فوق الجثث البشرية. وهاك شذرة من قلم الرئيس روزفلت يصف بها أرباب الملايين في أميركا قال: ليس في العالم أقبح خلقاً وإغراقاً في الدناءة وقلة الشرف من أرباب الملايين الذين ليس لهم عمل ولا غرض في الحياة يسعون إليه سوى جمع المال وحبسه عن المحتاجين والفقراء. ومن الأسف أنهم يجمعون تلك الأموال الطائلة ويحرزون ألوف الألوف من الذهب ليستعملوها في أغراض وغايات دنيئة فإن أحدهم يلعب بالأسهم المالية والشركات ويملك في يده زمام المضاربات فيفقر قوماً ويغني آخرين لمحض لذته وسروره أو يهب ابنه الجاهل مقداراً عظيماً من المال فيعيش الولد عيشة الكسل والخمول والفساد والفجور ويندفع في طلب الملاذ السافلة ويجري وراء شهواته الدنيئة أو يشتري لابنته زوجاً شريفاً فقيراً يلقب (بلورد) أو (دوق) لتكون (ليدي) أو (دوقة) وفي بعض الأحيان يؤسس مدرسة أو يجري رزقاً على كنيسة فينسى الناس ذنوبه الكبيرة بتلك الحسنة الصغيرة ويغضون الطرف عن عيوبه ويغفرون له خطاياه ويحسبون أن هذا العمل الحقير الخيري الذي تم على يده يبرر أعماله السابقة واللاحقة بأسرها. هذا الرجل هو الذي لا يحفل بالعمال الذين يموتون من أجله ويقتلون أنفسهم في معامله ومناجمه وهو يسلب حقوقهم ويهددهم بالطرد إذا شكوا إليه بثهم وهمهم وكلما أمكنه نقص من أجورهم وزاد ساعات عملهم وإذا سألته الحكومة في ذلك هزأ بها وسخر منها ومن دستورها وقوانينها. هذا الرجل خطر دائم على الحكومة والأمة لأنه يرى بعينه الفساد ولا يمد يده للإصلاح ويسمع بأذنه أخبار الرشوة المنتشرة بين الحكام والقضاة ولا يحرك لسانه بكلمة تعود بالنفع على وطنه الذي ينتمي إليه والجمهورية التي تحميه بل يجلس ويضحك كأنه من الدنيا في ملعب ولا يحس بأنه فرد من هيئة حية نامية عن الواجب الذي عليه نحوها قبل نفسه هذا هو المثري الأميركي الذي يحترمه الناس ويبجلونه ويشيرون إليه بأطراف البنان ويثنون عليه قائلين أنه من أرباب المال والأعمال.

وإنك لترى في أميركا غير تلك العجول الذهبية وهم أكثر عدداً ولكنهم أقل خطراً وأعني بهم أصحاب الأفكار المادية المحضة الذين لا يمدون يدهم إلى عمل إلا إذا علموا أنهم ينالون منه كسباً ولا يستحسنون شيئاً إلا إذا عرفوا أنه مال ومن المال وإلى المال. ولا يعرفون أن شاعراً واحداً يفيد الأمة بعرائس أفكاره أكثر ألف مرة من صاحب معمل لسبك الفولاذ في الولايات المتحدة ولا يعرفون أنه مهما زادت التجارة وكثرت الأرزاق ولت الواردات عن الصادرات لا تعوقنا تلك الأمور شيئاً عن الفضيلة الضائعة ولا يمكننا بها أن نحل المسائل الاجتماعية الهائلة التي تشغل الآن جميع الأمم المتمدنة ويقولون بأن التجارة والأملاك أقدس جانباً وأغلى ثمناً من الحياة والشرف والمجد بما لا يقدر على أن هؤلاء معذورون لأنهم لا يحسون بعاطفة كبيرة ولا ينبض في جسمهم العرق الذي ينبض في أجسام أهل الفضل.

القاهرة

محمد لطفي جمعة