مجلة المقتبس/العدد 60/العفة

مجلة المقتبس/العدد 60/العفة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1911



وتمدح العرب بها

العفة خلق يعصم صاحبه عن تناول ما لا يحل: فإذا عرض له ملذوذ محرم، أو سنحت له شهوة محظورة حال هذا الخلق الكريم بينه وبين التلوث بها، وقد غلب استعمال كلمة العفة في تجنب قاذورة الزنا، ومن أكرم نفسه عن هذه القاذورة كان في منجاة من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، ويكفي الزاني خزياً في دنياه أن يكون محتقراً في ذويه معرضاً للعاهات والأمراض الخبيثة، وأن يصبح قدوة سيئة لأهله وولده في سلوك هذا الطريق المشؤوم، وإني أعرف رجلاً ابتلي بهذه الرذيلة فكان له في كل يوم خليلة يختلف إليها، وينفق من رزق عياله عليها، وكان له زوجة وأولاد: فلم يكن أمره ليخفى عليهم مهما بالغ في التكتم، ولما بلغ أكبر أولاده من الرشد مال إلى هذا المنكر ونما في نفسه حب الفاحشة، فجعل يسافر من بلد إلى بلد في تطلب الفتيات، وتصيبهن، والإنفاق عليهن وكيف يكون موقف الأب إزاء عمل ابنه هذا؟ أتراه يقدر على كبح جماحه وإرجاعه عن غيه، وإقناعه بأن ما هو فيه يؤدي إلى قبح الأحدوثة، وضياع الشرف، وخسارة الصحة وعذاب الآخرة فإذا نصح له أبوه بمثل هذا القول ماذا يكون جواب ابنه له يا ترى؟ وفي مثل هذه القصة قال الشاعر في المثل السائر:

إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً ... فلا تلم الصبيان فيه على الرقص

وقديماً ما تمدح العرب بالتخلق بالعفة، والابتعاد عن التلوث بقاذورة العهر، بل تجنب كل ما يلحق بهم ريبة، أو يدعو إلى سوء ظنه، فكان أحدهم لا يزور امرأة جاره في غيبة زوجها تأثماً وتكرماً.

وإذا كان جواداً مثل حاتم الطائي، وكان له جار بادي الخصاصة، احتال في إرفاد زوجته أثناء غيبته من دون أن يلم بها، أو يدخل بيتها وقد دل حاتم على خلقه هذا في قوله:

وما تشتكيني جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها

سيبلغها خيري ويرجع بعلها ... إليها ولم تسبل علي ستورها

قوله وما (وماتشتكيني) أي لا يمكنها أن تشكوني إلى نساء الحي فتقول: إن حاتماً بخل علي، ومنع عني معروفه، في غياب زوجي، لا تقول ذلك لما أني كنت لا أقصر في كل ماينعم عيشها، ويكفي حاجتها، إلا الزيارة فإني كنت أدعها مدة غياب زوجها، وقوله (سيبلغها خيري) أي يصل إليها معروفي ورفدي وأزال كذلك حتى يرجع زوجها من دون أن أدخل خدرها وتسبل علي سترها.

وقال حاتم أيضاً في هذا المعنى:

ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر

يقول أن جاري لا يضرم ناراً لنفسه وإنما تكون ناري له ناراً فيأكل هو وعائلته مما يطبخ عليها، بل إن القدر تنزل عن النار وتقدم إليه ليتناول منها حاجته قبلي

ما ضرني جارا جاوره ... أن لا يكون لبابه ستر

لا أبالي أن لا تكون ستارة على باب بيت جاري، وذلك لأني عفيف العين فلا أخشى على نفسي التطلع إلى داخل البيت، والنظر إلى النساء اللائي فيه.

أعشو إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر

هذا البيت كأنه جواب لسؤال يوجه إلى حاتم: فيقال له أحسنت إذ لم ترسل نظراتك الخائنة من خلال الستور إلى نساء جارك ولكن كيف تصنع إذا برزت الجارة من خدرها وتمشت بين المضارب والبيوت، فقال إني إذ ذاك (أعشو) أي أغض عيني وأغمضهما فلا أعود أبصرها حتى تدخل خدرها، وتتوارى فيه، واصل (العشى) مقصور من دون همزة، أن يضعف بصر المرء فلا يعود يبصر في الليل، وإن كان يقدر على الإبصار في النهار، والوصف منه أعشى، وبه سمي الشاعر المشهور والناقة العشواء التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شيء يعترضها، وتعتسف الطرق على غير هدى، ومنه المثل فلان يخبط خبط عشواء.

وقد تجوز حاتم فاستعمل العشى هنا بمعنى غض العين، أو تخزير الجفن بحيث لا يعود يبصر إلا كما يبصر الأعشى الضعيف البصر.

وقد أعطانا هذا العربي الكريم في شعره درساً جليلاً في الأخلاق وفي آداب معاملة النساء يجدر بنا أن نحفظه، ونحتذي مثاله، فلا نتعرض إلى النساء الأجنبيات، ولا نسارقهن النظرات الخائنات.

وقد افتخر حميد بن ثور الهلالي بما افتخر به حاتم فقال: وإني لعف عن زيارة جارتي ... وإني لمشنوء إلي اغتيالها

(مشنوء) مبغض مكروه، يقول أنه يكره أن يزورها لئلا يساء به الظن فيهان، كما يكره أن يغتابها لئلا يقال أنه تنزل لمنافسة النسوان.

إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها ... زواراً ولم تنبح علي كلابها

زوار على وزن غراب بمعنى كثير الزيارة ومن مادة الزيارة سمي الرجل الذي يكثر من زيارة النساء وغشيانهن ومجالستهن زير وبه سمي المهلهل أخو كليب الزير ويقال فلان زير نساء إذا كان مولعاً بمجالستهن وتصبيهن.

وما أنا بالداري أحاديث بيتها ... ولا عالم من أي حوك ثيابها

حوك مصدر حاك الثوب حياكة وزير النساء يعمل على تعرف أحوالهن وتسقط أخبارهن فيدري إذا جرى بينها وبين جارتها أو خادمتها وماذا رأت أو سمعت في العرس أو المأتم الذي ذهبت إليه، وقد يستخبر منها عن نسيج ثوبها، ومن أي صنف أو جنس هو، ومن أين اشترته، وعند أي خياطة خاطته كل هذه الأسئلة لأجل أن يكون له مادة للحديث يشغلها به حينما يزورها أو يصادفها، فشاعرنا العربي لم يقصر في درس طباع هؤلاء الأزيار جمع زير ومعرفة غريب حيلهم، فهو ينفي عن نفسه أن يكون فاسقاً مثلهم أو يشتغل بالنساء اشتغالهم.

ومثله في ذلك عقيل بن علفة المري الذي يقول من أبيات:

ولست بسائل جارات بيتي ... أغياب رجالك أم حضور

(غياب) جمع غائب، وقوله (رجالك) أصله (رجالكن) بالنون لأن الخطاب للجارات وهن جمع، قالوا إن هذا الحذف أو الخطاب بالمفرد جائز في الشعر فقط:

يقول: إنه لا يسألهن هذا السؤال ليتوصل به إلى محادثتهن، أو أنه لا يسألهن إياه إرادة الدخول عليهن، وقضاء لبانة منهن.

ولست بصادر عن بيت جاري ... صدور العير غمره الورود

(العير) حمار الوحش ووروده مجيئه الماء يريد الشرب وصدوره رجوعه عنه بعد شربه منه، و (غمره) بتشديد الميم من التغمير، وهو أن يرد حمار الوحش الماء فيشرب أول الشرب ثم يحس بالصائد الكامن له على الماء فيرجع نافراً غير متلبث وبه إلى الماء حاجة ونفسه تدعوه إلى العودة.

فالشاعر يقول إني لا أدخل بيت جاري ابتغاء الريبة، وارده كما يرد عير الوحش منهل الماء، حتى إذا علمت بأن الجار في البيت صدرت ورجعت مسرعاً كما يفعل عير الوحش متى أحس بالصائد القانص إذ ينقلب عن المنهل مغمراً وتغميراً، وهو شديد الظمأ إليه.

ولا ملق لذي الودعات سوطي ... ألاعبه وربته أريد

(ذو الودعات) هو الصبي الصغير الذي يعلقون عليه الودع خشية العين ومسيس الجن، وقوله (ربته) تأنيث (رب) وضميره يرجع لذي الودعات، ويعني بربته أمه: لأنها تربيه وتملك أمره وتصلح من شأنه، حتى يبلغ كماله، والتربية مأخوذة من هذه المادة.

وقد زاد الشاعر هنا معنى لم يقله زميله الشاعر السابق: فهو يقول أنه ليس بالوقح الذي يتوصل إلى مغازلة النساء ومحادثتهن بمناغاة أطفالهن وملاعبتهم، فإذا رأى طفلاً مع امرأة حسناء أو خادمة وسيمة ألقى إلى طفلها سوطه أو سبحته أو فم سيكارته يظهر من نفسه الرحمة بالأطفال وشدة العطف عليهم، والأمر ليس كذلك وإنما هو فاسق يريد صاحبة الطفل، ويبغي بها السوء.

وأسلوب هذه الأبيات يعطي أن قائلها يريد التعريض بعدو منافس له: كأنه يقول أني لا أتنزل لأمثال هذه الشناعات وإنما ذاك خصمي فلان هو الذي اعتاد فعل ذلك.

ومثل قوله الأخير قول الآخر:

لا آخذ الصبيان ألثمهم ... والأمر قد يغزى به الأمر

(يغزى) من غزا قصد، ومن غزو العدو، لأن الغازي يقصدهم في موضعهم، ومنه أيضاً (مغزى) الكلام، و (مغزى) القصة أي المعنى المقصود منها، فلثم الصبيان هنا ليس مقصوداً لذاته وإنما هو أمر قصد به أمر آخر، وهو تجميش المرأة والتفكه بحسنها وجمالها، وشكلها ودلالها.

ولا أريد بالشكل هنا الهيئة والصورة وإنما هو بمعنى الغنج والدلال وشينها تفتح وتكسر، شكلت المرأة كفرحت فهي شكلة.

أما التجميش فلا أبيح لنفسي التصريح بأصل اشتقاقه، وإنما أكتفي بتفسيره بالمغازلة.

وخطر لي الآن أن المغازلة، ويراد بها محادثة النساء بكلام الحب، مشتقة من غزل القطن والصوف، وإنما سميت هذه المحادثة بهذا الاسم، لأن الزير يجلس إلى المرأة وهي تغزل فقد يساعدها بالغزل أو يحل الخيوط المعقدة أو يسألها عن غزلها وما تريد أن تنسج به مثلاً ويكون الزير بصنيعه هذا كأنه شاركها في الغزل، ولذلك جاء فعله (مغازلة) على بناء المشاركة، ثم يتوصل الزير بهذه المشاركة إلى أحاديث أخرى يعلمها الأزيار، ومن لطائف المتأخرين قول بعضهم:

وزان بحب الزنا مغرم ... اماط رادء الحيا واطرح

يقبل أولادهن الصغا ... ر ومن عشق الدن باس القدح

المغربي