مجلة المقتبس/العدد 73/استرداد المجرمين

مجلة المقتبس/العدد 73/استرداد المجرمين

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1912



في البلاد الأجنبية

لا مراء في أن الردع لكثير من المخلوقات عن ارتكاب المنكرات الشخصية والاجتماعية والسياسية هو الخوف من العقوبة لا الخوف من الضمير. ولذلك نرى من الأخلاق لهم يرتكبون أفضح المنكرات إذا وجدوا للفرار والخلاص من وجه القانون سبيلاً.

لا ترجع النفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر

والخلاص من أحكام القانون يكون بوجوه كثيرة منها (1) الرشوة (2) شهود الزور (3) إغضاء المأمورين لأجل تطبيق قاعدة إدارة المصلحة (4) بلاهة بعض الحكام (الحاكم مأمور العدلية فقط). والدواء الوحيد لهذا الداء القتال تعميم العلم وتهذيب الأخلاق وتعريف الإنسان معنى الإنسانية. أي أنه خلق ليخدم أبناء قومه لا ليأكل ويشرب وينافق وينام كبهيمة الأنعام إذ لا ضرر من الأنعام إن لم يتحرش المرء بها، وأما هؤلاء فإنهم يمقتون من كان ذا مزية سواء وافقت أهواءهم أو لم توافق. لأن جل مراسمهم محق الحق والعدل والفضيلة ليس إلا. وأقوى سلاح يتخذونه هو الكذب والافتراء وغاب عنهم أن حبل الافتراء قصير.

(5) فرار المجرم من بلاد دولة إلى بلاد أخرى. وهذا موضوع بحثنا هذا.

لا يحق لدولة من الدول أن تكره مأموري دولة أخرى عَلَى تطبيق أحكام قوانينها مطلقاً. لأن حق القضاء محدود داخل المملكة ولا مساغ لتعديه حدود غيرها. فعدَّ من لا خلاق لهم من أرباب القلوب الصلبة والضمائر الميتة هذه القاعدة نعمة كبرى وأخذوا يفرون إلى الممالك الأجنبية ليتخلصوا من الجزاء وهكذا كان.

بيد أن هنا مضرات عديدة اجتماعية لفتت نظر رجال الدول فطفقوا يفكرون بتدبير مؤتم يمنع هذا الفرار لأجل استعادة المجرمين. لماذا؟

لا شك أن المجرم إذا ترك بلا جزاء يكون سبباً داعياً لكثرة الجرائم واختلال الأمن العام مما ثبت تاريخياً فإنه من أعدى الأمراض وإنه سريع الانتقال من مملكة إلى أخرى. وهذا هو السر الذي يدعو الدولة أن تطلب المجرم الفار من بلادها.

عَلَى أن المجرب إذا حل مريض بين أصحاب مرضهم أو فاسد بين أدباء أفسدهم فخوفاً هذا شعرت الدول التي يلتجئُ إليها أحد الفارين بلزوم طرد هذا المجرم الفار من وجه العدل أو تسليمه عَلَى الأقل لكي تطهر بلادها منه.

ولهذه الأسباب نرى الدول في عهدنا تتهافت وأي تهافت لعقد المعاهدات التي تؤدي إلى استرداد المجرمين الفارين. وإليك القواعد العلمية:

لا يجوز طلب استرداد المجرم إلا إذا كان للدولة الطالبة أي التي وقع الجرم في بلادها حق القضاء عَلَى المجرم الفار. ولما كان حق القضاء محصوراً داخل الحدود الملكية أراني مضطراً لبيان هذه الحدود ومحل تطبيق هذه السلطة ولهذا يجب قبل كل شيء تعريف أقسام ممالك الدول

1 - البلاد الواقعة ضمن الحدود الجغرافية.

2 - البحور الداخلية أي التي تحاط بممالك خاضعة لدولة واحدة والأنهر والمضايق البحرية والترع.

3 - المياه الساحلية أي ما يبعد عن الساحل ثلاثة أميا من البحر (الميل 1852 متراً) أو إلى وصول مرمى أحسن مدفع. وهذا يعد من بلاد الدولة المجاورة وما عداه فهو عام.

4 - البلاد المحتلة عسكرياً سواء كان بحال الصلح أو بحال الحرب.

5 - السفن التجارية وسفن النزه.

فحق القضاء يشمل كل جرم وقع في هذه الأقسام المصرح بها أعلاه. ويحق لكل دولة طلب المجرم لمجازاته إذا ارتكب جرماً بها وفر إلى البلاد الأجنبية. وهذه مسألة من مسائل حقوق الدول تحل بواسطة السفراء ونظارات الخارجية وفقاً للمعاهدات أو العرف والعادة.

ستلزم الجنايات العامة وبض الجنح المهمة الرد وأما ارتكبوا القبائح فلا يطلبون ولا يرددون.

القاعدة العلمية في إعادة المجرمين -. أن يكون الجرم محظوراً بقانون كلتا الدولتين أي الفار منها والملتجأ إليها. مثلاً: تعدد الزوجات ممنوع عند الدولة الفرنساوية ومباح عند الدولة العثمانية. وعليه يعد جرماً بفرنسا ومندوباً بالمملكة العثمانية. فإذا فر فرنساوي والتجأ إلى الدولة العثمانية لارتكابه هذا الجرم هل يجوز تسليمه؟ لا يجوز قطعاً لأن الشرط يكون ممنوعاً عند الدولتين. أما لو كان جرمه جرم سرقة وجبت إعادته عَلَى شرط أن يكون بين الدولتين معاهدة أو تعامل.

أما لو التجأ أحد قرصان البحر إلى بلاد سويسرا وكان هذا فرنسوياً (من قبيل الافتراض) فهل يحق لسويسرا أن تمتنع عن تسليمه بحجة أن لا صراحة في قوانينها لهذه المسألة؟ كلا:

لأن عدم الصراحة في قانون سويسرا لم ينجم عن افتراضها القرصانية أمراً مشروعاً بل من عدم وجود سبب لدرج أمثال هذا القيد بقوانينها وذلك لفقدان السواحل عندها هذه هي القاعدة العملية بخصوص إعادة المجرم فلنبحث الآن عن مستثنياتها.

إن لهذه القاعدة استثنائين أحدهما يتعلق بالجرم والآخر بالمجرم فالذي يتعلق بالشخص هو كون الملتجئ من تبعة الدولة الملتجئ إليها. فلو أن ألمانياً مثلاً ارتكب جرماً في فرنسا ففر منها وأتى ألمانيا فلها الحق بأن تنتع عن تسليمه. وهذه قاعدة كلية سارية بين جميع الدول. إذ كيف يقبل قوم بخضوع فرد منهم لقانون قوم آخر؟

وأما الاستثناء الذي يتعلق بالجرم فهو أن يكون الجرم عسكرياً أو سياسياً فأرباب هذه الجرائم أيضاً لا تعاد بتة.

وسبب ذلك أن الدولة لا تقبل الجندي الفار ولو أعيد لها لأنها لا تؤمل منه خيراً بل تعده كالغصن الفاسد فتقطعه من شجرتها وتلقي به عَلَى الأرض خوفاً من أن يفسد مجاوريه. إلا إذا كان ضابطاً في سفينة ونزل إلى البر وامتنع من الرجوع إليها. فيعاد خوفاً من تعطيل السفينة.

وأما سبب عدم إعادة أرباب الجرائم السياسية فهو سر غامض وأمر مهم. لأن التاريخ يدل عَلَى أن أكثر الفارين من هذا القبيل كانوا عَلَى حق وإن سبب اضطهادهم وفرارهم لم يكن إلا من علو أفكارهم التي تعجز حوصلة العامة أو رجال الأمر والنهي عن إدراكها فيعدونه مخطئاً فيضطهدونه ويحكمون عليه حكماً جائراً ويخنقون فكرته. فلا جل الاستفادة من أفكاره في الحال والمستقبل لا تجوز إعادته بل إنهم يجلونه ويكرمونه.

وهناك شرط آخر للاستعادة وهو عدم سقوط الجرم بمرور الزمان القانوني عَلَى حسب قوانين الدولتين.

قد يمكن أن يطلب المجرم من قبل دول متعددة في آن واحد فالواجب حينئذ تسليمه إلى الدولة التي وقع الجرم في بلادها. فإذا ارتكب ألماني مثلاً جرماً في فرنسا وهرب إلى بلجيكا وطلب من الدولتين في آن واحد، يجب تسليمه لفرنسا لا لدولة ألمانيا. أما لو ارتكب جرماً في ألمانيا دولته وفي فرنسا يسلم لدولته ألمانيا. وإن كانت جرائمه عديدة وفي بلاد مختلفة وطلبتهن كلهن بآن واحد ينظر: أي الجرائم أشد فيسلم التي وقع فيها ذلك الجرم الشديد. وإن كانت درجة الجرائم متساوية يسلم للتي تطلبه أولاً. أما إذا وجد بين دولة معاهدة فيسلم لربة المعاهدة دون أن يلتفت لأحد غيرها.

والخلاصة فإن معاهدات إعادة المجرمين تبحث دائماً في مسائل أربع:

1 - لا تعيد دولة من الدول ملتجئاً إليها إذا كان من تبعتها.

2 - أرباب الجرائم السياسية لا يعادون.

3 - أن يكون الجرم ممنوعاً بقانون الدولتين.

4 - أن لا يحاكم إلا من أجل الجرم الذي كان سبباً لفراره بغض النظر عما عداه.

ولا يذهلن عن نظرك أيها القارئ الكريم أن إعادة المجرمين ليست أمراً محتماً. فإن كانت الدولتان متعاهدتين فالإعادة ضرورية وإلا فلا.

ومن الأسف أن الدولة العثمانية لم تتعاهد بهذا الباب مع إحدى الدول بتاتاً وقد مضى ردح من الزمن والدولة العثمانية تعيد لروسيا من يفر من بلادها لولايتي طرابزون وارض روم كما أن روسيا كانت تعيد من يفر من العثمانيين إلى قفقاسيا. إلا أن هذا الوفاق لم يدم كثيراً.

وكان قد تقرر مع دولة الصرب إعادة مجرمي الطرفين مؤقتاً ريثما تعقد معاهدة بين الدولتين. وبعد أن أعيد كثير من الجهتين فسخ هذا التعهد الشفاهي لامتناع حكومة الصرب عن الإعادة.

وأما المعاهدة التي عقدت في أيام عارفي باشا مع حكومة أميركا فلم توضع موضع الإجراء قط.

وأما الآن فمن المقرر عقد معاهدة مع دولة اليونان حسبما يقتضيه الجوار ولاحتياج الطرفين لها.

وأغرب ما يتصور أن الإدارة السابقة كانت تعيد كل مجرم التجأ إليها دون مقابل ولا معاهدة حتى أن المجرم العثماني المحكوم بخمس عشرة سنة كان يفر إلى بلاد النمسا وبعد فوات الزمن يعود فرحاً فخوراً. أما المجرم النمساوي فكزان يعاد بمجرد وصوله إلى بلاد الدولة العثمانية. وما سبب هذه المسامحة والغفلة السياسية إلا الخوف من تعكير جو الرفاهية عَلَى زعمهم كأنه من الممكن اجتماع الشرف والتغافل السياسي!

نابلس

حسن عبد الهادي