مجلة المقتبس/العدد 72/بعض معاهد بيروت

مجلة المقتبس/العدد 72/بعض معاهد بيروت

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1912



الصحافة البيروتية

سبقت بيروت غيرها من مدمن الشام بإصدار الجرائد ففيها صدرت سنة 1858م أول صحيفة عربية في هذه الديار باسم حديقة الأخبار ثم صدرت جرائد ومجلات أُخرى عَلَى عهد السلطان عبد العزيز وأوائل عهد السلطان عبد الحميد المخلوع ومناه ما كتبه الأكفاء أمثال البستاني والأحدب وبوست وصروف ونمر واليازجي والحوراني وغيرهم. ولما قويت شأَفة المراقبة عَلَى المطبوعات ولاسيما في الثلث الأخير من عهد المخلوع تراجعت الصحافة البيروتية وكان بعضها قد أقفل وبعضها نقل إلى قطر آخر وبعضها ثبت ولكن عَلَى مضدد وضعف لا يكاد يوصف.

حتى إذا انتشرت الحرية كثرت الصحافة حتى بلغ ما صدر منها مجدداً 56 جريدة ومجلة أكثر من نصفها لم يزل ينشر وبها بلغ عدد الجرائد البيروتية 25 جريدة ومنها ثماني ويومية والباقيات أسبوعية ونصف أسبوعيات وبلغ عدد المجلات 12 مجلة حية وهو عدد كثير عَلَى سكان مدينة لا يتجاوزون المئة وخمسين ألفاً عَلَى حين لا يصدر في جميع بلاد الشام وبيروت في الجملة أكثر من مئة صحيفة بين يومية وأسبوعية ومجلة شهرية ونصف شهرية أو مرة في الشهرين عَلَى اختلاف النزعات ومنها الجدي الخباري ومنها الفكاهي الهزلي.

إن هذه الهمة التي تبدت مظاهرها من أدباء بيروت ولبنان حرية بالثناء لو لاحظوا في نشر صحفهم حاجة البلاد أولاً ثم نظروا في أنفسهم وحكموا عليها أو لها من حيث الكفاءة والاستعداد بيد أنه لم تمض بضعة أشهر عَلَى نشر القانون الأساسي وقد بردت حماسة القوم للحرية وانفثأت صورة الغضب من أنصار الظلم والاستبداد حتى أذخ الزمان يمحص الصحف فيشعر بعض من تهجموا عليها عَلَى غير استعداد مادي وأدبي أنهم كانوا في غرور بأقدامهم عَلَى بث أفكارهم عَلَى رؤُوس الأشهاد واقتحامهم المنافسة مع الأكفاء بحث أضروا بهم وبأنفسهم معاً وستدعو الحاجة بعد إلى تراجع بعض هذه الصحف فيبقى منها الأصلح بحسب سنة الكون في الأعمال.

نقول الحاجة لأن قراء الصحف في سورية محدود عددهم وقد أَصبحوا يجبهون ليشترك حتى اضطر كثر من أرباب المظاهر أن يتناولوا عَلَى الرغم منهم عدة صحف في آن واحد ومعظمها متحد النزعة والمعنى تكفي منها الواحدة والثنتان وما زاد عن ذلك فضول وإضاعة وقت. ووطد معظم المشتركين أنفسهم عَلَى قطع اشتراكاتهم السنة بعد الأخرى فكان الوارد عَلَى إرادات الصحف لا يسد نفقات الطبع ويعول القائمين بها في الجملة فاضطرت إلى الاقتصاد غير المحمود حتى أصبحت لفترة في أجرة المترجم والمراسل وأثمان البرقيات وغيرها قصارى أكثرها أن تجيد النقل والاقتباس وتلفق مما حضر لديها من الأخبار أفاد القراء أو لم يفدهم خدم البلاد أو أضرَّ بها.

إن صدور ثماني صحف يومية في ثغر صغير كبيروت دليل الإقدام وهذا العدد لا يصدر مثله من بلاد العرب إلا في مدينة القاهرة ولكن أين مكانة تلك العاصمة من بيروت وهل في مكنة بيروت أن يكون لها قراء كالمصريين استنارة عقولهم وكثرة غناهم وتشاجر الأغراض السياسية في بلادهم. ولولا أن معظم الجرائد الكبرى في نصر أصبحت تصدرها شركات وجمعيات كما هي الحال في الغرب لما عاش أكثرها ولما استطاع القسم الآخر أن يظهر بهذا المظهر من القوة والغناءِ.

ومن أجل هذا فكر بعض أرباب الصحف اليومية هنا أن يتحدوا ويصدروا جريدة واحدة كبرى عَلَى مثال الصحف الرسمية الراقية وفيها ما في تلك من إمارات التحسين والفائدة ولو وفقوا لإتمام هذا المشروع الجليل ونجحوا فيه لخدموا البلاد خدمة تؤثر ووفروا من عنائهم وعناء القراء الفقراء وزاد مع الأيام ربحهم واثبتوا لأهل الشام أن بعض قادة الأفكار من دعاة الاتحاد والوئام علموا الناس بالمثال الحي أن صحافتهم ثرت عَلَى أقدام صحافة الغرب وأن ما يعجز الأفراد عَلَى الاضطلاع به لم يعجز الجماعة. ومتى تمت هذه المنية في الصحف السياسية يسهل تقليدها في المجلات العلمية فتدخل مطبوعاتنا في دور جديد يصح أن يلحق بالراقي من مطبوعات الأوربيين والأميركيين.

إن بيروت التي اعتادت أن تصرف جرائدها في أقطار الشام لا تلبث إذا كانت لها صحافة راقية أن يقبل الناس عليها في جميع بلاد القطر وإلا فتظل كل ولاية بل كل لواء بل كل قضاء مكتفية بصحفها كما هو المشهد الآن في القدس ويافا وحيفا وصيدا وبعبدا وعاليه وجزين وطرابلس واللاذقية وحلب وحماة وحمص ومرج عيون والقنيطرة وزحلة ودمشق فتكاد لا تبع فيها الصحف الراقية إلا أعداداً معينة سيتناقص عددها مع الزمن وصدور الأحسن فالأحسن.

ولا مشاحة في أن الصحافة مثال من أمثلة ارتقاءِ الأمة وانحطاطها وإن صحافتنا يجب أن تقود إليها الناس بالحق والصدق لا أن تنقاد إلى أهواء الناس والعامة منهم الخاصة فإن بعض الصحف جارت العامة مثلاً عَلَى ما يريدون في نقل أخبار هذه الحرب الناشبة الآن في طرابلس الغرب بين العثمانيين والإيطاليين فراجت بعض الشيء ولكن هذه الهبة لا تدل عَلَى ارتقاءٍ في العقول ولا عَلَى إقبال حقيقي وكان أولى أن تنقل للقوم الأنباء بدون زيادة ولا نقص مع مراعاة السياسة المتبعة من تقوية القلوب والتفاؤل بالخير للمستقبل فإن من أبشع المظاهر أن يستتبع العامة الخاصة وما طرأ الفساد عَلَى أحوالنا الدينية والدنيوية إلا لمجاراة الخواص للعوام في أُمور كثيرة.

وأي ارتقاء الآن والأمة نراها تقبل عَلَى الصحف الهزلية أكثر من إقبالها عَلَى الصحف الجدية وإن كان من جرائد الهزل ما هو سلوى النفس وأحماض القلب ولكن كثرة الإقبال عليها أكبر دليل عَلَى أن الأمة أميل إلى الخيال منها إلى الحقائق وأنها أمة كسل لا أمة عمل.

هذا ولجرائد بيوت الفضل الأكبر في بث ملكة المطالعة في الناس وتعويدهم الفصيح من الكلام والصحيح من الآراء ولذلك تجد مجموع البيروتيين أرقى من مجمع غيرهم من سكان قواعد هذه الديار لكثرة توفر عامتهم وخاصتهم عَلَى مطالعة الجرائد والانتفاع بما تنشره من طريف المعارف والمبادئ والتكرار يؤثر في الأحجار وربك يفعل ما يشاء ويختار.

مدرستان إسلاميتان

إذا كانت بيروت تعد اكبر معاهدها العلمية المسيحية كلية الأميركان وكلية اليسوعيين فإن من الواجب أن تعد اكبر المدارس الإسلامية فيها الكلية العثمانية الإسلامية ودار العلوم والميزة بين المعهدين الأولين والمعهدين الآخرين أن الغرض في الأولين خدمة فكر خاص أقل ما يقال فيه تزهيد نفوس أكثر المتخرجين منهما في خدمة بلادهم وإضعاف الشعور الوطني أما الحالة في المدرستين الناجحتين فهي عَلَى خلاف ذلك تنمي العاطفة الوطنية وتهيئُ رجالاً يبقون في بلادهم يخدمونها بما تصل إليهم طاقتهم. وهذا من أعظم ما تمدح عليه المدرستان الإسلاميتان.

نشأت الكلية العثمانية منذ سبع عشرة سنة بهمة رجل أزهري لقي الأمرّين في سبيل مشروعه وقاومه أعداء الإصلاح والتجديد وأنصار المنافسة والحسد ما وسعتهم المقاومة فكان بثباته معلماً للمعلمين كيف يكون الصبر عَلَى ما أخذوا النفس به. ولا عجب فصبر المعلمين يجب أن يتعلموه من سيرة الأنبياء والمرسلين خصوصاً والمعلمون لا يخرجون عن كونهم مبشرين ومنذرين ولكن يوحي غيرهم وسيرة من تبعوهم من الحكماء والأنبياء.

هذا الأزهري هو الشيخ هو الشيخ أحمد عباس أحد أساتذة بيروت ورئيس هذا المعهد النافع قام بقوته إلا ما كان من معاضدة بعض المستنيرين في هذا الثغر لعمله وخصوصاً من تألفت منهم عمدة المدرسة مؤخراً من رجال بيروت وبعض قادة الأفكار فيها فوفق حتى اليوم إلى تخريج زمرة من الشبان المنورين ومنهم التاجر والصحافي والطبيب والحقوقي وقد كان في كل دوار مدرسته يستعين بالأساتذة الأكفاء من أي مذهب كانوا يعلم تلامذته بذلك التسامح المحمود والأخذ عن المخالف فيما لا يخدم رأيه ومبدأه.

زرنا مدرسته وقد زرناها عدة مرات في الأعوام الماضية فشهدنا النضوج آخذاً بتعاليمها والكمال قريباً منها والثبات متمثلاً في أرجائها والعناية بتربية جسم الطفل وعقله غايتها فهي في أجمل بقعة وأعلاها من أحياء بيروت (برج أبو حيدر) تطل عَلَى لبنان وقراه وبيروت وحدائقها الغناء لو تم لها ما يريده لها أحبابها أن تملك البنايات التي قامت فيها وأوى إليها أساتذتها لكانت كاملة في مادياتها كما كملت أو كادت بمعنوياتها.

نعم لو كانت لها دار قوراءُ وقصور تؤوي الداخليين والخارجيين من تلامذتها لبلغ تلاميذها ضعف ما هم الآن (370) منهم (140) داخلياً من أبناء بيروت وأنحاء سورية وغيرهم ولكن المسلمين ليسوا من القوة عَلَى الأعمال بحيث يهتمون لمشروعاتهم العملية اهتمام الغربيين لها وليس الفقر وحده هو الذي يقعد بهم عن مجاراة الأمم الحية وإلا فإننا نرى أضعف منهم بما لا يقاس يهتمون لمثل هذه الأمور أكثر منهم عَلَى أن كثيراً في رجال نهضتنا يودون عَلَى الأقل لو سكت عنهم قومهم وخلصوا من أعمالهم لا عليهم ولا لهم لا تنشيط ولا تثبيط وهذا سر من أسرار انحطاطنا العجيب.

في الكلية العثمانية اليوم 30 أستاذاً فيهم العربي والتركي والإفرنجي و30 موظفاً في أعمالها المختلفة وتقسم مدة التعليم فيها إلى ثلاثة أقسام القسم الابتدائي ومدته سنتان والقسم الاستعدادي ومدته أربع سنين والقسم العلمي ومدته أربع سنين أيضاً وفيها قسم للصغار من سن الخامسة إلى العاشرة يبلغ عددهم 3 طفلاً تقوم عَلَى تربيتهم معلمة مسيحية ومربية (قهرمانة) أخرى تنام معهم وتعنى بشؤونهم كما تعنى الأم بشؤون أطفالها.

ينال المتخرجون من هذه الديار شهادة تعادل شهادة البكلوريا في المدارس الأخرى العالية وأهم ما يتعلم فيها من المعارف والعلوم واللغات وتعليم النافع من الآداب الدينية العالية وإعداد أذهان المتعلمين إلى قبول النور الجديد ممزوجاً بالنور القديم وتخريجهم في مضمار الارتقاء.

وفي بيروت مدرسة ثانية ناجحة نشأت منذ ثلاث سنين لهمة رجل هندي محمد عبد الجبار أفندي خيري وهو رجل درس في كلية عليكر الإسلامية ثم جاءَ بيروت وتخرج في كلية الأميركان حتى أحزر هو وشقيقه محمد عبد الستار أفندي خيري شهادة معلم في العلوم فحدثتهما نفسهما أن يخدما هذه البلاد خصوصاً بعد أن درسا أحوال مرسلي الأميركان واطلعا عَلَى مقاصدهم وقام في ذهنهما أن يبشرا بالإسلام كما يبشر أولئك بالنصرانية فأنشآ هذه المدرسة بمعاضدة فئة فاضلة من شبان بيروت وتجارها فقاما بعملهما وإنكار النفس مبدأهما والغيرة الدينية دافعتهما وقد تشبعا بتعاليم الغربيين ولاسيما السكسونيين وعرفا بالخبر والخبر كيف تنجح الأعمال وتنضج وأي الأساليب أولى بالإتباع في التعليم.

يدهش المرء من تقلل هذين الأستاذين ومن تقشفهما وصبرهما واستنارة عقلهما وتوقد الذهن والغيرة في نفسهما ويعجب أكثر إذا رأى الرئيس أحدهما يرحل في السنة الماضية إلى أوربا يدرس في فرنسا وإيطاليا وسويسرا وألمانيا وإنكلترا طرق التعليم في مدارسها وكلياتها ويؤوب إلى هذا الثغر المسعود بخدمة المهاجرين إليه يطبق فيه عَلَى الطريقة الإسلامية ما يلائمنا من أوضاع الغرب.

لا أعلم مدرسة إسلامية في سورية تعلم صغار الطلبة المبادئ العلمية بالعمل مثل دار العلوم فطريقتها في تعليمهم طريقة السكسونيين في حدائق الأطفال (كندر جاردين) تترك التلميذ يختار له بقعة من حديقة المدرسة يحرثها ويزرعها ويسقيها بنفسه وينظر فيما يلائم مغروساته ومستنبتاته ثم يعلم مبادئ الجغرافيا والطبيعيات والرياضيات بالعمل دون النظر ومنه يتطرق إلى النظريات.

كان يبلغنا من نجاح صغار الأولاد في القديم والحديث أمور كثيرة وها نحن رأينا اليوم صورة من صور الارتقاء المهم في تثقيف عقول الأطفال بحيث لا نغالي إذا قلنا أن صغار أبناء دار العلوم يعرفون من مبادئ الأشياء وحوادث الكون الصحيحة ما لا يعرف بمثله من الصحة والمكانة شيوخ هذا الزمان. والاستظهار لا حظ له في هذه الدار كما له في الكلية العثمانية وطريقة هذه أقرب إلى النواحي الإفرنسية وطريقة تلك إلى الطرق الإنكليزية السكسونية.

لم نر في دار العلوم أسماء الخطط الكثيرة والمواد المنوعة التي تورد في برامج التدريس من قبيل الإعلان عن المدرسة وتنوع فنونها عادة بل وجدنا فيها العمل أكثر من القول والتأني رائد العمل والإخلاص لحمته وسداه رأينا فيها القليل رأينا فيها القليل الملقن والقليل من المسائل مع النظر البليغ فيها أفضل من حشو الذهن بالمواد النظرية ولو اقتصر من تعليم اللغات عَلَى العربية والتركية والإنكليزية أو الإفرنسية فيها لانطبقت عليها هذه النظرية كل الانطباق وذلك لأن اللغة العربية لغة البلاد والدين والتركية لغة السياسة والدولة ولغة واحدة من لغات أوربا تكفي فيما نحسب اللهم إذا جعل تعليم أكثر من لغة اختياراً وإلا فالعمر يضيق عن درس اللغات وإتقانها واللغات آلة لا غاية.

مدرسة دار العلوم الخارجية والسعي لها متواصل لابتياع أرض لها واسعة تقام عليها بناية المدرسة ومما أعجبني فيها فتاتان مسلمتان تتعلمان بجانب الفتيان وبهما وبما رأيته من نجاحهما ذكرت طريقة الأميركان في التربية المشتركة فعسى أن تكون الفتاتان مقدمة لهذه الطريقة التي ثبت غناؤها في ديار الغرب فيذكرنا بما كان من دروس المحدثات والقارئات في عصور ارتقاء المسلمين في المساجد والجوامع وإنا لنرجو أن يزيد عدد طالبيها بمرور الزمن وعددهم الآن 170 طالباً يتخرجون عَلَى أدب النفس وأدب الدرس.

ربما يتبادر للذهن شيء من قصور معنى الكلية الإسلامية وليس أحسن في الجواب عَلَى ذلك من نقل ما تقوله هذه الدار عن نفسها في بيانها السنوي سنة 1223 - 1911 قالت:

نعني بالكلية العثمانية الإسلامية معهداً علمياً راقياً يدرس جميع العلوم والفنون التي تخول المتخرج منه أن يكون حاصلاً عَلَى شهادة البكلوريا - أن يكون رجلاً تام الأدوات علماً وأدباً - وأن يكون ذلك الرجل الذي تحتاجه هذه البلاد بعلم راسخ وحقائق راهنة متزوداً حسن الخلق بعرى الوطنية متسلحاً بسلاح العلم والمعرفة.

هذه غاية العمدة. وهذه هي الإصلاحات التي أدخلت إلى المدرسة

(1) إصلاح التدريس الابتدائي وجعله سنتين مفردتين عن التدريس الاستعدادي والعلمي - ثم إتباع طريقة المشاهدة والحس في التعليم فيه - وتقوية مفكرة الشباب وتعويده عَلَى الاستنتاج - وأن يكون أغلب التعليم في هذا القسم باللغة العربية كما سيظهره بروغرام التدريس المفصل.

(2) يجب أن يرقى التعليم الاستعدادي وأن تفصل إدارته ثم أن ينظر في الكتب التدريسية وخصوصاً العربية وأن تتبع لأساتذة الطرق الحديثة في التربية والتعليم - وقد سافر الأستاذ الرئيس إلى مصر وزار معظم مدارسها الميرية والأهلية من ابتدائية وثانوية وعالية وشاهد طرقهم في التعليم وبحث في الكتب المدرسية في اللغة والفنون واستصحب معه كتباً جمة تفي بالحاجة وتقوم بالمطلوب.

(3) السعي الحثيث في أن يكون تدريس العلوم باللغة العربية مستعملة لذلك الكتب المؤلفة أما الموضوعات التي يؤلف فيها حتى الآن فإن الكلية ستقوم بها وتستعمل الأساتذة طريقة إلقاء المحاضرات وطبعها في مطابع جلاتينية تسهيلاً للتلامذة وحفظاً لتلك المحاضرات.

(4) أوقات التعليم لا تزيد عن خمس ساعات يومياً مع زيادة الاعتناء في الرياضة البدنية والحركات الجمبازية التي تدرس تدريساً خاصاً.

(5) تعين الكلية قهرمانة للاعتناء بالتلامذة الصغار في القسم الابتدائي وملاحظة ثيابهم ونظافتهم.

(6) العلوم والفنون والموضوعات التي زيدت: الفلسفة الأدبية والأخلاق الدينية. المطالعة العربية لعامة الصفوف في الأقسام الثلاثة. تاريخ الآداب العربي. النقد التاريخي. علم المثلثات. علم الفلك. الفلسفة العقلية. علم الرسم. أصول التجارة والمراسلات فيها وجغرافيتها.

(7) زيادة أوقات التعليم العملي في الكيميا والطبيعيات. وجلب الأدوات اللازمة لذلك.

(8) يجب أن يكون التدريس والكلام سواء من الأساتذة أو التلاميذ بالعربية الفصحى.

(9) تخصيص قطعة من الأرض لبعض التجارب النباتية والزراعية.

اللغة العربية: هي الأساسية في الكلية يدرسها التلميذ في كل صف من صفوفها في الاستعدادية والعلمية عَلَى أن التعليم الابتدائي إن لم يكن كله فجله فيها وذلك لأن اللغة العربية هي اللغة الأساسية الأصلية فإذا تمكن الشاب من لغته الأصلية يمكنه أن يتفرغ بعد ذلك إلى بقية اللغات الأجنبية - فتعين لها الكلية الأوقات اللازمة لإتقان الصرف والنحو وعلوم البلاغة (المعاني البيان البديع) واللغة والعروض وقرض الشعر والإنشاء والتعريب بحيث يتخرج الشاب ضليعاًَ في لغته عربي الأسلوب فصيح البيان كتابة وخطابة. والكلية تنشط همم الأساتذة عَلَى نقل العلوم الحديثة إلى العربية لتدريسها فيها لأن بذلك خدمة اللغة والأمة العربية.

اللغة التركية - تبذل الكلية العثمانية جل جهدها لأن يكون ابن العثمانية متقناً لغة دولته الرسمية قراءة وكتابة وإنشاء وهي تخصص لها في الدائرتين الاستعدادية والعملية الأوقات اللازمة لإتقان فروعها من مكالمات ومفردات وصرف ونحو وبلاغة وإنشاء وأدبيات وترجمة.

اللغة الإفرنسية - هي اللغة الأجنبية التي اختارتها عمدة الكلية لتدريسها درساً متقناً والاعتناء بتعليمها اعتناءً تاماً ليطلع التلميذ عَلَى كنه أسرارها وحتى يمكنه التبحر في مختلف الفنون الحديثة والعلوم العصرية.

أما مواد تعليم هذه اللغة فهي الصرف والنحو والبلاغة والبيان والنقد البياني والإنشاء والمراسلات التجارية. والترجمة وتاريخ علم الأدب الإفرنسي.

إن ما سبق ذكره من اللغات هي إجبارية في المدرسة واللغة الاختيارية هي الإنكليزية أو الألمانية فتعلم منها الصرف والنحو والترجمة والإنشاء والمراسلات.

وعلوم الكلية (1) العلوم الدينية. القرآن الشريف. التوحيد. الفقه. عملاً وعلماً من عبادات وفرائض ومعاملات (مجلة الأحكام الشرعية) وعلم أصول الفقه. والفلسفة الأدبية من القرآن الكريم والحديث الشريف.

(2) التاريخ من قديم وأجيال متوسطة وحديث وحاضر. والسيرة النبوية. وتاريخ العرب.

(3) الجغرافيا. الرسم الجغرافي. الجغرافيا التجارية. والجغرافيا الاقتصادية سيما كل ما يتعلق بالمملكة العثمانية والدول الشرقية.

(4) الرياضيات. الحساب. الجبر. الهندسة. علم الفلك. المثلثات. مسك الدفاتر.

(5) العلوم الطبيعية من مواليد ثلاثة (حيوان نبات جماد) علم خواص الطبيعة. الكيمياء. حفظ الصحة.

(6) الرسم. حسن الخط. الموسيقى.

(7) المنطق. الفلسفة. الاقتصاد السياسي. علم الأخلاق.

(8) تاريخ الأدب العربي. خطب في روح الاجتماع والعمران. فن الخطابة والإلقاء.

أما دار العلوم فلها الآن أربعُ مدارس: (1) المدرسة التأسيسية (2) المدرسة الابتدائية (3) المدرسة الاستعدادية (4) المدرسة الصيفية.

(1) المدرسة التأسيسية - يراجع الرئيس بشأن هذه المدرسة.

(2) المدرسة الابتدائية - هذه تؤهل طلبتها للمدرسة الاستعدادية.

فهي تعلمهم الدروس الأولية في الموضوعات الآتية: - (1) القرآن الكريم والتعليم الديني (2) اللغات - العربية والتركية والإنكليزية والإفرنسية مع علم آدابها وفن الخطابة (3) الرياضيات - الحساب وأشكال هندسية بسيطة (4) الجغرافيا الوطنية والطبيعية (5) التاريخ - حياة النبي وقصص وتاريخ حياة بعض عظماء الرجال والنساء. (6) علوم عصرية - مبادئ في معرفة المحيط القريب. إشارات في الموضوعات الأساسية من علم الحيوان والنبات وطبقات الأرض والأتربة والمعادن والكيمياء والحكمة الطبيعية والفلك ومنافع أعضاء الإنسان وحفظ الصحة والهيئة الاجتماعية الخ. (7) الرسم (8) التمرين العسكري العثماني وألعاب رياضية. وهذه المدرسة تستغرق أربع سنين مدرسية ولغة التعليم فيها هي العربية فقط.

(3) المدرسة الاستعدادية - يقصد بها تهيئة طلبتها لدخول المدارس العالية والكليات في الوطن وفي الخارج فهي تتقن الدروس الابتدائية في الموضوعات المشروع بها في المدرسة الابتدائية مع زيادة تفصيل ودقة وترتيب وتزيد عليها كما هو مبين أدناه: (1) التفسير والحديث وعلم الأديان وعلم الأخلاق ومبادئ أساسية من حكمة الإسلام. (2) دروس أعَلَى في اللغات وعلم آدابها وممارسة أكثر في الإنشاء والخطابة (3) مراجعة الحساب ودروس في مبادئ الجبر والهندسة (4) جغرافيا المملكة العثمانية المفصلة والجغرافيا السياسية العامة. (5) تاريخ حياة النبي وتاريخ الإسلام والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وتاريخ المملكة العثمانية ومختصر تاريخ أوروبا القديم والحديث. علوم عصرية - حث عَلَى إمعان النظر في الطبيعة والمحيط القريب وإيضاحات في الموضوعات الأساسية من علم الحيوان والنبات وطبقات الأرض والأتربة والمعادن والكيمياء (6) والحكمة الطبيعية والفلك ومنافع أعضاء الإنسان وحفظ الصحة والهيئة الاجتماعية البسيطة (7) الرسم بالألوان (8) إتقان التمرين والتهذيب العسكري العثماني وبالاختصار يربى الطالب من كل الوجوه.

وهذه المدرسة تستغرق سنتين مدرسية. أما لغة التعليم فتكون غالباً اللغة العربية إلا في العلوم العصرية وغيرها من الموضوعات التي لم تترق بعد في العربية والتركية.

(4) المدرسة الصيفية - هذه أنشئت خصوصاً للطلبة المقصرين الذين يرغبون في تعويض ما نقصهم والتخلص من جزاء لتقصيرهم ليرتقوا صفوفاً أعَلَى وأيضاً للطلبة الذين ليس لهم عند أهلهم أشغال نافعة ويرغبون في تقوية أنفسهم لدروس السنة الآتية.

العربية في الكلية

كان المأمول من الكلية السورية الإنجيلية الأميركية أن تكون في مقدمة معاهد التعليم في هذه الديار في العناية بآداب العربية وإحياء مدنية البلاد وإدخال المدنية الحديثة إليها بحيث يأتي من تعليم المدنية العربية ممزوجة بالمدنية الغربية نوع من هذه المدنية النافعة. هكذا بدأَت تلك الدار ولكن عمدتها رأَوا أن يجعلوا سنين التقدم للغة الإنكليزية بدعوى أن العربية يضيق صدرها عن الإفصاح عن العلوم الحديثة ولا يتيسر لها أن تسير مع المستحدثات العصرية جنباً إلى جنب.

وهذا الخلاف هو الذي حمل فقيدي العلم والآداب الدكتورين كرنيليوس فانديك ويوحنا ورتبات عَلَى مغادرة منابر التدريس في صفوف الكلية وكانا من أعظم عمدتها العاملين لأنهما أيقنا أن التعليم بالإنكليزية مؤخر لنشر العلم في هذه البلاد وداع إلى تراجع الكلية عَلَى ما هو المشاهد اليوم وإذا قل النافعون النابغون في المتخرجين من هذا المعهد العلمي العظيم وانصرفت وجهة نظر المعلمين إلى الاستخدام في مصر والسودان وأميركا فهاجر إليها خيار أبنائنا كانت الكلية معهم أشبه بمحطة توضع فيها البضائع أياماً تنقل إلى قطر آخر فليس لبيروت بل لسورية من هذه الكلية إلا أنها موطن لتعليم أولادنا عَلَى الطريقة التي تريدها تلك الكلية ثم الرحلة بهم إلى حيث تروج بضائعهم رحلة أبدية ووقتية.

فإذا كان لهذه الكلية التي ما دخلناها مرة إلا ورأينا فيها مثال العظمة الأميركية وقوة المتحمسين الأميركان لبث دعوتهم الدينية ثم المدنية - هذا الامتياز وتلك القوة العلمية والمادية أليست حرية بأن تنفع البلاد التي أُسست فيها وعاهدت النفس عَلَى خدمتها أكثر مما نفعتها: وذلك بعنايتها بتدريس اللغة العربية تدريساً يحمد أثره ويطيب خبره ومخبره. وهذا لا يكون إلا بانتقاء خيرة الأساتذة لتدريسها كما يختار للإنكليزية عَلَى الأقل ونشر الأسفار في العلوم الحديثة والقديمة وإلقاء المحاضرات والخطب عَلَى الدوام بالعربية كما تلقى بالإنكليزية.

ربما شق هذا القول عَلَى غير المنصفين من تلامذة الكلية وأساتذتها ولاسيما من رأَوا نيل شهادة البكلوريا منها هي غاية علم الأولين والآخرين وأن شهادة الطب أو الصيدلة أو التجارة منها هي جماع المعرفة والنجاح العالمي وأن من لم يسعده الحظ بالدخول إلى أبواب الكلية والجلوس عَلَى دكات صفوفها يستحيل عليه أن يتعلم تعليماً نافعاً إلى غير ذلك من الدعاوي التي طالما تجلت في أقوال كثرة من المتخرجين في الكلية وأفعالهم أو في نفوس من وقفوا أنفسهم عَلَى خدمة الكلية بما تريد ليعدوا في جملة معلميها وإن كانت عمدة الكلية لا تحسب أبناء العرب بل أرقاهم كعباً بمثابة أصغر معلم أميركي فيها مهما صانعوا أو تلطفوا مع الأميركان.

ومن الغريب أن بعضهم كان يشكو من سلب إرادة المرؤوسين من الرهبان الباباويين وفناء إراداتهم في إرادة رؤسائهم فلما رأينا أساتذة العربية في الكلية الأميركية ثبت لنا أن مرسلي البرتستانت ليسوا أقل سطوة عَلَى نفوس مرؤوسيهم من أولئك الرهابين وما نظن أن معلمي العربية متى أيقنوا أن المدرسة محتاجة إليهم أكثر من احتياجهم إليها تعاكسهم في إصلاح طريق تعليم العربية وإحكام ملكتها بالصحف والكتب والخطب والدروس.

ومن الأسف أن تكون الكتب المخطوطة والمطبوعات العربية في مكتبة الكلية أقل من عشر المطبوعات الإنكليزية بل لا تكاد تبلغ بمكانتها جزءاً من عشرين جزءاً من مكانة الكتب الإفرنجية وإن ما في مكتبة الكلية من قمطر الكتب أدنى إلى أن يكون مكتبة فرد صغيرة منه إلى أن يكون مكتبة جمعية كبرى لها في المصارف المالية نحو أربعمائة ألف ليرة تتقاضى يعها السنوي.

نعم إن مكتبة الكلية لا تفي بحاجة مشتغل واحد بالعلم فكيف تكفي في سد حاجة مئات المشتغلين وكذلك الحال في مجلة الكلية التي تصدرها عمدة المدرسة باللغة الإنكليزية والعربية وتجعل موضوعاتها الإنكليزية أمتع وأوسع والعربية تافهة عَلَى الأغلب.

هذه الملاحظة التي نلاحظها عَلَى كلية الأميركان نلاحظها أيضاً عَلَى كلية القديس يوسف الكاثوليكية في بيروت فإن القول الفصل للغة الإفرنسية فيها يتضلع منها المتخرجون فيها أكثر من تضلعهم من الآداب العربية وما رأينا نابغة بالإنشاء العربي مثلاً تخرج عَلَى أساتذتها عَلَى كثرة من يعد القائمون بأعبائها من أسماء المؤلفين والمترجمين والتجار الذين درسوا في الكلية اليسوعية اللهم إلا إذا كان ممن لم نعرفهم ولكن ما يشفع لهذه الدار أن عمدتها جمعوا لهم مكتبة شرقية منقطعة القرين في هذه الديار وسمحوا للمنقطعين للتأليف والبحث من قسيسهم المتعلمين أن ينشروا ما طاب لهم من الأسفار العربية خصوصاً ما وافق غرضهم الديني وخدم أفكارهم ولو بالواسطة فكان من أثر ذلك أن نشرت المطبعة الكاثوليكية الملاصقة لهذه الكلية الكاثوليكية نحو مئة كتاب عربي وبعضه خلا من المسخ والحذف وإن نشروا في مجلة المشرق عدة رسائل نافعة في جنب ما ينشرونه من المقالات الدينية.

هذا ما نراه في الكليتين العظيمتين القديمتين الأميركية والإفرنسية ولغة التعليم فيهما وما نشأّ لهما من الآثار وما يرجى لهما منها إذا عنيا أكثر من الآن بلغة البلاد فعسى أن يحل من نفوس القائمين عليهما المحل المطلوب وينزل منزلته من الإخلاص وإرادة الخير حتى يكون في سلبهما أبناءَنا بتعليمهم لغات الأجانب بعض التعزية في تعلميهم لغة أمهاتهم وآبائهم ليقووا عَلَى بث الفكر المقصود بين أهل جيلهم وقبيلهم.

معامل السيوفي

كما تأَمل الناظر في الأعمال الكبرى التي قامت بهمم الأفراد في هذه البلاد لا يراها تخرج عن القاعدة التي جرت عليها عند أهل الحضارة الحديثة والقديمة فينجح في العادة من تمرنوا سنين عَلَى العمل الذي يريدون أن يتمحضوا له وعرفوه بدقيقه وجليله وفروعه وأصوله. فالناجح في أرباب المطابع هو الذي سبق له وتعلم في صباه صناعة تنضيد الحروف واستعمال الأدوات والكتابة عَلَى الحجر. والناجح في زراعته هو الذي يحسن معرفة الحرث والكرث بيده ويجيد البذر والتسميد والتشذيب والعزق والسقي والتعشيب وأنواع البذار وما يجود منه وأجناس التربة وما يصلحها وتربية الأشجار والنباتات والقيام عَلَى المواشي والناجح بعمل الأقمشة هو الذي يلم إلماماً مهماً بكيفية نسجها وحياكتها وضروب الحرير والكتان والغزل والصوف. بل والناجح ففي كل فروع الأعمال الاقتصادية والصناعية والتجارية هو الذي مشى في عمله عَلَى سنة الكون فبدأ صغيراً ونمت معارفه بتقدمه في السن فينال من النجاح بقدر جهاده وملاءمة الأحوال له وحالة محبطة وأسبابه ورأس ماله المادي والمعنوي.

هذه المقدمة تنطبق كل الانطباق عَلَى إلياس أفندي جرجي السيوفي صاحب المعامل المشهورة به للتجارة والفرش في بيروت. كتبت لي زيارتها هذه المرة فرأيت صورة مصغرة من صور الغرب في بلاد الشرق وتمثل لي فضل الذكاء العربي وأنه وإن لم يفق الغربي فليس دون وإن يد أبنائنا صناع في الأعمال لا يفوقها ابن فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا إلا بأن الإفرنج يرجعون إلى أساليب في العمل تنقصنا أو تكاد في أكثر البلاد لا تجد لها أثراً بيننا وهي ترجع إلى أسباب رئيسية مهمة أولها الصبر عَلَى العمل وثانيها تجويد العمل وثالثها القدر اللازم للعمل من المال والمعرفة ورابعها الاقتصاد في الوقت والأيدي العاملة وخامسها تنشيبط الآهلين والحكومات للمصنوعات الوطنية وحماية التجارة الداخلية بقوانين تنفذ عَلَى الصادر والوارد وسادسها وجود المواد الأولية التي يمكن بها الاستغناء عن البلاد الخارجية في الجملة.

دلت معامل السيوفي أن الشرقي بمفرده أمة وأن الأمة بمجموعها ضعيفة بمعنى أن الشرقي يعمل مفرداً أحسن من عمله مجتمعاً وذلك لفقد التربية المشتركة بين المشارقة يرجعون إليها وتضم عراهم. فلو كان معمل الغزل في دمشق لفرد واحد منذ إنشائه له خيره وعليه شره لما اضمحل هذا الاضمحلال الذي نراه عليه اليوم ولو كانت معامل السيوفي في بيروت لشركة لما رأينا فيها هذا النظام والنجاح وبذلك صح لنا إثبات ما قدمناه من أن الشرقي أمة بمفرده والأمة ضعيفة بمجموعها وأن لا سبيل إلى قيام الأعمال الكبرى في بلادنا وإن نقدر لها النجح المطلوب إلا إذا اتحدت مناحينا وتعلمنا تعليماً وطنياً اقتصادياً واحداً.

وأي دليل عَلَى ذلك أفضل من أن نقول بأن صاحب هذا المعمل بدأ منذ 24 سنة وهو في الثالثة عشرة من عمره لا يملك غير ثمانمائة قرش ومعلومات جزئية في التجارة تعلمها في الممارسة ومنها ما أحرزه بقانون الوراثة لأن والده كان يعمل بالحرير وجده دمشقي يجلو السيوف في دمشق إن صح أن تؤثر الوراثة في الميل إلى الصناعة. ولا شك أن هذا الميل نما فيه مع الزمن وزيارة أوربا وما فيها من آثار العاملين والمفنيين فكان يتوسع في معمله بحسب سنة النمو التدريجي حتى بلغ اليوم مبلغاً يعد به مفخراً من مفاخر سورية الصناعية ونموذجاً من أنموذجات الذكاء الشرقي الذي يبدع ويجيد إذا تهيأت له الأسباب وحملته الدواعي عَلَى العمل.

عَلَى هضبة من هضاب بيروت الجميلة في حي الأشرفية في مكان بعيد عن مركز حركة هذا الثغر يطل عَلَى سفوح لبنان وبيروت من جهة وإلى البحر الرومي من أخرى قامت هذه المعامل البديعة في بقعة فسيحة من الأرض تدخلها فتخل نفسك في إحدى معامل الغرب الكبرى وأول ما يبدأوك بعد الدخول من الرتاج ساعتان عن اليمين والشمال بجانبهما صندوقان معلقان مقسومان إلى بيوت صغيرة وفي كل بيت مقواة كتب عليها اسم أحد العملة وطبع عليها ساعات الغدو والغداء والرواح فمتى وصل العامل بعد الفجر وقبل الإشراق في الشتاء مثلاً يضع مقواته في بيتها فلا تلبث أن تكتب عليها ساعة مجيئه والدقيقة التي جاءَ فيها بحروف عربية وفي آخر اليوم أو الأسبوع يرجع إليها مدير العمل ويحسب المتأخر من المتقدم ويحسبون ذلك بموجب نظام خاص لم جروا فيه عَلَى مثال نظام العمال في سويسرا والبلجيك والنمسا وألمانيا ومن قوانين العملة في هذه الممالك اختار مؤسس المعمل أحسن ما يلاءم هذه البلاد وينفع في نجاح عملته ويعود عليه وعليهم بالربح واقتصاد الوقت.

وهذه الساعة من أنفع ما يجب استخدامه في معاملنا ومطابعنا ودواوين أعمالنا وبيوتنا التجارية والمالية ودوائرنا العسكرية والملكة ليتعلم قومنا مراعاة الوقت والتدقيق في حسابه حتى يبارك لهم بساعات العمل وأيام الحياة ويتعلموا أن التدقيق في المواعيد أحد دعائم التنظيم في فروع الأعمال ومن أهم أساليب النجاح الذي غفل عنه معظم سكان هذه الديار وعدوا من ينظم أوقاته ويدقق في وعوده واستقبال خاصته ومن لهم علاقة به في ساعات محددة متكبراً أو مهوساً.

يباكر العملة في معامل السيوفي في الصيف والشتاء والخريف والربيع عَلَى السواء وينقطعون ساعات وقت الظهر ثم يعاودون العمل الي قبيل الغروب أو إلى بعده بقليل بحيث لا يتجاوز معدل ساعات العمل في اليوم تسعاً بخلاف عملة أوربا فإنهم يعملون في بعض البلاد كبلجيكا مثلاً زهاء اثنتي عشر ساعة ولكن للمحيط وكثرة الأيدي العاملة والعادة والإقليم دخلاً كبيراً في هذا الاصطلاح ولو لم تكثر هجرة المسيحيين بعد الدستور لوجوب الخدمة في الجندية عليهم وجوباً عَلَى إخوانهم المسلمين فانسل معظم من هم في سن العسكرية إلى أميركا أو غيرها من أبناء الطبقة الدنيا خصوصاً لما قلَّ بذلك عدد العملة في معامل السيوفي فليس فيها اليوم في حي الشرفية وداخل المدينة أكثر من 280 عاملاً مع أن الأدوات والأعمال التي اقتناها صاحبنا تشغل ضعفي هذا العدد فيستفيدون ويفيدون.

أكثر ما يعمل في هذه المعامل منجورات الدور الخشبية وأنواع الفرش وأثاث البيوت ففيها تعمل كما تعمل في الغرب فتتأنق الأيدي والعيون في تجويدها وتساعدها الأدوات التي تدار بالفحم الحجري وتبلغ نحو الستين آلة ومناه لقطع الخشب وصقله وحفره وتقويره وتنشيفه فترى في خشب الجوز والزان من واردات الروم - (أناضول) والأكاجو من كوبا وشوح النمسا وسنديان أميركا والخشب البياسي من قيلقية (أطنة) تعمل في تلك الأدوات الحجرية وتحركها تلك المحركات والآلات كأنها العجين في يد خبازه أو الملاط بيد البناء الحاذق.

قال لنا صاحب المعمل أن الآلة الكبرى المحركة في معمله هي بقوة مئة حصان تنفق في النهار 13 فرنكاً من الفحم وكانت الآلات التي هي أصغر منها تصرف من قبل أكثر منذ ذلك وبهذا يستدل أيضاً أن نفقات المعامل الكبيرة أدنى إلى الاقتصاد وأعمالها أقرب إلى الجودة من مصنوعات المعامل الصغيرة لاسيما والمعامل الكبرى تتجلى فيها قاعدة تقسيم الأعمال فنجد العملة في معامل السيوفي مقسومين إلى عدة أقسام قسم الأدوات وله وكيلان وقسم النجارة وله وكيلان وقسم الحفر وله وكيل وقسم البرداخ وله وكيل وفي هذا القسم نحو أربعين ابنة تعمل فيه وللمحل رسام خاص وكلهم من أبناء العرب ليس بينهم إفرنجي حتى الأدوات قد جعلت في مواضعها بمعرفة صاحب المعمل دون الاستعانة بأحد من غير أبناء وطنه.

تختلف أجرة العامل في اليوم من ستين بارة إلى ستين قرشاً ويحاسب عن أجرته كل يوم سبت من كل أسبوعين في الشتاء ويحاسب في الصيف كل سبت قبل الظهر ليتيسر له الخروج إن أحب إلى الجبل يصرف ليل الأحد وليل الاثنين فيه للنزهة ويقضي عَلَى كل عامل أن يعمل ستة أشهر تحت التجربة. أولاً ثم تحسم من مياومته أجرة أسبوعين تجعل في صندوق المحل حتى لا تحدثه نفسه بالخروج من المعمل كل يوم أو كل أسبوع كما يفعل بعض العملة في المعامل ويتركون أصاحبها معطلين.

ومن جملة ما شهدته من النظام داخل المعمل قاعة كبرى وموائد يتناول عليها العملة طعام الظهر وآلة تضغط النشارة عندما توضع فيها وهي من اختراع أحد العمال هنا وتلقي بها إلى مكان بعيد خارج بناية العمل ومن هناك يبتاعها أرباب القمامين ومما رايته خارج المعمل من النظام رصف الطريق الموصلة إليه عَلَى نفقة صاحب المعمل وغرس بعض الأشجار عَلَى جانبيها ويبلغ طولها نحو كيلومترين.

هذا ما رأيته في معامل السيوفي من النظام الذي لا أبالغ بأني قلما رأيته في معمل يرأسه شرقي ولذلك بصفق لصاحبه لأنه بدأ به صغيراً سنة 1888 في مدينة بيروت وكبره سنة 1908 في حي الأشرفية عَلَى الصورة التي رأيناها اليوم ونفقة عمارته وأرضه وأدواته تساوي خمسة وعشرين ألف ليرة ولكن لا يتيسر لمن معه مئة ألف ليرة أن يقيم مثله بأدواته ونظامه إذا لم تسبق له معرفة كمعرفة السيوفي ولم يقض سنين مثله في النجارة ويحيط بما جل وقل من أساليب العمل وتجويده فليت كل أعمالنا تجري عَلَى هذا المثال من النظام البليغ والنجاح الأكيد.