مجلة المقتبس/العدد 68/ماذا يقال

مجلة المقتبس/العدد 68/ماذا يقال

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1911



الطابور أم التابور

كان الكتاب دائماً يقولون دائماً الطابور ومنذ وقف أحد أعضاء نادي دار العلوم على كلمة تابور في تاج العروس وأذاعها بين الناس لم نعد نرى إلا القليلين يكتبون الكلمة بالطاء والسبب أن ورود الحرف المذكور منصوص عليه بالتاء في التاج ولم يتعرض له بالطاء. فيستنتج أن الطابور عامية وبالتاء أفصح.

قلنا:

1 - إن تعاقب التاء والطاء وبالعكس بالعربية مما لا يحتاج إلى التصريح به. فإن الألفاظ من هذا القبيل تعد بالمئات لا بالعشرات. ربما تستطيع أن تملأ نصف عدد من أعداد المقتبس بمثل هذه الكلم التي تتعاور فيها التاء والطاء. على أننا نجتزئ بذكر بعضها من ذلك: القطر والقتر (الناصبة). وما أسطيع وما أستيع. وهرت الثوب وهرطه. وطاح وتاه. وعفت في كلامه وعفط. (لواه عن وجهه وكسره لكنةً) وذهب دمه تلفاً وطلفاً. . . وعليه فتكون تابور وطابور من هذا الباب ولا سيما لأن كلتا اللغتين مشهورتان.

2 - عدم ورود لفظة في ديوان لغة لا ينفي صحتها. لأن المعاجم لم تدون جميع ألفاظ العرب. وحسبك دليلاً على ذلك أن المعاجم التي أنشئت في صدر الإسلام هي دون المعاجم المؤلفة أخيراً في السعة وكثرة تعدد الألفاظ؟ أفيستنتج من ذلك أن ما جاء في هذه الكتب المتأخرة هو من أوضاع العوام أو دون الأولى فصاحة. مع أن ما قيد ودون في أخريات هذه الأزمان قد يكون أقدم عهداً مما جاء في دواوين اللغة المؤلفة في القرون السابقة.

3 - ليست طابور محرفة عن تابور وإنما الطابور كلمة دخيلة قديمة العهد في العربية ربما كانت قبل سنة 73 هـ (1331 م) وأما تابور بالتاء فإنها حديثة العهد لم تدخل لسان آل عثمان إلا بعد سنة 1561 م (969) ولم ترد في كتب العرب إلا بعد شيوع اللفظة التركية بين العثمانيين. والذي استنزل أهل النادي للقول بعربية اللفظة وجودها في تاج العروس بلا تنبيه على عجمتها. بيد أن صاحب التاج كثيراً ما يغفل عن أصل اللفظة. وإلا فسائر أمهات اللغة ودواوينها القديمة لا تذكرها وأما طابور بالطاء فأقدم منها بكثير. فقد جاء في تاريخ ابن خلدون المغربي في كلامه عن أحبار سيف ذي يزن: ولما استوثق لذي يزن الملك جعل يعتسف الحبشة ويقتلهم حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولاً واتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالخراب. وأنت تعلم أن ابن خلدون ولد سنة 732 هـ (1331 م) وقضى نحبه سنة 806 وقيل 808 هـ (1403 أو 1405 م) فتكون طابور وجمعها طوابير قبل استعمال ابن خلدون لها وبعد انتشارها بين العرب وفشوها في المغرب.

إذاً: الطابور أفصح من التابور ولو كانت كلتا اللغتين دخيلة.

أيقال طيارة أم مطيرة

كثر الكلام في هذا العهد عن الآلة التي اخترعها الأجانب للتحليق في الجو المعروفة عند الفرنسيين باسم فسماها كتاب العرب طيارة إلا أن هذه اللفظة مشتقة من طار يطير اللازم فيكون معناها: هذه الهنة التي يتخذها الصبيان من الورق فيطلقونها في الهواء فترتفع فيه من ذاتها. وأما الآلة التي يتخذها الإنسان ليحلق بها صعداً فإنما تتخذ لتطير الإنسان وترفعه في الجو فهي مطيرة لا طائرة وبالأصل لأن راكبها هو الذي يسيرها بيديه. فالأصح فيها أن يقال مطيرة أي الآلة المطيرة لا طيارة لا سيما أن هذه اللفظة مخصوصة بالهنة المذكورة المشهورة.

نعم قد يجوز أن يقال أنها طائرة أو طيارة لارتفاعها في الهواء ونسبة الفعل إليها كنسبه إلى صاحبها. لأنه إذا أطارها ولم تطر لم يفد عمله فتيلاً. وعليه فكلاهما طائران في الهواء إلا أن التحقيق أحب إلى اللغوي من إلقاء الكلام على عواهنه بدون تبصر وتدبر. ومن ثم فعندنا أن القول بأن المطيرة أصح من الطيارة في هذا المعنى هو أرجح ووجهه أبين. واستعمال الكتاب لها ينفي كل معنى ثان ويمنع الفكر من أن يتصور المعنى الأول المعقود بناصية الطيارة.

أيقال وسط أم محيط أم حال أم بيئة أم مربى أم منشأ

للإفرنج لفظة ومعناها حرفياً الوسط أو المحيط ويريدون بها مجازاً: المواطن الذي يوافق عيشة الإنسان الأدبية أو العلمية أو العمرانية. فقال كاتب يقابلها في العربية الوطن والإقليم وليس الأمر كذلك فالوطن والإقليم أو فقد يكون كل منهما وسطاً للإنسان إلا أن معنى الوسط أعم كما يظهر لأدنى تدبر. ثم عدل عن رأيه هذا وقال هي الحال وهذا أيضاً خطأ. فالحال يقابله عند الإفرنج ' أما البيئة فأفصح من الوطن والإقليم والحال إذا أردنا بها الإبانة عما في خاطرنا من معنى الوسط أو المحيط.

على أن الذي ورد عند العرب من هذا المعنى هو المربى والمنشأ. وقد وردت الأولى مراراً عديدة في مقدمة ابن خلدون. وترجمها ناقلها إلى الفرنساوية بلفظة المذكورة من ذلك مثلاً ما جاء في الفصل الذي عنوانه إن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم ومن الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي.

وهذه الفظة قد تكررت مراراً لا تعد في هذا السفر. وقد ورد بهذا المعنى لفظة منشأ ووجه الترادف واضح.

على أننا لا نرى سبباً لرذل كلمتي وسط ومحيط فإنهما تفيان بالمراد من باب المجاز وباب المجاز واسع لم يقيده الأقدمون بقيود من حديد ولم يضعوا له قواعد غير القواعد المعروفة عند جميع أهل اللغات. وعليه فإن جاز للإفرنج أن يقولوا بهذا المعنى الوسط والمحيط فلماذا يحظر على العرب التلفظ بمثل هذه الحروف. إن هذا لمما يأباه كل عاقل عارف بآداب اللغة.

بغداد // ساتسنا