مجلة المقتبس/العدد 63/البرجان

مجلة المقتبس/العدد 63/البرجان

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 5 - 1911


من هم البرجان الذين كثر ذكرهم في كتب العرب التاريخية القديمة وما اسمهم باللغة الفرنجية؟ هذا سؤال يحب أن يقف على جوابه كل من يهمه الاطلاع على إخبار الأقدمين والأمم السالفة، فأقول: إذا أردنا الوضوح في هذه المسألة يجدر بنا أن نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام وهي: قسم نذكر فيه كلام مؤرخي العرب أو مشاهيرهم، وقسم نذكر فيه آراء لغويي العرب وقسم نأتي فيه على ما صرح به علماء الافرنج ومستشرقوهم ثم نختم هذه الأبواب الثلاثة بخاتمة تكون بمنزلة فصل الخطاب.

1_القسم الأول كلام مؤرخي العرب أو مشاهيرهم:

أول من ذكر البرجان من جغرافيي العرب هو أول مؤلف عربي صنف في وصف البلدان أعني به أبا زيد أحمد البلخي صاحب كتاب صور الأقاليم المتوفى ليلة السبت لتسع بقين من ذي القعدة سنة 322 هـ (3 تشرين الثاني 933م) إذ يقول: أما مملكة الإسلام فإن شرقيها (في عهد المؤلف) الهند وفارس، وغربيها مملكة الروم وما يتصل بها من الأرمن واللان والبرجان والسرير والخزر والروس والبلغار والصقالية وطائفة من الترك، وشماليها مملكة الصين وما اتصل بها من بلاد الأتراك ومنها بحر فارس المطلوب من إيراده.

وقال ابن خرداذبة: والعمل الثاني (من بلاد الروم) عمل تراقية وحده من المشرق السور ومن الجنوب عمل مقدرنية ومن الغرب بلاد برجان ومن الشمال بحر الخزر وقد جاء في كتاب المسالك والممالك ذكر البرجان مراراً عديدة وكلها بهذا المعنى.

وقال ابن الفقيه في كتاب البلدان: وإليها (أي إلى الري) تقع تجارات أرمينية وأذربيجان وخراسان والخزر وبلاد برجان.

وأما اليعقوبي فلم يتعرض لذكرهم، وممن ضرب صفحاً عن ذكرهم أيضاً الاصطخري وابن حوقل والمقدسي وقدامة بن جعفر والبكري والبيروني.

وقال ابن الوردي عن أرض البرجان ما حرفه: هي أرض عظيمة واسعة بها من البرجان أمم لا تحصى وهي أمة طاغية قاسية بلادهم واغلة في الشمال ويقول عن أرض البلغار ليبين لك أنها ليست أرض أولئك كما زعم ذلك بعض المتأخرين أو المعاصرين: هي أرض واسعة ينتهي قصر النهار عند البلغار والروس في الشتاء إلى ثلاث ساعات ونصف ساعة قال الجواليقي: ولقد شهدت ذلك عندهم فكان طول النهار عندهم مقدار ما صلي أربع صلوات كل صلاة في عقيب الأخرى مع الأذان وركعات قلائل الإقامة والتسبيح، وعماراتها متصلة بعمارة الروم، وهم أمم عظيمة ومدينتهم تسمى بلغار وهي مدينة عظيمة يخرج واصفها إلى حد التكذيب.

وقال الطبري (1: 18 من ولد يوان: الصقالبة وبرجان. (وفي 1: 299) وملك (افريذون ابنه) سلماً الروم والصقالية والبرجان وما في حدود ذلك (وفي1: 900) وانوشروان غزا برجان ثم رجع فبنى الباب والأبواب. (وفي 2: 1317) وفي هذه السنة (أي سنة 98) أغارت برجان على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة من الناس فأمده سليمان بن عبد الملك بمسعدة أو عمرو بن قيس في جمع فمكرت بهم الصقالية، ثم هزمهم الله بعد أن قتلوا شراحيل بن عبدة. (وفي 3: 775) وقتل في هذه السنة (سنة 193) نقفور ملك الروم في حرب برجان وفي (3: 1450) وقد كان إذن (ملك الروم في سنة 246هـ -) لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه.

وقال المسعودي في كتاب التنبيه: وحد الإقليم الخامس بحر الشام إلى أقصى أرض الروم مما يلي البحر إلى تراقية وبلاد برجان والصقالية والابر إلى حد أرض يأجوج ومأجوج وقال في موضع آخر من كتابه المذكور: إن السبب في ذلك (في انتصار الملك قسطنطين على أعدائه) ظهور صليب له نوري في السماء في نومه في حال حربه مع ملك برجان وأنه قيل له: استنصر به على عدوك تنصر عليه.

وقال (في ص 141): وقد دخل كثير منهم (من الأجانب) في وقتنا هذا في جملة الروم كدخول الأرمن والبرغر وهم نوع من الصقالية والبجناك من الأتراك فشحنوا بهم كثيراً من حصونهم التي تلي الثغور الشامية وجعلوهم ازاء برجان وغيرهم من الأمم المتأبدة بهم والمحيطة بملكهم. . . وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا السبب في كيفية بناء القسطنطينية والتنازع في ذلك، وقول من قال ما وراء الخليج كان من أرض برجان فاحتال قسطنطين على ملك برجان لعلمه بالموضع وحصانته حتى أذن له في بنائها.

وقال (في ص 164) لحق (يسطنيانس) بملك الخزر مستنجداً به وتزوج هناك فلم ير عندهم ما يحب فصار إلى طرفلا ملك برجان. . . . وقد كان شرط لطرفلا ملك برجان إذا رجع الملك إليه أن يحمل إليه في كل سنة خراجاً وكان يفعل ذلك. . .

وقال (في ص 183) وقد ذكر خبر السور المسمى بالرومية مقرون لينحس تفسير ذلك السور الطويل الحاجز بين بلاد برجان وبين البنود الخمسة التي وراء القسطنطينية

وقال في ص 184 وقرب من هذا الجبل جبل القبق من الأمم كاللان والسرير والخزر وجرزان والابخاز والصنارية وكشك والكاسكية وغيرهم والابر وبرجان والروس والبرغر والافرنجة والصقالبة. .

وقال في ص191 ومن جاورهم (أي الروم) من الممالك: من برجان والابر والبرغر والصقالبة والخزر وغيرهم. . .

وقال (في ص 196) وقد ذكرنا ما جرى بين الروم وبرجان والبرغر والترك وغيرهم من الوقائع المشهورة والحروب المذكورة. .

وقال المسعودي في كتابه الآخر مروج الذهب: (2: 16 طبعة باريس) وشن الغارات (أي ملك البرغر يريد البلغار) حولها (أي حول القسطنطينية) إلى بلاد رومية والأندلس وأرض برجان والجلالقة والافرنجة. . . وقال (في ص 311 من ذلك الجزء). . وقد كان له (أي لقسطنطين الملك) في بنائها خبر طريف مع بعض ملوك برجان لخوف دخله من بعض ملوك آل ساسان. . وقال (في ص 314) وكان السبب في دخول قسطنطين بن هلاني في دين النصرانية والرغبة فيها أن قسطنطين خرج في بعض حروب برجان أوغيرهم من الأمم فكانت الحرب بينهم سجالاً نحواً من سنة. . . وقال (في 3: 66) الافرنجة والصقالبة والنوكبرد والاشبان واليأجوج والمأجوج والترك والخزر وبرجان واللان والجلالقة. . . وقال (في ص 78) ولربما اجتمع عليهم (على أهل الأندلس) من الأمم من ولد يافث من الجلالقة وبرجان وافرنجة وغيرها من الألسن. . . وقال في 3814 عمل الترك لخافان سبع مائة فرسخ في خمسمائة. أي طوله. . . وعرضه. . . عمل الخزر واللان سبع مائة فرسخ في خمسمائة فرسخ، عمل برجان ألف وخمسمائة فرسخ في ثلثمائة فرسخ، عمل الصقالبة ثلاثة آلاف وخمسمائة فرسخ في سبعمائة فرسخ، وقال في 14327 وفي هذه السنة وهي سنة 223 خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم في عساكره ومعه ملوك برجان والبرغر والصقالبة وغيرهم ممن جاورهم من ملوك الأمم حتى نزل مدينة زبطرة من الثغر الخزري فافتتحها بالسيف. . .

وقال ابن رسته: الإقليم السادس يبتدئ من المشرق ويمر على بلاد مأجوج ثم على بلاد الخزر فيقطع بحر طبرستان إلى بلاد الروم فيمر على جرزان وأماسيا وهرقلة وخلقيذون والقسطنطينية وبلاد برجان وينتهي إلى بحر المغرب.

الإقليم السابع يبتدئ من المشرق من شمال يأجوج ثم يمر على بلاد الترك ثم على سواحل بحر طبرستان مما يلي الشمال ثم يقطع بحر الروم فيمر ببلاد برجان والصقالبة وينتهي إلى بحر المغرب.

وأما ما وراء هذه الأقاليم إلى تمام الموضع المسكون الذي عرفناه فإنه يبتدئ من المشرق من بلاد يأجوج ثم يمر على بلاد التغزغز وأرض الترك ثم على بلاد اللان ثم على الابر ثم على برجان والصقالبة وينتهي إلى بحر المغرب.

وقال في موضع آخر: ومن هذه المدينة (أي رومية) تركب البحر فتسير ثلاثة أشهر حتى تنتهي إلى بلاد ملك برجان وتسير منها في جبال وعقاب شهراً واحداً حتى تنتهي إلى بلاد فرنجه.

وقال ياقوت: برجان بالجيم، بلد من نواحي الخزر، قال المنجمون: هو في الإقليم السادس وطوله أربعون درجة وعرضه خمس وأربعون درجة وكان المسلمون غزوه في أيام عثمان رضه.

وقال البلخي في كتاب البدء والتاريخ (1: 64) سمعت قوماً من برجان يسمونه (أي الله) ادفوا، فسألتهم عن اسم الصنم فقالوا: فغ وقال (في 3: 26) فمنهم (من أولاد يافث) الترك والخزر والصقالبة وبرجان واشبان ويأجوج ومأجوج ستة وثلاثون لساناً وقال (في 4: 53) الإقليم السادس: يبتدئ من المشرق فيمر على بلاد يأجوج ومأجوج ثم على بلاد الخزر ثم على وسط بحر جرجان إلى بلاد الروم فيمر على جرزان وهرقلة وقسطنطينية وبلاد برجان إلى بحر المغرب، قال أهل هذا العلم: أما ما وراء هذه الأقاليم إلى تمام الموضع المسكون الذي عرفناه فإنه يبتدئ من المشرق من بلاد يأجوج ومأجوج فيمر على بلاد التغزغز وأرض الترك وعلى بلاد اللان ثم على بلاد برجان ثم على شمال الصقالبة إلى أن ينتهي إلى بحر المغرب.

وقال أبو الفداء في تقويم البلدان: برشان بضم الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وفتح الشين المعجمة ثم ألف ونون في الآخر، ويقال لها أيضاً برجان بالجيم، كانت قاعدة البلاد، قال ابن سعيد: وبرشان كانت قاعدة الأمة الذين يقال لهم برجان وكان لهم شهرة وبأس في قديم الزمان فاستولت عليهم الألمانية وأبادوهم حتى لم يبق منهم أحد ولا بقي لهم أثر

وقال القرماني: برجان بلاد غائصة في جهة الشمال فيها قصر النهار إلى أربع ساعات والليل إلى عشرين ساعة وبالعكس وأهلها مجوس، وقال عن بلغار: مدينة عظيمة (كذا والمراد هنا قاعدة البلغار) على ساحل بحرمانطس مبنية من خشب الصنوبر وسورها من خشب البلوط، وحولها من أمم الترك ما لا يعد ولا يحصى، والبرد عندهم شديد جداً لا يكاد الثلج أن ينقطع عن أرضهم صيفاً وشتاءً.

وقال ابن الأثير في (1: 28 من طبعة مصر) ومن ولد بوان (والأصح يوان بالمثناة التحتية) الصقالبة وبرجان والاشبان كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع فيها من وقع من ولد العيص بن اسحق وغيرهم، وقال (في 116) ثم ملك اسطينان (أي أسطنيانس أو يسطنيان) المعروف بالأخرم تسع سنين أيام عبد الملك ثم خلعه الروم وخرموا أنفه وحمل إلى بعض الجزائر فهرب ولحق بملك الخزر واستنجده فلم ينجده فانتقل إلى ملك برجان، ثم ملك بعده لونطش ثلاث سنين أيام عبد الملك ثم ترك الملك وترهب، ثم ملك السمين المعروف بالطرسوسي سبع سنين فقصده اسطينان ومعه برجان وجرى بينهما حروب كثيرة وظفر به اسطينان وخلعه وعاد إلى ملكه فكان ذلك أيام الوليد بن عبد الملك واستقر اسطينان وكان قد شرط لملك برجان أن يحمل إليه خراجاً كل سنة فعسف الروم وقتل بها خلقاً كثيراً فاجتمعوا عليه وقتلوه فكان ملكه الثاني سنتين ونصفاً وقال (في ص 117) وجرى بين نقفور وبين برجان حرب سنة 193 فقتل فيها وقال (في ص 154) عن كسرى انوشروان عاد إلى المدائن وغزا البرجان ثم رجع وأرسل جنده إلى اليمن، ثم قال (في ص 155) وقوي أمره (أي انوشروان) وغزا فرغانة والبرجان وعاد فبنى مدينة الشابران، وقال (في 5: 10) وفي هذه السنة (أي 98) فتحت مدينة الصقالبة وكان برجان قد أغار على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة فكتب إلى سليمان يستمده فأمده فمكرت بهم الصقالبة ثم انهزموا.

وأنت ترى أن ما نقلناه هنا عن ابن الأثير يكاد يكون نص الطبري بعينه، ومثل هذين النصين كلام ابن خلدون فلهذا نضرب صفحاً عن ذكره، وإلى هنا أيضاً انتهى ماجمعناه من كتب أشهر المؤرخين وأهل التخطيط وإن كان ثم غير هؤلاء إلا أنهم يعدون من النقلة لا من المصنفين الأصليين، وهذا يدلك على سبب عدولنا عن ذكر نصوصهم لاستغنائنا عنهم بأقوال الكتاب الأقدمين أصحاب القدم الراسخة في هذا الموضوع.

2_القسم الثاني نصوص لغويي العرب

قال الفيروز أبادي في القاموس: برجان كعثمان: جنس من الروم وزاد السيد المرتضى في تاج العروس يسمون كذلك قال الأعشى:

وهرقل يوم ذي ساتيذ ما ... من بني برجان في الباس رجح

يقول: هم رجح على بني برجان أي هم أرجح في القتال وشدة البأس منهم، وهذا الكلام كله هو نص ابن منظور بحرفه، وقد أخذه المرتضى عنه ولم ينبه عليه.

وقال ابن الوردي: البرجان أمة بل أمم طاغية مثلثون، بلادهم متوغلة في الشمال وسيرهم منقطعة لبعدهم عنا وجفاء طباعهم.

وقال في المعرب للجواليقي: برجان، اسم أعجمي وقد تكلمت به العرب قال الأعشى: من بني برجان في الناس رجح.

وقال الجوهري في الصحاح:

وهرقلاً يوم ذي ساتيذما ... من بني برجان ذي البأس رجح.

ولم يزد على هذا القدر مع اختلاف الرواية بينه وبين صاحب اللسان والتاج.

وقال المطرزي في المغرب: برجان جنس من الروم بلادهم قريبة من القسطنطينية وبلاد الصقالبة قريبة منهم.

وقال صاحب الأوقيانوس: برجان على وزن عثمان اسم جنس من الروم وفي كتاب المغرب للمطرزي (ماذكرناه آنفاً) وكتاب الخريدة لابن الوردي (مانقلناه فويق هذا) ثم قال: وعليه فيؤخذ من هذا الكلام وعن سائر ما ورد في كتب تخطيط البلدان أن برجان وبغدان هما بلاد وجيل معروفان يكونان وراء نهر الطونة، فمن المحتمل إذاً أن تكون كلمة برجان معربة عن بوجاق (كذا، ويراد ببوجاق البلاد المعروفة باسم بسرابية) بل ولعل الأرجح أن تكون برجان تعريب بغدان تعريباً.

ومن الغريب أن القلقشندي الذي وضع كتاباً في الأنساب وذكر أنساب كثير من الأجيال والأمم والشعوب لم يتعرض لذكر البرجان، وممن أغفل التنويه بهم سائر اللغويين من العرب كصاحب الجمهرة وتهذيب اللغة والمحيط والمجمل والمخصص والمحكم والجامع لديوان العرب والعباب وأساس البلاغة والمصباح المنير ومجمع البحرين ومطلع النيرين والبابوس إلى آخر ما هناك.

وأما صاحب محيط المحيط أي البستاني فإنه نقل كلام المطرزي ولم يصرح باسم المنقول عنه، وصاحب أقرب الموارد لم يذكر البرجان بمعنى هذا الجيل من الناس، ونقف عند هذا الحد من ذكر نصوص اللغويين.

القسم الثالث رأي مستشرقي الافرنج

ذهب أغلب المستشرقين إلى أن المراد بالبرجان: البلغار، وهذا لا يمكن أن يكون صحيحاً البتة كما سنثبته في ذيل هذا القسم، على أن بعضاً منهم انتبهوا إلى ما في هذا التوحيد بين اللفظين من الغرابة والبعد لرؤيتهم كثيرين من كتاب العرب جمعوا في عبارة واحدة بين البرجان والبلغار وميزوا بين الجيلين تمييزاً بيناً فاستنتجوا أن القومين ليسا بواحد بل هما اثنان وإن كانا في أغلب الأحايين متحالفين متفقين في الهجوم والدفاع وفي القتال والقراع.

على أن بعض الافرنج ذهبوا إلى أن المراد بالبرجان في بعض عبارات الكتاب من العرب قوم يكونون في افرنجة (افرنسة) وهم المعروفون باسم البرجون أو البرغون أي هم المعروفون باللغة الفرنسوية باسم وهم محقون في ذلك، مثلاً ما قال المسعودي في عبارته (في 2: 16) وفي عبارته (في 3: 78) فلا شك أن المراد بالبرجان هناك البرجون أو البرغون، وهذا التصحيف قريب من البرجان فظن المؤلف الأول أو ناسخ الكتاب أن البرجون والبرجان شيء واحد، والحال: أن الأمر على خلاف ما يظن وإن كان بين اللفظين تناسب في الاشتقاق، ولهذا فقد أصاب الفاضل بربيه دمينار حينما ذكر هذه العبارة: وبشن الغارات حولها إلى بلاد رومية والأندلس وأرض برجان والجلالقة والافرنجة إن المراد بهؤلاء البرجان: لكنه لم يصب في قوله أنهم البلغار في كلام المسعودي في 3: 66 و 3: 78 ثم 7: 134 ثم 4: 38 فلو ذكرهم باسمهم البرجان كما فعل في 2: 311 و 2: 315 لكان أولى له ولهذا فقد أصاب في مواطن وأخطأ في مواطن أخرى.

وأما العلامة دي كوي فإنه لم ينقل إلى اللاتينية اسم البرجان كل مرة وردت في الطبري، وأما في ترجمته لكتاب المسالك والممالك لابن خرداذبة فإنه نقلها إلى لفظة بلغار في ص 25710592 وأما في 25717 فقد أبقاها على لفظها برجان، كأنه قد اكتفى بما ألمع إليه وبأن المراد من البرجان البلغار.

وقد صرح فريتاغ أنه لا يعرف على التحقيق من هم هؤلاء المعروفون باسم البرجان، على أنه في الآخر ذهب إلى أن قولهم: اسرق من برجان يراد بهم هؤلاء الأقوام، وقد قال في مستهل كلامه عن البرجان برجان اسم لص أو لصوص، وقد تابعه في هذا الوهم قزميرسكي، وقد وهم كلاهما، فإن اللص المشهور باسم برجان هو غير جيل البرجان فاللص برجان كان من ناحية الكوفة، صلب لسرقته فسرق وهو مصلوب، وذلك أنه قال لحافظه: مر إلى تلك الخربة فإن لي فيها مالا وأنا أحفظ برذونك، فلما غاب عنه قال لواحد مر به: خذ البرذون فهو لك.

وأما برجان الآخرون فهم أقوام يجاورون البلغار وليسوا بهم، وكانوا أهل غزو لا لصوصا شأن سائر الناس في غابر العصور قبل العمران الحديث، ولهذا فقول فريتاغ وقزميرسكي أنهم من اللصوص وهم ظاهر وخبط بين فليحفظ، هذا فضلاً عن أنك لا ترى واحداً من أبناء العرب ذهب إلى أن اللص برجان هو من قوم البرجان، أو أن البرجان هم من اللصوص ومنه قولهم اسرق من برجان كقولهم هم اسرق من قوم برجان.

والظاهر أن أول مستشرق ذهب إلى أن البرجان هم البلغار العلامة كاترمير في الكتاب الذي نشره في باريس لمؤلفه رشيد الدين وترجمه إلى اللغة الفرنسية مع حواش نفيسة تزري بعقود الجمان، وقد رأيت هذا الكتاب مراراً عديدة في مكتبة الحاج علي الآلوسي من مبعوثي بغداد، وهو اليوم في الاستانة ومكتبته مقفلة لا يدخلها داخل ولو كان من أخص أقربائه، ولما كان مقام كاترمير من أرفع المقامات في العلم تابعه الكثيرون اعتماداً عليه، والبائن أن العلامة رينو في ترجمته لكتاب تقويم البلدان تأليف أبي الفداء لم يقطع كل القطع برأي وطنيه كاترمير لأنه أبقى كلمة برجان على حالتها في ص 283 من الجزء الأول من المجلد الأول وفي ص 313 من ذلك الجزء بعينه، ثم قال ما معربه: الظاهر كلمة برجان تعني بعض الأحيان البلغار المجاورين لنهر الطونة، راجع حواشي المسيو كاترمير على كتاب تاريخ رشيد الدين ص 405 وراجع أيضاً تصنيف المسيو دوصون في كلامه عن أقوام جبل قاف ص 260 ومن المرجح أيضاً أن هذا الاسم يشمل الإبر والصرب كلام رينو.

فأنت ترى أنه لا يجزم بصحة هذا القول كل الجزم بل يذكره بكل تحفظ وتحرز لأنه رأى أنه إذا صح هذا التأويل في مواضع فهو لا يصح في عدة مواطن.

وأما أقوى براهين كاترمير على أن البرجان هم البلغار المجاورون لنهر الطونة هو هذا على ما أتذكر: يقول المسعودي أن بستنيان الثاني المشهور بالأخرم لاد بتاوفيل ملك البرجان والحال أن كتبة اليونان يذكرون ذلك عن ملك البلغار إذن البرجان هم البلغار كلام العلامة محصلا بمعناه، فأقول: نص المسعودي هو هذا: وفي هذه السنة وهي سنة 223 خروج توفيل بن ميخائيل ملك الروم في عساكره ومعه ملوك برجان والبرغار والصقالبة وغيرهم فيتضح من هذا الكلام أن البرجان غير البرغار أو البلغار وإلا لما فرق بين اللفظين بل أنهم قوم محالفون للبرغار كما كان الصقالبة محالفين لهم أيضاً واكتفاء اليونان بذكر البرغار فقط لا يدل على أنه لم يكن معهم برجان وصقالبة بل إنما ذهبوا إلى ذكر البلغار أما لكثرتهم وأما لشهرتهم وأما لأنهم إذا ذكروا البلغار فهم قراء أولئك الزمان حلفاء البلغار أيضاً البرجان والصقالبة أو لعل هناك سبباً آخر لا يصل إلى معرفته عقلنا القاصر.

وعلى كل حال فإن كلام المسعودي صريح كل الصراحة أن البرجان قوم كانوا مع البلغار وليسوا إياهم، بل هم الذين نعنيهم في كلامنا الآتي.

وأما آراء سائر المستشرقين فلا حاجة إلى ذكرها لأنه إذا كان مقدموهم وزعماؤهم على هذا التأويل فلا تبعد تأويل من جاء بعدهم وأخذ عنهم بعداً يذكر ومن ثم تكون آراؤهم منحصرة في ثلاثة تآويل: فالأغلب يذهب إلى أنهم والبلغار جيل ومنهم من يقول بأن البرجان في بعض المواطن تفيد البرجون أو البرغونيين والطائفة الأخرى تبقي اللفظة على وجهها لأنها لم ترها موافقة لمعنى البلغار.

على أن هناك مذهباً رابعاً بل وخامساً لا ينسب أو ينسبان إلى واحد من المستشرقين بل إلى عالم جليل من علماء الأتراك ولغوييهم أريد به عاصم افندي صاحب الاوقيانوس ومترجم القاموس فإنه يظن أن البرجان تعريب بوجاق ويرجح عليه كون اللفظة تعريب بغدان وكلا اللفظين وإن كانا يتقاربان في الكتابة إلا أنهما يبتعدان كل الابتعاد في النطق والتلفظ هذا فضلاً عن أن إبدال الحروف وسننه لا توافق كل الموافقة هذا التصحيف البعيد الوقوع إلا بتكلف وتعمل واعنات لا إعنات وراءه.

4_خاتمة النبذة وفيها ذكر رأينا

من قرأ بترو وتدبر ما كتبناه إلى هنا وأنعم النظر في الشواهد التي نقلناها عن كتبة العرب على اختلاف عصورهم يحكم حكماً باتاً بأن البرجان غير البلغار وبالعكس وإليك خلاصة ما قاله العرب عنهم مجموعة هنا:

البرجان جيل من الناس بلادهم غائصة في جهة الشمال في قصر النهار إلى أربع ساعات والليل إلى عشرين ساعة، وبالعكس، وأهلها مجوس طغاة بغاة قساة وسيرهم منقطعة عنا لبعدهم وجفاء طباعهم، وقد تنصروا في عصور النصرانية الأولى بعد أن غادروا بلادهم وأقاموا بجوار البلغار من جهة وبقرب الصقالبة من الجهة الأخرى وكانوا تارة مهادنين للبلغار ومواليهم ومحالفيهم وطوراً أعداءهم وهاجمين عليهم وغازين إياهم، شأن الجار للجار، فهذا كله لا يصح إلى على الأمة المعروفة عن الافرنج باسم ويقال فيها عندهم كما أن العرب أخذوا هذه اللفظة عن اليونان وهم يكتبون الفاءالفارسية المثلثة الفوقية باء موحدة تحتية سهل سبب تعاقب الفاء والباء، والكلمة هي في الأصل ومعناها المنفي أو الآفاق ثم توهموا فيها الأفراد كما هو الأمر حقيقة فجمعوها على فعلان فقالوا فيها برجاناً كما قالوا في جمع ظهر ظهراناً.

والبرجان على التحقيق قوم افاقون أصل أغلبهم من اسكنديناوية ثم انضم إليهم أناس آخرون من عناصر أخرى كالروس والصقالبة والأبر والسرب والبلغار فاجتمع منهم أمة قائمة بنفسها قاتلها الألمانيون فافنوها عن آخرها.

هذا ما ظهر لنا على وجه التحقيق بعد أن طالعنا عدة مؤلفات عربية وافرنجية وبعد أن وقفنا على آراء بوغودين وجد عونوف وكستوماروف وهوفائسكي وآمي بوه وكانتس وليجه ودلافلاي وغيرهم.

وإن كان لواحد من القراء ما يهدم رأينا بمعول براهينه فليأتنا به ونحن له من أعظم الشاكرين لأن غايتنا البحث عن الحقيقة لا التمسك برأينا فمتى ما رأينا وجهها الصبيح نسير للحال بضيائه، وفقنا الله إلى ما به كل خير بغداد:

ساتسنا.