مجلة المقتبس/العدد 65/بين بلاد الآراميين والفينيقيين
مجلة المقتبس/العدد 65/بين بلاد الآراميين والفينيقيين
وادي العجم وإقليم البلان
يفزع المشتغلين بعقولهم إلى الفلاة يروضون أفكارهم كلما آنسوا من نفوسهم مللاً وتعباً رجاء أن يخفف عنهم ما نابهم فيعاودون أعمالهم بنشاط أكثر ومضاء أوفى وأوفر. وعلى هذه السنة جرى كاتب هذه السطور فركب العربة من دمشق بعد ظهر الخميس في 13 ربيع الثاني 1327 (13 نيسان غربي 1911) قاصداً إلى قطنا مركز قضاء وادي العجم فبتنا فيه ليلتنا على مثل ما كان النهار سخية هطالة ورياحاً نكباء وزعازع وأعاصير وكنا نود لو نخلص من الغد إلى راشيا ولكن حالت الثلوج المتراكمة في سفوح جبل الشيخ دون الأمنية فعقدنا العزم على زيارة القنيطرة حاضرة الجولان أولاً ثم نقصد إلى جبل عامل ونجعل راشيا خاتمة المطاف.
وعلى هذا ركبنا خيلاً من الغد قاصدين إقليم البلان ومنه إلى الجولان في يوم انقطعت أمطاره ولم تنقطع رياحه وذارياته وبعد أن سرنا ساعتين في شعاب وهضاب بلغنا قرية بيتيما وتخطيناها لنجتاز نهرها إلى كفر حور ولكن عجز حمار مكارنا عن قطع المخاضة إذ لا جسر يعبر عليه بين القريتين وصادف أن كانت عصارات ثلوج جبل الشيخ قد كثرت عصر ذاك اليوم فاضطرتنا الحال أن نعود أدراجنا إلى بيتيما نقضي فيها الليل عسى أن تخف مياه نهرها من الغد فنستأنف السير.
ومعنى بيتيما بالسريانية بيت اليتيم وقيل بيت الماء ولكل من اسمه نصيب وهكذا فعلنا ونحن نضحك من حكم الأقدار في هذه الديار وكيف أدى ماء النهر وعدم الجسر إلى تخلفنا ليلة في الطريق. نعم استضحكنا لأن حمار المكاري لم يستطع العبور وأنا ورفيقي كيف نسير وحدنا ونهتدي إلى ما نقصده من البلاد بدون دليل فقلنا: يا سبحان الله كم من حمار يقطر بشراً فيؤخرهم عن السير هذا الحال في حمار حيوان فكيف إذا كانت حمراً كثيرة في صور بشرية.
ليس في هذا الوادي والإقليم ما يستحق الذكر من الأمور التاريخية والأثرية فقد سكت التاريخ عن ذكر حالته في الأزمان القديمة كما سكت من أقاليم الشام فوادي العجم وإقليم البلان ليس لهما ذكر في تواريخ القرون الوسطى اللهم إلا ما كان من ذكر نهر وادي العج الأعظم المسمى بنهر الأعوج والمعروف في التوراة باسم فرفر أو فرفار أو فرفور.
وهذا النهر يتكون من عدة عيون ومسايل تنبعث من سفوح جبل الشيخ منها عين في بيت جن ومن ينبوع آخر اسمه المنبج وعدم الشراطيط ووادي الدهامية وعين الطموسية وعين الطبيبية وهي أجود تلك العيون تحسن ماءه كما يحسن ماء عين الفيجة مياه نهر بردى باختلاطه بها وهكذا تجري إليه عشرات من العيون ومنها بيتمتا وعيون عرنة.
ويسقي نهر الأعوج أو فرفر كثيراً من قرى وادي العجم التحتاني وأهم قرى هذا القضاء قطنا والجديدة وعرطوز وجونية وكوكب والمعظمية وداريا وصحنايا والأشرفية والخيارة وسبينة وسبينات وبلاس والقدم وكفرسوسة والمزة والماجدية وذا النون وأم القصور والدير والكسوة وزاكية وزغبر وحرجلة والمقيليبة وشورى والطيبة والدرخبية والبويضة ومرجانة والحسينية والأشرفية والعباسة وحوش النفور وحوش مرانة وبراق وخان الشيح وسعسع وكناكر ودير ماكر وشقحب وبويضان وماعص وسبسبة والعثمانية والدناجى والزريقية والهبارية وغيرها من الأحواش والمزارع.
أما وادي العجم الفوقاني المعروف بإقليم البلان فهو قرى سفوح جبل الشيخ أو ما يقرب منها وطول هذا الإقليم نحو عشر ساعات وعرضه نحو سبع ساعات يحده جنوباً الجولان وشمالاً وادي العجم والديماس وراشيا وشرقاً وادي العجم التحتاني أيضاً وغرباً إلى الجنوب حاصبيا وأهم قراه عيسم وهي أول الإقليم على نحو ساعتين من قطنا ومن قراه عين البرج والقلعة وبيتيما وكفر حور وبيت سابر وحينة وبقعسم وعين الشعرة وريمة وعرنة ودربل وبيت جن وحرنة وخربة السوداء وحضر وسحيتة وترنجة وجباتا الخشب ومقروصة وحلس وبرقش وكفرقوق وصوجة ورضوان وأمبياودورين والبجاع والصبورة ورأس العين ورخلة ويعفور وإقليم البلان متوسط بزراعته لكثرة وجليدة وأهويته على العكس في وادي العجم التحتاني فإن تربته أخصب وتجود فيها الأشجار المثمرة أكثر. وفي بعض قراه إلى اليوم عاديات ونواويس تدل على عمران قديم زاخر وأن الآراميين والرومانيين واليونانيين سكنوا هذه البلاد فعمروها ولا تزال أسماء بعض بلاد الإقليم سريانية إلى اليوم وقد خلفوا فيها آثاراً صبرت على كرا الليل والبر وما برحت تنم عن حضارة وذلك مثل آثار بيتيميا كفر حور كفر قوق سحيتا وقد شاهدنا في ارض كفر حور أربعة نوارس عظيمة نقرت على الصخر على صورة هائلة تدل على أنها مدافن أغنياء وأمراء لا مقابر فلاحين فقراء وفي كل قرية فقراء وفي كل قرية نواويس لا تقل عن هذه بمكانتها وقد طمست الأيام معالمها فلم يعلم اسم بانيها.
والنفوس قليلة في هذين الإقليمين (وادي العجم وإقليم البلان) لا تزيد في الإحصاء الرسمي عن خمسة عشر ألف نسمة عدا القرى الملحقة بعمل دمشق مثل المزة وكفرسوسة وداريا وصحنايا والأشرفية وبلاس ومع أن البلاد تؤوي مائتي ألف وأكثر ترى الهجرة أيضاً إلى أميركا تقلل نفوسها سنة عن سنة وسكان هذه البلاد أخلاط بمذاهبهم فيهم المسلمون السنية ومسيحيون روم وكاثوليك وبروتستانت ودروز والدروز أكثرهم مضاءً وإقداماً على العمل ويليهم المسيحيون ثم المسلمون فكأن هؤلاء يكفيهم من المفاخر أن تكون حكومتهم منهم ولذلك جعلوا اعتمادهم عليها وكان عليهم أن يعولوا على تماسكهم ومضائهم كما فعل جيرانهم في اعتمادهم على أنفسهم ذر قرن الغزالة غذاة اليوم في بيتيما وشادينا الصديق الشيخ عبد الرحيم البابلي يردد في حديقة بيت أبي أحمد قول الشاعر المنطبق على ما نحن فيه من جمال الموقع وطرب النفس بالطبيعة:
الروض مقتبل الشبيهة مونق ... خضل يكاد غضارة يتدفق
نثر الندى فيه لآلئ عقده ... فالزهر منه متوج وممنطق
وارتاع من مر النسيم به ضحى ... فغدت كمائم نوره اتفتق
وسرى شعاع الشمس فيه فالتقى ... منها ومنه سنا شموس تشرق
والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يصبح بالمسيم يغبق
والطير ينطق معرباً عن شجوه ... فيكاد يفهم عنه ذاك المنطق
غرداً يغني للغصون فينثني ... طرباً جيوب الظل منه تشقق
والنهر لما راح وهو مسلسل ... لا يستطيع الرقص ظل يصفق
كان اليوم الثالث معتل النسيم صافي الأديم فحمدنا السير حتى وصلنا إلى قرية جباتا الخشب آخر عمل وادي العجم فبتنا في بيت مريود على أن نعاود السير من الغد ولكن عاد الجو فاضطرب وهبت الريح زعزعاً وكثر تهطال الأمطار والبرد حتى ذكرنا نيسان بكانون ثم زاد قلق الطبيعة حتى استيقظنا صباح اليوم الثاني وجبل الشيخ قد لبس حلة نصع بياضاً من التي كان مكتسياً بها في اليوم الماضي وركبنا القنيطرة ورفيقنا البابلي يردد قول العفيف التلمساني:
رياض بكاها المزن فهي بواسم ... وناحت لغير الحزن فيها الحمائم
وأودت الأنواء فيهن سرها ... فنمت عليهن الرياح النواسم
بيت الندى في أفقها وهو سائر ... ويضحى على أجيادها وهو ناظم
كأن الأقاحي والشقيق تقابلا ... خدودٌ جلاهن الصبا ومباسم
كأن بها للنرجس الغض أعيناً ... للبه منها البعض والبعض نائم
كأن ظلال القضب فوق غديرها ... إذا اضطربت تحت الرياح أراقم
كأن غناء الورق ألحان معبد ... إذا رقصت تلك القدود النواعم
كأن نثار الشمس تحت غصونها ... دنانير في وقت ووقت دراهم
كأن ثماراً في غصون توسوت ... لعارض خفاق النسيم تمائم
كأن القطوف الدانيات مواهب ... ففي كل غصن ماس في الدوح خاتم
الجولان
الجولان كورة عظيمة من كور الشام تعد من بلاد حوران يحدها من الشرق نهر العلان ومن الغرب بحيرة طبريا والأردن الأعلى (الرقاد) ويفصلها نهر اليرموك عن بلاد عجلون من الجنوب وبحر الحاصباني بالقرب من بانياس وجيل الشيخ من الشمال وتسمى هذه المقاطعة بالعبرانية كولان كان يطلق هذا الاسم أولاً على مدينة إسرائيلية مقدسة من بلاد باشان تنزلها قبيلة منسى وهي اليوم مدينة سحم الجولان بعينها قرية على بعد كيلومترين شرقي نهر العلان وعلى سبعة كيلومترات من الشمال والشمال الغربي من زيزون ولا يزال فيها بعض آثار وخرائب منها برج مربع علو 15 متراً وبالقرب منه بناء جميل يظن أنه كان كنيسة وقد أقام فيها أدمون روتشيلد الإسرائيلي الغني الشهير مستعمرة للإسرائيليين.
وكانت الجولان تمتد إلى شرقي المناذرة وتعد من بلاد بترا أو العربية الصخرية ومن جملة مملكة فيليبس ولبلاد الجولان ذكر قليل في تاريخ العرب نزلها الحرث الأعرج الغساني كما كان الحرث بن أبي شمر بن الأيهم مملكاً بالأردن ولعل علماء الآثار يوفقون في المستقبل إلى الظفر بعاديات لغسان في الجولان كما ظفروا بقليل منها في حوران ولا سيما في جبل بني هلال الذي كان يعرف قديماً بجبل الريان لكثرة مياهه ويعرف اليوم بجبل حوران أو جبل الدروز رن الغساسنة ملكوا هذه الديار وبسطوا سلطانهم أيضاً على دمشق قبل الإسلام وافتتح الجولان شرحبيل ابن حسنة وورد ذكرها في شعر حسان بن ثابت بقوله:
قد عفا جاسم إلى بيت راس ... فالجوابي فحارث الجولان
ووردت في شعر أبي نواس في مدحه الخصيب بن عبد الحميد العجمي المرادي أمير مصر من قصيدة يصف بها طريقه من بغداد إلى مصر:
رحلن بها من عقر قوف وقد بدا ... من الصبح مفتوق الأديم شهير
فما نجدت بالماء حتى رأيتها ... مع الشمس في عيني اباع تغور
وغمرن من ماء النقيب بشربة ... وقد حان من ديك الصباح زمير
ووافين إشراقاً كنائس تدمر ... وهن إلى رعن المداخن صور
يؤممن أهل الغوطتين كأنما ... لها عند أهل الغوطتين ثؤور
وأصبحن بالجولان يرضخن صخرها ... ولم يبق من اجراحهن شطور
وقاسين ليلاً دور بيسان لم يكد ... سنا صبحه للتاظرين ينير
وأصبحن قد فوزن منة نهر فطرس ... وهن عن البيت المقدس زور
طوالب بالركبان غزة هاشم ... وفي الفرما من حاجهن شقور
ولما أتت فسطاس مصر أجارها ... على ركبها أن لا تزال مجير
قاعدة الجولان اليوم القنيطرة وكانت صغيرة جداً قبل أن ينزلها مهاجرة الجراكسة والداغستانيين منذ زهاء ثلاثين سنة وقد كانت في القرون الوسطى قبل عهد الدولة العثمانية قاعدة البلاد قرية خان ولا ندري أخان أرينيبة أو خان الدوير تارة والشقراء أخرى والجولان اليوم أو قضاء القنيطرة هو ثلاث نواحي ناحية الشقراء وهي عبارة عن مجدل شمس وجباتا الزيت وبانياس وعين قنية وعين فيت وزعورة ومغور الشباعنة والغجر وخان الدوير ومزارع الفضل هذا ما كان منها إلى جبل الشيخ أقرب. وناحية الجولان وفيها قرى الجركس وأهمها المنصورة وعين الزيوان والصرَّمان والخشنية وعشيرة التركمان ومزارعها وعشيرة الهوادجة والبجاترة وجبا وخان أرينبة وعشيرة الويسية والقصيرين والجعاتين والدياب وأراضي البطيحة ومزارعها ونعيمات الطاعة ولهذه العشائر مزارع وقرى تفلح فيها وتزرع وأغلب نزولها في المضارب ومساكنهم للفلاحين وإيواء الماشية فقط. والناحية الثالثة ناحية الزاوية وأهم قراها فيق والعال وكفر الما والشجرة وكوية وبيت الرَّا ومعربة والمناظرة.
ويقدرون اليوم مزارع الجولان وقراه كلها بنحو مائة وستين مزرعة وقرية فيها أراض جيدة في الجملة وتجود حبوبها في الأكثر في السنين التي تقل أمطارها أما في سني الري الكثير فإنها تغرق فبينا تشكو الأقاليم المجاورة الشرق تئن الجولان من الغَرَق ولذلك تصلح أراضيها لتربة الماشية كثيراً ولا نغالي إذا قلنا أنها الإقليم الوحيد الذي يصلح لهذا الغرض كما يصلح جقوراووه أي سهل الهوات في ولاية أضنة من بلاد الأناضول أو الروم كما كان يسميها العرب.
وهمة الفلاح في الجولان ضعيفة لأنه في الأكثر لا يملك أرضاً له بضع سنين ليتوفر على زراعتها بل أن الأراضي مشاعة بين أهل البلد الواحد فبينا يزرع هذه القطعة تراه من قابل تنزع منه وتعطى لغيره وهكذا لا يشاهد الرقي في الزراعة إلا في مزارع الجراكسة إذ اختص كل فرد منهم بأراضٍ تناسب حاله وشأنه فأصلحها ما ساعدته مادته وقوته وخدمها على مثل ما تخدم الزراعة في البلاد التي هاجر منها أي بلاد الروس اليوم وبنى البيوت بالحجر والقرميد وغرس الأشجار وعاش في الجملة أحسن من عيشة سكان البلاد الأصليين خصوصاً وأن المهاجرين يغلب عليهم الاقتصاد بحيث لا تعهد عندهم المضافات المفتحة الأبواب لكل قادم كما هي عند سكان هذه الديار من العرب وأكثرهم يعرفون دخلهم وخرجهم. ولو سار الجولانيون الأصليون على هذه الطريقة لحمدوا سيرهم ولما افتقر الأغنياء منهم بإسرافهم إسرافاً لا يعد من الكرم في شيء وبعبارة أوضح لا يعد فضيلة.
وبلاد الجولان متسعة الرقعة يقل سكانها بالنسبة لعظم بقعتها ويكفي أن أراضي الفضل وهي من جملة عمل هذه البلاد تمتد من المنصورة قرب القنيطرة جنوباً حتى بانياس شمالاً وشرقاً إلى جباتا الخشب وغرباً إلى الحولة ولا يطوفها الراكب بالسير المعتدل في أقل من ثلاثة أيام. غلاتها جيدة وفيها بعض الأشجار المثمرة والكروم وكثير الغابات اجتزناها من القرب من مركز القضاء إلى ارض بانياس في زهاء أربع ساعات فرأينا فيها صورة مصغرة من مناخ سورية رأينا فيها الربيع والصيف أو الصيف والشتاء في آن واحد. وأميرها وهو اليوم محمود الفاعور مالك هذه الأراضي كلها إذا شتا في أرضه بالقرب من الحولة يشتو في حرارة كحرارة الربيع وإذا اصطاف يصطاف في الأرض النجدية وإذا ارتبع يرتبع في واسط حيث بنى قصره على مثال قصور الأغنياء وهذا الأمير حاكم مطلق في عشيرته عرب الفضل المؤلفة من نحو 1500 بيت كما قال لي أحد أفرادها ولا يشاركه في ملكها سوى شيخ الهوادجة وبعض البحاترة وهم عبارة عن 180 بيتاً يملكون جزءاً صغيراً منها ومن عشائر الفضل العجارمة والربيع والفاعور ويجمعها كلها اسم الفضل وكلهم رحالة أو متنقلون ولكن رحلتهم في أرضهم لا يتعدونها إلى القاصية كما يرحل عرب بني صخر والروالة مثلاً وأميرهم يدفع ما على أراضيه من الأعشار الخفيفة وجماعته معفون من الخدمة العسكرية ليسوا مع أميرهم كصاحب أرض مع فلاحيه على ما هي عليه الحال مثلاً في الغوطة والمرج وقلمون ووادي العجم والجولان يخدمون أرضه ويقاسمهم غلاتها على الخمس أو الربع بل هو الحاكم المتحكم في أموالهم ومائهم وأعراضهم يأخذ ما يمكنه أخذه منهم وينفقه في وجوه مرافقه والتوسعة على ضيفانه. وأهل الجولان مسلمون على الأكثر وليس فيها سوى ثلاث قرى في آخر عملها اسمها عين فيت وزعورة وغجر سكانها نصيرية.
وسلطان العدل في هذه البلاد ضئيل بحيث لايرى حتى بالمجهر والكبرة لفساد أخلاق الأهلين على الأكثر ولأن الحكومة لا تختار على الغالب لولاية أعمالها سوى من قلت كفاءتهم في الجملة. قال لي أحد فضلاء القنيطرة: لقد راقبت سير الحكومة في قضائنا منذ نحو ثلاثين سنة فلم أرها إلا تقذف علينا بأحط عمالها على الأغلب فإذا اتفق أن تولى العمل الأكفاء المستقيمون لا تطول مدتهم فيفارقوننا ليخلفهم من لا يرجعون إلى عقل في أحكامهم ولا إلى عدل في نظامهم هذا ما سمعته وحققته من مجموع حوادث نقلت لي إما من المعارف فلا تجد لها في القضاء عيناً ولا أثراً ويكفي بأني قال في وصف مدرستيها الأميريتين أن الأولاد يضربون معلمهم ويعبثون بلحيته وعمامته ولكن ما دامت إدارة المعارف تفضل من يعرف كلمتين من التركية على الكفوء من المدرسين ممن لم يسعدهم الحظ بتعلمها من أبناء العرب وما دامت مقلة من رواتب المعلمين هيهات أن تجد أحسن من هذه الطبقة لتعليم أبناء البلاد وعندنا أن الجهل المطبق خير من هذا التعليم الناقص الدنيء لأن الفلاح الأمي لا يجد له مرتزقاً إلا من أرضه وماشيته أما الفلاح الذي تعلم هذا الأسلوب فتكبر نفسه عن الزراعة جهلاً منه وغروراً ولا يحسن عملاً اللهم إلا إذا كان خيال درك أو بواباً أو حرساً.
بين قوم هذا حالهم أنشأ صديقنا أحمد حمدي أفندي الداغستاني مطبعة في القنيطرة سماها مطبعة الجولان فعسى أن يخادنه من التوفيق ما خادن بعض قرى سورية أو بليداتها التي انتفعت من نعمة الحرية في عهد الدستور ففتحت مطابع وأنشأت جرائد أو مجلات ونجحت في عملها على الجملة.
الحولة
بتنا الليلة السادسة في بانياس آخر عمل الجولان وحقها أن تعد من الحولة إذا نظرنا إلى تقسيمها الطبيعي وبانياس بالقرب من تل القاضي حيث ينبع نهر الأردن أو مدينة دان القديمة وبها آثار مهمة وغيرهم من الإسلام وبالقرب منها حصن الصبيبة وهذا الحصن هو القلعة المشرفة عليها في رأس جبل وبينهما نحو نصف ساعة قالوا في وصف بانياس أنها مدينة قديمة كثيرة الحدائق وهواؤها وبيء وترابها كذلك وبها مياه غزيرة وآثار لليونانيين قديمة وقال أبو الفدا بانياس اسم لبلدة صغيرة ذات أشجار محمضات وغيرها وأنهار وهي على مرحلة ونصف من دمشق من جهة الغرب بميلة إلى الجنوب والصبيبة اسم قلعتها وهي من الحصون المنيعة قال العزيزي ومدينة بانياس في لحف جبل الثلج (جبل الشيخ) وهو مطل عليها والثلج على رأسه كالعمامة لا يعدم منه صيفاً ولا شتاءً وقال ابن جبير في وصف بانياس أنها مدينة صغيرة ولها قلعة يستدير بها تحت السور نهر يفضي إلى أحد أبواب المدينة وله مصب تحت أرجاء وكانت بيد الإفرنج فاسترجعها نور الدين ولها محرث واسع في بطحاء متصلة يشرف عليها حصن للإفرنج يسمى هونين بينه وبين بانياس مقدار ثلاثة فراسخ قال وعمالة تلك البطحاء بين الإفرنج وبين المسلمين لهم في ذلك حد يعرف بحد المقاسمة فهم يتشاطرون الغلة على استواء ومواشيهم مختلطة ولا حيف يجري بينهم فيها.
وخرائب بانياس على ما انتابها من حوادث الأيام ولا سيما الزلازل تدل على عظمة من استولوا عليها ومياهها غزيرة للغاية لو توفرت العناية بإخراج الصخور والردوم من طريقها لتضاعفت كميتها ولما كانت تقل عن مياه بردى وللإفرنج كلام طويل في عمران هذه القرية الحقيرة اليوم والمدينة العظمى أمس فقد قالوا أن اسمها مطابق للاسم اليوناني الذي كان يطلق على هذه المدينة والكورة بأجمعها سميت بذلك لمغارة اختصت بعبادة بان وهي تحت منبع الأردن وقد أنشأ فيها هيرودس معبداً على اسم أعسطس وأنجز ابنه قيليبس بناء هذه المدينة وسماها قيسرية فيليبس تمييزاً لها عن قيسارية فلسطين وقد وسمها هيرودس أغريبا الثاني وسماها نيرنياس وهو اسم أطلق عليها مدة قليلة من الزمن وكان فيها منذ القرن السادس أسقيفة تابعة للكرسي الأنطاكي واستولى عليهاالصليبيون لما فتحوا هذه البلاد وهي قلعة الصبيبة التي لم يبق اليوم منها سوى أنقاضها وذلك سنة 1129 أو 1130 عندما حاولوا فتح دمشق وقد قال أحد شعرائها في وصف غارتهم:
بشطي نهر داريا ... أمور ما تؤاتينا
وأقوام رأوا سفك الد ... ما في جلق دينا
أتانا مئتا ألف ... عديداً أو يزيدونا
فبعضهم من أندلس ... وبعض من فلسطينا
ومن عكا ومن صور ... ومن صيدا وتبنينا
اذا أبصرتهم ابصر ... ت أقواماً مجانينا
تخالهم وقد ركبوا ... قطائها حرازينا
وبين خيامهم ضموا ال ... خنازر والقرابينا
ورايات وصلباناً ... على مسجد خاتونا
واستولى على بانياس تاج الدين بوري صاحب دمشق سنة 1132 م وأعيد الاستيلاء عليها سنة 1139م واستولى نور الدين على المدينة لا على القلعة سنة 1157م ثم أنقذها بودوين الثالث أحد ملوك الصليبيين وعاد نور الدين فاستولى عليها سنة 1165م ودك السلطان المعظم حصونها ومعالمها وذلك بعد أن استولى الإفرنج على تلك القلعة من سنة 1139 إلى 1164 وأكثر ما فيها إلى الآن من الكتابات العربية من القرن السابع. والإطلال من قلعتها من أجمل مناظر سورية لأنها تشرف من جهة على قسم من بلاد الجولان وارض الحولة وبلاد الشقيف وبلاد الأردن.
والحولة بحيرة قال أحدهم أنها المعروفة في الكتب المقدسة بمياه ميروم هكذا يسميها الرومان وأما اليونان فيسموها سمخونيتس واسمها عند العرب الحولة أو الملاحة أو بحر بانياس قال ابن فضل الله وأما بلاد صفد فحدها من القبلة الغور حيث جسر الصنبرة من وراء طبرية ومن شرق الملاحة الفاصلة بين بلاد الشقيف وبين حولة بانياس ويفهم من هذا أن الملاحة هي غير بحيرة الحولة وهي حوض من الماء على شكل زاوية إلا قليلاً يجري منها الأردن عمقها من 3 إلى 5 أمتار وفيها طيور مائية كثيرة كالبط ونحوه ويكاد لا يدخل إليها من جهة الشمال لكثرتها وكذلك لكثرة النبات المعروف بالبردي النابت على ضفافها ولا سيما الضفة الشمالية ويتألف من السهل في شمالي البحيرة حوض كبير منظم في الجملة عرضه نحو ساعتين ومعظم هذا الوادي العميق يحتوي على الأكثر على بطائح وتسوء الصحة هناك ولاسيما بعد جفاف قليل من تلك البطائح التي تتخللها عدة قرى.
وحدود الحولة قبلة الطريق الفاصل بين نعران إلى جسر بنات يعقوب إلى قطانة والتليل من الغرب الجاعونة والملاحة والخالصة ويمتد إلى آبل القبح شمالاً ومزرعة المارية وجسر صريد المتصل بمزرعة حلتا والمحرويقة ومغور الشباعنة وبانياس من سفح جبل الشيخ وشرقاً عين فيت وخريبة السمن والمفتخرة والغرابة والدردارة.
هذا إجمال عن بلاد الحولة وقد ذكر المقدسي في القرن الرابع أن الإقليم المتوسط الهواء أوسط سورية من الشراة إلى الحولة فانه بلد الحر والنيل والموز والنخيل. ولو جففت الحولة على نحو ما يسعى بعضهم بتجفيفها وهو سهل ممكن لأحييت بها عشرات الألوف من الدونمات قابلة لزراعة البقول والخضر تكفي أهل سورية في فصول السنة الأربعة بل سورية ومصر وغيرهما ولا سيما في فصل الشتاء لمكان الحرارة الطبيعية في تلك الأراضي وكثرة خصبها المريع وشمسها التي لا تكاد تغيب.
كأن شعاع الشمس في كل غدوة ... على ورق الأشجار أول طالع
دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض وتهوى من فروج الأصابع
فعسى أن تصح العزائم على هذا العمل فينفع في صحة السكان وثروتهم بل صحة البلاد المجاورة وثروة سورية عامة وكم فيها من خيرات لو حسن الانتفاع بها لكفينا مؤونة الفقر والهجرة.
جبل عامل
لم أجد تحديداً صحيحاً في كتب العرب لهذا الجبل المسمى اليوم بعضه بلاد بشارة أو بلاد الشقيف أو بلاد المتاولة فقد قال أبو الفدا إن جبل عاملة من الأماكن المشهورة وهو ممتد في شرقي الساحل وجنوبيه حتى يقرب من صور وعليه الشقيف الذي استرجعه الملك الظاهر ببيرس من أيدي الإفرنج وكانت رعاياه في حكم الإفرنج وفي شرقيه وجنوبيه جبل عوف عجلون وقال أيضاً وأما بنو عاملة فهم أيضاً من القبائل اليمانية التي خرجت إلى الشام عند سيل العرم ونزلوا بالقرب من دمشق في جبل هناك يعرف بجبل عاملة فمن عاملة عدي بن الرقاع الشاعر.
قال في المشترك شقيف ارنون بين دمشق والساحل بالقرب من بانياس وارنون اسم رجل والشقيف المذكور معقل حصين والشقيف أيضاً شقيف تيرون بكسر المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية وضم الراء المهملة وواو ونون قال وهي أيضاً قلعة بقرب صور بالساحل.
وقال في شقيف تيرون أنها قلعة منيعة نافلة عن صفت (صلخد) على مسيرة يوم في سمت الشمال والشقيف أيضاً شقيف ارنون وهو في سمت الجبال عن شقيف تيرون وشقيف ارنون بعضه مغارة منحوتة في الصخر وبعضه له سور وهو حصين جداً.
والأصح أن بلاد الشقيف من مقاطعات جبل عامل الثلاث وهي بلاد الشقيف وبلاد بشارة وإقليما الشحار والتفاح ويسمى جبل عامل أو عاملة وجبل الخليل (؟) وهو البلاد الواقعة في نواحي قلعة الشقيف سمي بعاملة القضاعية وهي أم الحارث بن عدي التي تنتسب قبيلته إليها نزلوا الشام مع بني جذام ولخم وغسان وشقيف تيرون هي المعروفة اليوم بقرية نيحا على حدود جزين من أعمال لبنان وفي شقيف ارنون أو أرنولد نسبة لأرنولد من ملوك الصليبيين شيء من أبنية الصليبيين.
والغالب أن هذين الشقيفين كان يسمى أحدهما بالشقيف الكبير وهي شقيف ارنون وكان له بر وله وال كما كان لغيره من البلاد المشهورة، قال ياقوت: الشقيف كالكهف أضيف إلى ارنون اسم رجل إما رومي وإما فرنجي وهو قلعة حصينة جداً في كهف من الجبل قرب بانياس من أرض دمشق وبينها وبين الساحل وشقيف تيرون وهو أيضاً حصن وثيق بالقرب من صور.
وقال شيخ الربوة جبل عاملة عامر بالكروم والزيتون والخروب والبطم وأهله رافضة إمامية وجبل جبع جباع كذلك أهله رافضة وهو جبل عال كثير المياه والكروم والفواكه وجبل جزين كثير المياه والفواكه وقلعة شقيف تيرون قلعة حصينة على جبل عال ولها عمل ولها نائب ولم يحكم عليها منجنيق وجبل تبنين وله قلعة ولها أعمال وولاية وأهلها رافضة إمامية وقلعة هونين وهي على حجر واحد ولها عمل.
وتبعد تبنين خمس ساعات عن صور إلى الشرق الجنوبي وبها قلعة بناها هيوسنت ادمير صاحب طبرية سنة 1107 م وحوصرت وجرت فيها مواقع إلى أن فتحها صلاح الدين.
وأنت ترى أن شيخ الربوة فصل هذا الجبل إلى جبال وذلك في القرن الثامن ولعله كان يعرف كذلك في هده ومن المحقق أن قلاع هونين وتبنين والشقيفين ارنون وتيرون داخلة في جبل عامل وكم قاسى صلاح الدين بن أيوب في فتحها من الشدائد وقد مر الرحالة ابن جبير في أواخر القرن السادس بجبل عامل فسار من بانياس إلى قرية تعرف بالميسة ميس بمقربة من حصن هونين فبات فيها ثم رحل من الغد فاجتاز في طريقه بين هونين وتبنين بواد ملتف بالشجر وأكثر شجره الرند بعيد العمق كأنه الخندق السحيق المهوى تلتقي حافتاه ويتعلق بالسماء أعلاه يعرف بالإسطبل لو ولجته العساكر لغابت فيه لا منجى ولا مجال لسالكه عن يد الطالب فيه المهبط إليه والمطلع عنه عقبتان كؤودتان فعجب منه فجازه فمشى عنه يسيراً وانتهى إلى حصن كبير من حصون الإفرنج يعرف بتبنين وقال عنه أنه موضع تمكيس القوافل ووصف كيف أخذ الإفرنج من قافلته المكوس.
وقال بعض المتأخرين أن جبل عامل يقال له بلاد بشارة نسبة لأحد حكامها في القرون الوسطى قيل أنه من الأمراء يعني معن وقيل هو بشارة بن مقبل القحطاني وكل ذلك لم يقم عليه برهان والذي يدور على الألسن أن مركز إمارته في قرية زبقين من أعمال صور حيث لا تزال الآثار الفخمة فيها تدل على ذلك والأرجح أن بلاد بشارة نسبت إلى حسام الدين بشارة من أمراء الدولة الأيوبية.
وتقسم بلاد بشارة إلى قسمين بشارة الشمالية ونهايتها في الشمال نهر الأولي ويفصلها عن الجنوبية نهر الليطاني وبشارة الجنوبية ونهايتها في الجنوب نهر القرن وكانت بلاد بشارة عامة تقسم إلى ثماني مقاطعات أربع في بشارة الجنوبية وهي تبنين وهونين وقانا ومعركة ويتألف منها الآن قضاء صور وقضاء مرجعيون وثلاث في بشارة الشمالية وهي الشقيف والشومر والتفاح المعروفة الآن بناحية جباع ويتألف من الثلاث الآن قضاء صيدا والثامنة مقاطعة جزين الداخلة في قضائها من جبل لبنان.
وقد كان بعض الجغرافيين يعد مدينة صفد من جبل عاملة كما توسع بعض المتأخرين في تخومه وكادوا يدخلون فيه جبل الريحان وأقصى حدود مرج عيون والذي عليه العرف المعقول أن جبل عامل يحده جنوباً نهر القرن الجاري شمالي ترشيحا من بلاد عكا واختلفوا في الزيب هل هي داخلة في جبل عامل أم لا وشرقاً أرض الخيط والأردن والحولة وقسم من جبل لبنان وشمالاً نهر الأولي وبذلك تدخل صيدا في جبل عامل وغرباً البحر الرومي ويقسم إلى قسمين كما مر بك آنفاً شمالي وجنوبي فالقسم الأول يسمى ببلاد بشارة الشمالية والقسم الثاني ببلاد بشارة الجنوبية وطوله 18 ساعة وعرضه يختلف من 4 إلى 8 ساعات نزله بنو عاملة فنسب إليهم إلا أن هذه التسمية اليوم بجبل عامل أو بني عاملة بين الخاصة في الأكثر أما العامة فيطلقون عليه اسم بلاد بشارة ولا سيما قضاء صور وكان بنو عاملة نزلوا الحولة كما تفرقوا في الجبل وكما نزل الغسانيون في حوران والشام والمناذرة في العراق.
وقد كانت حاضرة البلاد تبنين بادئ بدءٍ وهونين وقلعة الشقيف ثم تراجع عمرانها بما سطا عليها من المحن والاحن وكوائن الزمن وخلفتها جباع وغيرها والنبطية اليوم أكبر بلد في الجبل وهي قاعدة البلاد الوسطى سكانها نحو خمسة آلاف نسمة والمدينة الثانية بنت جبيل فيها نحو هذا القدر من السكان وهي على ثماني ساعات من النبطية وثلاث ساعات من صفت والثالثة جوبة في قضاء صور وتقدر قرى جبل عامل بنحو 300 قرية ففي قضاء صور 127 قرية وفي قضاؤ صيدا 147 وفي قضاء مرج عيون 54 فإذا حذفنا بعض القرى التي لا تدخل في عامل ولا سيما قرى المرج والحولة كانت قرى الجبل كما قلنا وهي نحو ثلث قرى جبل لبنان كما أن أهله نحو ربعهم ولكن أين لبنان بعمرانه من عامل.
سرنا من بانياس إلى النبطية سبع ساعات في جبال شاهقة وعرة ولكنها مكللة بالخضرة نضرة للغاية وقطعنا الجسر الممتد في مصف الطريق على نهر الليطاني الذي ينبع من أرض كرك نوح في البقاع ثم تصب إليه أعين وأنهار وهو يمتد من ذيل جبل لبنان حتى يمر بجبال مشغرا وتمده منها أعين كثيرة ثم يمر بالجرمق ثم بالشقيف ثم يعظم هناك ويمر فينصب في البحر الرومي قرب صور وعلى نحو ساعة ونصف من صور يمر بمدفن اسمه النبي قاسم فيسمى القاسمية وهو من أعظم أنهار الشام ولا سيما في الشتاء والربيع.
وقد كان فكر بعضهم أن يجره إلى وادي الزبداني ليضمه إلى مياه نهر بردى والفيجة فيسقي دمشق وغوطتها وبلاد مرج الصفر منها ولكن ثبت له أن مجراه أسفل من دمشق فلا يركبها وكذلك يحاول أهل النبطية أن يجلبوا منه قسماً ببعض الآلات الرافعة يجعلون ماءه في أنابيب من حديد لتدخل بلدهم في طور المدن من حيث استسقاء الماء على نحو ما فعلت بيروت ودمشق وصيدا وهو يكلف بضعة عشر ألف ليرة وكأني بهم وهم فاعلون.
وكذلك يفكر جماعة من مهندسي الإفرنج في تحويل مجراه قبيل مصبه بساعتين ليسقوا بمائه الأراضي المستطيلة على شاطئ البحر بين أقصى حدود جبل عامل وأرض صور من جهة صيدا ولو فعلوا لأتى عملهم بفوائد مادية لهم وللبلاد ولما ذهبت تلك المياه بدون فائدة وغدا الساحل من صور إلى صيدا والمسافة بينهما أربع ساعات في المركبة كحدائق دمشق بأشجاره ومزروعاته الصيفية.
ويقدر المهاجرين من عامل بخمسة عشر ألف مهاجر دع عنك من قصدوا مدينة بيروت وغيرها من شبانة فاشتغلوا في الحمولة وطلاء الأحذية وغيرها من المهن الشاقة الرابحة ولا يقل عددهم فيما أحسب عن نصف هذا القدر فيكون بذلك قد فارق الجبل من أبنائه نحو السبع إذا فرضنا أن سكانه مائة وثلاثون ألفاً على ما قدره بعض العارفين ومع هذا فلا نجد انحطاطاً في زراعته ومن أهم غلاتهم الدخان التوتون يزرعونه في الصيف بعلاً فيجود من وراء الغاية كجودته في جبال اللجام الكلبية والتربة حمراء على الأكثر ويزرعون المزروعات الصيفية كالبقول وبعض الخضر فتنمو كلها بدون سقيا نمواً مدهشاً وزراعتهم الشتوية أحسن من كثير من الأراضي الجبلية في سورية.
وكانت الزراعة تراجعت في القرن الحادي عشر لما أخذت سورية تلتهب بالفتن واشتغل الفلاح بالحروب عن النظر في زراعته فنضب معين الثروة وعاد أكثر الأراضي مهملاً بوراً وبعد أن كانت الأراضي الزراعية متسعة الأرجاء في بلاد بشارة أصبحت على طول المدة حراجاً واسعة ومراعي إلا بعض الأراضي المجاورة للقرى والمزارع.
وسكان الجبل شيعة إمامية وليس بينهم سنة إلا النادر جداً وبعض المسيحيين ممن التجأوا إلى أهل البلاد أيام حوادث لبنان منذ 51 سنة دع عنك من في صور وصيدا من السكان الأصليين وهذا الجبل مبعث التشيع في بلاد الشام ومنهم قسم في جزين والمتن والبترون وكسروان من لبنان وبلاد بعلبك وكان علماؤهم أو فقهاؤهم يدرسون في مدارس مهمة كانت لهم في هذه الديار مثل مدرسة جباع التي خرجت جلة فقهائهم وأدبائهم عرفناهم بكتبهم وأعمالهم ومدارس ميس وعيناتا وجزين ومشغرا والشقراء وكل هذه المدارس الدينية درست اليوم حتى اضطر القوم أن يرسلوا ببعض أبنائهم إلى النجف في العراق يتلقون العلوم الدينية عن أئمتهم هناك وبعد أن يقضوا بضع سنين يعودون وقد حفل وطابهم بما ثقفوه من مدرسة النجف التي هي للشيعة بمثابة الأزهر للسنة.
وإني ليسوءني ما سمعته من تعصب بعض هؤلاء الفقهاء على المدنية الحديثة تعصباً ما كنت أخال صدوره ممن يدرك سر الحياة في الأمم فقد نقل لي أن بعضهم يحرمون إلى اليوم قراءة الصحف لأنها تضر بالدين بزعمهم وتشغل عن الآخرة حتى أن القحة بلغت ببعضهم أن حرم على المنبر قراءتها وجاهر بلعن من يؤازرها فاضطر كثير من ضعاف العقول أن يقطعوا اشتراكاتهم بالمجلات والجرائد ليعيشوا بدون نور إلا ما يرسله عليهم مشايخهم ممن خفت وطأتهم ولله الحمد بعد الدستور وكانوا مع الأعيان فيما مضى يعرقون لحم الفقير ويمتصون دمه ولا راحم فنفس القانون الأساسي من الخناق بعض الشيء وتوشك تلك البقعة من سلطة الجامدين من رؤساء الدين أن تذهب كأمس الدابر إذ ليس في متن الإسلام ولا في حواشيه وشروحه ما يقال له سلطة دينية. وفي الحال التي انتهى إليها المسلمون على اختلاف مذاهبهم عبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
تراجع التعليم تراجع التعليم الديني في عامل وكان إبطال امتحان طلبة العلوم الدينية أيام عبد الحميد من جملة الأسباب ولكن البلاد ما خلت ولا تخلو من مفكرين وعالمين ممن يعتبرون الأمور بمقاصدها وينظرون إلى النافع من حيث هو وقد كاد أعيان البلاد ينزعون تلك التقاليد التي وضعها الجامدون من الامتناع عن الاختلاط بالمخالف ولا سيما إذا كان من غير أهل الإسلام ومنهم اليوم من يبعثون بأولادهم إلى المدارس العالية في بيروت وفي صيدا وكأني بهم وهم يرسلون أبناءهم غداً إلى الغرب ليستقوا العلوم من مصادرها كما فعل أخوانهم المسلمون في بيروت ودمشق وبعلبك وحاصبيا ولو بعثوا من ناشئتهم لتلقي شؤون الدنيا بمثل العدد الذي يبعثون به إلى العراق لتلقف مسائل الدين إذاً لأصبح عامل أرقى بمجموعه من لبنان وما لبنان عنه ببعيد.
ولسائل أن يسأل ما إذا كانت عاقبة سلطة الرؤساء في المرؤوسين هنا فالجواب أنها علمت الكثير منهم الاحتيال وشهادة الزور والاستهتار بالشعائر سراً. أخلاق تجدها في كل مغلوب على أمره ارتضى غير قانون العقل دستوراً. ولا يفهم من هذا أن جبل عامل اختص بذلك من دون سائر بلاد الشام فإن هذا القطر متساو في أخلاقه إلا قليلاً ومتى تعلم أبناؤه التعليم الابتدائي لأن القارئين والكاتبين لا يزيدون في قرية من قرى عامل على عدد الأنامل ينزعون أيديهم ولا جرم من أيدي أولئك الذين قضى عليهم نكد الطالع أن يكونوا كالميت بين يدي الغاسل يحركونهم بحسب ما تملي الأهواء النفسية.
هذا إجمال عن بلاد عامل بقي أن نقول أن الحكومات أخطأت في تقسيماته الإدارية فجعلت مراكز الحومة في أقاصي تخومه وتركت أواسطه بدون وازع جعلت الأقضية في صور وصيدا ومرج عيون وأنشأت من النبطية وتبنين مديريتين والمديريات ضعيفة السلطة بالنسبة للأقضية والألوية ففي مديرية النبطية مثلاً 43 قرية فيها من السكان نحو 25 ألفاً أفلا يجدر بها أن تكون قضاء برأسه وهكذا لو نظرت في التقسيم الماضي لرأيته غير معقول والجبل يحتاج لبعض مديريات وبضعة أقضية لتحسن طرق جبايته ويكون للحاكم قوة تحول دون التعادي بيد أن الأمن موفور فيه خصوصاً بعد الحملة الحورانية التي سرت منافعها إلى أقاليم سورية عامة وتحدث القوم بانتباه حكومة الدستور لكل مشاغب ومنتقض يجاذبها حبل الخروج عن الطاعة ولو جمعت الأسلحة من جبل عامل واللكام لاستراحت سورية بأجمعها آخر الدهر إن شاء الله.
ورجاءنا أن يعود إلى هذا الجبل سكانه المهاجرون أو سوادهم الأعظم على الأقل وقد تهذبت عقولهم التهذيب الغربي في الجملة فيعمرون رباعه وبقاعه على نحو ما عمر اللبنانيون بلادهم ويبذروا فيها من المال في الطرق المحمودة ما يعود عليهم وعلى جبالهم وأوديتهم المخصبة الصافية بالرفاهية والراحة يعمرونها كما يعمر الصهيونيون القرى التي نزلوها من أرض فلسطين والجليل فقد مر بنا مكارينا بقرية المطلة في أقصى حدود الحولة وهي لجماعة من الإسرائيليين فرأيناهم بتنظيمها كقرى أوربا فهلا رأى السكان مجاوريهم وقلدوهم في مرافق الحياة والشؤون النافعة.
صيدا وصور
ما الروض إلا ريض باكره السحاب ولا نسيم الصبا عطر بالشيح والملاب ولا مجامع الأنس ولقاء الأصحاب ولا العافية في بدن ذي أسقام وأوصاب ولا النضارة في خدود الغنيات الكعاب ولا تغريد العندليب وأنين العود والرباب ولا نيل الأماني بعد طول التطلاب ولا رنات الأوتار تلين لها الصم الصلاب ولا كشف غوامض المسائل بعد أن خفيت عن طالبيها الأحقاب - ما كل بهذا بأجمل من نزول صيدا في نيسانها وأيارها وقد طرزت ضواحيها وحواشيها وترنحت بالمرقصات المطربات أعطاف شاديها وتغنت أطيارها في أشجارها وتفتقت أنوارها وفاح أريج تربتها الزكية وتسلسلت سواقيها النقية فضمخت الأرجاء بماء أزاهيرها وورودها فكانت بهجة النفوس وريحانة الرواح.
أتيتها من طريق صور وكنت قصدت هذه من النبطية قاعدة جبل عامل والمسافة بين النبطية أو النابطية وصور سبع ساعات عن طريق صعب في الجملة وليس في صور ما يستحق أن يذكر سوى تاريخها القديم أما حالتها الحاضرة فأشبه بقرية وسط جزيرة تتصل مع البر برمال وهي محصورة ضيقة وبلغني أن نفوسها لا يتجاوزون سبعة آلاف نصفهم من المسيحيين والنصف الآخر مسلمون وتجارتها ضعيفة جداً وزراعتها متوسطة وقد ذكر القدماء بأن صور هي التي أوجدت فن الزراعة وغرس الكرمة.
كان لصور شأن في القديم دونه اليوم ميناء همبورغ ومرسيليا ولندن ونيويورك ومن مينائها وميناء صيدا سافرت سفن الفينيقيين واستعمرت شواطئ البحر الرومي حتى بلغت مضيق جبل طارق بل تجاوزته في بحر الظلمات إلى أن بلغت الجزائر البريطانية واستعمرتها وأقامت فيها مصانعها ومتاجرها على حين لا ترى اليوم إلا قوارب حقيرة ومراكب شراعية صغيرة لا تدل على عظمة ولا تشعر إلا بفقر ومسكنة.
أصحيح أن صور التي لا تصدر الآن إلا قليلاً من القطن والدخان كانت فيما مضى تصدر إلى باب العالم المدني السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات وعسل جبل عاملة وأرجوان صيدا.
أصحيح أن هذه القربة الحقيرة الضيقة النطاق الكئيبة الدور والمنازل والحوانيت كانت ذات طبقات ست وسبع وثمان ويجلب الفينيقيون الماء في قوارب لتفاههم وهي مركز حكومة فينيقية التي كان طولها خمسين فرسخاً وعرضها نحو عشرة فراسخ يقصدها أصحاب النواحي المستقلين الذين يحكمون أنفسهم لفض المصالح المشتركة فكانت منذ القرن الثالث عشر أهم مدن فينيقية ضاقت على أهلها فأُقيمت مدينة جديدة قبالتها وأسس تجارها مستعمرات في البحر الرومي كله لأن زراعتها لك تكفهم. أسسوها ليصيبوا الفضة من مناجم أسبانيا وسلع العالم القديم وكم أسسوا مثل قرطاجة مدناً لا تزال أنقاضها شاهدة بعزها الداثر ولذلك كان تاريخ صور وصيدا عبارة عن تاريخ العالم القديم.
أصحيح أن ملوك آشور حاولوا مرات الاستيلاء على صور أي مدينة الصخر فردوا عنها خائبين لحصانتها ولم تخضع لسلطانهم إلا بعد العناء الطويل محافظة بإدارتها الأصلية وأن بخت نصر بعد أن حاصرها فاشتد في حصارها ثلاث عشرة سنة اضطر أن يعقد مع صاحبها ابتوبعل معاهدة وأن أهلها قدموا للفرس أساطيل مهمة ولذلك كان أول هم للاسكندر المقدوني أن يضرب على عظمة صور حتى تكف عن مد يد المعونة لعدائه الأكاسرة.
أصحيح أن القسم القديم من هذه المدينة المسمى ببالتيروس كان يمتد من نهر القاسمية في الشمال إلى رأس العين في الغرب أي على مسافة ساعتين ليس فيها الآن إلا رمال وبعض الزروع البسيطة وأن الاسكندر جعل عاليها سافلها ليبني بأنقاضها بين البر والجزيرة سدة الغريب وطوله خمسمائة قدم وعمقه ستون وأن حصاره لها دام سبعة أشهر وقد أجرى إليها الماء وأنها بعد هذا الحصار المنهك بسبع عشرة سنة تعاصت على أنتيفوس على عهد البطالة خمسة عشر شهراً وأنها كانت على أوائل انتشار النصرانية أهم مدن فينيقية وأولاها بالتقدم وظلت إلى القرون الوسطى من المواني التي صعب على الفاتحين أخذها ولو لم ينشأ اختلاف بين ملوك الطوائف لما وجد الصليبيون سبيلاً إلى الاستيلاء عليها سنة 1124 م ولقد حاصرها الملك الناصر صلاح الدين يوسف فكانت عليه صعبة المنال ولما سقطت عكا بأيدي المسلمين اضطر الإفرنج إلى الرحيل عنها بعد أن احتلوها 167 سنة أقاموا بها بعض الأبراج في البحر لا يزال بعض أنقاضها بادياً وحكمها الأمير فخر الدين المعني وعبثاً حاول إنهاضها من كبوتها
وإذا نظرت إلى البلاد رأيتها ... تشقى كما تشقى العباد وتسمد
أصحيح أن عكا وصور وهما الآن فرضتان حقيرتان جداً من موانئ الشام كان لهما من المكانة في القديم ما لم تحز بيروت بعضه اليوم مهما بلغ من مجدها البحري وأن صور كانت هي وعكا ميناء دمشق وسائر المدن الداخلية منهما تصدر التجارات وترد الواردات وهمما مقصد السياح من الشرق إلى الغرب وبالعكس.
قال ياقوت: إن صور مشرفة على بحر الشام داخلة في البحر مثل الكف على الساعد محيط بها البحر من جميع جوانبها إلا الربع الذي منه شروع بابها وهي حصينة جداً ركينة لا سبيل إلا بالخذلان وهي معدودة في الإسلام من أعمال الأردن بينها وبين عكة ستة فراسخ وهي شرقي عكة. وذكرها شيخ الربوة من جملة العجائب فقال: إن البحر الرومي منها رمية نشاب وهي مربعة البناء من خارج وهي مثمنة من الداخل وعمق الماء إلى أسفل ثلاثة وأربعون ذراعاً بالكبير ويخرج منها ماء كثير وجريته فرسخين يجري إلى المعشوقة يسقي أنصاباً ومزروعات وروى ابن فضل الله: إن صور كانت ولاية في القرن الثامن وفيها كنيسة يقصدها ملوك من البحر فلهذا لا يزال عليها الرقبة وهم على هذا يأتونها مباغتة ثم يفضون فيها ما أرادوا ثم ينصرفون ولعل تلك الكنيسة هي كنيسة اللاتين التي يقال أنها من بناء الملك قسطنطين وقال البكري إن السفن كانت تسلك من الاسكندرية إلى أبي قير فدمياط فبحيرة تنيس ثم إلى جزيرة دبقوا وهي التي تصنع فيها الثياب الديبقية ثم إلى تيدار ميماس (؟) ومنها إلى غزة فمليحة الواردية فعسقلان فقيسارية فرأس الكرمان (لعله رأس الكرمل) فحيفا فعكا فصور وهي داخل البحر وهي ساحل بيت المقدس ثم إلى صيدا ثم إلى بيروت ثم إلى طرابلس الخ. وأنت ترى اليوم أن من بين هذه الموانئ السورية ما لا تقف عليه المراكب مثل عسقلان وقيسارية وصور وصيدا فسبحان محول الممالك قرى وجاعل المجاهل معالم.
وقال الشريف الإدريسي: بأن صور كانت مرسى يدخل إليه من تحت القنطرة وعليه سلسلة تمنع الراكب من الدخول قال ابن سعيد: صور التي لا يرام لحصار من جهة البر وقد حفر الإفرنج حولها أداروا بها البحر قال العزيزي وبين صور وعكا اثنا عشر ميلاً وفتحت في سنة تسعين وستمائة مع عكا وخربت وقد نقل معاوية إليها وإلى عكا قوماً من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية سنة 42 وكانت خراباً يوم مر بها ابن بطوطة سنة 726 وبخارجها قرية معمورة سكانها من الستوزة؟ قال أن بابها الذي للبحر بين برجين عظيمين وبناؤها ليس في الدنيا أعجب وأغرب شأناً منه كما مر بها ابن جبير قادماً من عكا في طريقه على حصن كبير يعرف بالزاب لزيب وهي مطلة على قرى وعمائر متصلة وعلى قرية مسورة تعرف بإسكندرية وقال في وصف صور:
مدينة يضرب بها المثل في الحصانة لا تلقي لطالبها بيد طاعة ولا استكانة قد أعدها الإفرنج مفزعاً لحادثة زمانهم وجعلوها مثابة لأمانيهم هي أنظف من عكا سككاً وشوارع وأهلها ألين في الكفر طبائع وأجرى إلى بر غرباء المسلمين شمائل ومنازع فخلائقهم أسجع ومنازلهم أوسع وفسح وأحوال المسلمين بها أهون وأسكن وعكة أكبر وأطغى. وأما حصانتها ومنعتها فأعجب ما يحدث به وذلك أنها راجعة إلى بابين أحداهما في البر والآخر في البحر وهو يحيط بها الآن من جهة واحدة فالذي في البر يفضى إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب وأما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعاً منها يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب ويحدق بها من الجانب الآخر جداً معقود بالجص فالسفن تدخل تحت السور وترسى فيه وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها وعلى ذلك الباب حراس وأمناء لا يدخل الدخل ولا يخرج الخارج إلا على أعينهم فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حسن الوضع ولعكة مثلها في الوضع لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وإنما ترسي خارجها والمراكب الصغار تدخل إليها فالصورية أكمل وأجمل وأحفل قال وهاتان المدينتان عكة وصور لا بساتين حولهما وإنما هما في بسيط من الأرض افيح متصل بسيف البحر والفواكه تجلب إليهما من بساتينهما التي بالقرب منهما ولهما عمالة متسعة والجبال التي تقرب منهما معمورة بالضياع ومنها تجبى الثمرات إليهما وهما من غر البلاد.
وقال ابن خرداذبة: وسواحل جند دمشق عرقة طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وحصن الصرفند وعدلون وسواحل جند الأردن صور وعكا وبصور صناعة المراكب أي المسلحة (الترسانة) وفي نزهة المشتاق: ومن إسكندرية إلى مدينة صور خمسة عشر ميلاً وهي مدينة حسنة على ضفة البحر ومن صور إلى طبرية يومان كبيران ومنها إلى عدلون وهو حصن منيع على البحر ومنه إلى صيدا عشرة أميال وبين صور وصرفند يقع نهر ليطة ليطاني ومنبعه من الجبال ويقع هناك في البحر ومن صور إلى دمشق أربعة أيام وذكر ياقوت في المشترك أن صور أشهر مدينة بساحل الشام وحصنها وأحسنها افتتحت في أيام عمر بن الخطاب وبقيت في أيدي المسلمين إلى سنة 518 في أيام الآمر بالله فأخذها الفرنج.
هذا كلام الإفرنج والعرب في صور وقد بتنا فيها ليلة انقبضت فيها النفس انقباضاً لم يعرض لها في أحقر القرى التي مررنا بها في رحلتنا ومن الغد ركبنا المركبة إلى صيدا في أراض مزروعة وجداول منسابه والمسافة أربع ساعات وليس في الطريق من أثر إلا بقايا أنقاض الصرفند وتعرف قديماً باسم الزاربات وعدلون ومغارة اسمها معارة البزاز يرشح الماء من أعلى صخر منها المتجمع من مياه المطر فيشرب منه الرعاة حيث يلجأون في الشتاء ويعتقد بعض العامة أن كل مرضع جف لبنها وانقطعت درتها تستشفي يرشح من قطرات الماء فيدر لبنها ولم يقم دليل على ذلك في الحس كما لم يقم حتى الآن دليل على الاستشفاء بالأماكن المباركة وبعض المعابد ومحال النسك وما النذور التي ينذرها بعض عامة المسلمين من السنة والشيعة والرحال التي يشهدونها من القاصية إلا من باطل السعي ومخلفات القرون الوسطى لا يؤيدها نقل ولا يقول بها عقل.
وفي الطريق إلى صيدا بعض نواويس ومسلات منها ما هو يوناني ومنها ما هو فينيقي ومنها ما هو مصري كما تجد أحواضاً وقبوراً ومعاصر زيت وأنقاض معابد وغيرها والمهم مما كان هنا وفي صيدا نقله علماء الآثار إلى متحف الأستانة أو متاحف أوربا سراً. ومدخل صيدا بحدائقها الأنيقة مدخل المدن الكبرى وإن لم يتجاوز نفوسها عشر ألفاً ولذا رجح بعضهم أن الفينيقيين اختاروها لجمال جزين والريحان وعامل مطلة عليها إطلال الأب على ابنه أو العاشق على معشوقه.
وكيف لا يبهج الأباصر رؤيتها ... وكل روضٍ بها في الوشي صنعاء أنهارها فضة والمسك تربتها ... والخز روضتها والدر حصباء
وللهواء بها لطف يرق به ... من لا يرق وتبدو منه أهواء
ليس النسيم الذي يهفو بها سحراً ... ولا انتشار لآلي الطل أنداء
وإنما أرج الند استسار بها ... في ماء ورد فطابت منه أرجاء
اختلف المؤرخون في صور وصيدا وأيهما كانت أكبر وأفخم على عهد الفينيقيين ويقول استرابون أن صور أقدم مدن فينيقية وأعظمها بعد صيدا وقد جعل صور العتيقة على مسافة نحو خمسة كيلو مترات ونصف من صور الحديثة أما بلين فيقول أن المدينة القديمة والحديثة متصلتان ببرزخ إحداهما مع الأخرى ومحيطهما 27 كيلومتراً أما المدينة الأصلية فمساحتها زهاء أربعة كيلومترات.
ظفر الباحثون بنقود فيها رسم أنطوخيوس الرابع قبل المسيح بمائة وثماني وستين أو سبع وستين سنة كتب عليها أنها ضربت في صور أم الصيدونيين ووجدت أيقونة أخرى كأنها رد على هذه الدعوى مكتوب عليها الصيدونيين مذلولون صور الكاذبة وهكذا تنازعت صور وصيدا شرف التقدم كما تنازعتا مدينة صرفند (صرفت) التي بناها أهل صيدا على 15 كيلو متراً ونصف جنوبي صيدون على الشاطئ ومعناها سبك المعادن من صرف العبراني أي ذوب.
بيد أن التاريخ ناطق بأن صيدا وإن سبقت الفينيقيين بتأسيس المستعمرات منذ عهد عريق في القدم فأنشأت هيبون في نوميديا وقرطاجنة في شمال أفريقية فقد سبقتها صور فيما بعد وتبين أن صيدا كانت من عمل صور حتى كانت صيدا تعرف باسم صور صيدا وظلت صيدا مستقلة في شؤونها الداخلية وكان لها حق على عهد الرومان مجلس شيوخ وحاكم أكبر كالذي كانت تنصبه الجمهوريات اليونانية. ولم يشتهر الصيدونيون بأنهم والصوريين أساتذة العالم في تجشم البحار بل اشتهروا أيضاً بأنهم أساتذة أيضاً في علم النجوم والرياضيات.
خربت صيدا سنة 351 ق. م عقب انتفاضها على ملك فارس وقتل وحرق فيها 40 ألفاً وفتحت أبوابها بنفسها للفاتحين اليونانيين ثم استولى عليها الرومان وكان يطلق عليها اسم قائدة المراكب وأم القرى والمستعمرة السامية وافتتح المسلمون صيدا سنة 637 و 38 م بدون مقاومة وقامت على عهد الصليبيين أهوالاً ودفعت مالاً سنة 1107 حتى رفع الصليبيون عنها الحصار إلا أن بودوين الأول عاد فاستولى عليها سنة 1111 وبعد وقعة حطين دك السلطان صلاح الدين أسوارها سنة 1187 م ثم عاد الصليبيون فاستولوا عليها سنة 1197 واستخلصها منهم الملك العادل وخربها في تلك السنة فأعاد الإفرنج بناءها سنة 1228 فخربها المسلمون سنة 1249 ثم حصنها سان لوي سنة 1253وابتاعها فرسان الهيكليين الصليبيون وهاجمها المغول سنة 1260 فجعلوا عاليها سافلها ثم وقعت في أيدي المسلمين ودك الملك الأشرف حصونها.
ولم تنهض صيدا من كبوتها إلا في القرن السابع عشر على عهد الأمير فخر الدين المعني أحد أمراء الدروز الذي جعلها مقر ولايته ونشط الأوربيين على نزولها حتى أزهرت تجارتها وأقام فيها قصراً له وخانات للتجارة وكان بعضهم من أهل طوسكانيا في إيطاليا وبعضهم من الفرنسيين وجلب تجارة الحرير إليها ثروة هائلة وظلت المدينة متقدمة في تجارتها إلى أواخر القرن الثامن عشر وامتدت ايالة صيدا سنة 1838 فتألفت من بلاد ساحل عتليت وعكا وشفا عمرو والجبل والشاغور وبلاد بشارة وطبرية وصفد والناصرة وتوابعها من القرى والعرب المخيمين في ضواحيها وقد ضربت أساطيل الأوربيين المتحدة سنة 1840 قلعة الرفاء وما زالت أنقاضها بادية.
وكانت صيدا مرفأ دمشق الوحيد في القرن السابع عشر والثامن عشر كما كانت في القرون الوسطى وبين دمشق وصيدا ستة وستون ميلاً والميل ثلاثة آلاف ذراع أو ستة وتسعون ألف إصبع والفرسخ ثلاثة أميال وثلاثمائة ألف إصبع يقص اثني عشر ألف إصبع وكانت الطريق على رواية العزيزي من صيدا إلى مدينة مشغرا وهي أنزة بلد في تلك الناحية في واد في نهاية الحسن بالأشجار والأنهار والمسافة أربعة وعشرون ميلاً ومن مدينة مشغرا إلى مدينة تعرف بكامد (الغالب أنها كامد اللوز قرية في غربي البقاع) قاعدة تلك البلاد قديماً ستة أميال ومن مدينة كامد إلى ضيعة تعرف بعين الجر ثمانية عشر ميلاً ومن عين الجر إلى مدينة دمشق ثمانية عشر ميلاً.
ولا يعرف بالتحقيق الباني الأول لصور وصيدا والأرجح أن الأولى بنيت في أيام جلعاد من سبط منشأ بني عمون اليهود والثانية بناها صيدون بكر كنعان. وكانت مدينة صيدون أي صيدا أول ما أحدثه كنعان علة بضعة مراحل من جنوبي بيروت ولم تكن إلا قرية للصيادين (كما يدل عليه اسمها نفسه) بناها على ما جاء في روايتهم القديمة الإله بعل (المعروف عند اليونان بسم آجنور) على المنحدر الشمالي لرأس صغير يشرف بانعطاف نحو الجنوب الغربي وقد كان لميناها عند السلف شهرة فائقة وهي محصورة بين صخور منخفضة متتابعة تبتدئ من النهاية الشمالية لشبه الجزيرة ثم تمتد بحذاء الساحل على مساحة بضع مئات من الأمتار والسهل المحيط بها يسقيه نهر جميل يعرف باسم بوسترين نهر الأولي وفيها كثير من البساتين الغناء الاريضة حتى أوجب هذا الموقع الطبيعي وهذا الجمال الخلقي تسميه المدينة بصيدون الزهراء وبحوارها شمالاً نهر الدامور وهي تمتد جنوباً إلى مصب نهر الليطاني وفيما وراء ذلك من البلاد كان في حكم الصوريين.
قالوا وفي الأحقاب الخوالي التي مضت على العالم أي أيام كان الآلهة يعيشون بين الناس اختط سمروم على القارة رسم مدينة من قصب الغاب وأمامها استقر أخوه هيزعوس في بضع جزار أقام فيها أعمدة مقدسة. وهيزعوس هذا أول بحري في العالم. وكان هذا مبدأ صور ثم جاءها بعد ذلك ملكارت وهو عند الصوريين مثل هرقل الجبار المشهور في جاهلية اليونانيين ويؤكد كهنة هذا الرب أن هيكله بني هو والمدينة في وقت واحد وقد مضى نحو ألفي سنة وثلثمائة سنة حينما زارهم المؤرخ هيرودتس فعلى حسابهم يمكننا أن نقول بأن مدينتهم هذه أسست في نحو سنة 2750 ق. م.
استكانت صور صيدا للفاتحين كما استكانت جبيل وبيروت من مدن الفينيقيين فتفرغت إلى عهد رعمسيس الثاني أحد ملوك الفراعنة لاحتكار جميع تجارة مصر مع أمم آسيا والبحر الأبيض المتوسط وفي القرن الثاني عشر ق. م حصلتا على استقلالهما لما ضعف أمر العائلة العشرين من الفراعنة وكان خلال ذلك العهد كل من صور وصيدا عبارة عن دولة صغرى تطمح إليها أنظار مجاوريها بسبب ما أحرزتاه من توفر أسباب الثروة ولكنهما قاومتا هذه الأطماع مدة بما كان لهما من الحصون والأسوار غير أنهما لم يتأت لهما البقاء زماناً على هذا الاستقلال فأقلع من عسقلون (عسقلان) أسطول فلسطيني سنة 1210 وتلاقى بعمارة الصيدونيين فدمرها تدميراً ثم استولى على مدينة صيدون ومن نجا من أهلها فروا إلى صور فقويت بهم حتى صارت أقوى دولة فينيقية وفي أيام حيرام الأول (980 - 945 ق. م) بلغت صور ببحريتها أعلى الدرجات وانبسط سلطانها.
كانت صور متفرقة في عدة جزائر يفصل بعضها عن بعض ألسنة من البحر ليست بالعميقة بل تتخللها صخور طافية رؤوسها على صفحات الماء من جنس الصخور التي يتعذر معها اقتراب السفن في بعض المواضع من سواحل الشام فردم حيرام تلك المضايق التي تتخللها مياه البحر بجسور حصينة وردوم أقامها فاتسعت رقعة المدينة ولكنها لم تكن لتسع سوى ثلاثين إلى خمسة وثلاثين ألفاً وأقام ملوكها وتجارها قصورهم في أواخر سفح لبنان وبقيت الجزيرة مركز الحكومة.
وظلت صور راضية بأداء الجزية للفاتحين حتى نشب القتال بين ملكها ايلولي 768 - 692 والملك تغلات فلازار الثالث صاحب آشور انتهت بهلاكه ووقوع صور في قبضة الآشوريين ولما سقطت نينوى عاد لصور استقلالها وفازت بدفع بخت نصر عنها بمعاونة الفراعنة الصاوبين واحتملت الحصار ثلاث عشرة سنة من سنة 574 إلى سنة 587 ولكن نزفت قوتها بفتنتها الأهلية وفي سنة 557 أعيدت إلى سيطرة الكلدانيين ولما سقطت بابل في سنة 538 حصل لصور وفينيقية ما حصل لها فدخلت في قبضة الفرس من غير حرب ولا قتال.
كان لكل من صور وصيدا كما كان لكل مدن فينيقية رب خاص بها بعل وله عشتاروت اسطارطوس وهي آلهة أنثى وكانت البعليم والعشتاروت تمثل قول الطبيعة والشمس والكواكب أو الأغراض التي تتجه إليها نفوس بني آدم مثل العشق والقتال وكانت هذه الآلهة متوطنة في المرتفعات والمشارف وفي الغابات وفي المياه وفي الأحجار الخام بيت ايل - بيت الإله وكانت هذه الآلهة تؤول إلى زوج واحد أعلى أو إلى سبعة آلهة كبراء تحف باشمون الذي هو الإله الخالق وكانت عبادة هذه الآلهة غير منتظمة ومحفوفة بأساليب القسوة فكان القوم يحرقون الأطفال تمجيداً لها وإذا حل الانقلاب الصيفي أخذوا يندبون أدونيس ثم إذا جاء الخريف احتفلوا ببعثه ونشوره. ثم دخلت بعض القواعد الدينية المصرية في ديانة الفينيقيين.
أخذت فينيقية عن مصر حروف الهجاء ومن الحروف الهجائية الفينيقية اشتقت حروف الهجاء الأوربية. وأثرت في فنونهم من صياغة ونقش ونحت وعمارة وعمل زجاج وصناعات كلديا تارة أخرى واشتهرت صناعة الفينيقيين عند القدماء فقد أتقنوا طرق اصطناع الزجاج وحفظوا زماناً سير تحضير الأرجوان وفي الآثار التي عثر عليها في أمريت أي مارات القديمة ما يستدل به أن المدينة المصرية أثرت كل التأثير في المدينة الفينيقية بل أن معاصر الزيوت ذات الأجهزة الضخمة تشبه الآثار المصرية كل الشبه وكذلك أواني الفضة والشبهان البرونزالتي كانت تصنع في صور تراها مزخرفة بأشكال مصرية وممثلة لموضوعات مصرية وكذلك الجواهر والأساور والخناجر ودروع الخواصر والخواتم والأقراط تشبه المصنوعات المصرية فلم يكن للفينيقيين قط فنون وطنية خاصة بهم متأصلة فيهم لأنهم اقتصروا في كل عصر على تقليد أعمال الأمم التي تحكمهم فكانوا يقلدون الصناعات المصرية والآشورية أيام كانت حكومة بلادهم في أيدي المصريين والآشوريين فلما حكمهم اليونان ثم الرومان حاكوا الصناعات اليونانية.
وبالجملة فإن صور وصيدا كانتا مدينتي صناعة وتجارة يحمل أبناؤهما مصنوعاتهم ومصنوعات غيرهم إلى الجهات القاصية وهم وحدهم كانوا ينقلون البضائع في البحر المتوسط مدة قرون طويلة.
هذا ما يساعد المقام على اقتباسه من تاريخ العاصمتين القديمتين أما حالتهما الحاضرة فمتأخرة وإن كانت صيدا ترجح على صور كثيراً خصوصاً بحدائقها الأنيقة التي يعود عليها منها دخل وافر لا سيما في البرتقال والليمون واللوز والمشمش والموز والبلح ويني دنيا وهو شجر حديث أدخل المالطيون زراعته إلى صيدا أولاً منذ نحو أربعين سنة وله طعم حلو مز وبذر كبير.
إن تلك البقعة التي تقدر بنصف غوطة دمشق بمساحتها في ذاك السهل النضير الذي تطل عليه قمم لبنان مغطاة بالثلوج وجبل الريحان وتومات نيحا وصيدا في عمرانها اليوم صورة مصغرة من عمران بيروت وفيها من المعاهد والمصانع مثل ما في الأولى فلها مدرسة صناعة لمبشري الأميركان ومدرستان لهم للذكور والإناث كما فيها مدرسة لليسوعيين وأخرى للفرنسيسكان وثالثة للاتحاد الإسرائيلي ومدارس ابتدائية لجمعية المقاصد الإسلامية لا تعلق لها بجمعية بيروت المسماة بهذا الاسم ولا بجمعية النبطية التي أطلق عليها مثل هذا الاسم أيضاً وفيها مكتب ابتدائي ورشدي أميري وغير ذلك من الجوامع والكنائس كما أن فيها مزاراً يقال أن فيه شيئاً من جثة يحيى الحصور عليه السلام وهذا غير ثابت في التاريخ كما لم تثبت الدعاوي التي من قبيله.
وفي صيدا تصدر مجلة العرفان لمنشئها صديقنا أحمد عارف أفندي الزين وهي مجلة راقية خادمة للآداب العربية امتازت بما تنشره لعلماء جبل عامل والنجف وإيران وشعرائهم وكتابهم وما ترويه من آثار العلويين وتاريخهم ولها مطبعة متقنة وهي المطبعة الوحيدة في هذه البلاد وبالنظر لقرب المسافة بين صيدا وبيروت اكتفى الصيدونيون بجرائد بيروت ولم ينشروا جرائد لهم خاصة.
وقد فتحت صيدا شارعاً طويلاً لها أقامت فيه الدور والحوانيت على الطراز الجديد في الجملة أما بناء المدينة القديم فضيق معوج مثل أبنية بيروت وطرابلس القديمة أو أدهى وماؤها عذب يأتي في أنابيب مثل ماء بيروت ويستقى منه في أعالي البيوت وبلديتها تعتني بتنظيفها أكثر من عناية بلدية دمشق وبيروت.
وقصارى القول فإن صيدا كما قال أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري تصيد القلوب صيدا وعلى رأي ابن الساعاتي وقد مر بها يوم كانت بيد الإفرنج فرأى مروجاً خضراء كثيرة نباتها النرجس واتفق أنه هرب بعض الأسارى من صيدا فأرسلت الخيل وراءه فردته فقال:
لله صيداء من بلد ... لم تبق عندي بلى دفينا
نرجسها حلية الفيافي ... قد طبق السهل والحزونا
وكيف ينجو بها هزيم ... وأرضها تنبت العيونا
مرج عيون
عدنا من صيدا إلى النبطية في مركبة وذهبنا من الغد في زمرة من الإخوان لزيارة قلعة الشقيف التي نسبت إليها البلاد المحيطة بها ويرد عهدها إلى قبل الصليبيين عرفها الإفرنج للمرة الأولى سنة 1179 ولما استولى عليها الصليبيون سموها الحصن الجميل وحق لهم أن يسموها كذلك لجمال موقعها المطل على نهر الليطاني المنسابة مياهه في أسفل الوادي العميق ومن الجانب الآخر بعض القرة المبثوثة في الخضرة التي تأخذ بمجامع القلوب ومن البعيد سهر مرج عيون الوارد ذكره في سفر الملوك وينتهي هذا المرج بجبل الشيخ وبجانبه قلعة الصبيبة المطلة على حولة بانياس وبلاد بشارة أو جبل عامل وفي الجنوب بلاد نفتالي الجبلية إلى ضواحي صفد وعلى اليمين جبل الجرمق.
ومن قلعة الشقيف أيضاً ترى قلعة هونين وفي الشمال الشرقي تصعد العين الوادي وفي أعلاه جبل الريحان منظر يملك على الإنسان مشاعره فيدهش له ويبتهج ينظر القلعة فيراها محلقة في الجو كالعقاب تدل كل الدلالة على قدرة الإنسان حتى في سالف الأحقاب ويقع نظره من جهة أخرى على أجمل مناظر سورية وتتمثل له هذه البلاد وما قاسته من مطامع الفاتحين وسيئات الظالمين المستبدين.
وفي هذه البقاع التي منحتها الفطرة أسباب الصفاء والرواء تطاحنت سنين كثيرة جيوش أهل الصليب وأهل الإسلام فأهلك الإنسان أخاه بسائق الدين في الظاهر وسائق المطامع الدنيوية في الحقيقة ولولا عزيمة من صلاح الدين يوسف بن أيوب نسفت الأهواء لتجردها عن الأهواء لكانت بلادنا اليوم ملكاً لدول أوربا أو لأحداهن ولما بقيت للإسلام والعرب كله تسمع في هذه الديار كما وقع لشبه جزيرة الأندلس وجزيرة صقلية من قبل.
وقلعة الشقيف كسائر قلاع القرون الوسطى في بلاد الشام من بناء كثير من الملوك والمتغلبين وأهم أبنيتها من أواخر العهد الروماني ومعظمها من بناء العرب وفيها معبد أو مصلى من القرون الوسطى من الجهة الشرقية وهي محاطة من الجنوب ومن الغرب بهوة عميقة محفورة في الصخر عمقها من 15 إلى 36 متراً ومن الجنوب فقط لتصل القلعة بذروة الجبل ومدخلها إلى الجنوب الشرقي وطولها 120 متراً وعمقها 30 من طرفها الشمالي بناء ناتئ طوله 21 متراً متجهاً إلى الشرق وفناؤها أو صحنها في الجهة الشرقية منها عمقه نحو 15 متراً ومثلها الأبنية الخارجية ولها انحدار يختلف من 6 إلى 9 أمتار وقد قام على الحائط الجنوبي برجان على شكل نصف دائرة.
قامت القلعة على هذا المثال بحيث أعجزت المهاجمين ويقال أن صلاح الدين لم يستطع أخذها بالمنجنيق إلا بضربها به من قرية القليعة في الشق الآخر من الوادي على مسافة لا تقل عن أربعة كيلومترات وفي رواية تدور على ألسن أهل القرى هناك أنه حاصرها أشهراً ولم يستول على حاميتها إلا بحيلة دبرها قروي من أهل ذاك الجوار فدعا الحامية خارج القلعة لمأدبة أعدها لها وكانت الحامية مستأمنة له وقد أنهكها الجوع حتى صارت تأكل الفيران والجرذان فما شعروا وهم مشتغلون ببطونهم إلا وعسكر صلاح الدين قادمون بطعام في زي النساء حتى اقتربوا منهم فباغتوهم فلم ينج منهم نافخ نار.
والصحيح في فتحها ما قاله العماد الكاتب من أن صلاح الدين قد إلى شقيف ارنون من دمشق ماراً بقلعة بانياس وأتى مرج عيون رخيم منه بقرب الشقيف وجمع على من به من آلات الحصار أسباب التخويف وأقام عسكره في ذلك المرج الوسيع والروض الوشيع وكان الشقيف في سد صاحب صيدا ارناط فأمهله ثم أمهله ولم يجد صاحب الحصن ملجأ وتحول السلطان من مخيته إلى أعلى الجبل لمحاصرة الحصن ورتب له عدة من الأمراء إلى أن تسلمه بعد سنة بحكم السلم وكانت مرجعيون تتوافد إليها جموع المتطوعة من دمشق وحوران والمرج والغوطة قال: وفي يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول تسلم بالامان شقيف ارنون واستمر الحصار عليه منذ نزولنا في السنة الماضية بمرج عيون وصاحبه ارناط صاحب صيدا في دمشق لأجله معتقل وباب خلاصه دون فتح شقيفه مقفل وذلك أن الشقي فنى زاده وعز اجتهاده ومرد عليه في الحفظ مراده وخانه في البصر ارتياؤه وارتياده ونخب من الرعب فؤاده وأصلد باليأس زناده وامتنع عليه إصداره وإيراده فسلمه على أن يسلم صاحبه وتخلص في النجاة مذاهبه وخرج هو ومن معه وترك الشقيف بما فيه وتركه للإسلام بما يحويه وأفرج عن صاحب صيدا وصار إلى صور ولبس من التشريف والتسريح حبير الحبور.
وبعد صلاح الدين نزلت القلعة الحامية الإسلامية وما زالت تتقلب عليها الأحوال حتى سكنها في القرن الماضي أبناء العشائر أو حكام جبل عامل ولم يغادروها إلا في النصف الأخير من القرن السابق أما اليوم فقد أمست زريبة يأوي إليها الرعاة بغنمهم وماعزهم.
غادرنا عصر اليوم الخامس عشر من سياحتنا إلى مرج عيون أو مرجعيون كما يقال لها اليوم فاجتزنا إليها جسر الخردلة الممتد على نهر الليطاني ومرج عيون كانت مملكة من ممالك إسرائيل تحيط بها حدود رحوب وقادش وخاصور وافيق أي سهل هذا المرج الذي يمتد نحو عشرة كيلو مترات وعلى نحو كيلو مترين من الجديدة مركز مرج عيون اليوم تل دبين وهي ربوة في السهل فيها بعض خرائب تدل على أنه كان هناك مركز عيون وعيون هذه كانت عرضة لهجمات آرام وآشور منها أخذت هذه المقاطعة اسمها وقال بعضهم أن عيون هي دبين وهي قرية على ميلين شمالي جديدة مرج عيون وعلى تل دبين آثار قديمة ذات شأن وقيل هي الخيام على ميلين إلى الجنوب الشرقي من الجديدة.
واختلفت الأحوال على مرج عيون في الحكومات الإسلامية فكانت من أعمال صفد وسماها أبو الفدا مرج العيون بألف ولام وسماها غيره مرج عيون وهذه التسمية نشأت في الغالب للعيون الكثيرة التي تنبع من أرض الجديدة خصوصاً وهي عجيبة لا تكاد تخلو قطعة من عين تنبض فيها مع أن الجديدة على سطح مستو في رأس جبل لا اتصال بينها وبين القمم العالية حيث تبقى الثلوج أشهراً كما هو الحال في قمم صنين في لبنان الغربي وقمم حرمون أي لبنان الشرقي وإلى شرق مرج عيون جبل الشيخ وقراه وإلى الجنوب بلاد بشارة بحيرة الحولة وإلى الغرب قرى بلاد الشقيف وإلى الشمال جبل الريحان وتومات نيحة أو شقيف تيرون.
وعلى ميلين من الجهة الثانية عند منفرج الوادي قرية ابل ويقال لها ابل السقي تمييزاً لها عن ابل القمح من أعمال مرج عيون أيضاً وفي منتصف الوادي على نفس السطح الذي قامت عليه قرية ابل قرية الخيام أو الخيم. والجديدة والسقي والخيام ثلاث بلدان كأنها بلد واحد ذات ثلاثة أحياءٍ لا تقل نفوسها عن اثني عشر ألف نسمة والغالب أن ابل السقي كانت بعد الإسلام مقر عمل تلك الكورة بدليل ما قاله ابن خرداذبة: كورة السقي وجرثبة والحولة وقال ومن أخذ من بعلبك إلى طبرية على طريق الدراج فمن بعلبك إلى عين الجر عشرون ميلاً وإلى القرعون وهو منزل في بطن الوادي خمسة عشر ومن قرعون إلى قرية يقال لها العيون تمضي إلى كفر ليلى عشرون ميلاً ومن قرعون إلى طبرية خمسة عشر ميلاً وعد ابن خرداذبة من جملة كور الأردن كورة آبل ولعلها أيضاً هي بعينها اوابل القمح. ويقول ياقوت أن السقي قرية بظاهر دمشق ولم يقل عن مرج عيون إلا أنها بساحل الشام والغالب أنها لم تكن مشتهرة في عهد وإن كان لها ذكر في الفتح الصلاحي.
ويتبع قضاء مرجعيون اليوم كثير من قرى جبل عامل وعدد قرى قضائها 54 قرية منها المهم جداً بتاريخه وكثرة سكانه كبنت جبيل وهونين ودير ميماس ميس ولا تقل نفوس القضاء عن خمسين ألفاً ورما كان المهاجرون منهم نحو خمسهم كثير منهم الذين وفقوا بين أميركا وأثروا ولا سيما سكان الجديدة مركز القضاء ممن لا تجد بينهم أمياً من الذكور والإناث ولا تشبهها بهذا المعنى بلدة في سورية إلا الناصرة فيما أذكر لأن تنافس الطوائف النصرانية على تأييد نفوذهم ودعوتهم فيها دعا كل منها إلى فتح المدارس وتعميم التعليم مع التعاليم وقد فطر أهل هذه البلدة على التقليد المفيد فإذا علم أحدهم ابنه لا يلبث جاره أن يحذو حذوه وهكذا حتى أصبح أهل القصبة وأكثرهم مسيحيون متعلمين.
أما المسلمين فشأنهم شأنهم في كل مكان مررنا به: يضن الأغنياء منهم بأموالهم حتى على تعليم أولادهم والفقراء اتكلوا على الحكومة وهيهات أن يتعلم ولد يسلمه أبواه لمعلم تعينه المعارف هذا إذا فتحت لها مكاتب في مراكز الأقضية فما هو الحال في سائر القرى التي تمر بالعشرين والثلاثين والأربعين منها ولا تجد فيها مدرسة أميرية ولذلك ترى أبناء المسلمين ينصرف غنيهم على الأغلب إلى الفسق والاعتداء ولا يجد فقيرهم متسعاً له من العيش ليتعلم فيرعى الماشية ويعيش في الجهل المطبق عمره.
دخلت جديدة مرج عيون بالمتعلمين من سكانها في طور المدن ومثلها بعدد السكان كثير في بلاد هذا القطر فهي أصغر من حرستا وعربيل وداريا وجوبر من قرى غوطة دمشق التي لا تكاد تجد فيها مكتباً جيداً في الجملة ولكن أهلها على قلة عددهم أهم من جميع أهل الغوطة على قرب هؤلاء من دمشق لأن الغوطتين اتكلوا على الحكومة فلم تعلمهم ولن تعلمهم أما أولئك أفضل عليهم اللاتين والروم والبرتستانت فأحيوا نفوسهم بالآداب والمعارف على مناحيهم فأقام من أقام منهم عزيزاً وهاجر من هاجر منهم قادراً متعلماً.
وبينا تجد المسلمين يأكل كبارهم صغارهم على ما سمعته من تلك الدعوى الغريبة بين فقراء المسلمين في قرية الخيام وأعيانهم الذين سلبوهم فيما مضى على ما يقال أراضيهم لينجوهم من الخدمة العسكرية بكتم أسماء نحو ألفين منهم عن الحكومة نجد أغنياء المسيحيين يأخذون بأيدي ضعفائهم فيفضلون على المحاويج ويعلمون الأميين ويواسون من يستحق المواساة من البائسين ولا عجب فالعلم يعمر والجهل يدمر.
في الجديدة تصدر جريدة المرجلصاحبها صديقنا الدكتور أسعد رحال وهي من جرائدنا الأسبوعية الراقية وقد كان أكبر دواعي رواجها من النشيط المهاجرين من أهل المرج ولا سيما سكان الجديدة العقلاء المنورون ولا أعلم في مدن داخلية الشام جريدة أسبوعية تضاهيها بالرواج اللهم إلا إذا كانت جريدة حمص التي تباع أيضاً من المهاجرين الحمصيين بح بخ وزه زه.
وبعد فإن هذا المرج بطبيعته من أجمل ما وقعت عليه العين من البلاد التي عرجنا عليها في رحلتنا يشرح النظر منه ما شاء في روض بهيج لو أكثروا فيه من زرع الأشجار المثمرة لفاق غوطة دمشق وأشبه سهول فرنسا وجبالها خصوصاً وأكثر دور الجديدة وابل والخيام أصبحت تبنى على الأصول الحديثة بالحجر الصلد والقرميد البديع ولكل دار حديقة تحيط بها كالهالة بالقمر وما أرض المرج إلا كما قال الشاعر:
أرض إذا عبس الشتاء رأيته ... كملاءة ملئت من الكافور
وإذا الربيع تكاملت وجناته ... فمدبجات عطرت بعبير
وإذا المصيف تلألأت صفحاته ... ففواكه من يانع ونضير
وإذا الخريف تقلصت أردانه ... فمتاع أقوات من المذخور
جمعت بها شتى المنى فكأنما ... لقيا البشير بوصلة المهجور
وادي التيم
كتب لنا الطواف حول جبل الشيخ في هذه الرحلة ومشاهدة جهاته الأربع. وجبل الشيخ هو جبل حرمون بعينه المذكورة في التوراة وسماها العرب جبل الثلج قال حسان بن ثابت:
من دون بصرى ودونها جبل الثل ... ج عليه السحاب كالقدد
ويسمى أيضاً أمانة وبعل حرمون وسيئون وسؤيون وسنير زشنير وزعم بعض أصحابنا أن السبب في تسميته هو أن شيخاً من زعماء الطائفة الدرزية سكن مغارة في سفحه الغربي في القرن السادس للهجرة وتسمى مغارته الآن مغارة العباد وأقام هناك مع قومه السنين الطوال وبعض الإفرنج يعللون هذه التسمية ببياض الثلج الذي على قمته ويشبه رأس شيخ أشيب. وتسمية العرب لحرمون يجب الثلج تسمية طبيعية لأن علوه يحفظ الثلوج إلى آخر فصل الصيف ولا سيما في المنحدرات العالية التي لا تعبث بها الرياح الحارة والشمس على ما يجب وعلو أعلى قمة فيه 2670 متراً عن سطح البحر أو نحو 9400 قدم وطوله ثلاثون كيلومتراً أو ثلاثة وثمانون ميلاً أو سبع ساعات وهو إلى الجنوب الغربي من دمشق على بعد 30 ميلاً.
ومن الغريب في أمر هذا الجبل أن العيون المنبجسة من ثلوجه تكثر جداً من شرقيه أي من جهة وادي العجم وإقليم البلان كما تنبجس من جنوبيه أو ما يقرب منها مثل عيون نهر البانياسي والأردن وهو من سفوحه الغربية والشمالية ضنين بالماء جداً ولا سيما من جهات راشيا.
وبعد ذوبان الثلوج في أواخر الربيع يصعد إلى أعلى قممه بعض النظارة للنزهة والصيد وغالب صعودهم إلى قمة اسمها قصر شبيب وفيها إلى اليوم أنقاض بناء ولكن الوصول إليها يحتاج إلى سبع ساعات صعداً سواء كان من حاصبيا أو من راشيا أو من إحدى قرى إقليم البلان فيشهدون منه سورية بأجمعها ويرون بالمناظير والمجاهير دمشق وكيف لا وقمم حرمون أعلى جبال في سورية.
قدس القدماء حرمون وكان من الجبال التي يفزع إليها العباد كما تشهد لذلك المعابد الكثيرة في جواره بل في سفوحه وقممه وكان الإسرائيليون يعجبون بعلوه ويجلونه لأنه يجمع على ظهره وفي صدره الغيوم والسحب وقد ورد في نشيد الأناشيد كلام على الحيوانات الكاسرة التي تسرح فيه وتمرح ولا يزال فيه إلى اليوم جنس من الدب من النوع الذي يسميه الإفرنج وفيه أنواع من الثعالب والذئاب وضروب من الطيور وينبت فيه من النباتات ما ينبت في جبال سورية عامة وتجود فيه الكروم فوق 1440 متراً من سطح البحر وبعد هذا العلو يطلع البلوط والملول وعلى علو 150 متراً من الكروم ينبت نبات الصمغ السراس وعلى علو 1150 إلى 1650 يكون شجر مثمر ولكنه بري وثمره يؤكل وعلى السفح الغربي من الجبل يجود اللوز في مكان يدعى عقبة اللوزة. واللوز صنفان كما أن الخوخ الضخم صنفان وفي الجبل نوع من الكراز والأجاص وتنبت فيه أصناف أخرى من الثمار البرية وهو قاحل لا خضرة فيه إلا من سفحه الجنوبي حيث تنبت بعض النباتات مثل السيكران وغيره وجميع سفوح الجبل صعبة المرتقى غير مخصبة لقلة التربة فيها وفقدان المياه بعد أيام الربيع ولا يبعد أن السفوح القريبة منه كانتفي القديم مغروسة بالحراج والغابات الغبياء إلى الأمكنة التي يساعد هواؤها على الإنبات.
وفي الأطراف الغربية من جبل الشيخ أي بين جبل الشيخ وجبل البقاع الشرقي أودية وتلول يقال لها وادي التيم نسبة إلى تيم الله بن ثعلبة تفله عن وادي الليطاني الأعلى سلسلة تلال تمتد شمالاً إلى عين الجر في البقاع وعلى تلاله قرى عديدة تبلغ خمسة وعشرين قرية ومنها يتألف قضاء حاصبيا وقضاء راشيا أو التيم الأعلى وقاعدته راشيا كلمة سريانية بمعنى الرؤوس والتيم الأسفل وقاعدته حاصبيا كلمة سريانية ومعناها الجرار وإلى اليوم لا تزال آثار معامل الفخار في حاصبيا. ويحد ادي التيم شرقاًوادي العجم وإقليم البلان وشمالاً سهل البقاع وغرباً مرجعيون وجنوباً بلاد الحولة وغرباً جبل الشيخ.
وليس فيما ظفرنا به من كتب السلف إشارة تشعر بمجد سابق لمدينتي حاصبيا وراشيا قبل الحروب الصليبية والغالب أنهما كانتا حصنين فقط لصد هجمات المهاجمين على المدن الداخلية على نحو ما كانت قلاع تبنين وهونين والشقيف والصبيبة وغيرها وباستيلاء أمراء الشهابيين عليهما كثر الكلام بشأنهما في التواريخ الحديثة ففي سنة 557 قام آل شهاب من حوران وكانوا فيها منذ الفتح الإسلامي وأصلهم من الحجاز وزحفوا إلى وادي التيم بزعامة الأمير منقذ وكان نزولهم في بيداء الظهر الأحمر من الكنيسة الجديدة على ساعة ونصف من راشيا الوادي وكانت هذه البلاد تحت استيلاء الإفرنج فردهم آل شهاب واستنقذوها منهم في قصة يطول شرحها وكان المتولي على وادي التيم قبلهم الأمير ظهير الدين كرامة التنوخي صاحب ثغر بيروت فاتت جموع الإفرنج من صيدا وصور وعكا إلى حاصبيا فردهم الشهابيون على أعقابهم مدحورين وطردوا حاكمها الكونت أورا وبسطوا أحكامهم على هذا الوادي ثم اتصلوا بلبنان وتولوا أمره بعد الأمراء من آل معن واستولى الشهابيون على لبنان نحو قرن ونصف وقد تنصر بعض أفراد من أسرتهم ممن حكموا لبنان ولم يزل أعقابهم إلى اليوم مسيحيين أما من بقوا في وادي التيم فظلوا مسلمين ومنهم اليوم طبقة متعلمة تتولى الوظائف في الحكومة ولذلك غلط بيدكر في قوله أن بني شهاب هم من أمراء الدروز ولو كانوا من أمرائهم ما قتلوا في وقائع الشام المشؤومة سنة 1860 في راشيا وحاصبيا بيد الثوار من أشقياء حوران ولبنان أيام قتل 800 من المسيحين في راشيا و 970 من مسيحيي حاصبيا ولو لم ينج يعضهم إلى دار السيدة نائفة شقيقة سعيد بك جنبلاط لهلكوا عن آخرهم وأن معظم من نراهم ساكنين في حارة الميامنة اليوم في حي الميدان بدمشق هم ممن جلوا عن وادي التيم ولا سيما من حاصبيا وراشيا يوم تلك الوقائع المشؤومة ونزلوها وتناسلوا فيها فحسنت حالهم.
أشرنا إلى هذه الوقائع والفظائع إذ لا يسوغ للمؤرخ أن يسكت عن حوادث لها علاقة كبرى بعمران هذه الديار خصوصاً وقد حرقت في تلك الفتنة المشؤومة غابات وادي التيم ولا سيما حاصبيا وراشيا كما أحرقت أشجار جزين وإقليم الخروب من لبنان وجباع من جبل عامل وكان المنكوبون تحصنوا فيها فأشعلت فيها النيران ليهلك من لم يهلك بحد السيف والسنان.
كان وادي التيم من أهم مراكز الدعوة الدرزية ولا يزال إلى اليوم كذلك. وفوق حاصبيا على نصف ساعة منها خلوات البياضة وفيها مجمع هذه الطائفة الديني زرتها فرأيت فيها معبداً في الوسط مفروشاً على نحو ما تفرش الجوامع وبالقرب منه مساكن وقف البياضة ومنها ملك خاص لأربابها يحب أهلها الانقطاع إلى العبادة ومن المنقطعين لهذه الغابة في البياضة أناس من وادي التيم وآخرون من الجبل الأعلى في حلب وجبال صفد وجبال لبنان وجبل حوران كما أن منهم المتزوج ومنهم المجرد وهم على جانب من النسك والتقشف شأن سائر العباد في معظم الأمم على الغالب.
وموقع البياضة جميل يطل على كثير من قرى وادي التيم وترى منه قلعة الشقيف وغيرها من بلاد مرجعيون وجبل عامل والحولة فإذا أوقدت فيها النار شوهدت إلى مكان بعيد. ونحو نصف مكان وادي التيم دروز يحسنون الزراعة وهم على جانب من الأخلاق يتوفرون على أعاملهم ويحسنون عشرة جيرانهم شأن كل من يتعلم من أبناء هذه الطائفة ولا سيما في لبنان. ومن لنا برجالهم أن يهبوا لتعليم أولادهم كما هب أخوانهم المسيحيون من قبل فاستفادوا وأفادوا فإن في أبنائهم من الصفات الحسنة العربية ما لو توفروا على تنميته وتذكيته بالعلم الصحيح لجاء منهم شعب من أرقى الشعوب العثمانية بشجاعته ومضاءه وحسن أدبه وعزة نفسه وسماحته وذكائه وبعض من هذه الصفات مما يفخر به المفاخرون.
وليس في حاصبيا ما يستحق الذكر سوى معدن الحمر الذي كان السلطان المخلوع يستثمره لنفسه وظهرت منه فوائد مادية لأهل هذه الديار وهو اليوم مهمل لقلة اليد العاملة في هذه الديار لأن الناس هاجروا بالألوف منها فاضطرت الحكومة أن تهمل هذا المعدن كما أهملت معدن سحمر في البقاع أيضاً وغيره من المعادن في سورية لم تفكر في استثمارها وقد أضر إهمال الحمر بأرباب الكروم فتصاعدت أثمانه وهو يستعمل كل سنة لتزبيرها وتأبيرها فلحقته الدودة من أجل ذلك وقلت مداخيله.
وقد سمعت أن من قرى ريشيا قرية اسمها بيت لهيا على ثلاثة أرباع الساعة من ريشيا وكنت قرأت في بعض الكتب أن بيت لهيا من أعمال دمشق تضاف إليها كورة تنسب إليها فإذا صحت روايتي تكون بيت لهيا وادي التيم غير بيت لهيا في غوطة دمشق التي ذكرها ياقوت ورد على من قال أن آزر أبا إبراهيم الخليل عليه السلام كان ينحت بها الأصنام ويدفعها إلى إبراهيم ليبيعها فيأتي بها إلى حجر فيكسرها عليه والحجر كان إلى عهد ياقوت بدمشق معروفاً يقال له درب الحجر قال والصحيح أن الخليل عليه السلام ولد بأرض بابل وبها كان آزر يصنع الأنام وفي التوراة أن آزر مات بحران وكان قد خرج من العراق فأقام بحران إلى أن مات ولم يرد في خبر صحيح أنه دخل الشام وللشعراء في بيت لهيا أشعار كثيرة منها قول أحمد بن منبر الاطرابلسي:
سقاها وروى من النيربين ... إلى الغبطتين وحمورية
إلى بيت لهيا إلى برزة ... دلاح مكفكفة الأوعية
والنسبة إليها بتلهي ونسب إليها خلق كثير من أهل الرواية وقال أبو بكر الصنبوري:
أمر بدير مران فاحيا ... واجعل بيت لهوي بيت لهيا
ويبرد غلتي بردى فسقيا ... لأيام على بردى ورعيا
ولي في باب جيرون ظباءٌ ... أعاطيها الهوى طبياً فظبيا
ونعم الدار داريا ففيها ... حلالي العيش حتى صار أريا
سقت دنيا دمشق ليصطفيها ... وليس يريد غير دمشق دنيا
تفيض جداول البلور فيها ... خلال حدائق ينبتن رشيا
مظللة فواكهها بأبهى ال ... مناظر في نواضرها واهيا
فمن تفاحة لم تعد خداً ... ومن رمانة لم تخط ثديا
والظاهر من شعر ابن منير والصنوبري أن بيت لهيا هذه والتي ذكرها الشعراء فأكثروا من ذكرها هي بيا لهيا الغوطة وبيت لهيا وادي التيم ومعنى بيت لهيا بيت الآلهة بالسريانية قال ياقوت بيت لهيا بكسر اللام وسكون الهاء وياء وألف مقصورة كذا يتلفظ به والصحيح بيت الآلهة.
ولم يذكر ياقوت وادي التيم في معجمه بل ذكر يبوس وقال أنها اسم جبل بالشام بوادي التيم من دمشق وإياه عنى عبد الله بن سليم بقوله: لمن الديار بتولع فيبوس.
قلنا وجبل يبوس هو الغالب فيما رواه الزبداني ومنه الآن قرية كفر يبوس وهو المعروف بوادي الحرير ووادي القرن وإلى هنا كان يتصل عمل وادي التيم وكان هذا الوادي في القرن الثامن من معاملة كرك نوح بالبقاع وله إقليم مع ما يضاف إلى الوادي المذكور ثلثمائة وستون قرية تعد من عمل دمشق.
وزراعة وادي التيم ضعيفة وأكثر قراه جميلة على أكمة الأرض وربما كانت نفوسه نحو 25 ألف نسمة فقط أما طرقه فأصعب وأوعر طرق ومياهه فليلة ومتوسطة الجودة بطعمها ونفعها وقد تشح أيام القيظ فيقاسي الأهلون منها شدة وعناء.
هذا وفي اليوم الثالث والعشرين من أيام رحلتنا ركبت ورفيقي دابتين من راشيا فبعد أن اجتزنا سبل عيحا أو مستنقع قرية عيحا دخلنا في وادي بكة وجزناه في ست ساعات إلى التكية إحدى محطات السكة الحديدية بين بيروت ودمشق وبالقرب من هذه المحطة شلال بردى يولدون منه الكهرباء لمدينة الفيحاء ومنها ركبنا القطار عائدين إلى دمشق.
ماذا رأينا في رحلتنا
تحملنا في رحلتنا هذه المشاق المختلفة ما لا نكاد نكابد بعضه لو طفنا قارتي أوربا وأميركا وذلك رجاء أن نعود منها بفائدة نطلع عليها الأمة والحكومة وها قد كتب لنا ذلك بقدر ما سمح الوقت فرأينا أن لا نقصر بحثنا على أحوال البلاد الجغرافية والتاريخية والزراعية بل أن نتعداه إلى البحث إجمالاً في شؤونها الاقتصادية والإدارية.
أول ما يقع عليه النظر ويسر يتحققه الفؤاد انتشار أعلام الأمن في الكور التي جسنا خلالها بعد أن كان السائح يخاطر بروحه وماله لو أحب فيما مضى أن يطوف تلك البلاد. والأمن ولا شك حسنة من حسنات هذه الحكومة الدستورية التي ترجو بالعدل دوامها بالمدينة الراقية أحكامها ونظامها.
بيد أن في هذه الكور قصوراً يلحق الأهلين وقصوراً يعود على الحكومة وأهم ما نطالب به الحكومة بعد الأمن إحقاق الحق في البلدان الصغرى ليذوق الناس طعم الحكومة الحرة حقيقة لأنا لو نظرنا إلى حال الأقضية نراها وحواضر الولايات والألوية سواء من هذا الوجه لا تنقطع شكوى الأهلين فيها. والشكوى طبيعية في الأمم ومنها المحق ومنها دون ذلك.
لا جدال في أن العهد الدستوري قد أدخل في الإدارة شيئاً من روح النظام شعر به في الجندية والشرطة والمالية من فروع الحكومة ولكن سائر الفروع لم تبرح محرومة منه مثال ذلك القضاء والإفتاء في الأقضية فقد طغت سبعة منها أربعة من أعمال ولاية سورية وثلاثة من أعمال ولاية بيروت وأني لأستحي أن أقول أن أرباب هذه الوظائف إلا النادر ممن عصمهم الله حرموا من العلم والمعرفة والنزاهة والعاطفة الوطنية فلا دين لهم إلا أخذ الأموال من غير حلها ولا شريعة إلا التلاعب بالأحكام الدينية والمدنية ولا هدي إلا ما توحيه إليهم عقولهم القاصرة وأني لآسف لمن يجعلون على بساط الشريعة المطهرة ورائدهم الجهل وقلة الأمانة وللصيانة أن يكونوا على نحو ما ذكرت. إذا عرفت هذا فقل معي غير هياب ولا وجل أن المشيخة الإسلامية لم تخرج في توسيد هذه الوظائف الشريفة عن الحد الذي كانت رسمته حكومة الاستبداد المطلقة أي أنها في العهد الدستوري لم تأت على ما تحمد عليه خدمة على الشريعة والقانون.
القاضي أو النائب في الأقضية هو الكل في الكل وربما كانت وظيفته أهم من القائم مقام لأن حكم هذا لا يجوز إلا في الأمور الإدارية والسياسية أما الأول فأحكامه تتناول الأحكام المختلفة فإن كان ممن قلَّت تربيته ورق دينه والسواد الأعظم كذلك أتت أحكامه متناقضة مرذولة فاسدة حشوها الدرهم والدينار وسداها ولحمتها تلوث الذمة وتلون القلب وإلا وهو النادر كان داعية من دعاة الإصلاح ومثالاً من الكفاءة تشفعها الأخلاق الطاهرة.
والسبب في هذا الهزل المضني الذي أصاب حكام الشريعة في هذه المملكة أنه أتت أدوار كان ينظر إلى المناظر الخارجية في تولية القضاة لا إلى كفاءاتهم الشخصية فلم يتأهل أكثرهم لها بالعمل ولم يخضعوا لنظام كما خضع سلك القائم مقامين مثلاً ولذا ترى في نفوس أكثر هؤلاء عفة وغيرة ما لا ترى بعضه فيما انطوت عليه جوانح أولئك الذين أنبتوا نباتاً طبيعياً ونالوا حق التصدر بالرشى والمحاباة وارتكاب ما تنكره الفضيلة وتأباه أصول الحكومات الراقية.
كان أحد كبار المصلحين في مصر يقون أن الإصلاح الديني في الشرق أول كل إصلاح.
وما الإصلاح الديني في الحقيقة إلا إصلاح عقول القائمين بالدين كالقضاة والمفاتي والحكام ولذلك كان من أهم الأعمال التي تمت في مصر على عهد نهضتها الأخيرة إنشاء مدرسة القضاء الشرعي حتى ر يقل القضاة الشرعيون في علمهم ومداركهم عن القضاة النظاميين ويتعب الأولون في إعداد نفوسهم وملكاتهم كما تعب الآخرون ويخلص الإسلام من الوصمات التي صمه بها الجاهلون به ليوقنوا أن الضعف أتى من المسلمين لا من الإسلام.
أما سائر موظفي الإدارة في الأقضية فيرجعون على الجملة إلى شيء من النظام وأن كان يندر فيهم العفيف النزيه بحيث لا تكاد تعد صالحاً واحداً منهم في كل عشرة صالحين ويكثر استهتار أحدهم ويقل حسب ذكائه وشجاعته فإن كان على شيء منها وله من يحيمه في حاضرة الولاية أو عاصمة السلطنة من كبار الموظفين أغرق في أخذ نفسه به أي إغراق لأن حاميه يدفع عنه أذى أعاديه وإلا لاذ بالتقية واعتصم بالمراوغة والمصانعة والدهان لمن فوقه في المرتبة.
هذا إجمال من حال حكومات الأقضية وإصلاحها منوط في الأكثر بتعيين متصرفين وولاة ممن خبروا أمور الإدارة بأنفسهم سنين طويلة وكانوا على جانب من العلم وحسن السياسة يحسنون لغة البلاد ويعرفون طبائعها حتى لا يكونوا آلة بأيدي فئة مخصوصة من الناس لا يكتبون إلا ما يملون عليهم ولا يعارضون إلا فيما لهم فيه مأرب خاص. ومتى أدرَّت الحكومة على الموظف الصغير رابتاً يكون على حد الكفاية وسألته عن عمله وراقبته في حركاته وسكناته فقل أن نظامنا الإداري دخله الإصلاح الحقيقي والافنيقي نرسف قيود الذل ونخبط على غير هدى.
كل من يتجول في داخلية البلاد يرى عياناً رداءة الطرق وقلة أعمال العمران ولولا قليل من الهندسة دخلت في بناء الدور والمساكن والقرميد اللطيف الذي يزين سطوحها لأقسم من يرى تأخر هذه البلاد وما حنث بأنها لم ترتق درجة واحدة في هذا القرن عن القرون الخوالي وأنها كانت قبل ألف وألفي سنة أوسع عمراناً وأكثر سكاناً مما هي اليوم.
إلى الآن لا تجد طريقاً معبدة حتى بين البلدان المهمة فإذا كان الطريق الآخذ من بيروت فصيدا فصور فصيدا فالنبطية فمرجعيون لم يزل مشعثاً متداعياً بعد أن صرف على رصفه بضع عشرات من ألوف الليرات فما هو الحال بطريق مرجعيون حاصبيا راشيا فطنا دمشق وطريق دمشق القنيطرة بانياس وهي لم يصرف عليها شيء وبقيت لا تصلح لمرور المواشي دع عنك الإنسان.
وبعد فإن كنا لم نرصف طرقنا إلى اليوم فأي أعمال أخرى ترجى أن نقوم بها مثل جر المياه من المحال البعيدة لسقيا الأرضين وشفاه الأهلين أو خزنها في خزانات أو تجفيف البحيرات والمستنقعات مثل بطيحة سهل عيحا قرب ريشيا الوادي البالغة مساحتها نحو أربعة آلاف دونم وبطيحة دير العشاير في وادي التيم أيضاً وبطيحة الحولة ومستنقعات الجولان مما يؤذي صحة السكان ويؤخر عمران الأرضين والبلدان.
ثم أين يد الحكومة في إنهاض الزراعة من كبوتها بإعطائها الأهلين السكك والأدوات الزراعية والبذور والغراس التي تصلح وتجود في هذه الديار الطيبة بل أين يد الحكومة تعمل على الأقل بما فيه حفظ الحالة الحاضرة حتى لا تزيد البلاد خراباً فوق خرابها وأن العين لتنبو عن النظر إلى جبالنا وآكامنا الجرداء بعد أن علمنا أنها كانت شجراء خضراء إلى ما قبل عشرات من السنين وإذا دمنا نوسعها القلع والقطع والحرق والشق فاقرأ على حراجنا السلام الأخير بعد بضعة أعوام.
بلاد تكفي لإعالة الملايين من البشر وتضيق عن عيش الألوف فمتى نعقل فنعمرها حتى نقوم حاجزاً حصيناً في وجوه من يهاجرون من السوريين إلى سائر قارات الأرض ولا سيما إلى أميركا الشمالية والجنوبية.
كنا نظن أن الهجرة لم تتناول سوى لبنان وما اتصل به من الجبال لأن الجبليين أقوى من غيرهم على تحمل المشاق وفطم النفس عن الراحة والرفاهية ولأن بلادهم قاحلة لا تخرج لهم على الجملة أكثر مما تخرج ولكن الأمر على عكس هذا لأن سكان السهول أيضاً مما يسهل عليهم الارتزاق من أراضيهم وقد غادرونا إلى ارض المهجر في طلب الرزق كانت الهجرة مقصورة على المسيحيين أولاً فتعدت إلى المسلمين سنييهم وشيعيهم وإلى الإسرائيليين والدروز والنصيرية والإسماعيلية وكانت لا تتخطى لبنان الغربي ولبنان الشرقي فها قد امتدت اليوم حتى أخذت تستلب من سورية حتى سكان المدن المرفهين منها مثل أهل دمشق وحلب وبيروت وطرابلس وصيدا والقدس وتساوي أبناء هذا الوطن الواحد في مغادرة مساقط رؤوسهم إلى أصقاع اعتنى فيها أفراد ولم يزل عشرات الألوف في فقر وفاقة.
يهاجرون كل يوم بالعشرات حتى كادت بعض الأقاليم تخلو من شبانها كلهم فما هذا البوق الذي نفخ في سورية من غربيها إلى شرقيها ومن شماليها إلى جنوبيها حتى أسمع الصم فكاد عدد المهاجرين من أبنائنا يربو على ثلث مليون من الشبان العاملين وظل البنات عوانس في بيوت آبائهن والنساء معطلات عن التناسل حتى نشأت من ذلك مفاسد في الأخلاق لا توازيها الأرباح مهما كثرت والأمجاد مهما استطالت وربت.
قلت اليد العملة بقلة الشبان في هذه الأقاليم حتى بقيت بعض الأراضي بائرة معطلة لقلة من يقوم على تعهدها وتعذر على أرباب الأملاك أن يجدوا عملة لأعمال الزراعة ولو أغلوا لهم الأجور. وأن أجرة البناء في وادي التيم لتبلغ الريالين ولا تجد بناء لا يعمل وأجرة العامل البسيط ثلاث أرباع الريال وقلما تحصل على القدر الذي تريده من أمثاله وأجرة فاعل الحراث مع الفدان ريال ونصف وقد لا تجده ولم يكتف الناس هنا ببوار أرضهم بل أن بعضهم في الحولة قلعوا بالألوف غراس التوت الجيد لأنهم لا يظفرون أيام مواسم الحرير بالقدر اللازم من اليد العاملة التي تقوم عليها وآثروا أن يزرعوا أراضيهم ما أمكن من القمح والشعير على غلات الحرير.
كل هذا يجري في البلاد والحكومة لا تفكر في طريقة ناجعة تدفع عنها عوادي الهجرة التي كادت تسلب منها الروح. وأن هذا القطر الشامي الذي لا يزيد نفوسه على ثلاثة ملايين ونصف ليعز عليه أن يفارقه نحو عشر سكانه الأقوياء ولا يأتيه من المهاجرين إلا الخاملون الذين قد تعطيهم الحكومة أرضاً فيبيعونها وسكة ومحراثاً فيتخلون عنها بثمن بخس وبذاراً فيأكلونه ثم تراهم يتسولون وبنيهم في شوارع البلاد مؤثرين الراحة مع الذل الشديد على العناء مع العز الأكيد.
وقد لاحظنا في سياحتنا أن كل قرية أو بلدة ليس فيها ولو بضعة من المسيحيين تكون إلى الخمول والخراب أكثر من القرى التي يكثر فيها أناس من غير المسلمين وذلك لأن جمهور المسلمين اتكلوا في الماضي على الحومة لتعلمهم وتربيهم فما استفادوا وهيهات أن يفلح قوم يعقدون رجاءهم بمن يكيفون المعارف بحسب أهوائهم ولكن المسيحيين نشطوا من عقالهم بعد حاثة الستين فتعلم أرثوذكسيهم في المدارس الروسية واليونانية وبابويهم في مدارس الفرنسيس والطليان وبرتستانتيهم في مدارس الإنكليز والأميركان والألمان وهكذا حتى جاء منهم جيل راق في الجملة ارتفع عن مستوى الجيل الآخر مسلماً كان أو درزياً أو نصيرياً أو إسماعيلياً.
ومن الأسف أن القرية التي يبلغ سكانها المسلمون ألفاً لا تجد لأبنائهم مدرسة والقرية التي لا يتجاوز سكانها المئة مسيحي تشهد لهم مدرسة ومدرستين كما لا تشهد للأولين جامعاً ولا مصلى وللآخرين الكنيسة والكنيستين ثم تجد التجارة بأيدي المسيحيين يزيد غناهم كل يوم يتعاضهم ومضائهم ويزيد أخوانهم المسلمون كل يوم فقراً بتفاشلهم وتكاسلهم.
نقول هذا ونحن على مثال اليقين بأن هذا القطر كسائر أقطار العالم لا ينهض إلا بنهوض السواد الأعظم من أهله وهم هنا من المسلمين وإن من أكبر دواعي الأسف أن يرحل عن هذا القطر أكثر أبنائه تعلماً ومضاءً وهم المسيحيون ولو رجعوا ورجع سائر مواطنيهم على اختلاف مذاهبهم إلى هذه الديار لعمروها وأحيوها واضطروا الحكومة بعلمهم ومطالبتهم المشروعة أن تعمر لهم الطرق وتعطيهم الامتيازات بالمشروعات العمرانية التي تعود عليهم وعلى البلاد بالخير والنماء ويكفي بأنها تخلصها من وطأة الأجنبي والدخيل فإن الكثرة قوة وكثرة العيال إحدى اليسارين.