مجلة المقتبس/العدد 74/تاريخ الحضارة

مجلة المقتبس/العدد 74/تاريخ الحضارة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1912



في القرون الوسطى والقرون الحديثة

أصول الحضارة

الآثار قبل التاريخ - تجد في الأرض أحياناً دفائن من سلاح وأدوات وعظام بشرية وبقايا من كل نوع تركها البشر ولا يعلم عنها شيء ويستخرج منها ألوف من الأنواع في جميع ولايات فرنسا وسويسرا وإنكلترا بل في أوربا كلها بل يستخرج مثلها من آسيا وأفريقية ولا شك أن لها مثالاً في العالم كله. وتسمى هذه البقايا آثار ما قبل التاريخ لأنها أقدم من التاريخ ومنذ نحو أربعين سنة أخذ العلماء يجمعونها أو يدرسونها. ولمعظم المتاحف اليوم قاعة أو عَلَى الأقل بعض بيوت من الزجاج مملوء من هذه البقايا. وعَلَى مقربة من باريز في (سان جرمان إن لاي) متحف من قبل عهد التاريخ. وقد جمعت الدانيمرك زهاء ثلاثين ألف قطعة من الآثار. وفي كل يوم يعثر عَلَى تحف أثناء الحفر وعند بناء بيت وحفر حفيرة لسكة حديدية.

وهذه التحف لا ترى عَلَى سطح الأرض بل هي مدفونة في الأعماق وفي أماكن لم تنبش تربتها وهي مغشاة بطبقة من الحصباء والطين الندي تراكمت شيئاً فشيئاً فوقتها وجعلتها بمأمن من الهواء وهو ما يؤكد كل التأكيد بان تلك الدفائن هتاك منذ زمن بعيد.

علم ما قبل التاريخ - فحص العلماء هذه الآثار فتساءلوا عمن خلفها لنا وحاولوا أن يعرفوا من عظامها وأدواتها كيف بقيت وكيف كانت تعيش فأثبتوا أن هذه الأدوات تشبه ما يستعمله بعض المتوحشين إلى اليوم. ومن درس هذه التحف نشأ علم جديد سموه علم الآثار قبل زمن التاريخ.

العصور الأربعة - حدثت بقايا قبل زمن التاريخ من أجناس من البشر منوعة كثيراً فبقيت في الأرض أدواراً متطاولة جداً من الزمن كان يعيش فيه في بلادنا الماموت وهو نوع من الفيل العظيم له جلد كثير الوبر وأنياب محددة. وتقسم هذه السلسلة من القرون إلى أربعة أزمان تسمى عصوراً.

فالأول عصر الحجر النحيت والثاني عصر الحجر الصقيل والثالث عصر النحاس والرابع عصر الحديد. سمت كذلك بسبب الأدوات التي كانوا يعملونها من الحجر والنحاس أو الحديد. عَلَى أن هذه الزمان تختلف طولاً وقصراً وربما دام عصر الحجر النحيت مئة ضعف عصر الحديد.

عصر الحجر

بقايا الحصباء - أقدم الأطلال التي عثر عليها كانت مدفونة في الحصباء. وقد ظفر أحد علماء فرنسا المسيو بوشه دي برت (منذ سنة 1841 إلى سنة 1853) في وادي لاسوم بأدوات قاطعة من الصوان وكانت مطمورة عَلَى عمق ستة أمتار فالحصباء عَلَى ثلاث طبقات من أرض خزف وحصباءٍ وكلس صلصالية لم تحركها يد. كما عثروا في نفس تلك الأماكن عَلَى عظام بقر وأيائل وفيلة. وظل الناس يهزؤن زمناً بهذه الاكتشافات فكانوا يقولون أن هذا الصوان قد نجت صدفة بلا تعمل حتى إذا كانت سنة 1860 جاء عدة علماء بالقصد إلى وادي لاسوم واعترفوا أن هذا الصوان قد نحته يد بشر بلا مراءٍ. ومنذ ذاك العهد عثروا عَلَى زهاء خمسة آلاف قطعة تشبه تلك في طبقات من هذا الجنس نفسه وذلك في وادي السين وفي إنكلترا وكن بجانب بعض تلك الآثار بقايا عظام بشرية. ولا يختلف اثنان اليوم في أنه كان بشر في العالم في الزمن الذي تألفت فيه عَلَى تربتنا طبقات الحصباء. فإذا كانت الطبقات التي تغشى هذه الأطلال تقد تألفت بالبطء الذي تتألف به لعهدنا هذا فإن البشر الذي وجدت عظامهم وأدواتهم قد عاشوا قبل زهاء مئتي ألف سنة.

رجال الغيران - ولطالما عثر الباحثون عَلَى أطلال في الغيران محفورة في الصخر تكون أحياناًَ قائمة فوق نهر وأشهرها مغارات شواطئ الفزير (أحد أنهار فرنسا) ويكثر أمثالها في كثير من الأماكن اتخذت قدماً مساكن للناس وأحياناً قبواً لهم. فتجد فيها هياكل عظامهم وأسلحتهم وأدواتهم وهي عبارة عن فؤوس وسكاكين وأزاميل أسنة رماح من الصوان وسهام وشفار كلاليب وإبر من العظام مثل ما كان يستعملها بعض المتوحشين وقد نثرت عَلَى التربة عظام الحيوانات فكان أولئك الناس القذرون كسائر المتوحشين بلقون بها في زاوية بعد أن يأكلوا الحيوانات وقد يشقون عظامه ليستخرجوا منه النخاع عَلَى ما يفعل اليوم المتوحشون. ولست ترى بين تلك الوحوش الأرنب والأيل والبقر والحصان وحوت سليمان بل تجد بينها أيضاً الكركدن ودب الكهوف والماموت والوعل وبقر السهل وجميع ضروب الوحوش المنقرض نسلها من فرنسا منذ زمن طويل. ولزقد عثر أيضاً عَلَى بعض المنقوشة عَلَى عظام الوعل أو عَلَى أسنان الماموت تمثل إحداها قتال وعول والثانية حيوان الماموت أي فيلاً هائلاً إذ جلد له وبر كالصوف وأنياب معقفة.

لا جرم في أن هؤلاء الناس كانوا معاصرين لذاك الفيل والوعل فكانوا كجنس الأسكيمو (سكان القطب في أميركا) في عهدنا هذا قوم دأبهم الصيد والقنص يحسنون صنع الصوان وإيقاد النيران.

المساكن - انخفضت المياه في بحيرة زوريخ (سويسرا) سنة 1854 عقب ما حدث من الجفاف في صيف تلك السنة فاكتشف سكان الشواطئ أوتاداً غرزت للبناء وهي بالية جداً وماعوناً غليظاً غير محكم وكانت هذه بقايا قرية قديمة بنيت عَلَى الماء. ثم عثر عَلَى زهاء مائتي قرية تشبهها في بحيرات سويسرا ويدعونها القرى أو المدن المبنية عَلَى أوتاد في شواطئ البحيرات. أما الأوتاد التي قامت عليها تلك المساكن فقد جعلت من جذوع الأشجار غرزت من أطرافها في البحيرة عَلَى عمق عدة أمتار واقتضى لإنشاء كل قرية من ثلاثين إلى أربعين ألف جزع تحمل سطحاً من الخشب أقيمت عليه بيوت من خشب مغشى بالطين. ويستدل مما عثر عليه من مئات من الأمتعة في وسط تلك الأوتاد عَلَى العيشة التي كان السكان يعشونها فقد كانوا يأكلون من الحيوانات التي يصيبونها الأيل والوعل والخنزير البري عَلَى حين كانوا يعرفون من قبل الحيوانات الأهلية كالبقر والعنز والحمل والكلب ويحسنون زرع الأرض وحصاد الغلة وطح الحب لأنه وجد في أطلال قراهم حب الحنطة بل الخز (وبعبارة أخرى معجنات بدون خمير) وكانوا ينسجون الأقمشة الغليظة من القنب ويخيطون الثياب وقد عثر عَلَى إبر من عظام وكانوا يعملون الفخار عَلَى صورة ليس فيها شيء من المهارة وترى آنيتهم لا أثر للدقة فيها بل هي معمولة باليد مزدانة ببعض خطوط فقط وكانوا يستعملون السهام والسكاكين من حجر الصوان مثل سكان الغيران ولكنهم يعملون فؤوسهم من حجر صلب للغاية تعلموا صقله. ولذلك دعي عصرهم بعصر الحجر الصقيل وهؤلاء السكان أحدق عهداً من سكان الغيران لأنهم لم يعرفوا فيل الماموت ولا الكركدن وإن كانوا عرفوا الوعل والأيل في أرض فرنسا.

المصانع أو البنية - تسمى البنية المصنوعة من ضخم الشقيف من الأحجار غير المصقولة البنية الميكاليتية أي الأحجار الضخمة ويكون الحجر فيها تارة عَلَى حاله وأخرى مغشى بالطين. والمصانع التي يبقى فيها الصخر مكشوفاً هي عَلَى أنواع فمنها الدولمانوهو منضدة منالحجر مؤلفة من حجر مستطيل مركوز عَلَى عدة أحجار مغروزة في الأرض والكروماش وهي دائرة من الحجر يتألف من صخور كبيرة مصفوفة عَلَى صورة إطار ومنها المانهير وهي حجر طويل مؤلف من شقيفة جعلت عَلَى طرفها وكثيراً ما تكون عدة من المانهير مصفوفة صفاً واحداً. ولا تزال في الكرنك من إقليم برتانيا أربعة آلاف من هذا البناء قائمة عَلَى أحد عشر صفاً. ويذهبون إلى أنه كان قديماً عشرة آلاف واحد من نوعها جعلت عَلَى صف واحد في ذاك المكان. وإنك لتشاهد البنية الميكاليتية في فرنسا بالمئات في ولايات الغرب ولاسيما في إقليم برتانيا وتجد في إنكلترا منها عَلَى معظم الآكام ومنها زهاء ألفي بناية فقط في جزائر أوركاد.

وتسمى المصانع المدفونة التومولوس وهي تشبه أكمة عن بعد وإذا فتحت يجد المرء في داخلها غرفة من الحجر وكثيراً ما تكون مبلطة بألواح من الصخر. وترى منها في بلاد الدانيمرك وألمانيا الشمالية مصانع منثورة ويسمي أهالي تلك البلاد تلك المصانع المدفونة قبور الجبارين.

والمصانع الميكاليتية كثيرة خارج أوربا وفي الهند وعَلَى شاطئ أفريقية. ولا نعلم أي الشعوب استطاعت إخراج مثل هذا الشقيف ونقله ولقد جاء زمن طويل كانوا يظنون فيه أن قدماء الغاليين والسلتيين هم الذين عنوا باستخراجها ونقلها ومن هنا جاء اسم المصانع السلتية ولكن ذلك مردود إلى أن ثبت وجود مثل هذه المصانع في أفريقية والهند.

وإذا فتحت بعض هذه المصانع المدفونة غير الممسوسة تجد فيها كل حين هياكل عظام وكثيراً ما يكون عدة هياكل وهي إما جالسة أو مضطجعة فهذه المصانع عبارة عن قبور فتجد بالقرب من الميت أسلحة وآنية ونقوشاً. وفي أقدم هذه القبور ترى الأسلحة عبارة عن فؤوس من الحجر الصقيل والنقوش هي أصداف ولآلئ وعقود من عظم أو من عاج والآنية بسيطة للغاية بدون عروة ولا عنق بل هي مزدانة فقط بخطوط أو بنقط وترى فيها عظام حيوانات ملقاة عَلَى الأرض مكلسة وهي بقايا طعام قدم في جنازة اتلميت قدمه احبابه إلى قبره. وليس بين هذه العظام أثر ولعظم الوعل وهذا ما يستدل منه عَلَى أن هذه المصانع بنيت عندما اندثر جنس الوعل ومن أقطارنا إلى بعد زمن القرى المبنية في البحيرات.

قرى المعادن

القلز (النحاس الذي لا يعمل فيه الحديد) استعمل البشر المعادن منذ عرفوا إذابتها ليصنعوا منها أسلحتهم مفضلين لها عَلَى الحجر. فأول معدن شاع بالاستعمال هو النحاس لسهولة استخراجه لأن منه الصافي السهل عَلَى التطريق إذ يمكن تطريقه بارداً ولكن لم يستعمل النحاس الخالص ومنه تصنع أسلحة سريعة العطب قابلة للتقليد. ولذلك مزجوه بـ 10/ 1 من القصدير ليزيد صلابته وهذا المزيج من النحس والشبه هو الذي يسمونه القلز.

أدوات البرونز - صنعوا من القلز أدو ات العمل (كالمدى والمطارق والمناشير والإبر والصنانير) وأدوات للزينة (أساور وسفافيد وقراط) وصنعوا منها أسلحة بوجه مخصوص (مثل الخناجر وزج الرماح والفؤوس والسيوف) ويوجد من هذه المصنوعات في قارة أوربا عامة في المصانع المدفونة وفي نضائد الرخام الحديثة وفي معادن الحمر المشتعل ببلاد الدانيمرك وفي مدافن الحجر وكثيراًَ ما يكتشف بالقرب من هذه المصنوعات من البرونز أدوات الزينة من ذهب وأحيانا بقايا ثوب من الصوف. ولا يتأتى أن تكون جميع أدوات البرونز متشابهة بالعرض ومعمولة من مزيج معين. لا جرم أن تاريخها يرد إلى عهد واحد وهو مقدم عَلَى وصول الرومان إلى غاليا إذ لم يظفر بها قط في جانب الآثار الرومانية وإلى اليوم لم يعرف من كان يستعملها.

قرن الحديد - لما كان الحديد أصعب عَلَى التطريق وأقسى عَلَى العمل من البرونز لم يعرف استعماله إلا مؤخراً. وإذا كان أكثر صلابة لم يستعمل غيره للسلاح منذ عرف. وكان الحديد عَلَى عهد هوميروس لبلاد اليونان معدناً ثميناً يدخرونه لصنع السيوف ويبقون القلز لسائر الاستعمالات ولذلك ترى كثيراً من القبور تحوي أشياء من القلز وأسلحة من الحديد كيفما اتفق.

وهذه السلحة هي فؤوس وسيوف واقواس ودروع ويوجد منها في العادة بالقرب من هيكل عظام وفي قبر حجر أو خشب لأن المحاربين كانوا يدفنون مع أسلحتهم ويعثر منها في ساحة الحروب متفرقة أو ضائعة في قعر حوض من الحجر وقد اكتشف في أحد هذه الأحواض في شلزويك 100 سيف و500 رمح و30 فأساً و460 سهماً و80 مدية و40 منقشاً وكلها من الحديد وعَلَى مقربة من ذاك المكان في مجرى بحيرة قديمة رأوا مركباً عظيماً طوله 20 متراً محملاً كله من المحاز والسيوف والنصال والمدى فالأشياء المعمولة من الحديد التي يعثر عَلَى هذه الصورة لا تحصى وزهي أقل بهاء من مصنوعات البرونز لأن الصدأ يأكل الحديد بسرعة فتراها لأول وهلة أكثر قدماً ولكنها في الحقيقة أكثر جدة.

عرف سكان شمةالي أوربا الحديد قبل دخول الرومان أي في القرن الأول ب. م. وقد اكتشف في مقبرة قديمة بالقرب من مناجم الملح في هالستاد في بلاد النمسا 980 قبراً تحتوي عَلَى أدوات من الحديد والبرونز ولم يظفروا معها بقطعة من النقود الرومانية وقد دام قرن الحديد إلى عهد الرومانيين. وإن المصنوعات الحديدية ليعثر عليها مع أدوات الزينة الذهبية والفضية والأواني الخزفية الرومانية ونواويس وكتابات ونقود رومانية عَلَى مثال صور الإمبراطور والمحاربون الذين نراهم مضطجعين بالقرب من سيوفهم ودروعهم كانوا في الأكثر إلى عهد قريب منا وكان كثير منهم عَلَى عهد الميروفنجيين وبعضهم أيضاً عَلَى عهد شارلمان. فليس قرن الحديد إذاً من القرون التي تعد قبل زمن التاريخ.

الخلاصة

ماذا يراد من القرون الأربعة - استعمل سكان البلد الواحد الأحجار المنحوتة فالأحجار المصقولة فالقلز فالحديد ولكن البلاد كلها لم تكن تستعمل في القرن الواحد المعدن الواحد فالمصريون استخدموا الحديد في حين كان اليونان يستعملون القلز وبرابرة الدانيمرك مازالوا عَلَى استعمال الحجر ولم ينته عصر الحجر المصقول في أميركا إلا عندما وصل إليها الأوربيون وظل المتوحشون من أهل أستراليا إلى أيامنا هذه في عصر الحجر النحيت ولا يوجد في منازل عسكرهم سوى أدوات من العظام وقداحات تشبه ما كان يستعمله سكان الغيران فليس للعصور الأربعة إذن أدوار في حياة الإنسانية بل في حياة كل مملكة عَلَى حدتها فقط.

شكوك - ما برح علم الآثار قبل التاريخ من العلوم الحديثة النشأة وما نعرفه عن البشر الأصليين تعلمنها من بقايا حفظت بالعرض ووجدت كذلك وعَلَى ذلك وقد تؤدي صدمة جديدة وحفيرة أو خندق وانهيار أرض وجفاف مطر إلى اكتشاف جديد. ومن يعرف ما هو مدفون في بطن الأرض حتى الآن فإن ما عثر عليه اليوم من المدفونات حتى اليوم من الأشياء لا يقع تحت الحصر ولكن قلما تفيدنا فيما نريد أن نعرفه. فكم من زمن دام كل عصر من العصور الأربعة؟ ومتى بدأ وانتهى في البلدان المختلفة؟ ومن أي الشعوب أتت صوب الغيران والكهوف والقرى في وسط البحيرات والمصانع المدفونة في النضائد الحجرية؟ وعندما تنقل مملكة من عصر الحجر المصقول إلى القلز هل يكون الشعب نفسه قد غير أدواته أو خلفه شعب آخر؟ وعندما يتعقد بعضهم أنهم ظفروا بجواب عَلَى ذلك يحدث اكتشاف جديد يكذب علماء الآثار فقد كان يظن أن النضائد الحجرية جاءت من السلتيين فوجدوا منها في محال لم يستطع السلتيون أن يجتازوها.

مسائل محلولة - ومع هذا فإن ثلاث مسائل يظهر أنها محلولة (1ً) الإنسان هو قديم عَلَى الأرض لأنه عرف الماموت ودب الكهوف فكان يعيش عَلَى الأقل خلال العصر الذي يقال له العصر الرباعي (2ً) انتقل الإنسان من حالة الهمجية حتى وصل إلى المدنية وحسن بالتدريج آلاته وأدوات زينته من الفأس الحقير المعمول من الصوان والعقد المؤلف من أسنان الدببة إلى سيوف الحديد وحلي الذهب وذلك لأن الأدوات الغليظة كثيراً هي أيضاً عريقة في القدم (3ً) تقدم الإنسان تقدماً سريعاً ومكان كل عصر أقصر مما سبقه.

غاليا

شعوب غاليا المستقلة - كانت البلاد التي يسكنها (الفرنسويون) تدعى قديماً بلاد غاليا ويريدون بهذا الاسم جميع الصقع الممتد من جبال البيرينية إلى الألب والرين فالبحر هذه البلاد الواسعة لم تكن مملكة واحدة بل كانت تنوقسم بين مئة من الشعوب الصغيرة عَلَى الأقل ولكل منها حكومته وجيشه يحارب بعضها بعضاً.

وهذه الشعوب مؤلفة من ثلاثة عناصر مختلفة

(1ً) كان الإيبريون وهم من نفس عنصر سكان إسبانيا يتكلمون في الجنوب في البلاد الواقعة بين جبال البرنيه ونهر الغارون بلغة لا تسبه بوجه من الوجوه اللغات التي يتكلم في أوربا وما زال يتكلم بها إلى الآن الباسك في البرنيه.

(2ً) كان السلتيون في الوسط أي من نهر الغارون إلى نهر المارن من عنصر سكان إيرلاندا نفسه ولغتهم تشبه اللغة التي يتكلم بها في إيرلاندا وفي بلاد الغال وبريطانيا.

(3ً) في الشمال منة نهر المارن إلى نهر الرين الشعب البلجيكي الذي كان بعضه من السلتيين والآخر من الجرمانيين أي من نفس الشعوب التي تسكن ألمانيا.

فلم يكن في غاليا من ثم وحدة في الجنس ولا وحدة في اللغة.

ديانة الغاليين - كانت ديانة الشعوب الغالية اشبه بديانة اليونان والرومان فيعبدون عدة أرباب تمثلها أصنام. ونحن لا نعرف أيضاً أسماء هذه الأرباب ولكننا نعرف أهمها. وهي رب الشمس (بلن) وربة القمر (بلزانا) ورب الفصاحة ويمثلونه في سلاسل ذهب خارجة من فمه لتقيد الحضور ورب مكلف بأن يقود إلى جهنم أرواح الموتى (توتاتس) ورب الرعد ورب يدعى المفزع كان يسكن الغابات المظلمة. وكانوا يقدمون لهذه الأرباب إكراماً لها وكثيراً ما يذبحون لها ذبائح بشرية يختارونها إما من الجناة المحكوم عليهم بالإعدام أو من أسرى الحرب وكان في غاليا طبقة من الناس وقفت نفسها عَلَى خدمة الدين وهم الدوروديون يجتمعون خاصة من شبان الأسر الشريفة وهم في العادة ينوون التبتل فلا يتزوجون وكان للدوريديين مذاهب دينية تخالف دين الشعب ولم ينته إلينا ما يعرفنا بهذين المذهبين ولا نعلم أنهم كانوا يعتقدون بخلود الروح. وكانوا يلبسون فسطاناً أبيض ونعالاً ويقبضون بأيديهم قضباناً بيضاء يستعملونها في الأعمال السحرية لنهم كانوا كهنة وأطباء وسحرة وقضاة في آن واحد. وكانوا يرون أن لبعض النباتات فضيلة ذاتية ولاسيما دبق (عنم) البلوط وهو النبات الذي يشفي بزعمهم من دعامة الأمراض فكانوا يجنونه باحتفال حافل بمناجل من ذهب في اليوم السادس من آخر شهر في الشتاء.

أخلاق الغاليين وعاداتهم - كانت الشعوب الغالية إلى القرن الأول من التاريخ المسيحي برابرة متوحشين يعيشون إلا قليلاً كما يعيش اليونان قبل هوميروس أو الرومان في أوائل أمرهم وكانت البلاد مغشاة بغابات واسعة يسكنها الذئاب والأيائل والنعام والدببة وفيها بطائح مؤلفة من انهار ولم يكن فيها من طرق سوى الضيق المعوج ولم تمكن البيوت سوى أكواخ صغيرة من خشب أو من لبن مغطاة بقش لا نوافذ لها ولا مداخن ولها في السقف خرق يصعد منه الدخان حتى أنه لم يكن الأغنياء الغاليين أثاث ولا فرش بل كانوا ينامون عَلَى القش أو عَلَى جلود ويأكلون بأيديهم ولم يكن لهم مدن يصح إطلاق لفظ مدينة عليها بل لهم أسوار من الحجر يسكن داخلها القوم ويتحصنون أيام الحروب وهناك كانت تقام الأسواق وتعقد مجتمعات المحاربين والأشراف.

ولكم يكن سكان البلاد متساويين فيما بينهم فكان الفلاحون طبقة دنيئة والمحاربون الذين يقاتلون عَلَى خيولهم هم طبقة الأشراف وهؤلاء وحدهم هم الحكام وكان لبعض الشعوب زعيم سام أي ملك (ولفظ ريكس) الغالية التي توجد في عدة من أسماء رؤسائهم مثل أمبيوريكس بوايوريكس فرسينوجيتوريكس وغير ذلك هي نفس اللفظ اللاتيني ريكس.

وكان المحاربون يتسلحون برمح لها سنان من القلز وبسيف ثقيل من الحديد ويلبسون خوذة وترساً من الخشب ولم يكونوا يلبسون الدروع. ويفوق الغاليون اليونان والرومان من جهة واحدة فقط هو أن ثيابهم كانت أكثر ملائمة وأحسن صنعاً للتوقي من البرد. فبدلاً من أن يلبسوا مثلهم ثياباً طويلة تربك صاحبها وتترك ساقيه عريانتين ونعليه تكشفان رجليه كانوا يلبسون نوعاً من السراويل (البري) ومشلحاً وضرباً من ضروب الأردية (السي) أشبه بما يلبسه الجيليون من أهل إيكوسيا وأحذية تسمى كاليكا الغالية ومنها جاءت لفظة كالوش الفرنسية واقتبس الرومانيون تلك السراويل الغالية.

غالية الرومانية

كيف أصبحت غاليا رومانية - استوطن الرومان بادئ بدءٍ الشطر الجنوبي من غاليما في جوار إيطاليا حيث طاب لهم الهواء وأطلق عَلَى البلاد جبال البيرنيه إلى جبال الألب اسم بروفانس أي ولاية (وبقي اسم بروزفانس يطلق عَلَى القسم الشرقي من شرقي نهر الرون) فلم يمض زمن طويل حتى اشبهت بلاد إيطاليا ولما افتتح قيصر بقية بلاد غاليا خف سكانها إلى التخلي عن عاداتهم واقتباس عادات الرومان فغادروا القرى ونزلوا المدن حيث انشئوا المعابد ودور تمثيل وحمامات وبيوت من رخام مفروشة بالفسيفساء عَلَى نحو ما اعتاد أغنياء الرومان.

وحذا السكان حذوا الأشراف فتركوا بالتدريج حتى لغتهم واخذوا يتكلمون باللاتينية ومن اللاتينية التي تكلم بها العامة في المملكة الرومانية نشأت اللغات الرومانية كالفرنسوية والإيطالية والإسبانية ويكاد لم يبق في الإفرنسية سوى كلمات طفيفة من اللغات الغالية (مثل بك منقار كوك ديك ألويت قنبرة مارن تراب كلسي ممزوج بصلصال دون كثيب ليو فرسخ).

نظام غاليا - لم تدثر الشعوب الصغرى التي كانت تتقاسم غاليا بل تألفت من كل واحد منها مدينة سميت باسم سكانها (مثل سواسون تريف ليوج باريز) وكلما أنشئت مدن جديدة تضاف إلى ما أنشئ من نوعها قبلاً. وانضمت عدة مدن متألفت منها ولاية وكان لكل ولاية حاكم ينوب عن الإمبراطور وله سلطة مطلقة نافذة فهو يقضي بين الناس ويبيت المسائل ويبلغ المدن أوامر الإمبراطور وكان الواي في كالولايات الواقعة عَلَى الحدود حيث يرابط فيلق من الجيش هو القائد.

وما قط كان لسكان غاليا غاية في تاليف أمة خارجة عن بقية المملكة حتى أمسوا عَلَى التوالي يعتبرون أنفسهم رومانيين فيطيعون الإمبراطور وحكامه عن رضى ولذلك لم يكن الإمبراطور في حاجة أن يضم شملهم تحت رايته بالقوة كما يجمع شمل الشعب المغلوب عَلَى أمره. وكان له جيش ولكن عَلَى التخوم فقط للدفاع عن الغاليين من غزوات برابرة الجرمانيين لا لإكراههم عَلَى الخضوع. ولم يكن في تلك البلاد الواسعة التي هي أكبر من فرنسا الحديثة من الجنود إلا حرس الولاة يبلغ عددهم عَلَى الجملة ثلاثة آلاف رجل.

أصول المجالس البلدية في غاليا - ظل صغار الشعوب في غاليا يديرون أمور أنفسهم بأنفسهم وكان للإمبراطور التدخل في مسائلهم الداخلية ولكنه لا يسئ في العادة استعمال حقوقه بل يطلب إليهم فقط ألا يحارب بعضهم بعضاً وأن يؤدوا المطلوب منهم للحكومة في أوقاته وأن يحضروا أمام المحكمة الوالي وكان في كل ولاية عدة حكومات صغرى وتدعى كما كانت قديماً في المملكة الرومانية مداً أو بلديات. فالمدينة عَلَى عهد الإمبراطورية الرومانية كانت عَلَى مثال المدينة الرومانية نفسها فيها مجالس لعامتها وعمال ينتخبون كل سنة وينقسمون أقساماً كل قسم مؤلف من عنصرين ومجلسة الشيوخ يتألف من كبار أرباب الأملاك أي من الأشراف والأسرات القديمة وكان حال مجلس العامة أو الأمة كما هو الحال في رومية صورياً وفي مجلس الشيوخ أي الأشراف هم الحكام حقيقة أنا وسط المدينة فهو مدينة صرفة عَلَى الدوام أي رومية مصغرة ولها معابدها وأقواس نصرها وحماماتها العامة وعيونها ومسارحها وميادين لقتالها والحياة فيها صو رة من حياة رومية مصغرة من حيث توزيع الحنطة والدراهم والمآدب العامة والحفلات الدينية الكبرى والألعاب الدموية. إلا أن دراهم الولايات في رومية هي التي تؤدي النفقات أما في المدن فإن الأشراف أنفسهم يقومون بالنفقات اللازمة للحكومة والأعياد.

وكان الخراج الذي يجبى لحساب الإمبراطور يذهب إليه برمته لذلك اقتضى أن يقوم الأغنياء عَلَى نفقتهم بالاحتفال بالألعاب وإحماء الحمامات وتبليط الشوارع وإنشاء الجسور والمجاري والملاعب. قاموا بكل ذلك مدة قرنين وبذلوا عن سعة في إقامة المصانع المنبثة في أرض المملكة وألوف من الكتابات المزبورة عَلَى الأحجار شاهدة بذلك ابد الدهر.

كان بين جبال البيرنيه ونهر الرين نحو مئة وعشرين مدائن ولم تكن كور ساذجة عَلَى نحو ما يوهمه نظام المجالس البلدية فيها بل إنه كان لمعظمها أرض مساوية لولاية أوابرشيه وهكذا كنت تجد بين نهري اللوار والسوم مدن سانس وسوسوان وأورليان وكانت باريز ونويون وساتليس وبوفي ولاون وسوسوان وامين فقط حواضر مدن وكانت المدن في إقليم البروفانس حيث نزل الرومان منذ عهد متطاول أكثر ازدحاماً وكنت ترى في إقليمي فوكلوس ودروم فقط مدن أفينون وكاربتراس واورانج وكافليون وفيزون وسان بونس ودي وفالانس. وفي ذاك الصقع حفظت أجمل المصانع ففي مدينة ليم ترى الملاعب والمعبد المسمى البيت المربع والقناة المسماة جسر الحرس ومفي مدينة آرلس الملاعب وفي مدينة أورانج المسرح وقوس النصر ولكن جميع المدن كان لها مصانع من هذا النوع. وقد عثروا في باريز أصغر مدن الغاليين عَلَى حمامات حارة وحمامات معدنية بالقرب من نزل كلوني وعَلَى ملاعب في شارع مونج. وما من متحف إلا وترى فيه محفوظاً إلى اليوم بعض بقايا المعابد والمجاري والفسيفساء أو قبوراص رومانية.

أسباب الغارة

الجرمان - كان يسكن وراء نهري الرين والدانوب (الطونة) في البلاد التي تتألف منها اليوم ألمانيا شعوب غير ممدنة كان الرومان يدعونهم الجرمانيين وكانوا كالهنود والفرس والرومان واليونان شعوب من عنصر آري نزحت في القديم من قارة آسيا وهم شعوب من الرعاة أصبحوا حراثين وشعوباً محاربين وكانوا ينقسمون إلى عدة قبائل (نحو أربعين) تحكم كل واحدة نفسها منفصلة عن الأخرى وكثيراً ما كانوا يناوشون بعضهم بعضاً الحرب.

وكان معظم المقاتلين من الجرمانيين لا يعتبرون إلا الحرب ويقول تاسيت أنهم كانوا كلما انقطعت شأفة الحروب من بينهم يقضون أوقاتهم في الصيد ويتخلون عن كل عمل إلا النوم والأكل. وكان أشجعهم وأشدهم شدة في القتال لا يتعاطون عملاً يتركون العناية ببيوتهم وحقولهم للنساء والشيوخ والضعفاء وهم يعيشون كالمخدرين. وكان في كل شعب كثير من الناس جعلوا الحرب والغارة صناعتهم فيجتمعون حول محارب شريف أو مشهور ويحلفوا بأن يخلصوا له الخدمة وعَلَى هذه الصورة تتألف عصابة من الصحاب مخلصة لزعيم يعيشون في داره ويأكلون عَلَى مائدته يحفون به أيام الحرب ويفادون بأرواحهم في سبيل الدفاع عنه. وكانت تشتد حاجة هاته العصابة إلى الحرب فالرفاق ليتسلوا عن هذه الحياة المقصورة عَلَى الأكل والبطالة والرئيس ليقوم بأود رجاله. وعندما يسود السلام في الشعب تنصرف عصابات المحاربين تقاتل مع زعمائها في جيش أحد الشعوب أو يحاربون عَلَى حسابهم وكانت الإمبراطورية الرومانية تستميلهم للقيام بهذه العمال فبعضهم ينهالون عَلَى ولايات الحدود ينهبونها وآخرون يدخلون في خدمة الرومانيين يقاتلون المهاجمين من البرابرة وكثيراً ما يعودون مستمتعين برواتبهم أو غنائمهم ولكن لذت لكثير منهم عيشة التشرد فلا يكادون يرجعون إلى مساقط رؤوسهم. وقد أدى هذا النظام إلى فناء جميع القبائل النازلة في التخوم فلم تمض ثلاثة قرون إلا وقد زالت العصابات الرحالة ولم يبق حثالة من حثالات الشعوب حتى إذا جاء القرن الثالث ظهرت معاهدات تحت أسماء جديدة ليست أسماء شعوب وهي ثلاثة الألمان في الذراع الذي يتألف من نهر الرين والدانوب العَلَى والفرنك عَلَى المجرى الأسفل من نهر الرين والسكسون معَلَى طول بحر الشمال وكان لكل جماعة من تلك الجماعات الصغرى التي تكون منها تلك المعاهدات زعيم يسمى ملكاً ويحارب في العادة عَلَى نفقته.

إبذعرار السكان في الإمبراطورية الرومانية - جرى إذ ذاك في الإمبراطور الرومانية مثل ما جرى في جميع المجتمعات القديمة كإسبارطة ويونان وإيطاليا أي أنه قل عدد السكان واضمحل الأحرار وخلفهم العبيد ولم يكن لهذا الشعب من العبيد حظ من النمو بل كان إذ حدث كائن من الكوائن التي يكثر حدوثها في ذلك العهد من وباء وحرب وغارة يفنى زراع ذاك الصقع فتظل الأرض غير مأهولة ولم تلبث القرى عَلَى التدريج ولاسيما جهات التخوم أن فرغت من الرجال ولم يبق سكان إلا في المدن وأصبحت عدة أصقاع أشبه بالقفار منها بالأرياف.

وبعد أن اجتازت بالبلاد جيوش المخربين العظمى في القرن الخامس (أمثال راداكليز وأتيلا) حدث في البلاد فراغ استحال عَلَى الإمبراطور أن يملؤه ففي بلاد الغال وإسبانيا وإيطاليا بل في بلاد الغرب أجمع بار شطر كبير من الأراضي لقلة اليد العاملة وأصبحت الولايات الواقعة عَلَى التخوم مقفرة ولم يبق في كل البلاد التي يسبقها نهر الدانوب من سويسرا إلى البلقان ولا مدينة رومانية واحدة واضمحل السكان حتى أنه منذ القرن الرابع لم يبق في جميع هذه البلاد إلا شعوب جرمانية أو سلافية وهكذا الحال في البلجيك ولم يجد الفرنك فيها غير القفر.

انحطاط الجيش الروماني - دعت هذه البلاد المقفرة الناس إلى سكناها فكان البرابرة يحاولون عَلَى الدوام أن يدخلوها وكان من السهل عَلَى الحكومة الرومانية أن تدفعهم عن البلاد كلما كان لها جيش في الجملة ولكن آلت الحال في قلة الجند كما صارت في قلة المال بحيث كان من الصعب أبداً تجنيد العدد اللازم فاعتاد السكان عيش الدعة ولم يعودوا يهتمون أن يفادوا أنفسهم في الجيش فاضطرت الحكومة أن تطلب جنوداً من كبار أرباب الأملاك وهؤلاء يسوقون بعض المزارعين (المستعمرين) في أراضيهم فيأخذونهم بالقوة من وراء سكتهم ومحراثهم فلا يكون منهم إلا جندي سيء النظام فقد أصبح المجندون في القرن الرابع من الضعف بحيث لا يستطيعون لبس الدرع واخذوا يعتاضون عن الخوذة بالقبعة.

ولذا كان القواد يؤثرون أن يستخدموا محاربين من البرابرة لنهم يقاتلون في ساحة الوغى مستميتين وكان في الإمبراطور منذ عهد طويل جنود من الجرمان في خدمة الإمبراطور وفي آخر القرن الرابع اخذ الرومان يجندون عصابات برمتها يجعلونهم مع نسائهم وأولادهم في خدمتهم في أراض يعطونهم إياها ليأخذوا منها أرزاقهم وعلوفاتهم وهؤلاء المحاربون الذين نزلوا في البلاد الرومانية كانوا يحتفظون بلسانهم وعاداتهم وأصول حروبهم وزعمائهم ولكنهم يحاربون في الجيش الروماني ويدعونهم الأجراء أو المحالفين وجاء القرن الخامس فلم يكن منهم عصابات فقط بل شعوب يرأسها الويز غوت والبورغوندا فاجتازوا الحدود بالقوة أحياناً فبدلاً من أن يقاتلوا الإمبراطور آثروا أن يكونوا في خدمته. فتألفت إذ ذاك جيوش رومانية من شعوب بربرية يقودها قواد منهم فقد رأينا الجيش الروماني الذي رد غارات أتيلا سنة 451 مؤالفاً من ألويزغوت والفرنك والبورغوند وأتيوس القائد الروماني هو في الأصل كأتيلا نفسه.

أخلاق الغارة - كان في الإمبراطورية الرومانية أراض كثيرة وجند قليل وإذ كان البرابرة كلهم رجال حرب ويريدون أن يتملكوا أراضٍ اخذوا يتملكون تارة بالقوة والعداء وأخرى مقابل خدمة وفي صورة محالفين ودخول البرابرة إلى الإمبراطورية هو الذي نسميه غارة البرابرة (ويطلق الألمان عليه هجرة الشعوب) وهذه الغارة لم تحدث دفعة واحدة بل وصل الجرمانيون عصابة إثر عصابة وتاريخ العصابة الأولى سنة 376 والعصابة الخيرة وقعت سنة 568 فدامت الحركة إذاً في الغرب زهاء قرنين وظلت من جهة الشرق خلال القرون الوسطى كلها فلم يكن بذلك حرب ولا فتح ولم يؤلف الجرمانيون فيلقاً بل كانوا عَلَى العكس يثيرون السكان بعضهم عَلَى بعض بحيث استحقوا إعجاب كتبة الرومان بعملهم. قال بول اوروز إننا نرى كل يوم أمة من هذه الأمم البربرية تبيد أمة أخرى ولقد شاهدنا جيشين من الغوت يفني أحدهما الآخر ولكن هذه الشعوب تتقاتل لتموت وتهلك. والظاهر أن الجرمانيين لم يمقتوا الرومانيين بل كانوا يحاربون من أجلهم عن رضى دافعين غارات غيرهم من الجرمانيين أيضاً ولم يكن لهم مأرب في القضاء عَلَى الإمبراطورية بل كانوا يؤثرون أن يكونوا في خدمتها. قال أتولف أحد ملوك الغوت أنه كان يطمع أولاً في إبادة الاسم الروماني وأن يؤسس من طول الراضي الرومانية وعرضها إمبراطورية يدعونها الغوتية يكون شأنه فيها شأن القيصر أغسطس وإذ وقع في نفسه أن الغوت لا يعرفون النظام والترتيب ليخضعوا للقوانين عقد العزم أن يفادي بقوى الغوت لتوطيد سلطة الرومان وزيادة نفوذهم فكان يطمع أن يكون مصلح الإمبراطورية بدون أن يكون لهم منزع سياسي بل لمجرد أنهم كانوا يرجون أن تكون حالهم فيها أحسن من جرمانيا ولكن نشأت من نزولهم البلاد نتائج لم يتحدث بها أحد إذ ذاك.

البربرية - كان من أقرب النتائج أن تصبح الإمبراطورية إلى التوحش أقرب منها إلى المدنية فمضى زهاء قرن وعصابات مسلحة تطوف البلاد أنواع التطواف تحرق المدن وتخرب المصانع وتقتل الحراثين أو تسوقهم أمامها ولقد أبقى الوانداليون أخوف ذكرى حتى غدت لفظة وانداليسم تطلق للدلالة عَلَى التكالب في التخريب. وكان يقول الهونس وهم شعب من فرسان التتار أن العشب لا ينبت البتة في التربة التي وطأتها حوافر خيولهم. فقد خربت مدن كثيرة ولم تقم لها قائمة وبعضها تراجع عمرانه حتى غدا بمثابة دساكر حصينة فخربت دور التمثيل والحمامات والمدارس وجميع المصانع الرومانية شيئاً فشيئاً واتخذ السكان في كثير من المدن أحجارها ليبنوا به أسواراً وهلك أرباب الصناعات النفيسة فلم يبق سوى صناع قليل عددهم لا يستطيعون أن يبنوا إلا مباني ليس عليها مسحة من الذوق والجمال. واضمحل كل ما يقال له مشاهد ومدارس وأدب وغدا سكان الإمبراطورية يشبهون البربر. قال أحد القسيسين ممن كتبوا تاريخ ملوك الميرفيجيين والسف آخذ منه كل مأخذ: لقد هرم العالم وانثلمت فينا حاسة النكات البديعة فما من امرئ لعهدنا تحدث نفسه أن يبلغ مستوى خطباء الزمن الماضي.

شعوب جديدة - قضى البربر في أوربا عَلَى نظام الإمبراطورية الرومانية فجاءت سنة 476 وليس في رومية إمبراطور وكل ملك من ملوك البربر سيد في الأرض التي نزلها قومه فانقسمت الإمبراطورية إلى عدة ممالك بربرية فنشأت في غاليا ممالك الفرنك والبورغوند وفي بريطانيا العظمى السبع ممالك من الإنكل والسكسون وفي إسبانيا مملكة ألويزغوت وفي أفريقية مملكة الواندال وفي إيطاليا مملكة الأوستروغوت ثم مملكة اللومبارديين وكثير من الممالك اضمحلت ودخلت في مملكة مجاورة ولكنه نشأت في كل أمة مستقلة عَلَى الأقل لها حكومتها وصناعتها وآدابها.

أخلاق جديدة - انتهت أيام المدنية القديمة بدخول الجرمانيين إلى الإمبراطورية وليس ذلك أن الجرمانيين حملوا مدنية جديدة كالرومان إلى غاليا ولا أنهم اتخذوا العادات القديمة كما اتخذ الفرس عادات آسيا بل إنهم أتوا ولهم عادات في الحياة والحومة تخالف ما ألفه الرومان فيما انخفض من بلاد الإمبراطورية.

فكزان أرباب الأملاك من الرومان يعيشون في المدن عزلاً من الأسلحة خاضعين لنظام الإمبراطور أما الجرمانيون فقد ظلوا يحملون أسلحتهم ونزلوا القرى وكان كل واحد في حلته جند من الخدمة المخلصين وكل امرئ سيد في أرضه لا يخضع البتة للحكومة وهم محتفظون بعاداتهم الجرمانية من عدم أداء الضرائب وبذلك قضوا عَلَى نظام بيت المال وعَلَى الاستبداد الإمبراطوري ومن هؤلاء المحاربين القرويين خرج فيما بعد الفرسان الأشراف.

وكان أصحاب الملاك من الرومانيين يحرثون أراضيهم بواسطة جماعة من العبيد أما الجرمانيون فكانوا يعتمدون في استثمار أراضيهم عَلَى أناس من المستعمرين أي عَلَى مزارعين تناوبون حراثتها بالإرث. فلم يبطلوا العبودية من الإمبراطورية بل تركوا العبيد يصبحون بالتدريج خدمة ثم مزارعين يملكون الأرض التي يتوفرون عَلَى زراعتها.

وعليه لم يأت البربر بعقائد ولا باختراعات جديدة بل جاؤوا بدلت حالة أرباب أملاك الأراضي والفلاحين وغيرت جميع قواعد الحكومة. فغارة البربر حادث عظيم في تاريخ المدنية لأنه جدد المجتمع والحكومة في أوربا لكنه كما يحدث في التغييرات الكلية قضت الحال بمرور عدة قرون لإدراك نتائج ذاك التغيير.

كيف دان الجرمانيون بالنصرانية

الأرباب الجرمانيون - كان الجرمانيون كاليونان والرومان يعبدون أرباباً كثيرين يمثلونها في صورة بشرية فالأرباب الجرمانيون يؤلفون أسرة بأسرها وعندهم أن وتان والد الجميع ورب الحروب محارب أعور يتقلد رمحاً يخرق الهواء ولا يرى بل يركب عَلَى حصان أبيض وكان دونار أحد أبنائه ذا لحية حمراء وهو رب الرعد والعواصف ويسير في مركبة ويقذف المطرقة المخربة التي تعود إلى يده من تلقاء نفسها. وكان الرب تير أو ساكسنوت رب السيف والمغازي وفرير عَلَى العكس هو الرب الجميل المسالم اللطيف ينضج المزروعات ويشفي الأمراض وبالدير رب الحكمة والعدل والصلاح يتولى نصح سائر الأرباب. وهناك ربات مثل الربة مريغا امرأة الرب وتان وهي قاسية محترمة تترأس حفلات الزواج والربة فريا وهي فتاة بارعة الجمال لطيفة الشكل يسر مرآها الأرباب.

وكانت هذه الأسرة السماوية تسكن قاعة علوية اسمها ألوالهالا حوائطها ذهب وسقوفها فضة ويربط تلك العلية بالأرض التي يسكنها البشر جسر وهو قوس قزح الذي يجتاز عليه الأرباب ويجلس الرب وتان في هذه القاعة عَلَى منصة من ذهب يحف به من الأرباب ذكورهم وإناثهم أولوالكلور وهن مرسلات سماويات وبنات الحروب والغارات مسلحات بالتروس والرماح راكبات عَلَى خيول مطهمة قاصدات إلى ساحة الوغى يلتقطوا من قضوا فيها وهم يحاربون ويأتين بهن إلى قاعة ألوالهالا حيث ينالون مكافأة عن شجاعتهم وهناك يعيشون بالقرب من الأرباب في المآدب التي يأدبها الربات المعروفات باسم والكلور يسقينهم شراب العسل والجعة.

ونحو الشمال من أعماق الأرض جهنم مظلمة يكثر زمهريرها اسمها نيفلهيم أي مسكن الضباب وفيها ينزل رب الشر ويدعى لوكي مع ولديه فنريس الذب المفرتس وهولا ربة الموت التي يمثلونها بان نصفها أسود تأكل في صفحة الجوع ولا تترك ما تتناوله بتة. وإلى هذا المسكن الهائل يذهب المحاربون الأشرار الذين تساهلوا بأن تجرعوا كأس الحمام بسبب مرض أو شيخوخة. وغلب الرب وتان الرب لوكي وربطه إلى ثلاث صخرات ذات زوايا مع حية تقطر سمها عَلَى رأسه ولكنه يرجى له الخلاص ذات يوم ويأتي مع الجن والشياطين الشريرة عَلَى سفينة بنيت بأظافر الموتى يهاجم الأرباب الساكنين في أوالهالا وبذلك تسقط الشجرة الكبرى التي تمسك العالم من السقوط ويحترق قصر الوالهالا ويغلب الأرباب عَلَى أمرهم وهذا ما يسمونه عندهم شفق الأرباب ثم تتجلى أرض أحسن من تلك تخرج من البحر المحيط مع أرباب جدد.

العبادة - لم يكن للجرمانيين أصنام ولا شادوا لهم معابد لهم بل كانوا يعبدون أربابهم عَلَى الجبال أو في الغابات بالقرب من شجرة أو عين مقدسة وكان رأس كل أسرة يقيم باسمه الصلوات ويقدم القرابين ولم يكن عندهم كهنة جرمانيون في جرمانيا نفسها الماندرا حتى أن العصابات التي دخلت منهم إلى الإمبراطورية الرومانية لم تصحب معها أحداً منهم. ودين مبهم إلى هذا النحو لا يهتم أحد للدفاع عنه فلم يكن من شأنه أن يقاوم طويلاً ولذا كان الجرمانيون عندما داهموا الإمبراطورية ومستعدين لأن يدينوا بالنصرانية.

البرابرة الآريون - لما نزل برابرة الشمال الأرض الرومانية دانوا إلا قليلاً بالكثلكة بل بشيعة الآريوسية فد كان الوزيغوتيون في إسبانيا والسترغوتيون في إيطاليا والبورغونديون في غاليا والوانداليون في أفريقية بل واللومبارديون الذين أتوا في القرن السادس كلهم من المذهب الآريوسي. والظاهر أن الجرمانيين صعب عليهم أن يقبلوا بالرمز الذي جرى التواطؤ عليه في مجمع نيقية وربما كرهوا التصديق بان الابن مساوٍ للب. وكان رعاياهم الرومان أرثوذكسيين في مذهبهم وقد أدى هذا الاختلاف في الدين مدة تزيد عن قرون إلى حروب واضطهادات وكثيراً ما كان أحد ملوك البرابرة يأبى تعيين الأساقفة الأرثوذكس وقد بقي كرسي قرطاجنة خالياً مدة أربع وعشرين سنة لم يكتف جنزيك ملك الواندال بنفي الأساقفة بل رأى أن ينفذ عَلَى رعاياه الكاثوليك الأوامر التي كان طبقها الإمبراطرة عَلَى الملاحدة ومع هذا كتبت الكثرة للكثلكة عَلَى المذاهب النصرانية الأخرى ودان بها بالتدريج الملوك الآريوسيون وتمذهب بها شعوبهم فانتحل البورغونديون هذا المذهب في أوائل القرن السادس وانتحله ألوزيغوتيون الإسبانيون في سنة 589 واللومبارديون في أواسط القرن السابع أما سائر الممالك فقد خربتها جيوش الإمبراطور يوستنيانوس.

انتحال الفرنك (الإفرنج أو الفرنك أو الإفرنسيس) للنصرانية - بقي الفرنك الذين نزلوا غاليا من الشمال عَلَى وثنيتهم. وقد فضل الأساقفة الأرثوذكسيون هؤلاء الوثنيين الذين كانوا يؤملون تنصيرهم بدلاً من البرابرة المسيحيين الذين ظلوا عَلَى أريوسيتهم ورضي أحد زعماء العصابات الفرنكية واسمه كلوفيس أن يتعمد عَلَى يد أسقف ريمس القديس ريمي فحذا حذوه ثلاثة آلاف رجل ولم يلبث زعيم العصبة هذا وقد عضده رجال الكهنوت الكاثوليكي أن أصبح وحده ملك غاليا كلها ومنذ ذلك العهد أصبح جميع ملوك الفرنك من نسل كلوفيس مسيحيين وعضدوا الكنيسة الأرثوذكسية وكان ذلك من جملة الأسباب في نجاحهم أما أمة الفرنك فقد أبطات في انتحالها هذا الدين فظل كثير من المحاربين زمناً طويلاً نعَلَى وثنيتهم ومنهم من كان من حاشية الملك. وفي أواسط القرن السادس صادفت الملكة رادغوند وهي مسيحية غيورة عَلَى الطرق العامة جنائز وثنية فأمرت المحاربين من أهل موكبها أن يأتوا عليها فقام الفرنك بسيوفهم وعصيهم. ومضى زهاء قرنين أي من القرن السادس إلى السابع حتى غدا الفرنك كلهم مسيحيين.

قاعدة القديس بنوا - أنشئت في إيطاليا وإسبانيا وغاليا أخويات قسيسين ولكت العيشة التي يعيشونها في هذه الديار من بلاد الغرب لم تشبه عيشة النساك في ثيبة وفي أواخر القرن الخامس انقطع أحد أشراف الإيطاليين واسمه بنوا (480 - 543) إلى جبل كاسين في بلاد نابولي وذلك بعد أن عاش بضع سنين متنسكاً في غار وسط الصخور وكان ثمة معبد وغابة عَلَى اسم أبولون فنصر بنوا فلاحي ذاك الجوار وأمرهم بأن يخربوا ذاك المعبد وأقام بدلاً منه كنيستين وديراً عظيماً وغدا بنوا رئيس أخوية كبرى وانشأ نظاماً طويلاً لقسيسه قاضياً عليهم أن يتخلوا عن الدنيا وعن الأسرة والملك وأن لا يملكوا شيئاً لأنفسهم حتى ولو الصفائح (السفورات) والمناقش التي يكتبون بها وأن يلبسوا كساءً من الصوف الخشن أو مسوحاً ذات قبعات (أسكيم) كان يلبسها الفلاحون وأن يخضعوا بدون تردد كل ما يصدر عن الرئيس من الأوامر قال القديس بنوا في المدخل: اسمعوا أيها الأبناء أوامر الرب ولا تخافوا من الائتمار بأمر أب صالح والعمل به وذلك حتى يقودكم الخضوع التام إلى ما أبعدكم عنه العقوق والكسل. وقد سمى الدير مدرسة العبودية الإلهية وفي ذلك لم يأت القديس بنوا شيئاً سوى الجري عَلَى مثال رهبان المشرق ولكنه يختلف عنهم في كيفية استعمال الوقت فبدلاً من التأمل وأعمال النسك أمر بالعمل قائلاً أن الكسل عدو الروح وعَلَى الجملة فإن حياة الراهب داخلة تحت القاعدة ساعة فساعة فعليه أن يعمل كل يوم بيديه سبع ساعات ويقرأ ساعتين وينقسم اليوم إلى سبعة قداديس يبدأ الأول منها في الساعة الثانية ليلاً. وإذا أراد رجل أن يدخل في هذه الطائفة يدخل فيها عَلَى سبيل التجربة مبتدئاً وبعد شهرين تتلى عَلَى مسامعه قاعدة: هذا هو القانون الذي يجب عليك أن تقاتل تحت لوائه فإن كنت في مكنة من الاحتفاظ به فادخل وغلا فأنت حر أن تذهب من هنا بسلام. وبعد سنة يوقع عَلَى عهد يضعه عَلَى المذبح بحضور جميع القسيسين ثم يركع أمام كل واحد منهم عَلَى حدته ومنذ ذاك اليوم يوقن بأنه لم يعد يملك شيئاً حتى ولا جسمه. ولم تلبث أن أصبحت قاعدة القديس بنوا قاعدة عامة عَلَى رهبان الغرب اتخذتها جميع الأديار القديمة وعليها أنشئت جميع الأديار الجديدة وأصبح بعد حين عامة رهبان الغرب من البندكتيين.

الرهبان البندكتيون - عاد قسم من بلاد غاليا وإيطاليا في القرن السادس فأصبح خراباً يباباً وغشت الغابات العظيمة البلاد فدخل الرهبان الذين يحبون العزلة تلك القفار وبين العوسج والشوك يقيمون لهم معبداً وبعض الأكواخ ثم يأخذون بإحياء موات الأراضي المجاورة وكثيراً ما يعطيهم أحد الملوك أو الكونتية أو أرباب الأملاك بقعة واسعة (إذ كانت قيمة الأرض رخيصة إذ ذاك) فيؤسسون ديراً جديداً. ولقد كان الرهبان ينشئون الأهراء وفرناً ومطحنةً ومخبزاً ويحرثون الأرض ويصنعون الألبسة ويعملون حجار الطاحون والصناعات النفيسة وينسخون المخطوطات فكانت أديارهم حقولاً أنموذجية كما هي معمل وخزانة كتب ومدرسة وتتألف من العبيد والمزارعين في أصقاعهم قرية كبرى هكذا نشأت في فرنسا مئات من المدن حول الأديار وكثير من المدن سميت باسم القديس رئيس ديرها الأول (سان أويمر سان كلود رسيمرون) وأنشئت ألوف من الكنائس الخورنية عَلَى يد بعض أديار البندكتيين.

تنصر الإنكليز السكسونيين - يروى أن القديس غريغوريوس رأي قبل أن يصبح بابا وهو في سوق العبيد في رومية أولاداً شقراً بيض البشرة يباعون فسأل من أين أتى بهم فأجيب بأنهم آنكل فقال: لقد دعوا بأجمل السماء فهم حقاً ملائكة فهل هم مسيحيون؟ فقيل له أنهم وثنيون بعد. فأجاب هل من الممكن أن تحتوي هذه الجبهات الجميلة ذكاءٍ محروماً من نعمة المولى. ومنذ ذاك الحين رأى أن ينصر الإنكليز فلما غدا بابا بعث أربعين قسيساً يقودهم أغسطينوس إلى أحد ملوك بلادهم فوصل المرسلون يحملون لوحة رسم عليها المسيح فجمع الملك مجلس العظماء وسألهم فيما إذا كان يقتضي قبول الدين الجديد فوقف أحد الزعماء في المجلس فقال: ربما ذكرت شيئاً أيها الملك يحدث أحياناً في نهار الشتاء عندما تكون جالساً إلى منضدة مع مقاتلتك ونارك موقدة وغرفتك دافئة والسماء تمطر وتثلج والريح زعزع في الخارج وبينا أنت كذلك يطير طائر صغير فيجتاز الغرفة داخلاً من باب وخارجاً من آخر وهذه اللحظة التي يقضيها الطائر وهو داخل الغرفة تحلو له فلا يشعر قط بالمطر ولا ببرد الشتاء ولكن هذه اللحظة قصيرة لأن الطائر لا يلبت أن يهرب ويعود إلى الشتاء الذي كان فيه وعلى هذه المثال أرى حياة الناس في الأرض بالنسبة للوقت غير المؤكد الذي يمر في الآخرة فظاهر أن الحياة قصيرة ولكن أي وقت يجيء بعدها وأي وقت مضى قبلها هذا أمر نجهله فإذا كان هذا الدين الجديد يفيدنا في ذلك أموراً آكد فهي جديرة بأن تنتحل ويدان بها وكانت النصرانية تروق هؤلاء البرابرة الجديين لأنها تحدثهم عن اليوم الآخر. وقد نصح البابا المرسلين المسيحيين أن لا يناقضوا المعتقدات القديمة قائلاً يجب الاحتراز من تخريب معابد الأوثان بل الواجب تطهيرها وتخصيصها بعبادة الإله الحقيقي لن الأمة كلما رأت أماكن عبادتها القديمة باقية تكون أكثر استعداداً إلى الاختلاف إليها للألف والعادة فقد اعتاد رجال هذه الأمة أن يذبحوا البقر ضحايا فالواجب أن يبدلوا هذه العبادة بزياح مسيحي دعوهم ينشئون أكواخاً من أوراق الشجر حول معابدهم المحولة كنائس يجتمعون فيها ويقودون إليها حيواناتهم التي يذبحونها لا عَلَى سبيل ضحايا للشياطين بل عَلَى سبيل الله تعالى. ولم يضطهد الإنكليز السكسونيين المرسلين المسيحيين عَلَى أنهم لم يتنصروا إلا ببطء فهناك كان الملوك ولاسيما الملكات تحمي الديانة الجديدة كما هي الحال في غاليا ولكن المحاربين لم يهتموا لقبولها.

المرسلون الأيرلنديون - دانت إيرلاندة بالنصرانية منذ القرن الخامس وكانت إذ ذاك مشهورة بأديارها العديدة وحمية كنائسها الدينية فكانت تلقب بجزيرة القديسين فسافر مرسلون من أديار إيرلندا ونصروا جميع برابرة بريطانيا العظمى فالتقوا إذ ذاك بالمرسلين القادمين من رومية. وكان لكنيسة إيرلندا ومؤسسوها مسيحيون من أهل آسيا بعض عادات شرقية فتحتفل بعيد الفصح مثلاً في غير الوقت الذي تحتفل فيه كنيسة رومية واصطلحت عَلَى وضع إكليل الإكليروس عَلَى مقدم الرأس بدلاً من الإكليل عَلَى صورة تاج. وهذه الاختلافات في الصورة دعت إلى اشتداد الاعتراك بين المرسلين الايرلنديين والمرسلين الرومانيين فيحضر البرابرة نزاعهم بحسب ما لكنائسهم من المكانة وإليك ما ذكره أحد الكتاب الأرثوذكس من نزاع عظيم وقع في وتبي سنة 644 بحضور جميع مجلس الشعب. صرح كولمان الأيرلندي بان مواطنيه لا يستطيعون أن يغيروا طريقتهم احتفالهم بعيد الفصح لأن ذلك مما ألفه آباؤهم فأجابه ويلفريد السكسوني: إننا نحتفل بعيد الفصح كما رأيناه يحتفل به في رومية حيث عاش الرسولان بولس وبطرس وكذلك في غاليا وجميع الإمبراطورية والبروتون فقط يعاندون في مشاكسة بقية العالم وبعد فهل في المكنة أن يفضل أبوك كولومبا عَلَى قدسية فيه عَلَى السعيد أمير الحواريين الذي قال وله سيدنا يسوع: إنك بطرس (ومعنى بطرس الحجر) وبك يا حجر أبني كنيستي وأدفع إليك مفاتيح ملكوت السماوات - فسأل الملك حينئذ ذاك الأيرلندي قائلاً: أمحقق أن هذه الكلمات قالها سيدنا المسيح للقديس بطرس؟ - نعم صحيح ذلك - هل في وسعك أن تبرز لي حجة في مثل حجة كولومبا؟ - لا أستطيع - أنتم عَلَى وفاق بأن مفاتيح السموات أعطيت لبطرس - نعم - إذن هو بواب السماء ولا أريد أن أنازعه في قوله بل احجب أن أخضع له في كل أمر مخافة ألا أجد أحداً يفتح لي أبواب ملكوت السموات عندما أصل إليها.

وهذه الحجة كانت بحسب درجة ذكاء البربري فاستحسن المجلس الخطاب وعزم أن يقبل في المملكة بأسرها العادات الرومانية وانتهت الحال بغلبة الرومانيين (في أوائل القرن الثامن) ومنذ ذاك الحين خضعت للبابا كنيسة بريطانيا العظمى بأجمعها.

تنصر الجرمانيين في ألمانيا - كان يتألف من الجرمانيين الذين تخلفوا في ألمانيا عدة أمم كلها وثنية في القرن السادس وبدأ قسيسون إيرلنديون بتنصرهم فسكن القس غال بين السواب بالقرب من بحيرة كوستانس في المكان الذي أنشئت فيه البيعة التي نسبت إليه. ونصر كيليان الفرنكونيين في بلاد مين ثم استشهد وتمكن القديس ولفران من عزم دون دي فريزون رادبود عَلَى تعميده وبينا كان الدوق يدخل إلى القبو سأل أين بقي أجداده فقيل له أنهم في جهنم فقال أنا أريد أن أصبح مسيحياً حتى لا أنفصل عن أجدادي. واستحق وينفريد من الإنكليز السكسونيين الملقب ببونيفاس الملقب برسول الجرمان إذ أرسله البابا إلى إنكلترا كما أرسل أوغستيتنيس يحمل هذه الرسالة: رغبنا في أن تتمتعوا معنا بالأبدية فبعثنا إليكم بونيفاساً يعمدكم ويعلمكم إيمان الرب فأطيعوه في كل ما يأمر ووقروه كما توقروا أباً واسمعوا مواعظه ثم أن بونيفاساً أوصى به شارل مارتن زعيم الفرك زعماء الجرمانيين وبفضل هذه المعاضدة تمكن من الدخول في قلب ألمانيا وعقد اجتماعات وفوض الأشجار المقدسة ومنع عبادة الأصنام وبذلك تيسر له أن ينصر شطراً من الزعماء والشعب في بافيرا وتورينغ وهس ثم سكون في المايانز ملقباً برئيس الأساقفة.

وقد بقي السكسون شعباً وثنياً في بلاد ويزر (فيستفاليا وهانوفر) وبعد حروب دموية اضطر شارلمان زعماءه أن يتعمدوا ثم أسكن أساقفة وقسيسين في جميع البلاد ثم أفضل عليهم بما يمنع عنهم الحاجة وقضى بأن يقتل كل سكسوني يعبد أربابه القديمين أو يعمل القيام بالصيام الذي شرعته الكنيسة فمن ثم أصبحت ألمانيا كلها مسيحية وغدت كإنكلترا متعلقة برومية وخاضعة للبابا وأرسلت ألمانيا أيضاً مرسلين ذهبوا فنصروا الوثنيين في بلاد اسكاندنافيا ومقاتلين راحوا لتبديد شمل الوثنيين من السلافيين أيضاً.

الإسلام

دين العرب الأول - انتهت تخوم المملكة الرومانية في الشرق عند رمال بلاد العرب فظل هذا الشعب مستقلاً بربرياً منقسماً إلى عدة قبائل وكان لسكان الساحل من العرب بعض مدن صغرى تعرف بالزراعة وتبعث بقوافلها إلى الغرب تحمل إليهم البن والبخور والتمر ويطوف سكان الداخلية القفر بمواشيهم مسلحين راكبين صهوات خيولهم نصفهم رعاة والنصف الآخر قطاع طريق (كما هي عيشة البدو إلى اليوم) ويقتتل العرب فتقاتل القبيلة ولكن يعتبرون أنفسهم بأجمعهم من عنصر واحد وهو كالإسرائيليين من العنصر الذي نسميه العنصر السامي ويمتاز عن آريي الهند وأوربة امتيازاً ظاهراً بلغته ودينه. ولقد كانت الغرب كلها تعبد إلهاً قادراً خارقاً وهو الله تعالى ولكنها تتعبد للجن خاصة وهي أرواح لا ترى وكان لكل قبيلة إله خاص تعبده في صورة نجم أو حجر أو صنم ولكنهم كلهم يرجعون في عبادتهم إلى الكعبة في مكة وهي البيت المتفق عَلَى تعظيمه عندهم والكعبة معبد عَلَى صورة الكعب أو زهر النرد حوائطها من حجر غير نحيت مغشاة بأقمشة من الصوف ويحفظون فيها الحجر الأسود المشهور المحترم عند العرب اجمع (وهو قطعة من حجر بركاني تحتت اليوم إلى اثنتي عشرة قطعة (كذا)) وقد وضعت كل قبيلة في الكعبة صنماً هاصاً بها ويقال أنه كان تفيه 360 صنماً ومنها صنم لإبراهيم وصورة العذراء مع ابنها يسوع وأنشئت قريش مدينة مكة الصغرى حوالي القرن الخامس في الوادي الضيق الذي تحيط به الصخور القاحلة محيطة بالكعبة ويقام بها كل سنة سوق وأعياد يتنافس بها الشعراء وتبطل في خلال ذلك الحروب فمكة كانت هي المدينة المقدسة التي يحج إليها الناس من أقطار بلاد العرب كافة.

محمد (عليه الصلاة والسلام) - ولد محمد في قبيلة قريش المقدسة وهم سادة مكة وسادة الكعبة المقدسة بين سنتي (569 - 571) وعاش وهو اليتيم الفقير إلى سن الأربعين لا شأن له. وكان رجلاً جباناً سوداوياً تنتابه عوارض من الحمى ونوبات عصبية وكان حنفياً أي كافراً بعبادات العرب ويسمون بهذا الاسم من لا يعبد الأصنام بل يبعد إلهاً واحداً رب إبراهيم والد العنصر العربي. وكزان رجال قبيلة محمد تنظر إليه بغير عين الرضى فسكن بين الصخور الجرداء المحرقة وفي سنة 611 بحسب الرواية العربية حلم محمد بأنه صاحب دين وظهرت له روح فائقة في قوتها سماها محمد بعد ذلك الملك جبرائيل قالت له: اقرأ فقال محمد: ما أنا بقارئ. فقال له اقرأ. ومنذ ذاك لعهد رأى محمد نفسه بأن الله عهد إليه مباشرة بنشر الدين الحقيقي فبدأ يدعو زوجته وبناته فوراً ثم أصحابه ورجال مكة فقاومه زعماء القبيلة أجمع فاضطر إلى الهجرة إلى المدين (سنة 622) وإذ كان أهل المدينة أعداء لأهل مكة اعترفوا بنبوته وأخلصوا له الطاعة وأحاط المدنيون بالرسول في ثمانين من أصحابه هاجروا من مكة يتبعونه فبدأ إذ ذاك يناوش قوافل مكة القتال ويغزوها مما انتهى بخضوع مكة ثم حمل جميعاً لعرب عَلَى قبول دينه.

ولم يقم محمد بمعجزات ولم يدع أنه روح إلهي بل كان يرى نفسه فقط رجلاً ملهماً يتكلم ويعمل باسم الله تعالى ويظهر في مظهر الرسول والمصلح قائلاً أن الدين الحق كان منذ عهد آدم وهو أن يعتقد بواحد أحد وأن يخضع لأوامره التي تبلغها للبشر عَلَى لسان أنبيائه فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى كانوا رسلاً. وما اليهودية والنصرانية إلا أوهام مطلقة بل أشكال محرفة من دين الله الحق وهذا الدين الأبدي هو الذي جاء محمد يدعو إليه لخلوه من التحريف فهو خاتم النبيين وأعظمهم وباسم النبي عظمه أتباعه. وقد أخذ جانباً من تعاليمه عن التوراة والإنجيل ولذا ساغ أن يقال أن محمداً مبتدع مسيحي والإسلام بدعة من البدع النصرانية عَلَى اصطلاح العرب.

القرآن - كان محمد أمياً فإذا أوحي إليه ودعا إلى دينه كانت تنقل كلماته فكتبت عَلَى الحجارة وورق النخيل وعظام الجمل. والقرآن (الكتاب) هو مجموع هذه القطع ضمت بعضها إلى بعض لا عَلَى الترتيب الذي أملاه محمد بل بدءاً بأطولها ولم تجمع إلا بعد وفاة محمد عَلَى يد أمين سره زيد وبعد حين دونه الخليفة عثمان تدويناً رسمياً وهذا هو الذي نراه بين أيدينا وفي القرآن مواعظ وقصص وقواعد وأحكام وبعثرة متفرقة فهو في آن واحد كلام متنزل في الدين والأخلاق والنظام والدستور.

الإسلام - يسمى الدين الذي دعا إليه محمد دين الإسلام أي الاستسلام لإرادة الله تعالى والذين يدينون به يسمون المسلمين (أي المستسلمين) والإسلام عبارة عن هذه الكلمات: لا إله إلا الله محمد رسول الله فالواجب إذن الاعتقاد بالله الذي خلق العالم ويدبره وهو عَلَى عرشه والملائكة حافون به يجب الخضوع لإرادته التي أبلغه الناس عَلَى لسان أبيائه وقد جاء القرآن بأوامره الكتاب الذي يحوي الحقيقة ومن يعتقد بالقرآن ويأتمر بأوامره الإلهية ينال الزلفى من المولى تعالى ويكافأ عَلَى عمله ومن يختل إيمانه لوم يخضع لسلطانه فهو مذنب مع الله يعاقبه ويجازيه.

وسيأتي يوم القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش فأما من ثقلت موازنه في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية، وما أدراك ماهية، نار حامية. . . وسيق اللذين كفروا إلى جهنم زوراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب عَلَى الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق اللذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبابها وقال تلهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين. . . أولئك المقربون في جنات النعيم. . . متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدانٌ مخلدون بأكوابٍ وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون. . . وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم.

أما العبادات فهي فسهلة للغاية فليس المؤمن أن يصلي خمس مرات كل يوم في أوقات معينة وفي كل مدينة إسلامية يدعو المؤذن إلى الصلاة من أعلى المسجد بوقت معين وعلى المؤمن أن يتوضأ للصلاة وإذا لم يكن له ماء أن يتيمم بالتراب وأن يصوم شهر رمضان لا يتناول الطعام فيه إلا من الليل في الوقت الذي لا يتبين فيه الخيط البيض من الخيط الأسود من الفجر وأن يخرج من الزكاة عشر مال (؟) عَلَى الأقل وزأن يحج إلى مكة إن استطاع للحج سبيلا.

وأدب الدين الإسلامي هو ألا يرتكب المرء عملاً دنيئاً ولا يشرب الخمر ولا يرابي أن يتلقى إرادة المولى راضياً لأن كل امرئٍ لا يخرج عما كتب له في الأزل ولا سبيل له إلى التخلص من المقدور فالإسلام هو دين القضاء والقدر.

انتشار الإسلام - دعا محمد سنة 611 إلى دينه وكان العرب عامة يوم وفاته سنة (632) مسلمين أسلم نصفهم عن اعتقاد والنصف الآخر بالقوة وذلك مثل أهل قبيلة التاكيفيت (كذا) فقد بعثوا يقولون لمحمد أنهم يدينون بالدين الجديد إذا رضي أن يعفيهم من الصلاة وأن يترك لهم صنمهم اللات ثلاث سنين. فقال محمد أن ثلاث سنين في الوثنية يطول أمرها فعرض التاكفيون أن يمهلوا عَلَى عبادة الأصنام سنة فوافق محمد ولما أخذ يملي عهد الصلح ندم عَلَى هذا الامتياز وقال لا أريد أن أسمع بهذه العهدة فليس عليكم إلا أن تخضعوا أو نقاتلكم فطلبوا لأن يمهلوا عَلَى عبادة اللات ستة أشهر فأبى عليهم ثم اكتفوا بإمهالهم شهراً فلم يرض أن يمهلهم ساعة فأسلم بنو التاكيفيت ودخل المحاربون المسلمون المدينة وحطموا الأصنام.

وبعد وفاة محمد أخذ العرب ينشرون الإسلام بمثل هذه الطرق ولم يبعثوا لدعوة الشعوب الأخرى إلى الإسلام رسلاً كما فعل المسيحيون بل جيوشاً فقد قال الرسول وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وحرب المشركين جهاد مقدس والله مع المجاهدين ومن قتل منهم فجزاؤه الجنة.

وقد عني الخلفاء بعد الرسول بهذا الجهاد فكانوا يبعثون إلى جميع الشعوب المجاورة رسولاً يعهدون إليه أن يخيرهم بين ثلاثة أمور: القرآن أو الجزية أو السيف ومن يسلم يكون كمن سبقوه بالإيمان ومن يخضعون ويؤدون الجزية يصبحون رعايا وذمة ومن يقاومون يقتلون ولم يستطع أحد أن يقف في وجه هذه الجيوش المتعصبة فغلب المسلمون في الشرق عَلَى سورية وفلسطين وجميع مملكة فارس وأرمينية وتركستان وجزء من بلاد الهند وفي الغرب عَلَى مصر وطرابلس وأفريقية وإسبانيا وخضع جميع المغلوبين عَلَى أمرهم إلا قليلاً ولم يبق مسيحيون إلا في ولايات الإمبراطورية القديمة وفي أقل من قرن (622 - 717) انتشر الدين الجديد من بحر الظلمات إلى نهر السند وما من دين انتشر بهذه السرعة ولم تلبث مملكة الخلفاء أن انهارت عَلَى الأثر ولكن ظلت جميع البلدان التي أسلم أهلها عَلَى إسلامهم.

وما قط أضاع الإسلام أرضاً دخل فيها إلا إسبانيا وكثيراً ما ربح بعد أراضي جديدة فإن الأتراك حملوا هذا الدين إلى القسطنطينية ولا يزال لعهدنا يدخل أمم في هذا الدين في بلاد الهند والصين وماليزيا ولاسيما بين زنوج أفريقية. والإسلام دين سهل عَلَى مستوى ذكاء الشرقيين ويبلغ عدد المسلمين اليوم نحو مائتي مليون فإذا كانت النصرانية دين أمم الشمال فلإسلام دين شعوب الجنوب.

المملكة البيزنطية

المملكة البيزنطية - كاد البربر الذين أغاروا عَلَى بلاد الإمبراطورية الرومانية يوجهون وجهتهم إلا قليلاً قبل المغرب ولذا بقي في القسطنطينية إمبراطور يحكم الشرق كله. ويقي قرنان (الخامس والسادس) والإمبراطورية الرومانية محتفظة بعد بنصف مملكتها القديمة عَلَى الأقل وحكمها نافذ في آسيا الصغرى وسورية ومصر وفي جميع البلاد الواقعة شرق البحر الإدرياتيكي حتى لقد خضعت لها إيطاليا وافريقية وشطر من إسبانيا بضع سنين ثم هاجمها المهاجمون فاغتصب منها السلافيون إيبيريا وجنوب بلاد البلقان واقتطع منها العرب جميع أفريقية وسورية وجزءاً من آسيا ولم يبق لها سوى قطعتين عَلَى جانبي مدينة القسطنطينية في الغرب تراسيا (روم إيلي) وفي الشرق آسيا الصغرى. بيد أن العاصمة أيضاًَ قاومت هجمات المهاجمين العرب وفي ذاك الحمى الأمين احتفظت الإمبراطورية الشرقية بألقابها الضخمة وحكومته المطلقة وإدارتها المعتادة. وظلت عَلَى هذا النحو إلى أن استولى العثمانيون عَلَى القسطنطينية (1453) وهذه الإمبراطورية التي أصبحت قرى بيزنطية هي التي نسميها الإمبراطورية البيزنطية.

يوستينيانوس - لأن كان منصب الإمبراطور وراثياً فإنه لم يبق في الإمبراطورية الشرقية أسرة مالكة فإن دسائس القصر وثرات عامة القسطنطينية لم تكد تمكن الإمبراطور إلا في الندر من نقل سلطته إلى أسلافه فكان معظم الأباطرة مغتصبين للمك. وأشهرهم يوستينيانوس (527 - 565) وهو ابن فلاح في ولايات الدانوب كان يرعى الغنم في طفولته دخل خاله يوستن بعد رعاية الغنم في الجندية ومازال يتنقل من رتبة إلى أخرى حتى غدى تؤثورن (قائد حرس القيصر) ثم إمبراطوراً واستدعى إلى القسطنطينية يوستنيانوس الذي اشتهر ببذله المال للجند وتمثيله الملاعب أمام العامة فنودي به إمبراطوراً عقب وفاة خاله.

ومن شأن يوستينينوس أن يبحث عن كل ما يزيد في إعجابه فتوفر عَلَى الشهرة بفتح البلاد وإنشاء المعاهد والمصانع وتقنين القوانين فأراد أن يكون فاتحاً عمرانياً مشرعاً. وإذ كان غير صالح للحرب عهد إلى صديقه بليزير أن يفتح البلاد باسمه وكان للإمبراطورية إذ ذاك عدوان أحدهما من الشرق وهي مملكة فارس الحربية والآخر من الغرب وهي الممالك التي أسسها البرابرة الجرمانيون في ولايات الإمبراطورية القديمة وكان ملك الفرس صاحب حول وطول جيشه قوي نظامه موطد الأركان وملوك البربر ضعفاء أخمد البذخ مقاتلتهم يمقتهم الشعب الكاثوليكي لا نظام لهم ولا ترتيب. فكان يوستينيانوس من جهة الشرق يغلب ولم يستطع بليزير غير الدفاع عن آسيا الصغرى وأن يعقد الصلح عَلَى شرط أن يدفع الجزية (533) وفي آخر مدته (562) وقع عَلَى عهد صلح جديدة متعهداً عَلَى أن يؤدي كل سنة 3000 ذهب وقد وفق بليزير من جهة ممالك البربر كل التوفيق فافتتح مملكة الوانداليين في أفريقية (534) بحملة واحدة ومملكة الأوستروغوت في إيطاليا بعد حرب ثمانية عشر سنة (525 - 533) وتغلب عَلَى جنوب إسبانيا أخذها من صاحبها أحد ملوك ألويزغوت. فحق ليوستينيانوس أن يفاخر أنه وطد شطراً من الإمبراطورية الرومانية القديمة ولكن استيلاءه عليها لم يكن له من القوة ما يدفع به ما افتتحه من البلاد فلم يحم إيطاليا من غارة اللومبارديين ولا أفريقية من العرب.

وتوفر يوستينيانوس وهو البناء العمراني عَلَى أن يدافع عن الإمبراطورية بحصون أقامها ويزين القسطنطينية بمصانع ومشاهد وحتى لا ينسى الأعقاب ما قام به من جلائل الأعمال كتب يصف كل ما بناه فكان ما بناه عَلَى شاطئ الدانوب 80 قلعة وفي ولايات أوربا 600 وأشأ السد الذي يحول الخليج الذي قامت عليه مدينة القسطنطينية وخطاً من الحصون عَلَى طول الفرات. وأهم هذه المصانع الكنيسة الكاتدرائية في القسطنطينية المعروفة بآيا صوفيا أجمل أعمال الهندسة البيزنطية (وهي باقية إلى اليوم جعلها العثمانيون جامعاً).

وقد عهد يوستينيانوس إلى الفقيه تريبونين أن يجمع في مجموعتين جميع الشرائع والقوانين الفقهية فوفق يوستينيانوس بفتوحه ومصانعه وقوانينه عَلَى ما يحب أن ينال شهرة ما زالت متأثقة إلى اليوم ولن ينسى عهده وكانت أيام حكمه تعسة تزوج امرأة وضيعة اسمها تيودورا كانت تدبر أمره حسب رغبته وهام جداً بألعاب الفروسية وبالشعر حتى نسي الحكم فثار الرق ونهبوا عاصمته خمسة أيام وأوشكوا يذبحونه فاضطهد أعداءه أيما اضطهاد وأغلق مدرسة الفلسفة في أثينا واشتط عَلَى الشعب في تقاضي الضرائب وغضب عَلَى القائد بليزير الذي افتتح باسمه كل هذه الفتوحات.

الأعمال التشريعية - إذا كان الأباطرة لم تبذل لهم الطاعة إلا في البلاد التي كان يتكلم فيها في اللغة اليونانية فقد ظلوا يكتبون عقودهم الرسمية باللاتينية وبقيت محاكم الإمبراطورية تحكم بالقانون الروماني ولكن لم يبقى في الإمبراطورية منذ القرن الثالث فقهاء قادرون أن يكملوا الحقوق كأتن يتفننوا بالزيادة عليها فكانوا يكتفون بتكرار تعاليم فقهاء القرن الثاني والقرن الثالث كايوس وأولبين وبول وبابنين ومودستين. وقرر الأباطرة أيضاً أن يجري عمل القضاة في المستقبل في كل المسائل التي لم يسبق للقانون أن قدر وقوعها فيتبع رأي هؤلاء الفقهاء العظام وإذا كان بينهم خلاف يجري عَلَى رأي الأكثرية وظلوا ينشرون الأوامر ويبعثون إلى حكام الولايات أجوبة عَلَى مسائل في الحقوق تكون بمثابة قانون وله نفوذه وأحكامه. وقد ألفوا في القرن الخامس مجموعة من هذه الأوامر الإمبراطورية سموها القانون التيودوزي.

وصحت عزيمة يوستينيانوس عَلَى أن يجمع القانون الروماني برمته فعهد إلى تريبوتين أن يقتطف من أقوال جميع فقهاء الرومان ومن أعمال الأباطرة ما يتألف منه هذا العمل الذي عنيت به لجنة من الفقهاء اشتغلت نحو عشرين سنة فألفت ثلاثة تآليف وهي (1ً) مجموعة الفتاوي (بندكيت) مستخرجة من أفواه زهاء خمسمائة فقيه روماني من عصور مختلفة وتقسم إلى خمسين كتاباً (2ً) قانون يوستينيانوس وهو مجموع الأوامر والتقاليد الصادرة عن الأباطرة منذ عهد قسطنطين (3ً) كتاب الأحكام وهو سفر في الحقوق ألف للطلبة.

ثم أن يوستينيانوس جمع في كتاب سماء السنن عامة الأوامر الصادرة في عصره وحظر أن يذكر اسم أحد من فقهاء الرومان بعد ذلك وبهذا بطل استعمال الكتب القديمة في الفقه الروماني في المحاكم فضاعت إلا قليلاً ونحن اليوم قلما نعرف شيئاً في الحقوق الرومانية إلا ما كان من قطع في مجلة يوستينيانوس ومن أجل هذا طارت شهرة هذه المصنفات.

القياصرة والشعب - أصبحت المملكة البيزنطية مع الزمن أشبه بحكومة مطلقة شرقية والإمبراطور سيدها يأمر بقتل كل من ينالهم غضبه ويصادر الأموال كما شاء هواه وله السلطة الدينية ينصب الأساقفة ويعزلهم ويتحكم في المعتقدات ويضطهد المخالفين.

ويحف به كبار الضباط والموظفون والخدم فيتألف منهم بلاط ذو أبهة ويكون لكل من الداخلين فيه رتبة شرف ويقدر كل شيء فيه برسوم دقيقة والقصر يستغرق جميع الأموال التي تجيء من البلاد ولا يذكر في الإمبراطورية غير الإمبراطور وتنقضي الحياة في القصر عَلَى معالجة دسائس النساء وبطائن الإمبراطور وفي المؤامرات. فمن 109 أباطرة تعاقبوا الحكم من القرن الرابع إلى القرن الخامس عشر 34 فقط ماتوا حتف أنوفهم عَلَى سرورهم و2 تنازلوا و18 ماتوا في السجن و18 جدعت أنوفهم وقطعت أيديهم و20 خنقوا أو سموا. وندر أن خلف الإمبراطور ابنه وكل إنسان حتى الخادم والعسيف تحدثه نفسه في الوصول إلى العرش فقد كان الإمبراطور ناستازا رئيس الحجب وجوستين رعى الخنازير وفوكاس جندياً بالعرض وكثيراً ما كان يحدث لبعض المتشردين أن يتنبأ له بعض العجائز فتصح عزائمهم عَلَى تدبير المؤامرات ليصبحوا أباطرة. ويروى أن باردانوس بينما كان عَلَى وشك الانتقاض دله أحد الكهنة عَلَى خدمته الثلاثة الذين كانوا يأتونه بفرسه قائلاً له إن هذين الاثنين يبايعان بالملك وهذا يبايع ثم يقتل. وهؤلاء الخدم الثلاثة هم ليون الخامس وميشيل الثاني وتوماس الغاصب ولذا كان سلاح الإمبراطور في الدفاع عن نفسه التجسس والتعذيب الليم فقد قطع فوكاس (603 - 680) ألسن أنصار سلفه وفقأ عيونهم وقطع أيديهم وأرجلهم وكان الإمبراطور يضربهم بالسهام أو يحرقهم بالنار وكثيراً ما كانت تجري هذه العقوبات الشديدة عَلَى رؤوس الأشهاد. وقد شهد الإمبراطور يوستينيانوس الثاني وهو مجدع الأنف مشهد الألعاب ورجلاه عَلَى رأس منافسيه في العرش ثم أمر بهما فأعدما. ووضع باسيل أعداءه المجذومين المصلوبين في الساحة العامة قابضاً بيده مبخرة فيها كبريت كان يبخر بها بعضهم بعضاً ثم اضطرهم ثلاثة أيام أن يشحذوا وعيونهم مفقوءة ويد كل منهم مقطوعة.

الجيش - لم تبق في الولايات سلطة غير سلطة الجيوش يجندون من المتشردين من أهل كل بلد يدرها عليهم الإمبراطور وفيهم الأروام والفرس والعرب والأرمن والصقالبة بل والفرنج والنورمانديون وكان معظمهم فرساناً لا يؤدون الضرائب ويملكون أراضي وقد دعاهم الصليبيون الفرنسويون في القرن الثالث عشر الفرسان والشرفاء وبطلت طريقة الحكام المدنيين في الولايات وسط الحروب فكل قائد جيش يحكم عَلَى منطقة ولايته وبعضهم ينقطعون عن كل صلة عن العاصمة فيدفعون عن أنفسهم بحسب ما يتراءى لهم فكانت مناطق كالإبرا وصقلية مثلاً مستقلة حقيقة.

المجاميع - حفظت القسطنطينية خزائن كتب مملوءة بنفائس قديمة وكان فيها مدارس يتخرج فيها كل من يطمعون في تولي المناصب ويقضى عَلَى الموظفين في الدولة البيزنطية أن يكونوا أدباء كما هو شان حكام الصين ويدرس الأساتذة من الكهنة إلا قليلاً علوم الدين والشريعة والرياضيات والنحو وكان بعضهم ملماً بجميع علوم عصره ولم يكن علماء بيزنطة يحاولون أن يأتوا بأعمال مبتكرة بل كانوا يسقطون عَلَى التآليف القديمة فيقبسون منها ما يجمعونه في مصنفاتهم. فقد ألف فوتيوس في القرن التاسع كتاباً سماه عشرة آلاف مصنف ووضع سيمون المترجم وهو قائد سياسي من أهل القرن العاشر مجموعة واسعة في حياة القديسين وجمع الإمبراطور قسطنطين البورفيروجنتي مجموعاً عظيماً. وكان البيزنطيون يرجون أن يضموا في بضعة مصنفات شتات عامة علوم القدماء وهو عمل متكبرين لا عمل عالمين ولكن عملهم حفظ شذوراً من أسفار ضائعة قديمة.

الصنائع البيزنطية - ظلت الإمبراطورية البيزنطية خلال القرون الوسطى بأسرها تنشئ كنائس وقصوراً وتزينها فكان المتفننون بالصناعات كثيراً عددهم ولاسيما في بلاط بيزنطة وفي الأديار بين الكهنة والقسيسين. وأعظم الصناعات البيزنطية الهندسة وأهم مصانعها كنيسة آيا صوفيا في القسطنطينية أنشئت عَلَى عهد يوستينيانوس وحافظ عليها العثمانيون فحولوها جامعاً.

وتتألف الكنيسة البيزنطية من قبة كبيرة وسطى فيها قباب صغرى يدخل منها النور ويحيط بالقبة الكبرى عدة قباب أو نصف أقباب صغيرة وجميع هذه القباب مذهبة من الخارج تتألق أنوارها إلى بعيد وفي الداخل ترى السواري من الرخام الثمين كاليصب والسماقي وكلها ذات خطوط حمر وخضر وأرضها مبلطة بالفسيفساء المتألقة والحوائط مزدانة بصور مرصعة من ذهب. يريدون من هذا التفنن إظهار الغنى. وغدت هذه الكنائس ذات القباب المستديرة والمذهبة أنموذجا للمهندسين منذ القرن السادس إلى القرن الحادي عشر لا في الإمبراطورية البيزنطية بل عند جميع البرابرة المسيحيين في الشرق. وبقيت هذه البيع في الشرق مثال الهندسة النصرانية وجماع الكنائس الروسية كنائس بيزنطة.

وما النقش والتصوير عَلَى ما كان قديماً في مصر وآشور سوى صناعات ثانوية من شأنها تزيين أعمال الهندسة وتمثل صور الجدران صفوفاً طويلة من القديسين أو احتفالات كهنوتية والأشخاص منفصلة عن التهذيب فيها جفاء وهي عَلَى نسق واحد وعيونها واسعة الأحداق وأجسامها مقرنة لا معنى لها ولا حياة فيها وكذلك تماثيل القديسين ينتقد عليها ما ينتقد عَلَى صور الأشخاص وقد انقطع أرباب الصنائع عن صنع النقوش والتصوير والطبيعة واكتفوا بنقل نموذجات مقررة مبتعدين عن الحقيقة كلما أكثر النقل والاحتذاء.

حفظت في المملكة البيزنطية أيضاً جميع أعمال الزينة كالنقش عَلَى الخشب أو العاج وصناعة الحلي والزمرد وتذهيب المخطوطات. ودام أرباب الصناعة من البيزنطيين مدة خمسة قرون من القرن السادس إلى القرن الحادي عشر مستأثرين بصنع ما يحتاجه الملوك والأساقفة ورؤساء الأديار من البربر في غاليا وجرمانيا يعملون لهم زين البيع وبيوت الذخائر والكؤوس والعروش والتيجان والمخطوطات الثمينة وكان إذ تخرج أناس في الصناعة ببلاد الغرب يبدءون باحتذاء مثال الكنائس البيزنطية.

كنيسة الشرق - لم تشأ الكنائس النصرانية في الشرق أن تخضع للبابا في رومية بل كانت ترجع إلى أساقفة المدن الكبرى (القسطنطينية والقدس وأنطاكية والإسكندرية) يدعونهم بطاركة وفوقهم الإمبراطور رئيس الكنيسة وهو ملك عَلَى الأجسام كما هو ملك عَلَى الأرواح عَلَى نحو ما هو حال قيصر روسيا إلى اليوم بل هو المرجع في حسم المسائل الاعتقادية.

وقد أصدر زينون سنة 482 في الجدال الذي ثار بشأن طبيعتي المسيح أمراً قاضياً عَلَى الفريقين أن يقبلا بقانون عام وبعد مئة وخمسين سنة من هذا التاريخ والمسيحيون يتناقشون فيما إذا كانت للمسيح طبيعة واحدة أو طبيعتان اصدر هيراكلوس سنة 639 أمراً يقضي بأن للمسيح طبيعتين ولكن له إرادة واحدة فنشأت من ذلك بدعة جديدة وانقسمت كنيسة الشرق إلى عدة شيع فكان النساطرة يقولون بأن في المسيح طبيعتين الأولى إلهية والثانية بشرية وأن العذراء ليست أم الله بل أم المسيح وأسسوا الكنيسة الكلدانية نصبوا زعيمها في بابل. وقال القائلون بطبيعة واحدة في المسيح أن ليس فيه من الطبائع إلا الطبيعة الإلهية وهؤلاء أسسوا كنائس مصر وأرمينية وسورية (تحت اسم اليعاقبة) والقائلون بطبيعة وحيدة في المسيح اعتقدوا بأن له طبيعتين وإرادة واحدة ولا يزال الموارنة في جبال لبنان يعتقدون اعتقادهم.

فلم تحتفظ الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية بغير روم آسيا الصغرى وأوربا ولم يتيسر لها أن تظل بكنيسة الغرب والكنائس مختلفة في عدة مسائل فالغربيون لم يقبلوا بزواج القسيس ولا بعبادة الصور وزادوا إلى هذه الجملة التي قيلت في مجمع نيقية الروح القدس منبثق من الأب قولهم ومن الابن أيضاً ولم يرض أحد الفريقين أن يتنازل عن دعواه ومنذ ذهاب الإمبراطور من رومية كان يعترف البابا وأساقفة إيطاليا بإمبراطور القسطنطينية عاهلاً عليهم ولكن لم يقبلوا بأن تحكم الإمبراطورية في الكنيسة وأن نفض مسائل الإيمان والقوانين. وأصبحت الصلاة نادرة ومتعذرة بين البابا والمشارقة ثم جاء إمبراطور من القائلين بتحطيم الصور فأمر سنة 728 بأن لا يكون في البيع أقل تمثيل من تماثيل المسيح بل ولا العذراء ولا القديسين وأن تحطم التماثيل وتعفى آثار الصور فحرض البابا جماعته المؤمنين أن يقاوموا هذا الفكر وشجب القائلين بحطم الصور ولما غدا أحد ملوك الإفرنج (شارلمان) إمبراطور عَلَى الغرب انقطعت كل صلة بين رومية والشرقيين.

ولم تبق الكنيسة الرومية محصورة في الإمبراطورية البيزنطية بل بعثت رسلاً لتنصير البربر الصقالبة في أوربا الشرقية كما نصر مراسلو رومية برابرة الجرمان وفي أوربا الغربية فكما غدا الجرمان في ألمانيا وإنكلترا كاثوليكيا رومانيين أصبح السلافيون (الصقالبة) في بلغارياً وبلغاريا كاثوليكيا روميين ومازال هؤلاء كذلك وتسمى الكنيسة الرومية (وهي تسمي نفسها الأرثوذكسية) وعدد الخاضعين لها نحو 80 إلى 90 مليوناً.

مكانة الإمبراطورية البيزنطية - جرت عادة المؤرخين عند كلامهم عَلَى البيزنطيين أن يطلقوا عليهم عبارات الاحتقار. نعم إن روايات مؤرخيهم تشعر أن هناك شعباً ظالماً نذلاً فاسداً ولكن لم يبق غيرهم باقين عَلَى شيءٍ من مدنية بجانب الغرب الذي عاد فأصبح بربرياً فهم الذين حفظوا الحضارة القديمة ونقلوها إلى اسم أوربا الحديثة وبذلك شغلوا مكانة عالية في تاريخ العالم الممدن وإليك ما أنوه من الأعمال عَلَى سبيل الإيجاز:

1ً - حفظوا من التشذيب القوانين الرومانية التي لا تزال في كثير من الموضوعات القاعدة التي تجري عليها الشعوب الممدنة.

2ً - أنقذوا صناعات القديمة وكانت تضيع آثار كتاب اليونان لولا المخطوطات التي حفظها أدباء القسطنطينية وكهنتها فالبيزنطيون كانوا خزنة كتب الجنس البشري.

3ً - أنشئوا صورة عظمى من صور الصناعة وعلى الأقل في الهندسة ونعني بذلك الصناعة البيزنطية.

4ً - أسسوا كنيسة نصرانية نصرت العالم السلافي كله تقريباً.

5ً - قدمت الشعوب البربرية في أوربا الشرقية مثالاً من أمثلة المدنية ولاسيما الروس فإنهم طالما أعجبوا بالبيزنطية واحتذوا مثالها وما البيع الروسية إلا كنائس بيزنطية وألف باء اللغة الروسية مؤلفة من حروف يونانية والدين الروسي هو الكثلكة الرومية حتى أن أسماء العماد يونانية (اسكندر. ميخائيل. باسيل. حنة) وأخذ الشعب الروسي (وهو اليوم يناهز المئة مليون نفس) دع عنك الصربيين والبلغاريين عن بيزنطية كتابه وديانته وصنائعه. وعلى الجملة فقد كان البيزنطيون معلمي الصقالبة كما كان الرومان معلمي الجرمان.

مملكة العرب

الخلافة

الخلفاء - فتح المحاربون العرب في أقل من قرن (630 - 713) بلاد آسيا حتى بلغوا نهر السند وجميع أفريقية الشمالية وأسبانيا وخضعت البلاد التي فتحت للخليفة زعيمهم أمير المؤمنين خليفة الرسول وأقام الخليفة أولاً في المدينة المنورة مدينة الرسول (630 - 660) ثم في دمشق (660 - 750) ثم في بغداد عَلَى عهد العباسيين وعند ذلك تجزأت المملكة فصار الخلفاء ثلاثة في ثلاث عواصم: بغداد في أسيا والقاهرة في أفريقية وقرطبة في إسبانيا دع عنك الولايات المنتفضة (مثل خراسان ومراكش) التي لم تكن نخضع لخليفة قط.

والقاعدة أن ينتخب المؤمنون خليفة بإلهام من الله. قال يزيد للناس عندما بويع له: أيها الناس إني أعاهدكم أن لا أقيم قصراً ولا أجمع من حطام الدنيا فإذا قمت بوعدي فعليكم أن تبذلوا لي طاعتكم وتدافعوا عني بأنفسكم وإلا فأنتم في حل من بيعتي ولكن عليكم أن تذكروني أولاً فإذا صلحت فاقبلوا معاذيري وإذا عرفتم برجل خبرتم أخلاقه بقوم لكم بما أقوم فاختاروه وأنا خاضع له. وفي الواقع فإن انتخاب الخليفة كان حراً خالصاً فتختار الأمة الخلف الذي يعينه الخليفة السابق أو رؤساء القواد في قصر الخليفة.

الحكومة - كانت الحكومة ساذجة للغاية. متوارثة خلفاً عن سلف وعلى الخليفة كل جمعة أن يصعد المنبر ويخطب الناس ويعظهم ثم تركت هذه العادة وكان عليه أن يستقبل القوم جالساً عَلَى عرش يحف به ذوو قرباه وأعاظم دولته ولكن خليفة بغداد جعل له وزيراً يكون له خادماً ووزيراً أول يسليه بحديثه ويغنيه ويلاعبه بالنرد وينوب عنه في الحكم. وهو أيضاً يقضي وقته في قصوره أو حدائقه بين نسائه يحف به حرس من الجند المأجور من الأجانب (ويدعونهم الخرس لأنهم لا يتكلمون العربية).

وكان لكل ولاية قائد لجيشها يحكمها وكثيراً ما ينتفض الخليفة وفي كل حاضرة قاض يقضي بين المسلمين عَلَى أسرع وجه بدون كتابة ولا معاملة وذلك بمراعاة أحكام القرآن والعدل. ويقال عدل قاض يريدون به العدل الموجز. وكانت العرب كالرومان يتركون الشعوب الخاضعة لهم متمتعين بحقوقهم ومحاكمهم بل أساقفتهم (وكان في خلافة بغداد وحدها 25 أسقفاً مطراناً) ويتركون المسيحيين يقومون كما يشاءون بشعائرهم الدينية مكتفين منهم بتأدية الجزية فقط وأن يحترموا المسلمين وأن لا يحملوا السيف ولا يبيعوا الخمر ولا يقرعوا نواقيسهم كثيراً ولا يتلون أناجيلهم بصوت جهوري.

المذاهب - لما كان بين الشعوب المختلفة التي دانت بالإسلام كثير من الاختلاف في الأخلاق لا يتأتى معه أن يقوموا بواجباتهم عَلَى مثال واحد انقسموا إلى عدة مذاهب فقدماء المؤمنين في العادة ولاسيما العرب منهم يؤمنون مع القرآن بأحاديث الرسول وما أُثر عن أصحابه وآله فيعززون الكتاب بالسنة ومنهم اشتق اسمهم أهل السنة. لا جرم أن هذه الأحاديث التي قبلت بسائق سرعة التصديق المعهودة في الشرقيين لا يرد عهدها إلى محمد (فقد أقر أحد الوضاعين الذي قتل سنة 772 بأنه وضع 4000 حديث) ولكنها مع ذلك من أصل عربي. إما المذهب المناقض لهذا فقد تالف بعد مقتل علي فأبى أهله الاعتراف بخلفاء الأمويين في سورية ونبذوا الحديث وزعموا أنهم يتمسكون بالقرآن فدعا العريقون في الإيمان هؤلاء المخالفين شيعة أو رافضة وكان معظمهم قد أسلوا حديثاً وأكثرهم من الفرس فمزجوا الإسلام ببقايا دين زردشت القديم وادخلوا فيه حكايات واحتفالات ومعتقدات تكرهها العرب وجعل أكثرهم استنارة بكثرة تفسير القرآن وفلسفة مجازية من الدين مثل صوفية الفرس حتى لقد شبهوا هؤلاء بالإباحيين وكان من أمر السواد الأعظم كرهاً بالأمويين أن اتخذ من أخلاف علي ختن الرسول آل بيت إلهي وقالوا أن الخليفة غاصب وأن الزعيم الحقيقي من آل بيت علي وفيه السر الإلهي وهكذا جاء اثنا عشر إماماً عاشوا خاملين في المدينة ثم انقرض آل البيت فكانوا يتوقعون زمناً خروج الثاني عشر وهو محمد من مغارة بالقرب من بغداد حيث كان مختبئاً عَلَى ما يقولون ومنذ ذاك العهد أخذوا ينتظرون إماماً يأتي ذات يوم لمقاومة الشر بمعونة عيسى ويلقي السلام عَلَى الأرض وفي كل مساء يضرعون إليه أن يظهر قائلين تمثل لنا أيها الإمام فإن الإنسانية في انتظارك لأن الحق والعدل هلكا والأرض ملئت جوراً وظلماً. وهذا المسيح يسمونه المهدي (أي الرجل الذي يسوقه الله) وقد ظهر كثير من المهديين منذ القرن العاشر ولاسيما بين مسلمي أفريقية وأنشأ أحدهم خلافة في القاهرة وأسس آخر دولة الموحدين في مراكش وقام لعهدنا مهدي جديد آخر في السودان (1884).

المدنية العربية

منشأ المدنية العربية - كان الإسلام كالنصرانية مباحاً الدخول فيه لكل إنسان فإذا اسلم المغلوب يدخل في زمرة المؤمنين وكانت العرب الخلص في الصدر الأول التي تدعو أنفسها السود تحتقر هؤلاء الداخلين في الإسلام المدعوين بالحمر السبال ولكن الخلفاء وضعوا مبدأ المساواة قال عمر من الظلم أن يحتقر المرء أخاه المسلم. وقد أخذ الروم والفرس ممن دخلوا في الإسلام لو ظلوا عَلَى دينهم وهم أعراق في المدينة يتكلمون بالعربية ومزجوا عاداتهم بعادات الفاتحين وخرج العرب متوحشين من قفارهم فتحضروا كما كان شان الرومان قديماً وراحوا يمدنون الشعوب البربر التي مازالت عَلَى توحشها في أفريقية كما مدنت رومية بربر إسبانيا وغاليا.

بغداد وقرطبة - هذه المدنية العربية التي نشأت في الشام وفارس هي شرقية محضة فقد اقتدى خلفاء دمشق بملوك فارس فكانوا يأوون إلى قصورهم المبلطة بالمرمر الأخضر وفي وسط الفناء حوض عظيم يفيض فيسقي حديقة غاصة بالطيار وحوله عبيده يغنون فيشرب شراباً بماء الورد وكانت العاصمتان اللتان أسسهما الخلفاء وهما بغداد وقرطبة أحسن حالة فإن بغداد مدينة العجائب أنشئت في بضع سنين وكان لها أربعة أبواب من حديد تحيط بها قبة مذهبة وكان عَلَى الداخل للوصول إلى القصر أن يجتاز ثلاثة ميادين وثلاثة أبواب وكان القصر مدينة مغلقة وسط المدينة. وفي ردهة الاستقبال شجرة ذهب أغصانها الحجار الثمينة واسود مقيدة وأحواض ومياه منبجة ترطب الهواء وكان لخلفاء القاهرة حديقة أشجارها من ذهب وأزهارها من الجوهر وبلاطها من الزمرد. قالوا أنه كان في قرطبة في القرن العاشر مئة ألف دار وستمائة جامع وثمانون مدرسة وثلثمائة حمام وثمانية وعشرون ربضاً. وقد سميت الراهبة هروسويسا الألمانية مدينة قرطبة بجوهرة العالم وكان الخليفة في قرطبة كما في بغداد يستدعي الشعراء والمغنين ويعيدهم مملوءة حقائبهم من الذهب. ولأغنياء التجار أيضاً حدائق مملوءة بالزهور والشجار العطرة والبسط الفاخرة وأقمشة الحرير وآنية الفضة وطيوب بلاد العرب التي يحرقونها في مجامر ذهب. وهكذا بذخ الشرقي يرغب في الثمين الفاخر أكثر من رغبته في الموافق السهل.

الزراعة - من أول واجبات الحكومة أن تفتح الترع اللازمة لزراعة الأرض. وهذه كانت قاعدة أمراء العرب التي جروا عليها وحفروا الآبار وجازوا من عثروا عَلَى الينابيع بالمال ووضعوا المصطلحات لتوزيع الماء بين الجيران فإن مصر والشام وبابل هي من البلاد الحارة التي تخصب وأي خصب عندما يسقونها قد علمت العرب قيمة الماء وطريقة الانتفاع منه فنقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير التي تمتح الماء والسواقي التي توزعه. وإن الهورتا (؟) في ضواحي بلنسية وهو سهل مزروع كما تزرع الحديقة هو من بقايا حومة العرب وديوان المياه الذي كان يفض مسائل السقيا نظمته العرب.

وقد استعملت العرب جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم وحملت كثيراً من النباتات إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوربا فأحسنوا تربيتها حتى لتظنها وطنية وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمش والبرتقال والكباد والنخل والهليون والبطيخ الصفر والعنب العطر والورد الزرق والصفر والياسمين بل والقطن والقصب وقد دخل هذان الصنفان منذ اكتشاف أميركا.

الصناعة - وجدت العرب في الشام وفارس صناعات قديمة نقلت إلى جميع البلاد الإسلامية فتكملت ومنها نشئت صناعة أوربا الحديثة. وكانوا يعملون في معامل الزجاج في بغداد والشام زجاجاً معمولاً بالياقوت والصدف وتخرج من معامل الأسلحة العربية الفولاذ العجمي واليطقانات المنحنية في البصرة والسيوف في اليمن ثم أخذت سورية تصنع النصال الدمشقية المشهورة وإسبانيا السيوف المسقية في طليطلة. ويحوكون في جبال آسيا الصغرى السجاد من صوف ذي وبر. وفي دمشق قماش الدمسكو وأقمشة القصب وأقمشة الحرير والصوف الدقيقة ويصنع الشاش في الموصل. وقد انتقلت الرسوم العجمية التي كانت تزدان بها هذه الأقمشة من طيور وأسود وفيلة وحيوانات ونباتات يتخيلونها (ويرد عهد بعضها إلى الآشوريين) إلى تزييناتنا الحديثة وكان يعمل الورق في سمرقند وبغداد منذ القرن العاشر وربما قلدوا في صنعه الصينيين ومن هاتين العاصمتين انتقلت صناعة الورق إلى صقلية وكساتيفا (؟) في إسبانيا. وكانت في الغرب معامل الجلد الشهيرة وهي مثال الجلد القرطبي (الكوردواني) نسبة لقرطبة (ومن هنا اشتق بالإفرنجية اسم كوردونية أي صانع الأحذية) كما يصنع السختيان (الماروكين) نسبة إلى مراكش. ويعمل في بغداد السكر الذي كان اخترع في بلاد الفرس وكانت العرب تحسن عمل المربيات والشربة والخمور الناشفة وروح الورد.

التجارة - عاش الشعوب في بلاد العرب الواسعة كما كانت الحال عَلَى عهد الرومان من أقصى المملكة إلى أقصاها بسلام وراحة يتقاضون حاصلات أرضهم ومصنوعات معاملهم ويرحلون إلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها إلى الشعوب البربرية في أوربا وكانت الصنائع تنقل في البحار عَلَى مراكب وفي البر عَلَى ظهور الجمال وللعرب مرفآن تجاريان عظيمان متصلان بالعاصمتين أحدهما البصرة عَلَى خليج فارس كان يفتح للعرب بحر الهند وهناك تفرغ مراكب العرب وهي قادمة من الهند تحمل العطور والأباريز والعاج وتجيء الجنوك الصينية تحمل جميع صمغ اللك والحرير وتعود بالزجاج والسكر وماء الورد والقطن. والإسكندرية هي المرفأ الثاني فتحت عَلَى العرب طريق البحر الرومي وإليه كانت تصل مراكب إيطاليا فالبصرة مرفأ بغداد والإسكندرية مرفأ القاهرة.

وتسير القوافل من بغداد إلى كل ناحية فمن الجنوب الغربي تقصد إلى دمشق وسورية وإلى الشرق نحو البصرة والهند ومن الشمال إلى طربزون عَلَى البحر الأسود حيث كانت تحمل بضائع المملكة البيزنطية وإلى الشمال الشرقي إلى سمرقند وبحر الخزر حيث كان يذهب التجار ليأخذوا جلود روسيا وشمعها وعسلها. وكانت القوافل من القاهرة تسير إلى الغرب في الطريق العظيم الذي يحاذي البحر عَلَى طوله ماراً بطرابلس والقيروان لينفذ من طنجة التي كانت تصل إليها تجارة إسبانيا ومن الجنوب طريق يصعد منها إلى النيل حتى بلاد السودان وآخر يسير عَلَى الشاطئ الشرقي من أفريقية حيث أنشأت العرب مقدشو وكلوة وسفالة. ومن هذه الجهة كان يجيء التبر والعاج والعبيد. وكان في جميع المدن العظمى كبغداد والقاهرة ودمشق والقيروان وطنجة وقرطبة وسمرقند حي للتجارة (البازار) يعرض فيه التجار أمتعتهم ويتفقون عَلَى الأسعار.

العلوم - يقول المثل العربي من سار في طلب العلم سهل الله له طريق الجنة وكثير من الرجال من ساحوا أشهراً في طلب حديث روي عن الرسول وبالحقيقة أن المسلم يعنى عناية خاصة بعلم الكتاب وفي البلاد الإسلامية كما في المسيحية يفضلون تعلم الفقه. فقد كان الطالب في مدارس قرطبة يقضي أربع سنين في تعلم قراءة القرآن وثمان سنين في حفظه ثم يتعلمون الكتابة وهكذا كان يتخرج العلماء وهم علماء في الفقه والكلام إذ ليس القرآن قانوناً دينياً فقط بل هو قانون مدني. ومن دراسة تراكيب القرآن نشأ علم النحو وما برح المسلمون يبرحون من العلوم الكلام والفقه والنحو وكان في الحواضر مدارس يجتمع إليها من يرغبون في التعلم أو التعليم وهؤلاء الأساتذة المرتجلون كانوا يلقون دروسهم علناً بدون مقابل أو لقاء رواتب يدفعها عليهم الحضور. وأنشئت في القرن العاشر في بغداد ودمشق وسمرقند مدارس كلية حقيقية تدفع الحكومة رواتبهن.

وحفظت في مدارس الروم في دمشق والإسكندرية علوم الروم من فلك وجغرافيا ورياضيات وطب فجمع علماء الإمبراطورية البيزنطية رومهم وعربهم وفرسهم هذه العلوم وأكملوها ونشروها وقد كتب أحد علماء العرب أول كتاب في الجبر ترجم إلى اللاتينية ووصف جغرافيو العرب البلاد البعيدة التي كانت القوافل تختلف إليها. واستخرجت العرب من كتب الطب اليوناني الطب التجريبي الذي كان المعول عليه في القرون الوسطى وهو طب العقاقير والحبوب وكانوا كاليونان يبحثون عن داء يشفي من كل الأوصاب ولكن أهم ما غلب عَلَى العرب من علوم علم الكيمياء وكان يحببه إليهم أمران مرغبان لعقل الشرقي وهما العثور عَلَى حجر الفلاسفة الذي يحول جميع المعادن إلى ذهب والإكسير الذي يعطي الحياة ويعيد الشباب وكانوا يحاولون إخراجها بمزج كل مادة وإغلائها وتقطيرها فوقع الكيماويون في أنابيقهم وأدوات استخراجهم ما لم يكونوا يبحثون عنه فبدلاً من الإكسير حصل معهم الألكحول (1669) ثم بعد زمن بينا كانوا يبحثون عن حجر الفلاسفة وجدوا في ألمانيا الفوسفور. وظلت الكيمياء وهماً ولكن نشأت منها الكيمياء الحديثة كما نشأ قديماً في بلاد الكلدان علم الفلك من علم التنجيم.

فنون العرب - لم يكن للعرب كما للرومان صناعات وطنية خاصة بهم فكانوا إذا احتاجوا إلى قصور أو جوامع يعمرونها أولاً عَلَى الطراز الفارسي أو البيزنطي مثل جامع دمشق ولكن لم تلبث الصناعات الفارسية والبيزنطية أن اختلطت ونشأ منها صناعة جديدة هي الصناعة العربية وأجمل هذه الصناعات الجوامع والقصور والجامع عبارة عن قاعة كبرى يجتمع فيها المؤمنون وفي الفناء حوض ماء يتوضئون منه ومأذنة تنتهي بسطح ومنه ينادي المؤذن المؤمنين للصلاة وكانت القاعة العظمى في قرطبة تنقسم إلى أحد عشر صفاً من السواري والقصر العربي هو بيت نزهة يكون بحسب عادة البلاد الحارة ولا يبدو منه إلى الخارج إلا حوائط عارية. والقاعات كما في الدور القديمة متجهة نحو فناء (صحن) داخلي معروس بالأشجار ويرطب هواءه حوض ماء وفي صحن الأسود في قصر الحمراء في غرناطة ينبجس الماء من كأس عظيمة من الرخام الأبيض يحملها اثنا عشر أسداً من الرخام الأسود والفناء يحيط به من الشواطئ سوار يتألف منها رواق والسواري العربية رقيقة عالية عَلَى مثال الهندسة الفارسية فلا تحمل إلا حوائط رقيقة خفيفة من الجبس أو الملاط والقناطر التي تجمع بين السواري هي عَلَى شكل رسم البيكارين أو هلال أو قرن فهي هندسة جميلة خفيفة سريعة العطب كأنها أصحاف كتاب بالمقوى. وليس للعرب نقش ولا تصوير لأن القرآن حرم عليهم تمثيل الأشخاص فبدلاً من التماثيل والصور تصوروا أن يصوروا الحوائط بألوان زاهية وأكاليل من الزهر والورق وآيات من القرآن وأشكال هندسية مشتبكة وهذه الزين التي أصبحت عَلَى الدهر مختلطة مرتبكة لا أصل لها إلا في خيال رساميها قد حفظت أسماء مخترعيها فقالوا عنها أرابسك أي النقوش عَلَى هيئة النباتات والأوراق.