مجلة المقتبس/العدد 67/نفس المرأة

مجلة المقتبس/العدد 67/نفس المرأة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1911



انصرفت أفكار الباحثين إلى درس طبائع المرأة ومميزاتها الجنسية وخلائقها الخاصة على أثر ما كان من نهوض المرأة لمباراة الرجل في ميدان الاقتصاد وتشوقها بعد ذلك إلى مشاركته في الحقوق السياسية فتوفر على هذا البحث جماعة من العلماء الأعلام عنوا بتمحيصه وتجريده مما لصق به من خرافات الأقدمين وأوهامهم جارين على أسلوب علمي لا يدع مجالاً للظن والشبهات العالقة بآراء الأقدمين والسادلة على الحقيقة ستاراً من الغلو ينهض بالمرأة إلى مستوى الملائكة أو يحطها إلى دركات الجحيم ومن الغريب أننا لا نجد باحثاً تصدى للموضوع إلا زعم أنه بين حقيقة المرأة وكشف عن أسرار نفسها على أن معظمهم جهلوا طبائعها الأصيلة وخواصها المميزة فجاءت أبحاثهم مهزعة فاسدة المقدمات والنتائج ولم يفرق بعضهم بين صفاتها الخلقية وبين الصفات العارضة التي اكتسبتها في أحوال خاصة.

وربما اتفق العلماء أن رأوا المرأة في حال الضعف أو الخوف أو الاحتيال أو الرياء فزعموا أن هذه الصفات من طبائعها الخلقية وانتقلت هذه المزاعم إلى الأخلاف في الأجيال المتوالية فهي لا تزال تستنكف أو تعجب اليوم بطبائع في المرأة أتت عليها سنة النشوء والارتقاء فبدلتها أو محتها. ولقد مرت على المرأة عصور وهي بعيدة عن الحياة الفكرية والعملية تراد على الطاعة العمياء لوليها فكانت أشبه بالأطفال غير أن الزمان تغير والمرأة تبدلت وبقي معظم علماء النفس واقفين عند الآراء القديمة يحسبونها رقيقة غاية حياتها خدمة الرجل.

تملصت المرأة من آثار الجمود وشاركت الرجل في الحياة العملية وتركت في زوايا القرون صفاتها القديمة وتخلقت بأخلاق جديدة فلا تصح فيها آراء المغالين في اعتبارها ولا المغرقين في امتهانها.

ولا بد للباحث أن يتساءل هل للمرأة صفات نفسية خاصة بها تميزها عن الرجل وما هي تلك الصفات الجنسية التي لا يؤثر فيها مركزها الاقتصادي والاجتماعي؟

يقول علماء الحياة باختلافات جوهرية بين الخليتين اللتين تولد الحياة من انضمامهما وأن شروط الحياة متوفرة في الخلية المذكرة أما الأنثوية فهي هادئة شديدة الاحتفاظ بقوتها العضوية وهذه الصفات تبدو آثارها في الأحياء وكلما ارتقى الجنس البشري كانت الخواص الجنسية أوضح أثراً تركيب المرأة وطبائعها تميل بها إلى السكون والدعة والراحة بينما نرى الرجل جلداً على مشاق الحياة يتحشم الأخطار ويخوض غمار الجهاد ويرى كل ما حوله يدفعه إلى المناجزة والإقدام.

وإذا سلمنا بآراء علماء الحياة والنفس اتضح لنا سبب تخلق المرأة بأخلاقها الخاصة وإشغالها في المجتمع مركزها الخاص فللرجل الحرب والجهاد والمغامرة والنشاط والحزم وللمرأة اللطف والصبر والهدوء إلا أنها تشتد في بعض الأحيان فتفوق الرجل حزماً ومضاءٍ وقد يوقد الرجل نار الثورة فتسعى إلى إخمادها وتهدئة روعه ويحملها ميلها إلى السكون النفسي إلى الاعتصام بحبل الدين وهي أقل إقداماً على الجرائم من الرجل لما تتطلبه من تضحية القوى الجسدية والعقلية ويزعم علماء النفس أن المرأة ضعيفة المدارك مما يحملها الاستسلام لعواطفها فهي غريبة عن الحرب والعلم والفنون وسنرى فيما يلي فساد مزاعمهم في هذا الصدد.

سار علماء النفس والحياة على أسلوب واحد في أبحاثهم فأدت بهم إلى نتائج متشابهة فقالوا أن المرأة اليوم هي ذات المرأة في القرون السالفة ويتبين لك خطل آرائهم من عرضها على أحوال الحياة الحقيقية وإذا تتبعنا ارتقاء العالم الحيواني وضحت لنا المناقضة بين آراء الباحثين في المرأة وبين حالتها الحاضرة على أنم أشكالها.

المرأة المحاربة -. لنتقدم إلى البحث في إحدى صفات المرأة التي قالوا بها من الجبن وصغر النفس ونتخذ هذه الصفة أساساً لمبحثنا فقد أجمعت آراؤهم على أن المرأة لا تصلح للقتال والذود عن الوطن فلما ارتفع صوت النساء المطالبات بالحقوق دافعها المنكرون عليها بقولهم إنها لا تستطيع مشاركة الرجل في الحرب والذب عن حياض الوطن على أنَّا إذا أنعمنا النظر وجدنا هذه الصفة عارضة لا جوهرية وليست هي من صفاتها الخلقية التي لا تتغير فنساء الحبش يقاتلن مع أزواجهن جنباً إلى جنب راكبات على الجمال أو الخيل ومتقلدات سلاح الرجال ولا ينقصن عنهم شجاعة وإقداماً وصبراً على المشقات ويقول الرحالون إن النساء يتدربن على فنون القتال فينشأن شديدات القوى وقد أكسبتهن ممارسة الحروب بطشاً لا يتصف به سوى شجعان المقاتلة.

ويقول تاسيت إن جيوش البربتونيين القدماء كانت تزحف إلى القتال والنساء في طليعتها ويقول مومسن بمثل ذلك عن الإيبريين فقد كانت نساؤهم يفتتحن الحصون ويقتلن زرافات في الهجوم.

وأكد جماعة من السياح أن النساء الأمازونيات القاطنات على ضفاف نهر الأمازون يشاركن الرجال في القتال ويغتذين بلحم البشر ويقص آخرون مثل ذلك عن نساء المركيتس والكواي موراس.

وذكر ارفن أن نساء الانتيل يتمرسن بالفنون الحربية حتى يضارعن الرجال ولقد قاسى كولمبس الأمرين من بأس نساء الأمازون الهنديات وفي أميركا الجنوبية يتناقلون أخبار كثيرة عن وجود النساء المحاربات.

وشاهد الرحالة تاتلي مقاتلة النساء في بلاط متزا ملك الأوغندا فعنده نساء من الأمازون يتقلدون الحراب الطويلة وتزحف نساء الغواتوتو الأفريقيات مع الرجال في الحرب.

وفي الداهومي جيش من الأمازونيات مؤلف من صنفين أحدهما الصنف العامل وعدده ثلاثة آلاف والآخر المستحفظ يدعى في ابان الحاجة ويخضعن لنظامات حربية شديدة ويتمردن احتمال الجوع والعطش وغيرها من المشاق ويجبرون على مقاساة الآلام صابرات ويتميزن بالشجاعة والبأس فإذا أشار إليهن اقتحمن الأخطار وخضن الغمرات وقد شاهد أحد رؤساء المبشرين سنة 1861 مشهداً ملأه دهشة وإعجاباً فقد أمر الملك النساء الأمازونيات أن يقتحمن حواجز علوها متران وعرضها ستة أمتار وكانت الحواجز من النباتات الشائكة يؤلم لسعها فتهشمت سوق المقاتلات العارية غير أنهن ثبتن أي ثبات فتقدمت الفرقة الأولى وما زالت تجيد حتى أعيت فوقفن منهوكات يائسات ولكن الملك صاح بهن ونظر إليهن نظرة دفعت فيهن تياراً كهربائياً فعاودن الهجوم ببسالة نادرة حتى ظفرن بما أردن.

وعند هياج البولونيين سنة 1863 تزيت نساؤهم بزي الرجال وأبلين في المعارك بلاء حسناً فأصبحت شجاعتهن مضرب المثل وسارت بأحاديثهن الركبان وتفردت منهن الآنسة بوستافويثو بالبأس والجلد حتى أصبح لها مجد حربي لا يقل عن مجد أعاظم الرجال.

إن صيد الحيوانات الكاسرة ليس أقل خطراً من خوض المعارك ونساء التتر الصينيات يصحبن أزواجهن في صيدها ونساء الروس والبولونيين يشاركن بعولتهن في صيد الدببة والذئاب والخنازير البرية غير عابئات بما في ذلك من المهالك.

ولا يسع الباحثين بعد ذلك إلا أن يسلموا معنا باستطاعة النساء القتال ولا سيما في الحروب الحاضرة وقد أصبح معظم الاعتماد فيها على الحذر والتيقظ والحكمة ففي وسع المرأة أن تشارك الرجل في الدفاع الوطني ولا تقل عنه جلداً وإقداماً لولا أن ذلك يعوقها عن واجباتها المنزلية وإنجاز وظيفة الأم.

قابلية الانفعال بين الجنسين -. كتبت ألوف من الجلدات في بسيكولوجية المرأة تراوحت بين الإغراق في تعظيم الشهيدة الأبدية وامتهان عدوة الرجل القديمة ولم ينتبه مؤلفوها أنهم رسموا خطوطاً لصورة المرأة في عصرٍ أو عصورٍ سالفة وأغفلوا وصف امرأة اليوم والغد فرماها بعضهم بكل شائنة وقال الآخر أنها أدق إحساساً وأرق شعوراً من الرجل وممن ذهب هذا المذهب الفيلسوف أوغست كونت فقال: تؤثر المؤثرات الطبيعية في المرأة بسهولة وشدة وقد برهن على ذلك علمنا نفر من الكتاب وترى انفعالها واضحاً في جميع الصروف فإنها تقطب جبينها وتغضب وتحتقر ويؤلمها الاضطراب وتنقاد لعواطفها فهي في ذلك أقرب إلى الطفل منها إلى الرجل وسرعة التأثر في المرأة تجعلها طوراً أرق وطوراً أقسى من الرجل ثم أن الفواعل يزول أثرها عن نفسه لأنه عرضة لمختلفاتها فالحزن يعقب السرور والبشر يتلو الأسى كما تتوالى السحب في السماء ولكن طبيعة المرأة الساكتة إذا لامستها الفواعل تركت فيها أثراً يصعب زواله فترى عواطف الحب والبغض والرحمة والقسوة أرسخ في المرأة مما في الرجل.

على أننا نرى الرجل في بعض أطواره لا يقل عن المرأة في الاستسلام للعواطف ويرجع ذلك إلى أحوال البيئة والأخلاق الشخصية لا الجنسية.

الحب ريحان حياة الرجل غير أنه حياة المرأة ذاتها ولكن ألا تفعل العواطف في الرجل فعلها في المرأة؟ قال لاكوردير في كتاب بعث به إلى إحدى صديقاته: يخطئ مني قول أن الرجل يعيش بالعقل والمرأة بالعواطف فالرجال يجبون أيضاً بالعواطف إلا أنها راقية تنزل لديكن منزلة العقل.

وبعض علماء النفس ينكرون على المرأة هذه المزية ويعزون إليها نقصاً بيناً في شواعرها كافة ويصفونها بتطرف يسير إلى قمة المجد أو يهبط بها إلى دركات الشنار فهي مفرطة في الحالين والأنانية والغيرية على أشدهما عند المرأة لأن فطرتها الثائرة ترمي بها إلى الغايتين المتناقضتين.

وخالف هؤلاء نفراً ادعوا أنها ولعة بالاعتدال محمولة عليه بما لها من سكون الطبع ثابتة في أعمالها وأفكارها تقاوم الفواعل التي ربما أخرجتها عن بيئتها فقضاتها الأولون ينكرون عليها حق الحكم لأنها تطاوع في ذلك عواطفها وحماستها الخرقاء.

ويوافقهم الآخرون على هذا الرأي مستندين في ذلك على مقدمات أخرى فهم يقولون أن إخلاد المرأة للسكون يبطل كل ارتقاء اجتماعي.

تلك هي آراؤهم المختلفة باختلاف وجهة النظر تنبئك أن هذه الخواص ليست جنسية وإنما هي شخصية وإذا عاش الرجل في بيئة تشبه بيئة المرأة لا يلبث أن يتخلق بهذه الأخلاق لأن قابلية التأثر لا حد لها وهذه الصفات إنما هي نتيجة أحوال المحيط.

ذكر هربرت سبنسر أن المرأة تفوق الرجل قسوة في البلاد التي يمثل أهلوها بالأسرى وقبيلة الداكوتاس تدفع الشيخ إلى النساء يتلذذن بتعذيبه ويقول ماكسيم دي كاسب أن النساء أثناء ثورة الكومون فقن الرجال فظاعة وشراسة.

ومع عتاطفة القسوة يتلألأ الحنان الأنثوي فقد عطفت نساء البرابرة على الرحالين وأظهرن لهم ضروب اللطف والرقة واتفق على ذلك مشاهير الجوابين كستانلي ولفنستون وغيرهما.

والباحث المنصف يجد للنساء مواقف مشهودة في الأخطار وعوارف محمودة في تسكين ثورة الرجل فدخول بعضهن في صفوف الثوار لا ينسينا بنات جنسهن ممن يعين السكينة في النفوس فحفظ لهن التاريخ صفحات مجيدة.

المرأة والديانة -. رقة شعور المرأة جعلتها متدينة في جميع العصور والشعوب وهي أسرع تلبية لدعاة المذاهب فيجد هؤلاء بين النساء مؤمنات مخلصات كان لهن في ثبات الديانات ونشرها تأثير شديد.

خضوع المرأة المستديم لسلطة الرجل سهل عليها الاعتقاد بعناية إلهية غامضة فهي لا تزال تقارع أنواع المشاق في الماس مصدر الرحمة الأزلي وينبوع السلام الأبدي وأدى بها ذلك إلى الاعتقاد بتفوق كل من يسودها وكيف لا تعتقد بإله أعلى وهي تتوقع منه المكافأة عل ما تتجسمه من المصاعب في هذا العالم فهي مسوقة إلى التدين لا عن ميل فقط بل عن حاجة وتربيتها الاتكالية زادتها اعتصاماً بالإيمان لأنه يقول بإله قادر يحييها ويرعاها.

وهي لا تشعر بخوف الله فقط بل تشغف بحبه وتبتهل إليه في النوازل الشداد فيخترق الظلمات المطيفة بها نور رجاء ينضر به عيشها وكلما قلت مطالبها في الحياة زادت استمساكاً بحبل الدين وكثيراً ما تنتابها اضطرابات دينية تذهل صوابها.

ولا يجوز لنا الإغضاء عن أن الرجل هوة الذي أوجد في المرأة تلك الفطرة ودعا إلى الدين فأجابته مذعنة شأنها في الخضوع لما تعتقد به العظمة والتفوق من أفواه الإخبار مبادئ وتستعذب سلطته لأنه يمنحها غبطة دائمة ويمني آمالها بحياة مستقيلة تمحو جميع آلامها الحاضرة فلم يخطر لها قط أن ترغب عن ذلك الجمال الفتان والأمل المتلألئ.

وعلينا أن نفرق بين الديانة والتدين فشعور الرجل بالدين يختلف عن شعور المرأة بذلك الدين وبين التقي والتقية والأخ والأخت أتباع المذهب الواحد اختلاف جنسي في الإيمان وتلازم العجائز المعابد واجدات في الصلاة غبطة ونعيماً وهن في ذلك أقرب إلى الرجال الطاعنين في السن منهن إلى أخواتهن في ريعان الصبا وكلما تعمق الباحثون في درس هذه العاطفة عند المرأة وجدوها منبعثة عن المركز الذي تشغله في المجتمع الحاضر فهي أقوى استمساكاً بحبل الدين وأشد خضوعاً للعقائد والأفكار. صفات للمرأة أفادتها إياها حالتها الاجتماعية والأدبية وتلك العاطفة الدينية ليست سوى نتيجة أعمال الرجل في ألوف من السنين.

هل المرأة أرقى شعوراً من الرجل -. منذ خمسين سنة قام جدال بين علماء النفس على انحطاط إحساس المرأة فذهب لومبروزو وتلامذته إلى ضعف شعورها وخالفه في رأيه مانتكيزا ومن تابعه وينطوي في هذين المبدأين العامين نظريات ثانوية لا تكاد تحصى وإنما تنشا عن اقتصار الباحثين على بعض الموضوعات المحدودة وأوسع مجال الاختلاف أن التجارب أنجزت في ممالك مختلفة ومما لا ريب فيه أن للبيئة وطراز المعيشة تأثيراً في الشعور فالبرابرة أقل شعوراً بالألم من المتمدنين وهؤلاء متفاوتون أيضاً في شعورهم فإن أبناء الطبقات العالية المترفين ممن ألفوا الرفاهية أناقة العيش يشعرون بالألم فوق شعور المزارعين ومتى علمنا ذلك لم يسعنا أن نعزو التفاوت في الشعور إلى الجنسية بل إلى أحوال الحياة التي تفرق بين الجنسين.

قلنا أن بين العلماء اختلافاً كبيراً على ارتقاء حواس المرأة وانحطاطها وقد استشهد القائلون بانحطاطها على زعمهم بأنها لا تستطيع التمييز بين أنواع الخمور المختلفة وذلك يشير إلى ضعف حاسة الذوق ويقولون مثل هذا في سائر حواسها فيفند المعارضون حججهم قائلين إنما أعجز المرأة التمييز بين صنوف الخمر لأنها لا تدمنها كالرجال والمدمنات منهن يضارعن في ذلك أرقى الرجال.

أما شدة إحساسها بالألم فيفسر كثرة الآلام التي تنتابها ويقول مانتكيزا أن شعورها به أضعاف شعور الرجل ويذهب سرجا إلى ما يناقض ذلك فيقول أن المرأة سريعة الانفعال كالطفل فتذري العبرات عند أقل طارئ وتبدو عل منحياها علائم الألم غير أن مظاهر الألم ليست هي ذاته وللتربية ونسق الحياة شأن خطير في الشعور فإن النساء الكثيرات الامتزاج بالرجال اللواتي يمارسن حياة العمل يصبح دمعهن عصياً فيجلدن على احتمال المصائب والأوجاع ويتصلبن على لقاء الخطوب ويقول لومبروزو إن ضعف حواس المرأة نعمة كبرى على المجتمع إذ يسهل عليهن تحمل آلام الحمل والوضع.

سبب الانفعال -. نعود في ذلك إلى آراء الفسيولوجيين فقد برهنوا أن لنسق معيشة المرأة أثراً في جسمها ونفسها لأن حياتها المنزلية واقتصارها على إنجاز الواجبات العائلية قلل من مناعة جسمها وخفض من مضائها ونشاطها وقال بان تنمو العواطف الرقيقة حيث يضعف النشاط على أن سرعة الانفعال لا تعود إلى تركيبها العضلي بل تعزى إلى فقر الدم الناشئ عن قلة التمرين فالنساء العاملات أقل تعرضاً للانفعالات التي تنكد عيش غيرهن من النساء وقد قال أحد الباحثين أن امرأة العصور القديمة تختلف كل الاختلاف عن امرأة اليوم.

ولا ريب في أن دخول النساء في الحياة العامة وأساليب تهذيبهن التي تبدلت كان لها أشد أثر عل حياتهن المعنوية فكلما تحكمت المرأة بالرجل فقدت صفاتها الأنثوية فهل يأتي يوم تضمحل فيه خواصها المميزة؟ إن ذلك بعيد الاحتمال.

استبحار العمران وانتشار التمدن يخففان من ألم المرأة الناتج عن الأمومة فهل يرجى أن يقويا على هاتيك الأوجاع حتى يلاشياها؟ والذي نراه أن الأمومة كان وسيكون لها إلى الأبد شأن.

الحب والجمال المعنوي -. إن ما تخسره المرأة مادياً تربحه معنوياً وهذه الأمومة تكبدها آلام لا تطاق إلا أنها تحبوها أرقى الصفات التي يمتاز بها الجنس البشري وهي الحب والحنان فالمرأة في سهرها الدائم على طفلها وعنايتها به يرتقي شعورها بالمحبة والعطف.

وفي حب الأمهات تسطع أسمى عاطفة في الوجود ويزدهر رجاء لا حد له لقربه عين الإنسانية وينفجر ينبوع هذا الحب في كل مكان فيرسم على كياننا آثاراً لا تمحى. ولا يضمحل حب المرأة إلا بانقراض آخر رجل فارتباطها بوجودنا يحملها على حفظ العهود وصيانة المواثيق ويحق للمرأة أن تفاخر بوظيفتها الاجتماعية فإن الأمومة هي مصدر الفضائل والمحبة الغيرية التي يحيا بها المجتمع الإنساني وهذا الحب الشديد الذي يفصل بينها وبين الرجل ليس إلا ليبوأها في الحياة الاجتماعية مكانة أسمى من مكانته إذا أعيا تكافل الجنسين دون مساواتهما في العظمة واشتراكهما في مقاساة الآلام.

كذب المرأة -. تنمو على شجرة حياء المرأة في أحوالها المختلفة فروع تخيل للرائي أنها المميزات الفارقة بين الجنسين وكثيراً ما يمر بها المفكرون غير محتفلين بالأسباب الطارئة التي جعلت بعضها نضيراً زاهراً يستهوي العيون مرآه والآخر ذاوياً جافاً ينبو عنه البصر على أننا إذا بدلنا بيئة الشجرة تلاشت الفروع الذابلة ولو أحاطت بالمرأة صروف الرجل لكان لها فضائله ورذائله.

وما وجدنا أعجز من رأي من يأخذ على المرأة اعتلاقها بأسباب الرياء وهي سلاح الضعفاء في النزاع الحيوي ولا بد لنا من كلام يزيد القضية وضوحاً ونحن نرى علماء النفس على اتفاق في هذا الحكم الذي يشمل المجتمعات الإنسانية من أرقاها إلى أدناها فإذا قضي على الضعيف أن ينازع القوي مال إلى المراوغة والكذب وذلك شأن المرأة فكلما تحرج موقفها لجأت إلى الإفك والبهتان ذوداً عن نفسها ويقول سبنسر: إن الكذب يرافق كل حالة اجتماعية قائمة على دعامتي القوة والخوف قوة السائدين وخوف المسودين قوة واقتداراً غير أن الفلاسفة والمتشرعين وعلماء النفس والشعراء والقصصين أغضوا عن مصدر الشر وجعلوا الكذب صفة غريزية في المرأة ومشى على هذا المذهب الشارعون فحرموا المرأة حق الشهادة زاعمين أنها أقل صدقاً من الرجل فأدى ذلك إلى استطرادها في هذا السبيل وما كان ذلك إلا ليزيد تعاسة الرجل فشقاؤه ورياؤها متلازمان والآلام التي يكبدها إياها تفسد نظام حياته العائلية فالمرأة عنصر ينحل في حياة الرجل وفي وسعه أن يظهر ذلك العنصر أو يفسده.

نفث في روعها على أنه لم تخلق إلا لإرضائه فتوسلت إلى هذه الغاية بوسائل مهلكة واضطرت أن تتصنع بتستر الطوارئ التي تلم بها فتذهب بروعة جمالها ومالت إلى استغوائه فتزينت وتبرجت وتخيرت جملاً عذبة تسردها من غير شعور وزاغ بها هذا التصنع عن طبيعتها وأكسبها صفات مستنكرة حتى سهل عليها بتوالي الأزمان كتم عواطفها والتظاهر بما لا تحس به فأصبحت تصرخ إذا مستها شوكة وتتمالك ذا استغرق الألم وجودها والتمست من الرجل أن يحميها لأنها رأته يميل إلى المرأة الضعيفة.

ثم أضعفت فيها ملكة النقد والتمييز بإهمال تثقيفها فأصبحت تنظر إلى المحسوسات نظراً مزوَّراً وتفسرها على غير حقيقتها ولم يشعر الرجل إلا والمرأة قد تبدلت فبات ينكر الصفات التي أفادها إياها وما زال الإفك يعبث كل العبث في المجتمع حتى أصبح دعامة الحياة العامة.

كذب الرجل -. لا ننكر أن المرأة أشد رياء من الرجل غير أنه ليس بفاقد هذه الصفة وإنما الفرق في الكمية لا في الكيفية وقد تكذب المرأة وتداجي فلا تجر مداجاتها على الهيئة الاجتماعية ما يجره بهتان الرجل من الويلات فمما يسمم وجودنا من الشواعر الكاذبة ويباعد بيننا وبين الغبطة يظهر لا بين الأفراد فقط بل بين الأجناس والشعوب وما السلم المسلح سوى أكذوبة هائلة نفذت إلى جميع الضمائر فمن التهذيب العام والخاص وعلاقات الطبقات الاجتماعية ومبادئ الحكومات والعدل وتحديد حقوق الوطنيين وواجباتهم تتولد تلك الآفة الهائلة فتفسد البيئة التي نعيش فيها وهذه العواطف غدت وسيلة الخداع والوطنية مدرجة المنافع الذاتية والتزوير عنصراً جوهرياً للحياة فالسلطة الفردية تستعين بالقول أن حق الملك من حق الله والديمقراطيون ينادون بوجوب المساواة وكلا الفريقين نازع إلى القبض على السلطة ولم يكتف مدعو الزعامة بإدخال السم في الحياة العامة حتى جاهروا بذلك غير خجلين وقد افترت الإنسانية على الديانات والأدبيات فبينا ترى التعاليم الدينية تقضي علينا بمحبة القريب نجد المتدينين يتنازعون ويتقارعون والشعوب تتطاحن في مضمار الجهاد.

والصنائع من أرقاها إلى أدناها مدعومة بالإفك والتزوير وهؤلاء السياسيون يأتون ضروب الغش والرياء ويرتقون المناصب على سلم من المواعيد التي يستحيل تحقيقها وكلما قام مصلح لمناهضة البهتان رموه بضعف الوطنية وكل ذلك من عمل الرجل.

وحسبنا بما نقدم عليه دليلاً على مبلغ الرجل من الإفك ممات حمل المرأة في دورها على اقتفاء آثاره مسوقة بضعفها الطبيعي وعجز منتها فاقتصرت على الأكاذيب البسيطة وأفرط رفيقها في البهتان.

يستحب الرجل في شريكه حياته الرقة والخضوع شأن كل كائن قوي فيزينها في عينه وداعة الورقاء ويحببه إليها القوة والرجولية ومهما بلغ من أخلاقه فالمرأة مدفوعة إلى مجاراته على أهوائه احتفاظاً بمحبته وصيانة للنوع الإنساني فلم يكفها في ذلك جمالها ورقتها بل سعت إلى استرضائه فغالبت فطرتها توسلاً إلى بلوغ هذه الغاية وما وقفت عند حد التبهرج والدل بل اتخذت مظهراً معنوياً ملائماً لميوله. فتأصل حب الاسترضاء في نفسها حتى غدا لها طبيعة ثانية وأثرت فيها الوراثة والانتخاب الطبيعي حتى حسبت إرضاء الرجل الغاية الكبرى من حياتها وارتاح الرجل إلى تلك المظاهر مأخوذاً بما فيها من الروائع الخلابة فألهته رياء الزهر عما فيه من السم الزعاف واستنفذت المرأة مجهودها في استمالته ولو شوهت تكوينها المعنوي فأًبحت كثيرة المجاملة قديرة على كتمان عواطفها تتظاهر بالابتسام والعاصفة تثور في داخلها لتلقي على نفسها ستاراً وخادعت شريكها بقولها وحركاتها وابتساماتها فبرهن ذلك على أنه لم تخسر طبيعتها الإنسانية في عصور العبودية والرق فهي تأفك لتحفظ مزيتها الإنسانية مما يدل على ثباتها وصلابتها ومقاومتها لما سامها الرجل من الحيف والضغط.

تعاقبت القرون وتأثير الأحوال الخاصة يعمل في نفس المرأة حتى جعل لها سمة خاصة فطوت في إرضاء الرجل جميع غايات حياتها الدنيوية غير عابئة بما يسومها من ضعف فضيلتها ولكن مرونة النفس البشرية لا نهاية لها وفيها استعداد تام للرقي المعنوي فلما زالت الصروف التي تبدل من وجدانها نشطت للحرية واستعادت ما فقدته من المواهب وخرجت الشعوب المنحطة من بيئتها المظلمة لتضارع أرقى الشعوب مدنية ويكفي لمحو تأثير عشرين قرناً عقبان أو ثلاثة أعقاب فهذه قبائل الماوريس منذ قرن واحد ساردة في ظلمات الجهل فما فتح لها باب المدنية حتى ضربت فيها بسهم وافر ونساؤها اليوم لسن دون النساء الإنكليزيات وزنوج الولايات المتحدة عدوا منذ مائة عام بين أحط الشعوب الأفريقية وقد بلغوا اليوم شأواً بعيداً في الحضارة وشغلوا مركزاً رفيعاً في عالمي الاقتصاد والاجتماع.

وكان يحق لنا اليأس من المستقبل أو أن الإنسان استطرق في سبيل الأسلاف وأضاف إلى النقائص الموروثة ما تنتجه العصور بتواليها غير أن النفس مرنة ومرونتها تنعش الرجاء بالمستقبل والمرأة في ذلك على مستوى الرجل فيتبدل تهذيبها ومركزها الاجتماعي تستعيد الصدق إحدى صفات السادة واهجر الرياء وهو تركه عصور العبودية وعلى هذا المنوال يتغير مجموع الصفات الأنثوية لأن نفوسنا تتكيف على ما يلائم شروط البيئة فلم يخلق الرجل ولا المرأة كاذبين أو صادقين فإذا مازج البهتان حياتنا لم يكن إلا عقبى الصلات التي ربطت الجنسين.

بعض الميزات -. تنبهت في المرأة خاصتا الفهم والملاحظة لتستكشف مقاصد الرجل وتعمل على بلوغها فاكتسبت من بيئتها فضائل خاصة كما استفادت نقائص خاصة وأصبحت قادرة على التخلص من المأزق والنظر في أعماق الرجل لمعرفة مظان الضعف فيها فعرفت كيف تلطف بكلماتها العذبة آلامنا وتهيج أشواقنا وأصبحت مداهنتها أوضح أثراً وأشد فعلاً واستطاعت لنقص شخصيتها أن تمتزج بشخصية الرجل إذ لا يمنعنا من الانقياد إلى الغير سوى وثوقنا بالقوة واعتمادنا على الذات أما المرأة ففقدت هاتين الخاصتين واستغرقت في حياة الرجل وأصبحت العنصر الجوهري لسعادتنا وشقائنا.

ثم أن نفسها الساكنة جعلتها أيسر انفعالاً فحبها وبغضها وإعجابها فوق ما يشعر به الرجل على أن الأيام لا بد أن تخفف من هذه العواطف.

مالت المرأة إلى الوهم ذلك الشعور المبهم العقيم ووجدت من تهذيبها ما تنزع بها هذا المنزع فولعت بقراءة الروايات وشغلت جل أفكارها في الحب لأنها تحيا لتحب وعكفت على مطالعة الأقاصيص الغرامية فأصبحت لها كالحب مصدر عواطف لا ينضب غير أن انصرافها إلى القصص أضعف فيها ملكة الذكاء.

التصورات الحبية -. مال الرجل في دوره إلى الغرام وما وجد أجمل من حديثه وقعاً في نفس المرأة فأصبح للحكايات الخيالية الشأن الأكبر في حياتنا وهي غير جديرة بالنظر وغدا القصصيون من رجال ونساء قادة الإنسانية يضعون دعائم مستقبلها واشتغل الناس بالأوهام والأحلام عن الحقائق الثابتة ولعل مؤرخاً ينشأ في القرن الثلاثين ينظر إلى ولوعنا بالخيال هازئاً بما ندعيه من الرقي العقلي وربما أوقفنا في مستوى المصريين القدماء الذين عبدوا الكوائن المنحطة فلا يبعد عن الحقيقة وها نحن ذا نرى المرأة مشغوفة بالروايات مستميلة إليها الرجل وقد استغرق الحب وجودهما وقربا على مذبحه أعظم الضحايا.

حياة المرأة الضيقة الحدود القللية الواجبات جعلتها تتألم لأدنى مظاهر الحياة ومتى رأينا شدة حب المرأة وكرهها حكمنا أن العاطفتين أقوى فيها مما هي في الرجل والشجرة المنفردة في عرض البر تخيل للرائي أنها أكبر مما هي.

أثبت الباحثون أن وجوه الشبه بين نفس المرأة والطفل أوفر مما هي بين نفسي المرأة الطفل والرجل وقد يفوق الرجل في بعض المزايا وينحط عنه في غيرها شأن المرأة فمركزها التاريخي عند جميع الشعوب أكسبها بعض الصفات الفاضلة وأفقدها أكثر منها.

أطاعت الرجل وأصبحت مصدر أفراحه ومسراته فلم تقو على مضارعته في الفكر واقتبست خواص تقربها من الولد حتى وصفها بعضهم بقوله أنها رجل غير كامل إلا أنها تستطيع في دورها أن تعزو إلى الرجل ذلك اللقب ولقد يكون الطفل في حالة نموه أحد ذهناً وأوفر ذكاءً من الرجل إذا تراجع في سلم النشوء وهو على الإطلاق أطهر منه قلباً وأقل اهتماماً.

الارتقاء العقلي لا يجري على خط مستقيم فينهض بنا طوراً إلى أعلى الذرى ويحطنا تارة إلى أعمق المهاوي وهذه المميزات التي تفصل بين الرجل والمرأة ليست سوى نتيجة عوارض طارئة تزول بزوالها ومهما يكن من موقف المرأة إزاء الرجل فهو أثر من آثار المركز الذي وجدت فيه خلال عصور متوالية فهي كما وصفوها رجل ناقص لأنها امرأة غير كاملة ومما يعزينا أنها لم تخسر في عصور العبودية ذرة من القوة العضوية فيعجزها فقدانها عن استعادة مركزها وأقل تغيير في شروط حياتها العقلية والخلقية يمكنها من استرجاع الصفات التي أضاعتها.

إن نجاح المرأة في عصرنا الحاضر ينعش في نفوسنا آمالاً ناضرة وبما أن ارتقاء الرجل قائم بارتقاء المرأة يحق لنا الوثوق بمستقبل الإنسانية الزاهر.

معرباً بتصرف من مقالة لجان فينو في المجلة الباريزية. دمشق: // جرجي الحداد