مجلة المقتبس/العدد 75/تاريخ الحضارة

مجلة المقتبس/العدد 75/تاريخ الحضارة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 5 - 1912


مملكة الإفرنج

الممالك البربرية

تأسيس الحكم الإمبراطوري - لم يشأ ملوك البربر النازلين في الإمبراطورية الرومانية أن يأتوا عَلَى المعاهد الإمبراطورية فيبيدوها بل آثروا أن يخلفوا الأباطرة ويسنوا الشرائع ويصدروا الأحكام ويجبوا الضرائب وعلى الجملة أن يحكموا كما حكم الإمبراطور. هكذا كان شأن ملوك البورغوند والويزغوت والواندال في القرن الخامس لكن ملك الأوسترغوت في إيطاليا تيودوريك قد بلغ في احتذاء ذاك الماثل أرقى درجاته في القرن السادس فكزان له في فارون قصر بني عَلَى مثال قصر الإمبراطور مع وزيره وصاحب حاشيته ووكيل خرجه وأمناء ماله وكان له ولاة ومحافظون يجبون الضرائب أما الغوت فظلوا محاربين ومنهم يتألف الجيش تحت أوامر الدوقات والكونتية منهم. وفي ظل هذا الحكم كان الإيطاليون يعيشون بسلام كما كانوا عَلَى عهد الإمبراطورية فانشئوا يصلحون المجاري والحمامات ودور التمثيل بل شادوا أيضاً مصانع جيدة مثل قصر فارون ومسلة رافن وبدأ التمثيل يعود إلى ما كان عليه وتفتح مدارس البيان لقبول الطلاب وعلى ذلك العهد نبغ بويس آخر شعراء اللاتين القدماء (470 - 524) بيد أن الغوت لم يخضعوا زمناً طويلاً لهذا النظام فبعد موت تيودوريك كانت الملكة أمالازونت تربي أبنائها عَلَى يد أساتذة رومانيين فجاء رؤساء الجند يطلبون أن يربوا والطفل مع أترابه عَلَى الصيد وحمل السلاح عَلَى نحو ما تقتضي به العادة البربرية.

حكومة الميروفنجيين - كان ملوك الإفرنج في غاليا أكثر توحشاً من تيودوريك وحاولوا مع ذلك أن يحكموا البلاد عَلَى الطريقة الرومانية فمنح إمبراطور القسطنطينية لكلوفيس لقب قنصل وبطريق فظهر في مدينة تور لابساً رداء من الأرجوان وعلى رأسه التاج واقتسم أخلافه المملكة بينهم كما يقسم الملك ولكن كان لكل منهم قصره في البقة التي كان يحكم فيها كلوفيس فيجلس عَلَى عرض من ذهب يحف به رجال الدولة بألقابهم الرومانية من قومس (كونت) إلى صاحب الخاتم إلى الحاجب وكان لبعضهم شعراء في قصورهم مثل الشاعر فنانتيوس فورتوناتوس الذي جاء من إيطاليا ونظم إكراماً لزواج برونهوت أبياتاً مختلة مصنعة أظهر فيها كوبيدون (إله الحب) فرحاً بالزواج والزهرة (آلهة الجمال) لتذكر أن برونهوت جميل مثلها وكان الملك شيلبريك نفسه ينظم أبياتاً باللاتينية غاية في السقم والركاكة واخترع حروفاً جديدة مثل وكان يأمر الكونتية أن يمحوا بالنشاف (الخفان) رقوق كتب التعليم في المدارس العامة ليعيدوا كتابتها بحروفه الجديدة ويعنى بعلوم الدين أيضاً ودعي أن العزة الإلهية يجب أن يطلق عليها اسم واحد وقد قال لأحد الأساقفة هكذا أريدك أن تعتقد أنت وأخوانك من علماء الكنيسة. ولما أتاه من أرسلهم إلى القسطنطينية بالأقمشة والزين وأيقونات الذهب عرض ما أتوا به في قصره وعرض في الوقت نفسه حوضاً عميقاً من الذهب الذي كان أمر بصنعه فكان يريه للناظرين بإعجاب قائلاً أن الذي استصنعته للزينة ولا رفع من لأن قدر أمة الإفرنج ولعمري كم استصنع إذا عشت من الأعلاق والتحف.

تخاذل الميرونجيين لم يستطع هؤلاء المقلدون في المدنية الحديثة أن يطول عهدهم فإن الإفرنج كالغوت بلغوا من التوحش مبلغاً ولم يقبلوا معه عَلَى النظام الملكي فكان المحاربون يحترمون ملوكهم لأنهم كانوا من العنصر الميروفنيجي ولكن خضوع مؤقت وكان المقاتلة أكثرهم عرامة يعيشون بالقرب من الملك وفي موكبه ويسميهم الملك رجاله وكثيراً ما يكون هؤلاء أكثر سلطة من الملك. وفي سنة 534 بينا كان الملك شيلدبر وكولتيبر ذاهبين لتخريب بلاد البورغوند وأراد تيري أن يبقى في مملكته جاءه رجاله يقولون لهذا لم تذهب إلى بورغونديا مع أخوانك نتخلى عنكم ونلحق بهم. يريدون تيري أن يقودهم لتخريب أوفرنيا. وبعد حين قال أحد المقاتلين لملك كونتران: نحن نعلم أين خبئت تلك الفأس الندبة بدم أخوانك فإنا نستطيع بها أن نقطع رأسك وقد أخذ كونتران الفزع فقال ذات يوم في الكنيسة أمام جمهور المؤمنين: أقسم عليكم أيها الرجال والنساء الحاضرون هنا ألا تقتلوني كما قتلت أخواني من قبل. وكان هؤلاء المقاتلين الذين لا تدريب لهم يرضون بأن يحلقون بملوكهم في الحروب. لأنهم كانوا يرجون في الحرب أن يعودوا وأيديهم ملأى بالأسرى والغنائم عَلَى أنهم كانوا لا يودون أداء الضرائب وحاول بعض الملوك أن ينفذوا القانون الروماني الذين كانوا يرونه نافعاً في جباية المال وقد عهد تيودير ملك الإفرنج في أوسترازيا إلى وزيره بارتينوس أن ينظم أمور الجباية فلما قضى نحبه انتقض الإفرنج وذبحوا بارتينوس في كنيسة تربف (547) وبعد ثلاثين سنة أمر شيلبريك بتنظيم قوائم بالأملاك وأن تضرب ضريبة عَلَى الأراضي والعبيد وخربت مملكة شيبلريك في السنين التالية بما أصابها من الطوفان والحريق والأوبئة وأوشك الملك أن يهلك بعد أن فقد ابنيه وكان القوم يذهبون إلى أن الله عاقب شيلبريك عَلَى الجناية التي ارتكبها بوضع الضرائب عَلَى الناس. ولما رأت الملكة فريدغوند أولادها قد مرضوا ألقت إلى النار سجلات ضرائب المدن التي كانت خاصة بها وإذ تردد زوجها أن يلقي سجلاته قالت له: وماذا يمنعك أن تحذي حذوي فاعمل عملي حتى إذا فقدنا أولادنا الأعزة نخلص عَلَى الأقل من العقوبات الأبدية (580). وفي سنة 1614 اجتمع الأساقفة ورجال الملك واكرهوا الملك كولتير أن ينشر أمراً بإلغاء الضرائب.

الحقوق الرومانية وملوك البربر - كان ملك الإفرنج في القرن السابع ملكاً عَلَى جميع جرمانيا ولم يكن سكان هذه المملكة الواسعة أمة واحدة متحدرة أجزاؤها بل كان لكل شعب لغته وعاداته ولم يكن في البلاد قانون واحد يخضع له الجميع عَلَى السواء وكان لكل إنسان قانونه الشخصي خلال زهاء ثلاثة قرون (من القرن السادس إلى التاسع) وقد احتفظ قدماء سكان الإمبراطورية بالقانون الروماني أما البربر فكان كل واحد منهم يتبع عادات شعبه القديمة. وقد كتبت هذه العادات باللغة اللاتينية في عصور مختلفة فسميت قوانين البربر فنشأ بذلك قانون الإفرنج (وهو يمنع النساء وأولادهن من كرسي الملك) وقانون ريبوير وقانون الأمان وقانون ألفريزون وقانون البافاريين وبالجملة كانت القوانين بقدر عدد الشعوب. وهذه العادات التي جعلت فيها المواد كيفما اتفق تحتوي عَلَى بعض الفصول في حقوق التملك والمواريث ولكن معظمها نظام فما يجب عمله في السرقات وحوادث القتل.

وكان البربريون يرون أن الخصومات بين أفراد ليست سوى جرائم ليس من شأن الحكومة التدخل بها فإذا وقعت جناية قتل فمن شأن القتيل أو أسرته أن ينتقموا من القاتل أو من ذوي قرباه فكل شدة تؤدي إلى انتقام اضطراري بين الأسرات تشبه الانتقام المألوف إلى اليوم في جزيرة الكورس. ولقد كانت المحكمة لإبطال هذه الفظائع تكره المجرم أن يدفع غرامة إلى آل القتيل ليكفوا عن أخذ الثأر. وفي قوانين البربر تحديد دقيق لقيمة هذه الغرامات فلكل امرئٍ قيمة بحسب حاله فإذا هلك فالقاتل يؤدي قيمته برمتها وإذا جرح يدفع القاتل جزءاً من قيمته عَلَى نسبة شدة الجرح وإذا ضرب رجل رجلاً في رأسه وشجه يدفع 15 سولاً من ذهب (السول خمسة فرنكات) وإذا ضربه برأسه واخرج منه ثلاث عظام يغرم بثلاثين سولاً وإذا ضربه بأم رأسه فظهر مخه يغرم بخمسة وأربعين سولاً. وإذا قطع رجله أو يده أو جدع أنفه يغرم بمئة سول وإذا بقيت اليد المقطوعة معلقة يغرم بخمسة وأربعين سولاً وإذا قطع له إبهام يده أو رجله يغرم بخمسة وثلاثين وفي الإصبع الثالثة يغرم بخمسة عشر سولاً وعن الخامسة يغرم بخمسة سولات وعن الخنصر يغرم بخمسة عشر سولاً. وكانوا يحكمون عَلَى كل فرد في المحاكم بقانون شعبه قال أسقف في ليون في القرن التاسع ليس من النادر أن يجلس خمسة أشخاص معاً ويكون لكل منهم قانونه الخاص.

مملكة شارلمان

الكارولنجيون - لم يوفق ملوك الإفرنج أن يخضعوا رعاياهم البربر إخضاع الطاعة وعلى العكس فإنهم منحوهم عَلَى التدريج جميع الملاك في الإمبراطورية ليكون مقاتلتهم عَلَى مقربة منهم فغدا المحاربون أرباب أملاك عظمى وسكنوا في أراضيهم بين عبيدهم وخلعوا ربقة الطاعة فأمسى الملك الميروفينجي شخصاً خاملاً منعزلاً. وقد نشأت في شرقي المملكة من أنحاء أردين أسرة من كبار أرباب الأملاك لها بعض احترام من قومها يؤهلها إلى خضوع مقاتلة بلادها لأمرها ودعا رئيس هذا البيت نفسه بدوق الإفرنج ولما كان هؤلاء الإفرنج في الشرق أكثر مضاء ونظاماً استباحوا كحمى إفرنج الغرب وغدى ملكهم مدير القصر لدى ملك الميروفنجيين وأصبح السيد الحقيقي في المملكة عامة وبعد نصف قرن أراد أحد الدوقات وهو ببين لبريف أن يلقب نفسه ملكاً فسئل البابا زاخري رأيه فأجاب بأن من حصلت له السلطة الملوكية يجب أن يكوم (752) وعلى ذلك نودي ببين ملكاً عَلَى الإفرنج وجاء القديس بونيفاس يمسحه هو وامرأته بالزيت المقدس فأصبحت الأسرة الكارولنجية من ثم أسرة ملوكية يحترمها الشعب وتقدسها الكنيسة.

شارلمان - كان شارلمان بن ببين اقدر ملوك البربر عَلَى الإطلاق فقد اخضع في جنده جم يع شعوب ألمانيا وتقدم إلى الشرق نحو الألب وإلى الغرب نحو الإيبر ومملكته عبارة عن فرنسا وألمانيا وإيطاليا الشمالية وقلق الباباوات في إيطاليا عَلَى ذاك العهد وحاذروا من اللومبادريين وملوك البيزنطيين حتى أنهم لم يكونوا في رومية من القوة بحيث يحترمهم الناس عَلَى الدوام. وكاد البابا ليون الثالث ذات يوم أن يذبح في إحدى الفتن وضرب ودبس بالأرجل واضطر إلى الفرار واستنجد الباباوات غير ما مرة بملك الإفرنج (ببين وابنه شارلمان) وكانوا يحتاجون إلى حزام قادر يحميهم فظهر من شارلمان أنه كفؤٌ ااذب عن حماهم ومنابذة من عاداهم. انتخب البابا ليون الثالث الجديد سنة 795 فبعث إلى شارلمان بمفاتيح قبر القديس بطرس المقدس وعلم مدينة رومية طالباً إليه أن يبعث بأحد ليأخذ باسمه بيعة الشعب الروماني فأجاب شارلمان إنني راغب أن أعقد معكم محالفة لا ينقض إبرامها يكون سداها الإخلاص ولحمتها الحب حتى أنال البركة الرسولية من قداستكم ويكون لكرسي الكنيسة الرومانية المقدسة من إخلاصي مدافع عَلَى الدهر. وجاء شارلمان إلى رومية سنة 800 فتوجه البابا ونادى به إمبراطوراً وعلى رواية اجنهارد صديق شارلمان أن هذا لم يتعمد هذه الحفلة بل ترك البابا يفعل ما يريد قال ولو شعر بما يراد عمله لما دخل الكنيسة ومع هذا رضي بأن يلقب بإمبراطور الرومانيين وأغسطس وما عدا أحوالاً نادرة لم يرض أن يتخذ بديلاً عن اللباس الإمبراطوري واحتفظ بلباسه الإفرنجي وهو سروال من الكتان مشدود بعصيبات وقميص من الصوف يناط به زنار ثم رداء واسع.

وهذا التتويج لم يزد في سلطة شارلمان ولم يكن حادثاً خطيراً وغاية ما في الأمر أن أصبح في الغرب بعد ذاك الحين إمبراطوراً يعترف البابا والأساقفة بأنه ملكهم وإنه حامي الكنيسة. وأصبحت هناك سلطتان رسميتان البابا والإمبراطور يحكمون الشعب ورجال الدين حكماً مشتركاً.

حكومة الكونتية - لم يحاول شارلمان العمل بقانون الإمبراطورية الرومانية بل ترك أرباب الأملاك معفون من الضرائب غذ رأى من ريع أملاكه الخاصة ما يكفي للإنفاق عَلَى قصره والجيش لا يكلفه شيئاً فليس عليه من ثم إلا أن ينشر الأمن ويقيم ميزان العدل إذا احتيج إليهم فكان الكونتية هم الذين يتولون هذه الوظائف ولكل مدينة (مثل تور انجر شارتر) كونت واحد وهو في العادة أعظم أرباب الأملاك في ذلك الصقع فكان هذا الكونت يحكم باسم ملك في مكورته وحكمه نافذ عَلَى من تحت يده فيدعو المحاربين للحملات ويطارد الأشقياء وكان كثيراً عددهم يومئذ ويجمع كل سنة عدة مجالس للحكم في الخلاء يحضرها أرباب الأملاك في تلك الكورة مدججين بأسلحتهم وكانت الكونتية في حاجة إلى من يراقب حركاتهم إذ كانوا من السطوة والاستقلال في بلادهم حتى أن بعضهم دعوا أنفسهم كونتية بنعمة من الله ولذا كانوا كثيراً ما يستعملون سلطانهم لاضطهاد السكان. قال الكابيتوليرلميون نريد أن لا يكره الكونتية الرجال الأحرار أن يجزوا لهم عشب مروجهم أو يحصدوا لهم حصادهم وأن لا يأخذوا بالقوة والاحتيال أملاك الفقراء.

فكان المرسلون من قبل الملك يطوفون كل سنة البلاد ليراقبوا أعمال الكونتية فيجمعون السكان في كل بلد ويسألونهم عما يشتكون منه ثم يحملون الكونت عَلَى إنصافهم مهددين إياه بغضب الملك عليه ولما سقط اعتبار الملك لم يستطع إنقاذ مرسليه غدا كل كونت ملكاً صغيراً وتألفت من كل كونتية مملكة صغيرة.

رجال الدين في الحكومة - أصبح الأساقفة ورؤساء الأديار منذ ذاك العهد من علية القوم وأرباب الأملاك الواسعة فيهم. ودخلوا عَلَى عهد شارلمان في الحكومة فكانت تعقد جلسة سنوية في قصر الملك للنظر في المسائل فيتشاور الأساقفة ورؤساء الأديان مع الكونتية ورجال الجيش وإذا كانت هذه الفئات منورة أكثر من غيرها فهي التي كانت تسن القوانين وتدونها. وكان لكل مدينة كونتها وأسقفها فجعل شارلمان كالأسقف مساوياً للكونت وأمرهما أن يحكما معاً قائلاً إننا نريد أن يعين الأساقفة الكونتية ويساعد الكونتية الأساقفة ليتمكن كل من الفريقين أن يقوم بعمله حق القيام. فكان عَلَى الأسقف أن يحرم اللصوص والعصاة وعلى الكونت أن يكوه بالقوة من كانوا يعصون الأسقف ومكافأة للسلطة التي منحها الإمبراطور لرجال الدين أصبح هو نفسه زعيم الكنيسة أو أسقف الأساقفة فكتب إلى البابا: إن من شأني أن أدافع عن كنيسة المسيح المقدسة في الخارج من سطوات الكافرين وأن أعززها في الداخل بتعريفي للإيمان الحقيقي، فالإمبراطور هو الذي يعين الأساقفة ورؤساء الأديار وهو الذي يرأس المجامع المقدسة.

ولم يكن ملوك الإفرنج من ثقوب الذهن بحيث يميزون بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية بل كانوا يمزجونهما ويجعلون زمامهما في يد واحدة. وهذا المزج في السلطة هو العلامة الفارقة في الحكومة الكارولنجية. فأنتجت نزاعاً دام عدة قرون بين الإمبراطور زعيم الدولة والبابا زعيم الكنيسة. ولم تدم معاونة الأساقفة للكونتية أيضاً فقد كتب شارلمان سنة 881 في مرسوم صدر عنه: إننا نريد أن نخلوا بأساقفتنا وكونتيتنا ونكلمهم خاصة ونبحث عن السبب الذي من أجله لا يحبون أن يعين بعضهم بعضاً وعندها تجري المناقشة فتقرر الخطة التي يجب عَلَى الأسقف أن يخطتها لنفسه في المسائل الدنيوية والخطة التي يسير عليها الكونت أو غيره من رجال الدنيا في المسائل الكنيسية وكان هذا هو الحد الفاصل بين سلطة رجال الدين والحكومة التي يبحث عنها شارلمان ولكن هذا الحد لم يوافق هو ولا أحد من أباطرة القرون الوسطى إلى الظفر به.

الجيش - عرف شارلمان أنه زعيم المقاتلين فقد قام بحياته بثلاث وستين حملة ولذلك قضت الحال أن يكون الشعب جيشاً ليكفي تلك الحروب التي لا تفتا ناشبة. كان جميع أرباب الأملاك من المحاربين الغزاة بحسب عادة الشعوب الجرمانية فإذا أراد الملك أن يجمل حملة يصدر أمره إليهم بالاجتماع في مكان يعينه فإذا بلغهم الأمر اليوم لا مناص لهم من الوقوف عَلَى قدم الاستعداد غداً أما الخوالف منهم فيغرمون غرامة شديدة وعلى الأساقفة ورؤساء الديار من الخاصة أن يجيبوا الدعوة كما يجيبها العامة وإليك كتاباً للدعوة للاجتماع ورد عَلَى رئيس الدير فولا: نأمركم أن تحضروا في اجتماع 20 حزيران في رجالكم المسلحين المستعدين عَلَى ما يجب فتذهبون إلى المكان المعين وانتم عَلَى الاستعداد عَلَى جانب يتيسر لكم معه أن تحاربوا في كل مكان نأمركم به ونعني بذلك أن تكونوا مسلحين تامة أدواتكم وذخائركم فيكون لكل فارس ترس ورمح ونصف سيف وسهم وجعبة مملوءة وتحمل مركباتكم أدوات مختلفة من الأجناس مثل الفؤوس والمبراة والمثاقب والمحافر والمعاول والمساحي وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها في الجيش وتحملون مئونتكم عن ثلاثة أشهر وألبسة عن سنة.

فكان يقضي عَلَى الغزاة أن يتجهزوا ويتسلحوا عَلَى نفقتهم ومن قل ماله يأتون رجالة وسلالهم ترس طويل ولكن كل من كان لهم مال يحاربون فرساناً راكبين ومدججين بشكة حديد. وهذه الشكة غير مستحدثة بل استعملها الفرسان البارتيون وكانت أجسام الفرسان الذين يقاتلون في الجيش الروماني في القرن السادس مسلحة عَلَى تلك الصورة ولما أطلقت للمحاربين حريتهم أن يتجهزوا كما يشاءون آثروا من الجهاز ما يقيهم الخطر أكثر من غيره وهكذا لم يبق مشاة في الجيوش في أواخر القرن التاسع لم يبق في أوربا الغربية من المقاتلة إلا الفرسان اللابسون للحديد وهؤلاء هم فرسان القرون الوسطى.

دستور الحكومة - إن المراسيم الصادرة عن شارلمان هي مجموع ما كتبته حكومته وهي عبارة عن مناشير وتقارير وكتب ولوائح بسيطة ولم يكن معظم هذه المناشير إلا ابن ساعته صدرت في غرض خاص ولكن من القوانين ما يجب تطبيقه في المملكة كلها وقد حفظ بعضها ودخل في مصطلحات الشعوب في القرون الوسطى.

الآداب والمدارس - كان شارلمان يجب الآداب حباً ساذجاً ما يحب غير المتعلمين أن يروا أحياناً السطور المكتوبة يحبها لأنها تتراءى له أنها غير منفصلة عن الدين المسيحي واليك ما كتبه سنة 787 إلى جميع أساقفة مملكته ورؤساء أدياره: أحسنوا استعمال ذكائكم بعد مشاورة المخلصين لنا فقد رأينا أن الأسقفيات والأديار في حكومتنا يجب عليها زيادة عَلَى الحياة المنظمة والقيام بالدين لمقدس أن تبذل غيرتها فيدرس الآداب وأن تعلمها إلى من يقدر عَلَى تعلمها بعناية الله فإن من يريدون أن يرضوا الخالق بان يعيشوا عيشة راضية لا يتماهلون في سبيل مرضاته بأن يتكلموا أطيب الكلام. ولما كان قد كتب إلينا في السنين الأخيرة يعرفوننا أن الإخوان الذين يعيشون فيها يضاعفون صلواتهم لنا فقد لاحظنا في معظم هذه المكتوبات التي فيها شعور الحق كلاماً غثاً لا متانة فيه ولذلك بدأنا نتخوف من أن يقل العلم في أسلوب الكتابة وأن يفقد الذكاء فيكون أقل مما يجب في تفسير الكتب المقدسة ولذا نحرضكم أن تتنافسوا في الغيرة عَلَى التعلم لتستطيعوا أن تحسنوا فهم الكتب المقدسة عَلَى أيسر وجه تحيطوا بأسرارها إحاطةً راسخة وعليه فقد أمر بأن يكون لكل كنيسة كتدرائية أو دير مدرسة فيكون في صحنها صف يقوم رجال الكنيسة عَلَى تخريج الأولاد فيه وكثيراً ما كان يحضر شارلمان بنفسه في الدروس فيتعلم الأولاد القراءة والكتابة اللاتينية وترنيم الصلوات ومن هؤلاء الأولاد كان شارلمان يختار الأساقفة ورؤساء الأديار.

ولقد كان شارلمان يحب الأدباء فجمع حوله عصابة بمجمع علمي مصغر ولقب الرجال الذين يؤلفون هذا المجمع باسم رجل عظيم من القدماء فاسم الكوين هوراس واسم أدالارد أوغسطينيون واسم أنغليبر هوميروس واسم تيودولف بينادر واسم شارلمان داود. فيقضون الوقت في تأليف أشعار لاتينية وفي القراءة والإنشاد وحل المعميات والأحاجي وإليك جملة مسرجة مما كتبه الكوين: ما هي الكتابة؟ _حافظة التاريخ - ما الكلام؟ _خيانة الفكر - من يولد الكلام - اللسان - ما هو اللسان؟ _المدقق الذي يضرب الهواء - ما هو الهواء؟ _حافظ الحياة - ما هي الحياة؟ _فرح السعداء وترح البائسين وتوقع الموت والأدبيات المأثورة عن هؤلاء الأدباء يرغبون فيها مع أنها صبيانية تشبه تمارين أبناء المدارس ولم يكن للبرابرة من الثقة بأنفسهم ما يجرؤون معها أن يكونوا مبتكرين هم أنفسهم بل كانوا يطمعون كل الطمع باحتذاء مثال القدماء ولذلك لم يوقفوا إلى إيجاد أدبيات ذات قيمة عَلَى أن العناية التي بذلها شارلمان ورجال الدين وأدباء عصره لم تكن عقيمة بأسرها فإنه منذ نحو قرنين لم يكن في غالية شيء يشبه الأدب وما قط دونوا كتباً بل ولا أخباراً وتكتب الكتابات بالرسمية التي لا يستغنى عنها (كالمواثيق والهبات والوصايا) باللغة اللاتينية البربرية وهي من سقم الخط بحيث يصعب حلها وبعد شارلمان أصبحت اللغة اللاتينية مضبوطة جداً والكتابة مقروءة للغاية تكاد تشبه الكتب المطبوعة.

خراب مملكة شارلمان - لم طل عمر مملكة شارلمان فإن الإفرنج لم يستطيعوا أن يقلعوا عن عاداتهم في أن يروا الممالك كالأملاك تقسم بعد موت الملك بين أولاده عَلَى السواء بيد أن نفسه وزع بلاده بين أولاده الثلاثة. فعاش لويز وحده وورث الكل ورزق لويز هذا ثلاثة أولاد أيضاً فأراد مستشاروه من رجال الكنيسة أن يرث الملك بكر أولاده فقط لتبقى مملكة واحدة وعضد الغزاة الإفرنج أصغر الأولاد سناً ذلك غلب حزب الوحدة عَلَى أمره وتعددت الممالك بتعدد أولاد كل ملك فكان تقل وتكثر عَلَى تلك النسبة. أما لقب الإمبراطور فلم تتأتى تجزئته بل كان يطلق عَلَى ملك واحد ويكون عَلَى العادة من أضعفهم سلطة مثل ملك إيطاليا وبعد سنة 924 لم يعد أحد يليق لهذا اللقب. فرأى مؤلفو ذاك العهد ولحزن آخذ منهم تلك المملكة العظمى تتفتت. وقد ألف فلوروس لشماس ليون مرثية بعقد عقد عهدة فردون قال فيها: بدلاً من ملك لنا عدة أفيال وبدلاً من ملكة لنا أجزاء من مملكة. وما من أحد إذ ذاك كان يظن أن تلك القطع تصبح أيضاً أمماً وإن ذلك لاختلاف أبرك من تلك الوحدة الرومانية.

النظام الإقطاعي

المجتمع الإقطاعي الطبقات الجديدة - اضمحلت في القرن العاشر القوانين الخاصة بالأمم البربرية المختلفة فقبل سكان جميع أوروبا تقريباً عادة واحدة وامتاز مذ ذلك الحين بعضهم عن الآخر لا برمتهم بل بغناهم وعملهم ولم يعد يجري ذكر للإفرنج (الإفرنك) ولا للرومان ولا للبورغونديين. بل أصبت الشهرة للفرسان والسادة والشمامسة والفلاحين قال أحد الأساقفة في القرن الحادي عشر أن بيت الله المثلث فمن أبناءه من يحارب ومنهم من يصلي وغيرهم من يعمل. وبهذا المجتمع الجديد ابتدأ نظام دام إلى أواخر القرن الخامس عشر.

الفرسان - قضي عَلَى كل رجل حر منذ عهد شارلمان أن يكون جندياً وقد جاء بعض الإسبانيين ممن طردهم المسلمون يسكنون في إقليم لانك دوك فقال لويز لادبونير وقد منحهم أراضي يستثمرونها إنهم كسائر الرجال الأحرار يذهبون إلى الجيش. وكل من لا يريد أن يخدم الجندية أو لا يستطيع أن يجهز نفسه للحرب يفقد حريته. فلم يكن غير رجال السلاح يعدون من أهل المجتمع ومنذ القرن التاسع كان الجندي يحارب راكباً حصانه عَلَى الدوام (وأصبحت كلمة ميل اللاتينية ومعناها الجندي مرادفة لكلمة فارس) فيتقلد حساماً من الفولاذ ورمحاً طويلاً من خشب الدردار ويحمل للتوقي من الضرب مجناً طويلاً من الخشب والجلد ويلبس في الوغى قميصاً مغشى بحلق الحديد وفي أواخر القرن الحادي عشر استعيض عن هذا القميص بآخر من زرد الحديد يصل إلى الركبة ويغمر حتى الذقن والرأي محفوظ بخوذة من الفولاذ والأنف بمنخرين يتنفس بهما. وهذا الجهاز ثقيل متشعب يقتضي لاستخدامه عادة طويلة وخادم خاص ليحمل المجن ويضع الخوذة والدرع وهذا الخادم يسمى حامل المجن وباللاتينية حامل الأسلحة.

في القرن الحادي عشر انتهت لحال بهؤلاء الرجال المسلحين أن يؤلفوا منهم طبقوا وراية فكان الأبناء في أسرة من الفرسان يصبحون فرساناً وبنات الفرسان لا يتزوجن إلا من فرسان ولا يحق لأحد أن يتسلح فارساً إلا إذ كان ابن فارس. وليست الفروسية صناعة بل منصب ورتبة ولم يكتف الفرسان عَلَى ذلك العهد أن يكونوا رجالاً أحراراً بل دعوا أنفسهم (الأشراف) ودخل في تلك الطبقة الممتازة الخدمة وحاملو المجان من بعد القرن السادس شر فأصبحت كلمتا فارس وبحامل المجن مرادفتين لكلمة شريف.

السادة - كل رجل عظيم في هذا المجتمع العسكري بأسره يعد رجل حرب حتى الكونتية والدوقات والملوك فبين الفرسان إذاً كثير من كبار أرباب الأملاك وقد نالوا من الملك أملاكاً عظيمة عَلَى سبيل الهبة أو ورثوها من آبائهم وتكون هذه الأملاك عَلَى الأقل قرية برمتها وفي الأعم الأغلب أن تكون عدة قرى. ويدعى هؤلاء المالكون العظام بحسب البلاد فمعنى البارونات الرجال ومعنى سير أو سنيور السادة أو الأغنياء ويلقب نساؤهم بدام أي سيدة. وإذا كان أولئك السادة الأغنياء فهم في حل من أن يأخذوا في خدمتهم فرساناً آخرين ويذهبوا إلى الحرب في رأس جيش صغير واصطلحوا عَلَى اتخاذ علم لهم يجتمعون تحته فيضم من شلهم ولذلك سمو العلميين

العطايا والإقطاعات - اعتاد المقاتلة البرابرة منذ عهد شارلمان أن يقسموا بالزعيم الذي يقوم بالإنفاق عليهم بالإخلاص له والاستماتة دونه فالمقاتل عندما يقسمك هذا اليمين والزعيم متى قبله يكون ارتباطهم طول الحياة فكان لزعيم يدعوا المقاتل أميني أو رجلي أو مقاطعي أو عبدي وهذا يسمي زعيمه سيدي فالمقاطع يصحب سيده إلى الحرب ويخدمه حتى عَلَى المائدة فكان خادمه ورفيقه في الحرب. والسيد يؤدي إليه لقاء خدمته ما يعوله ويعطيه أسلحة وألبسة وحصاناً وأحياناً يعطيه ملكاً.

ولقد أصبحت العادة في الإفضال عَلَى المقاطعين بأراض يستثمرونها عامة في فرنسا أواخر القرن التاسع (وربما نشأ ذلك من كون رجال الحرب نادرين في البلاد الفرنسوية) فالأرض تعط لقاء أجرة إقطاعاً أو مستعمرة ثم أصبح في حكم العادة المطلقة أن طل مقاطع يتناول إقطاعاً وأنه لا سبيل إلى أن يملك المرء إقطاعاً إن لم يكن مقاطعاً لأحد أرباب الأملاك. وإذا مات الإقطاعي يحق لابنه أن يخلفه وهكذا يتولى الفرسان أباً عن جد شؤون إقطاعاتهم فيغدون مستقلين عن سادتهم إلا قليلاً ثم أن السادة أقسموا لساداةٍ أعلى منهم بأن أملاكهم نالوها منهم عَلَى سبيل الإقطاع فيقسم الدوقات والكونتية للملك الذي كان يمنحهم الحكم إقطاعاً. ويكاد يكون جميع السادات سادة ومقاطعين في آن واحد والأراضي إلا قليلاً كانت تعتبر إقطاعات ومن هنا نشأ نظامها.

وهذا النظام الذي وضع في القرن العاشر قلما يشبه طرائد عهد شارلمان عَلَى أن الأسماء والاعتبارات بقيت بحالها فإن المقاطع يقسم أيضاً يميناً يرتبط بها مدى الحياة وهذا ما يدعونه العطية سموها لأنها تعل المقاطع رجل السيد وإليك الصورة الشائعة في هذا الباب: أيها السيد لقد أصبحت من رجالك صاحب الإقطاع الفلاني وأعدكم أن أرعى لكم حقكم وأدفع عنكم كيد كل من يحيا ويموت. ويعد المقاطع لسيده الإخلاص والمعاونة والمشورة ومعنى الإخلاص أن لا يضم مقاطعته ولا يقاتله ولا يعتدي عَلَى امرأته وأولاده. ومعنى المعاونة له أن يعونه سواء في المقاتلة دونه أو في إنزاله أحسن منزل وإعطاءه دراهم ومعنى المشورة أن يتقرب منه ينصحه ويعينه خصوصاً عَلَى الحكم والتصدر. انتهت هذه الواجبات بأن ضعفت وقلت حتى أن العطية لم تكن إلا اصطلاحات مألوفة ولما غلب جوفروي دانجو تيبو دي بلوا في القرن الحادي عشر اضطره لأن يتنازل له عن كونتية تورن عَلَى سبيل المقاطعة وأن يعطي لأسيره عطية.

رجال الدين - كان ينظر إلى رجال الدين (أعضاء الكهنوت) وكانوا قادرين بغناهم أيضاً. وكانوا يعتقدون بإعطاء مال أو أرضاي للكنيسة كان من أكد الأسباب لمحو السيئات وإنقاذ الروح فكان زعيم الكنيسة المقدس والرهبان خدمة القديس يكافئون المعطي بتدخله في أمرهم مع الله. وقد عثر في عطية خصصت لإحدى الكنائس المخصصة للقديس إيتن (1145) ما نصه: أعطيت إلى ايتن الشهير العظيم جزءاً من ارثي في الأرض ليكون لي من صلواته وصلوات أتباعه العفو عن خطيئاتي والنجاة الأبدي وكانت صكوك الهبات تبدأ بالعبارات الآتية: علاجاً لروحي وأرواح أجدادي وأحياناً يزيدون لدفن جسدي ولذلك يهب الواهبون أموالهم ليدفنون فيها. فكان رجال الدين يأخذون قرى برمتها وهي عطايا السادات العظام وأحيانا قطع ارض أو ملكاً وهي عطايا الفرسان والفلاحين فالدير الذي يبدأ بأن يمنح ملكاً واحداً يملك مئات من القرى بعد والأساقفة ورؤساء الأديار وهم أصحاب تلك الأملاك العظيمة يصبحون سادة عظماء ليس بعد عظمتهم عظمة.

العامة - أصبح جميع أرباب الملاك خلال حروب القرن التاسع مكرهون عَلَى الحضور إلى الجيش وكانوا إلا قليلا من حلقة الفرسان فالأرض كانت من ثم ملك الكنائس والسادات والفرسان وكلهم من أرباب كبار الأملاك لا يزرعون بأنفسهم وكانوا منقسمين إلى محلات كبرى تسمى المدن وفي العادة أن المدينة كان عبارة فيما ندعوه اليوم قرية والمحلة كانت بسعتها كالمديرية. وتكاد تكون جميع القرى الفرنسوية ريد عهدها إلى تاريخ تلك المحلة في القرون الوسطى فالفلاحون الذين سكنوا هذه المدن سموا باسمها فسموهم العامة فلم يكونوا مالكين للأرض بل كانوا يتوفرون عَلَى زرعها فقط فمنهم من كان من قدماء الرجال الأحرار الفقراء دخلوا في خدمة أرباب الملك كالمزارعين والمستعمرين ويسمون الأحرار والآخرون هم من نسل قدماء عبيد أرباب الأملاك ويدعون باسم العبيد الرومانيين وهؤلاء هم العبيد عَلَى أن العبد لم يكن كما كان العبد الروماني بل كان ساكناً في الأرض التي يتوفر عَلَى زراعتها وله أسرة وبيت وحقل فسيده لم يكن يستطيع أن يجليه عن قريته ببيعه إلى مكان بعيد ولا أن يأخذ امرأته وأولاده ولا أن يأخذ منه داره ولا الحقل إذا منحطا بدرجته عن العامي الحر.

حالة العامة_كان في المحلة العظمى في القرون الوسطى نوعان مون الأراضي فبعضها (القسم الأعظم) ترك ليحرثونها ويحتفظن بغلاتها والآخر (في العادة أن تكون الأملاك قريبة من دار السيد) يبقى لصاحب الملك ويقضي عَلَى الفلاحين أن يحرثوها ويزرعوها ويحصدوها له وفي أيامنا ترى الزراع عندما يكونون غير مالكين هم عملة بالمياومة أو مزارعون وزراع القرون الوسطى أو مزارعون في أرضهم وعملة بالأجرة في أراضي المالك وهم بعضهم مع البعض من الأب إلى الابن إلى صاحب الملك لا يستطيع أن يأخذ أرضه التي يشغلونها ويتوارثونها كما يتوارث الملك ولكن لقاء ذلك يتحملون عدة أعمال وحقوق إقطاعية

(1ً) يعطون المالك أجرة الأرض وضرائب ومخصصات من الحنطة والعلف الأبيض والدجاج ويسمونها العادات لأنها مقررة بحكم العادة ويميز الفلاحون العادات الجميلة أي المخصصات الموضوعة من القديم عن العادات السيئة التي يضعا السيد بالقوة خلافا للعادة.

(2ً) يجب عليهم أن يذهبوا إلى أرض السيد يزرعونها ويحصدونها ويسمدونها ويقصلونها ويجففونها ويقطعون الخشب ويأتون بالقش وهذه هي السخرة.

(3ً) عليهم أن يحملوا حنطتهم لطحنها في طاحون السيد وأن ينقلوا الخبز إلى فرن السيد ويحملون العنب إلى معصرته ويجب عليهم أن يدافعوا عن هذه الخدم المقررة عليهم لها ما يتقضي من النفقات كما يحتم عليهم في السوق أن يستخدموا قياس السيد وميزانه ويدفعوا أجترتهما.

(4ً) يتقاضون في قضاياهم إلى السيد وإذا ارتكبوا جنحة يدفعون للسيد غرامة يأخذها لنفسه وإذا ارتكبوا جناية يحكم السيد عليهم بالإعدام ويصادر جميع ما يملكون. والعدل أي حق جباية الغرامات هو دخل يتسرب إلى جيب السيد ويعد في جملة ما يملكه فيقول السيد: عدلي في المحلة الفلانية. فهو يبيعه ويعطيه إقطاعاً ويقسمه بين بنيه وليس من الأمور النادرة أن يملك فارس نصف أو ربع القضاء في قرية أو القضاء في بعض البيوت. وينصب السيد في أرضه رمزاً إلى حقه واللصوص الذين يصلبهم عليها دليل ناطق بحقه في هذا الشأن. وإذا تنازع سيدان في تولي أحكام العدل في قرية (كما يحدث أحياناً) يجيء رجال السيد المطالب ينزعون المصلوب ويأنون به إلى مشنقة سيدهم وإذا ربح القضية السيد الذي صلب المصلوب تعاد إليه جثة مصلوبه وإلا فيرجع إليه قميص مملوء تبناً بدله ويعيد الجثة أو صورتها.

فالعامة خاضعون كل الخضوع لسيدهم ولا يحق لهم أن يجتمعوا لفض مصالحهم وإذا فعلوا يغرمهم بغرامات باهظة فهو قاضيهم الوحيد. قال أحد مشرعي القرن الثالث عشر: إنك يا هذا إذا أخذت شيئاً من عبدك زيادة عَلَى المخصص لك في القانون تأخذه وأنت عَلَى خطر كما يأخذه اللص وليس بينك وبين عامليك من قاضٍ إلا الله. ومع هذا فحال العامة كان أقل شدة مما كان عليه حال الفلاحين العبيد في القديم ولكنهم ليسوا بعد أحراراً حقيقة فالفرسان يحتقرونهم لأنهم يشتغلون في الأرض ولأنهم عزل من السلاح وأصبحت كلمة عامي عندهم مرادفة لكلمة نذل.

الأخلاق

الحروب - جرت عادة الفرسان أن يتقاتلوا عادةً لهم أصبحت قاعدة فيحق لكل رجل يحمل السلاح أن يخوض غمار الحرب لإهانة تلحق به أو لاعتداء عَلَى محلته فيبعث الفارس إلى خصمه قفازه أو بعض شعرات من خروفه دليلٌ عَلَى إعلان الحرب. ويدخل أتباع الخصمين وذوو قرباهما في الحرب شاؤا أم أبوا ينثالون عَلَى محلات العدو ويستاقون ماشيته ويحاصرون قصره ويحاولون القبض عليه لينفدي نفسه منهم. وتصبح الحرب من ثم لعباً وتجارة فاللعب ليس فيه خطر كبير عَلَى المسلحين من الرجال بالدروع. وإليك كيف وصف أوردريك فيتال حرب بريمول (1119) بين ملك فرنسا وملك إنكلترا: سبقي 140 فارساً أسرى عند الغالب ولكني علمت أنه لم يقتقل من التسعمائة شخص الذين حاربوا سوى ثلاثة أشخاص فقط وذلك لأنهم كانوا مكتسين كلهم بالحديد من مفرقهم إلى قدمهم وكان خوف الله والأخوة في حمل السلاح تدعوهم إلى الاقتصاد في الطعان والتوقف في ضرب الأقران فيؤثر القرن أن يأسر صاحبه عَلَى أن يقتله. وكثيراً ما يرى الفرسان من الأوفق أن يطلبوا من الفلاحين والتجار الفدى فتنقلب الحرب إلى لصوصية. وكان في عامة البلاد سادة مثل توما دي مارل الذي كان يستوقف التجار عَلَى الطرق ويسلبهم أثقالهم ويسجنهم في قصره ويعذبهم ليكرههم عَلَى أن يفتدوا منه أنفسهم. وقد ظل حق الحرب مرعياً في جميع الولايات إلى القرن الخامس عشر فلم يرد الفرسان أن يتخلوا عنه فكانت الحرب شغلهم الشاغل طوال حياتهم. وإليك كيف قص فوك كونت دانجو سير خاله جو فروي: إن خالي صار فارساً في حياة أبيه وكانت حربه الأولى هي التي شهرها عَلَى جيرانه فقمام بقتالين أحدهما عَلَى كونت بواتو والآخر عَلَى كونت مين واسرهما كليهما وحاب أباه أيضاً ولما قضى أبوه صارت إليه كونتية آنجو فحارب كونت بلوا وأسرته في ألف من فرسانه واضطر أن يتخلى له عن تورين ثم حاب غليوم حاكم نورمنديا وحارب كونت بورج وكونت بواتو وفيكونت توار وكونت نانت وكونتية البريتونيين في رين وهوغ وكونت مين الذي خان عهده. ومن أجل هذتن الحروب وما بذله فيها من الشجاعة لقب بمارتل وحسنت خاتمته لأنه رجع عن الفروسية وعن زخارف هذه الدنيا قبل وفاته بليلة وترهب في دير القديس نقولا الذي بناه هو وأبوه تزهداً ووقفوا عليه الوقوف من الأملاك.

الأبراج والقصور - كان السادة في عهد تلك الحروب في حاجة إلى تحصين بيوتهم وكانت التحصين في القرن العاشر مشعثاً جداً وهو عبارة عن حفرة عميقة يحميها من الخارج منحدر عليه عرائس وأشجار وفي وسط ذاك السور ينشئون أكمة وبيت السيد بني في ذروتها وما هو إلا برج قوي من الخشب وبابه عالٍ جداً عن سطح الأرض ولا سبيل بالوصول إليه إلا عبر المرور عَلَى لوح من الخشب متحرك منحدر من الباب إلى آخر الخندق. ولمنع العدو من غحراق البرج يغطونه بجلود حيوانات سلخت حديثاً وهذه القلعة الغليظة هي البرج أو بيت السيد أما سائر الأماكن فتعمر في السور في سفح الأكمة (فمنها مساكن للخدم واصطبلات وأهراء) وكلها من توابع البرج.

واخذ القوم في القرن الجحادي عشر (في بلاد الجنوب أولاً) يستعيضون عن العرائش وبرج الخشب بحائط أو برج من الحجر عَلَى نحو ما كان للرومان حوالى مدنهم الحصينة وسموا هذه القلاع باسم لاتيني كاستل أو قصر (موقع صغير من الحصن) فقصر القرنين الثاني عشر والثالث عشر عبارة عن سور من الحجر عَلَى جوانبه أبراج وهو محاط من كل جانب بخنادق عميقة أو هوى ووهاد وبنيت عند الاستطاعة في مكان حصين عَلَى منحدر عقبة كؤود أو شقيف في أرض سهلة عَلَى أكمة صناعية فيها أنواع الدفاع فإذا جاء العدو يرى أولاً في مقدمة النخندق ما بصده عن المرمى ثم الخندق الذي يجتازه سكان القصر يصل بينهما معبر نقال معلق بسلاسل وعليه حواجز ثم يصل إلى أسفل حوائط السور التي أغلظوا سمكها ويقف المدافعون عَلَى الطريق المدور الذي يمتد في الداخل عَلَى الحائط فيقذفون السهام والحجار من الشرفات (زغاليل) ومماشي الخشب المعلقة فيحتوي عَلَى مساكن أهل القصر والمحاربين والاصطبلات والحظائر والأهراء والكنيسة وب السيد وهذا البيت هو برج جسيم (من طراز بوجانسي من القرن الحادي عشر علوه أربعون متراً وعمقه 24 وطراز كوسي من القرن الثالث عشر علوه 64 متراً وعمقه 31) وهناك القاعة العظمى التي يستقبل فيها السيد ضيوفه (للسادات العظام فقط خارج قصورهم ردهة استقبال وهي القصر) وغرفة منامه وغرفة أسرته وخزانته وسجلاته وفي ذروة ذاك المكان السطح الذي يشرف منه الديدبان عَلَى الضواحي وفي الأسفل عَلَى طبقتين من الأرض المحيس أو المطبق وهو مظلم رطب لا يخرج منه إلا بسلم. فإذا داهم العدو السور يستطيع المحاصرون الذين يعتصمون في القصر أن يدافعوا عنه رويداً رويداً وطبقة طبقة مادام الدرج الدوار ضيقاً. ويعيش السيد في قصره وباسمه يعرف بعد فيسمى بوشاردي مونمورانسي أو إنجراند دي كوسي. وللفارس كذلك بيت حصين ويطلق اسم بيته عَلَى اسم أسرته.

الفروسية - أسلحة الفرسان ثقيلة الجرم فالواجب أن يتعلم الفارس استعمالها وحملها امتياز يجب أن يرخص للمرء بحملها فالمرء لا يولد فارساًَ حتى ولو كان ملكاً فمن القواعد المطلقة ألا يكون المرء فارساً إلا بعد التخرج في ذلك والاحتفال به. فعلى الشاب اللبق التمرن عَلَى ركوب الخيل وأن يحسن الضرب بالرمح والحسام وأن يصعد السلم. ومادام يتمرن عَلَى ذلك في بيت ابيه يبعث به ابوه إلى سيد من أصحابه فيصبح الشاب بعد بضع سنين خادماً يحمل أسلحة معلمه فيقود كراعه ويعنى بتربيتها ويلبسه شكته ويخدمه عَلَى مائدته ويجعله في فراشه. فقد كان القدماء يرون من أعظم العار أن يخدم الإنسان إنساناً فلما أتى البربر أصبحت الخدمة منة إمارات الشرف فالسائس يخدم الفارس وهذا يخدم سيده القوامسة (والكونتية) والدوقات أيضاً يخدمون الملك عَلَى المائدة في الحفلات.

فإذا بلغ السائس أشده يقبله أحد الفرسان في جملة رجاله باحتفال وكان هذا ساذجاً أولاً والفارس يدفع إلى المبتدئ سلاح فارس وهو عبارة عن ترس ودرع ورمح. ثم يصفعه عَلَى نقرته بجمع يده فالفارس الجديد يقفز عَلَى السرج ويرمح قليلاً وأحياناً يتسايف مع مجدار (شخص من خشب) منصوب أمام القصر وبهذا يكون الفارس فارساً وبعد حوالي القرن الثالث عشر أصيف إلى هذه الحفلات حفلات دينية في الكنيسة فيقام قداس وصلوات ووعظ يوجه إلى الفارس أما العادات الفخمة في قبول الفارس عَلَى ما يصفونها في الأقاصيص الحديثة فلم توضع إلا في القرن الخامس عشر. ولكل سائس الحق أن يصبح فارساً ولكن الواجب أن يكون غنياً ليتجهز بالسلاح والعدة ويعول سائساً وخدماً ولذلك يبقى معظم الشرفاء مواساً طوال حياتهم.

أخلاق الفرسان - لا يمتاز شرفاء القرون الوسطى عن الفلاحين بتعلمهم ولا بتهذيبهم فمعظمهم لم يكونوا يعرفون القراءة وما شانهم إلا الشرب والطعام والصيد والحرب وكانوا في العادة متوحشين قساة وأحياناً حفاةً غلاظاً فقد قتل ريشاردس قلب الأسد مثال الفروسية 2500 أسير من العرب وقد فقأ عيون خمسة عشر فارساً أسروا في حرب أثارها عَلَى فيليب أغسطس وأعادهم إلى ملك فرنسا تاركاً لهم دليلاً منهم أبقى له عيناً واحدة يبصر بها فأجاب فيبليب أغسطس عَلَى عمله بأن فقأ معيون خمسة عشر فارساً من فرسان ريشاردس وأعادهم إليه تحت قيادة امرأة حتى لا يظن أحد كما قال مادحه بأنه دون ريشاردس قوة وشجاعة ولا أن يذهب إلى أنه يخافه. وفي سنة 1119 فقأ أوستاش دي بروتل أحد كبار السادة النورمانديين وصهر ملك إنكلترا عيني أحد الأشراف الذين كانوا عنده رهينة فاحتال والد المقلوعة عينه أن اخذ بنات أوستاش بواسطة جدهم وفقأ عيونهن وجدع أنوفهن. وهذا الإغراق في الشدة والقسوة البربرية لم يزل مالوفاص إلى القرن الرابع عشر والقرن الخوامس عشر. وقد أصبح الفرسان بحياة التشرد عَلَى هذا النحو قساة القلوب غلاظ الطبع ولكن منحتهم بعض الفضائل التي تتطلبها الحروب وجعلتهم شجعاناً مفاخرين. والفارس التام الأدوات الذي يتغنى الشعراء بمديحه ويحاول كل إنسان تقليده هو الشجاع أو صاحب الأمانة والتدبر. وكانوا إذا سلحوا فارساً يقولون له: كن شجاعاً. والشجاع عندهم هو المقدام المفاخر الصادق الذي لا يتلكأ بتة ولا يرجع عن قوله ولا يحتمل أبداً إهانة. فالشجاعة والصدق كانت ودامت الصفات الرئيسية في الشرف. والشجاعة معتبرة لا من حيث الخدم التي تؤديها بل لأنهم كانوا يرونها جميلة في ذاتها والفارس قد يقتل نفسه حتى عَلَى غير جدوى لئلا يخالج أحداً شك بأنه أوجس خيفة. والموت خير من أن يدعى الرجل نذلاً كما جاء في قصيدة قديمة. وعلى الفارس أن يكون صادقاً براً بوعده وقوله ويفتضح خاصة إذا خان يمين الإخلاص الذي يقسمه لسيده ويكون كاذباً في إيمانه خائناً في فروسيته ومن العادة في برشلونة أن من لطم سيده بيده أو طعنه بلسانه أو استباح قصره واستصفاه هو من أعظم من ارتكبوا أعظم الخيانات. يفهم ذلك من روح عدة قصائد نظمت في القرون الوسطى. فقد اضطر روندي منتوبان أن يعلن الحرب عَلَى سيده شارلمان فحاذر أن يؤذيه أقل إيذاء ولما أسر وقع عَلَى رجليه طالباً الصفح عنه. ولقد نال برنيه تابع روال دي كامبري ما جلب عليه العار من سيده فسأله سائر الفرسان كيف يستطيع أن يظل عَلَى خدمته فأجاب: إن راولا هو سيدي هو أكثر خيانة من جودا ولكنه سيدي فقالوا لهم أجمعون إنك محق يا برنيه.

الشرف - يفاخر الفارس أنه شريف وجندي ويعرف لنفسه فضائلها فلا يشك فيه أحد بل ولا يلاحظ ذلك. وليس عَلَى أحد أن يضربه أو يهينه أو يعاكسه لأن ذلك مما يؤدي إلى أنه متهم بأمانته وهو أيضاً لا يتحمل ضربة ولا إهانة ولا تكذيباً ويثلم شرفه في إظار الفرسان وفي نظر نفسه إذا لم ينتقم لذاته ممن رماه بالعار والشنار. وهذا الشعور هو الشرف وهو نتيجة كبرياء أو إعجاب شديدين فهو ينزل نفسه منزلة رفيعة ويشعر بالحاجة بأنه يريد أن يشركه غيره بهذا الفكر. ولم يكن لليونان وللرومان لفظ للتعبير عن هذه الصفة بل إنها أنشأت في القرون الوسطى وستظل إلى أيامنا دليل عَلَى الشرف الحقيقي. فنقطة الشرف والرغبة في بقاء الشرف سالماً يصبح قاعدة سلوك الأشراف ومنقذاً لمكانتهم.

حكومة الإقطاعات استقلال أرباب الأملاك - ضعفت سلطة الملك منذ القرن التاسع فضعفت طاعة رعيته فاعتاد السادات من العامة والخاصة أن يكونوا مستقلين في بيوتهم فكل صاحب ملك (فارساً كان أو رئيس دير) هو كالمليك الصغير في أملاكه فحراثوه وخدمته هم رعاياه وله الحق أن يقودهم ويغرمهم ويحبسهم ويشنقهم وله مشنقة خاصة وله مناد يبلغ أوامره إلى السكان ويحارب جيرانه وكثيراً ما يصك نقوداً. قال أحد فقهاء القرن الثالث عشر أن كل بارون هو مليك في أرضه. وكل محلة هي مملكة صغيرة بحيث أن رجال ذاك الحي يدعون أهل القرية المجاورة غرباء عنهم وكان في البلاد عدة ألوف من هؤلاء الأفيال وكثير هم فرسان فقط لا يملكون إلا قرية واحدة أما غيرهم من الأغنياء فيلقبون بألفاظ سير وبارون ثم أن في كل ولاية رجل يلقب بلقب كونت أو الدوق ويكون أعظم أرباب الأملاك في الولاية ولم يكن أجداده عَلَى عهد شارلمان سوى حكام في خدمة الملك بيد أن الملك في القرن العاشر لم يكن له قوة ليستعيد منهم السلطة لأنهم أصبحوا كونتية ودوقات أباً عن جد وأصبحت دوقياتهم وكونتياتهم إقطاعاً أي ملكاً وزهي كسائر الأملاك يمكن بيعها وو قفها وتنسيقها أيضاً (كما وقع لدوقية غاسكونيا) أو أن تنضم إلى غيرها (كما وقع لكونتيتي بولوز وشامبانيا) وإذا لم يعقب صاحبها ولداً ذكر تنقل أملاكه إلى ابنته ويكون لها منها بائنة (دوطة) تعطيها زوجها (ويقول عندها أن الملك صار لامرأة) وغذ ذاك يكون لكل مالك في ملكه سلطة ملك وكل ملك يجعل مملكته كملك. وقد بانت بهم الحال أن يمزجوا بين التملك والملك ولذلك كانت جميع سياسة الملوك في القرون الوسطى سياسة بيوت وأسرات وكل ملك كالفلاح لعهدنا يحاول أن يوسع ملكه وأن يعول عياله.

الملك - كان الملك أعلى سادات فرنسا كعباً وارقاهم منزلة وله لقب سامٍ ويخضع له الجميع ولكنه لم يكن أقدرهم بل كان لدوق نورمانديا وكونت تولوز املاك أوسع من أملاكه ولم يكن يمين الإخلاص الذي يرتبط به أولئك السادة العظام مع الملك إلا عبارة عن حفلة أدبية يمنعهم من أن يعلنوا الحرب عليه حتى أنهم كانوا إذا لم يريدون نقض العهد علناً قلما يتضايقون منه. وقد وضع بروبرت كونت فلاندر سنة 1101 وفي عهدة عقدها مع ملك إنكلترا الشرط الآتي: إذا هاجم لويس ملك فرنسا الملك هنري ملك نورمانديا يذهب روبرت بعشرة من الفرسان فقط إلى جيش لويس ويبقى الخمسمائة فارس الآخرون في خدمة الملك هنري وإذا زحف الملك لويس عَلَى إنكلترا وأخذ معه الكونت يتحتم عَلَى الكونت أن يأخذ معه أقل ما يمكن من الرجال. ولقد بلغ العجب مبلغه في بلاط لويس السابع عندما جاءه اسقف ماند إلى باريز يعترف بسلطة ملك فرنسا وقيل أن هذا البلد لم يخضع قط إلا لأسقفه ولم يكن الملك كسائر السادة مطاعاً إلا في محلته واقتضى له إذا أراد أن يطاع في مملكة فرنسا أن يوسع أملاكه عَلَى مر القرون ويدخلون ولاياتها في ملكه الواحدة بعد الأخرى.

العادة - لم يمكن لأهل القرون الوسطى قوانين محررة بل كانوا يعملون في كل مسألة بما سلف لأجدادهم منها ويسمون ذلك اتباع العادة ولم تكن العادة مكتوبة بل تحفظ تقليداً حتى في القرن الثالث عشر أيضاً إذا حدث حادث مشتبه به يجتمع أقدام السكان ويسألون عما رأوه يعمل في مثل هذا الشأن وهكذا كان لكل قرية عاداتها حدثت مع الزمن ولم تكن تشبع عادة القرية المجاورة قال بومناروا لا يوجد في هذه المملكة سيدان حاكمان يعملان بعادة واحدة ومع هذا فإن الصقع الواحد الذي تتشابه عاداته بعض الشيء يتألف منها عادة واحدة. والفرق الكبير كان بين بلاد الشمال حيث العادة كانت منبعثة من العادات الجرمانية وبين بلاد الجنوب التي احتفظت بعادات الحقوق الرومانية. وبعد فقد كان أهل القرون الوسطى يحبون العادة ويحترمونها لأنها كانت القاعدة الوحيدة التي يهرع إليها والسد الوحيد في وجه الظلم وعندهم أن العادة يجب بقاؤها ومن لا يحفظها يوشك أن يفتح سبيل الخصام الكثير بين الناس.

السلم والعدل - كان أرباب الأملاك في القرون الوسطى يوطدون دعائم السلام بين عبيد محلتهم ويحكمون بينهم (أحكاماً تختلف جوراً وعدلاً) ولكن لم يوطد أحد دعائم السلام بين أرباب الأملاك وكل منهم يحكم لنفسه بنفسه وذلك بإشهار الحرب عَلَى جاره ويقتضي لتقرير السلام أن يعدل الفرسان عن عاداتهم في التقاضي إلى السلاح وأن يقبلوا بعض قضاياهم في محكمة أن يستعاض عن الحروب بقضايا ولذا كان لفظ وسلم من الألفاظ المترادفة في القرون الوسطى ولقد كان للملك في بعض البلاد (مثل نومانديا وإنكلترا ونابل وإسبانيا) من الاقتدار ما يستطيع معه أن يكره الفرسان أن يحفظوا السلم للملك أو للدوق وحاول الأساقفة في البلاد الأخرى أن يقنعوا الفرسان بتوطيد سلام الله ولكنهم لم يفلحوا أن يؤسسوا محكمة منتظمة.

فإذا اختصم اثنان من أرباب الأملاك قد يقرر جيرانهما أن يفضوا الخلاف بينهما بواسطة محكمين أو أن يكون سيدهما من السلطة بحيث يكرههما عَلَى المثول أمامه وفي تلك الحال ينظر في الخلاف ضباط قصره وبعض الفرسان المجاورين وهذا ما يسمى محكمة السيد ولكن هذا الفصل متقطع وغير ونافذ أحياناً لأن من يخسر في الحكم لا يسعه إلا أن يعمد إلى القتال. فقد كاتن هوغ في القرن الحدي عشر أحد التابعين لأسقفية كامبري يستوقف تجار المدن ويقطع لحاهم ويطلب الفداء منهم ويخرب قرى الأسقف. فطلب سيده هذا ثلاث مرات متتابعة ثم مثل بين يديه ولكن أبى أن يعطي أقل تعويض فحكم فرسان محكمة الأسقف عليه بأنه يؤخذ من لإقطاعه فلم يهتم هوغ بالأمر وعاد إلى منزله وبعد مدة أوقف الأسقف بالذات.

المبارزة - كانت قضية من القضايبا التي ينظر فيها الفرسان في محاكمهم أشبه بحرب فمتى اجتمع الخصمان يتضارب أحدهما وصاحبه ومن فاوز ربح القضية وكان ي1ذهب القوم إذ ذاك إلى أن الله كتب له الغلبة لأنه محق في أمره وهذا ما يسمونه بالقتال أو المبارزة. فالقضاة الذين تتألف منهم المملكة يعمدون إلى أن يحلفوا الخصمين بأنهما يزعمان بأن مع كل منهما الحق وأن يخطتوا الأرض التي تقع فيها المبارزة وأن يراقبوهما فالمحكمة تأمر بالمبارزة لا عند حدوث جناية أو إهانة بل للبت في أمر محلة لمن تكون وفي أي قاعدة في العدل يجب إتباعها. وقد تبارز خصمان في القرن الثالث عشر بأمر الفونس ملك قشتالة للحكم فيما إذا كان يدخل القانون الروماني إلى مملكته. وكان الفرسان يعتبرون المبارزة أسهل ذريعة وأشرفها للبت في قضية فلم يكن إذ ذاك مناقشة تجري ولا حجة تدل بها فلا جواب يجاب به الخصم إلا القتال.

ولم تؤلف المبارزة فقط في محاكم الفرسان بل في محاكم المدن بين أهل الطبقة الوسطى وأحياناً بين الفلاحين في البرية فيتسلح المتقاتلون بالترس والعصى وإذا كان أحد الخصمين ليس من القوة بحيث يستطيع البراز يعهد إليها إلى آخر ينوب عنه فكان القتال يجري في باريز حتى في محكمة الأسقف ولقد وقع شك في هذه العادة فسئل البابا أوجين الثالث رأيه فأجاب عليكم باستعمال عاداتكم.

ولقد تأصلت عادة البراز تأصلاً تعذر معه استئصالها ولما الغي البراز في المحاكم ظل ينظر إليه أنه الواسطة الوحيدة في قضايا استرداد الشرف المثلوم فهو كالمروءة بقية ما أبقته القرون الوسطى من عاداتها ولم يبق إلا بفضل الإباء والمروءة.

حكم الله - لا يستطيع النساء أن يتبارزن وكثيراً ما يمنع منه الفلاحون وفي تلك الحال يعمد القوم إلى استخدام ضرب آخر من ضروب أحكام الله. فبعد قداس أو صلوات تقام علنية للتوسل إلى الله أن يظهر الحق كان يقتضي عَلَى الرجل أو المرأة بان يحمل حديد محماة بضع خطوات وأن يغمس يده في إجانة ماء مغلي فإذا بخت يده بعد بضعة أيام من الجرح فحكم الله يكون له. وأحياناً كانوا يلقون به في مستنقع الماء فإذا غرق فقد ربح وإذا عام فقد خسر وبيناهم عَلَى أن يلقوه في الماء يستحلف الكاهن الماء بهذا الكلام: يا ماء أناشدك الله القادر الذي خلقك وأمرك بأن تقوم بحاجات الإنسان بأن تقبل هذا الرجل إذا كان مجرماً بل اجعليه يطوف عَلَى وجهك. وأحياناً يكتفون بأن يبلع المشتكى عليه قطعة من الخبز والجبن بعد أن يكونوا استحلفوهما بأن تبقى في حلق المشتكى عليه إذا كان كاذباً. وهذه المحن يسمونها الحكم. وقد كتبت الكنيسة كتاباً في الطقوس لكل واحد منها ولما اجتمع المجمع العام في لاتران سنة 1215 أمر بإلغاء تلك الكتب.

الكنيسة في القرون الوسطى

تنظيم الكنيسة

الأسقفيات - احتفظت عامة المدن في المملكة الرومانية القديمة بأسقفياتها وأبرشياتها. وكلما كانت البلاد في ألمانيا تين بالنصرانية كان الملوك ينشئون كراسي أساقفة. فكما أن الكنيسة كانت تحظر أن تقيم أسقفاً في غير المدينة كان القوم يؤسسون في آن واحد مدينة وأبرشية. وكانت الأبرشيات بأجمعها قديمها وحديثها غنية جداً فلها أملاك واسعة وقد تملك أحياناً ولاية بأسرها وقد منح الملوك للأساقفة براءات يحكمون بموجبها بلادهم بأنفسهم. وجاء في صك الإعفاء أنه ليش لموظف عام أن يدخل إلى ارض هذه الكنيسة لا لجباية خراج ولا للحكم ولا للقبض عَلَى العبيد والأحرار الذين يسكنون فيها. وبذلك أصبح الأسقف ملكاً حقيقياً فكان أساقفة كولونيا وماينس وتريف ثلاثتهم أكبر الأمراء في ألمانيا.

مجامع الرهبان - خضع قسيسو الكاتدرائية (يسمون الكاتدرائية كل كنيسة في حاضرة أبرشية) أولاً للسقف وأخذوا منذ القرن التاسع يعيشون عيشة مشتركة بحسب القاعدة التي جرى عليها الرهبان ومن هنا اشتق الاسم الذي أطلق عليهم وهو كاهن قانون أي الخاضع للقاعدة ومجامعهم هي مجامع الكهنة أو الرهبان. وكان الكهنة القانونيون يعيشون بادئ ذي بدء مما خصص لهم من الطعام واللباس ولما وهب القوم للمجامع عطايا أصبحت تلك المخصصات ملكاً وكثيراً ما يكون متسعاً. فكان كل راهب قانوني يتمتع بدخل مخصص يتيسر له به أن يعيش عيشة سيد ومعنى عاش فلان عيشة الكاهن القانوني أنه عاش في سهة وبلهنية وإذ استقلت المجامع عن الأساقفة أصبح القائمون عليها أيضاً أقيالاً وملوكاً.

الأديار - ما من أبرشية في القرون الوسطى إلا وكان فيها عدة أديار للرهبان وكلهم محافظون عَلَى السنة التي سنها القديس بنوا ولكن كانت كل أخوية تؤلف ديراً مستقلاً يرأسه رئيس. والدير عبارة عن مساكن للرهبان وبيت للرئيس وكنيسة ودار ضيافة (ينزلون فيها الغرباء) ومعامل ومخازن وبيوت الخدم والمزارعين فكان الدير عَلَى الأقل كناية عن قرية كبرى وأحيانا مدينة صغيرة (مثل لاربول وسان مسكان وفيزيلاي) وللدير أملاك واسعة منتشرة وأحياناً في عدة ولايات فيبعث رئيسه إلى الأملاك القاصية بضعة رهبان للسكنى تحت إدارة رئيس عليهم وهذه الأديار الصغيرة التابعة للكبيرة تسمى الطاعة. وتجري أحكام رئيس الدير بمعونة الرهبان المجتمعين في مجمعه ويكون تحت يده في الديار الكبيرة رهبان لكل منهم وظيفة مدير الدير ونائبه وقيم الثياب وقيم الطعام وقيم الخزانة وقيم الكتب ورئيس المنشدين ومدير المدرسة فيعيش الرهبان بعضهم مع الآخر وعليهم أن يلتزموا السكوت إلا في بعض الساعات ويجتمعون قبل طلوع الفجر ليترنموا بصلاة السحر عند الإشراق ثم يقومون بالفرض الأول ثم يجيء وقت القداس والصلوات كأحد أجزاء الفرض الكهنوتي وصلاة النوم. وإذا كانت سنة القديس بنوا يقضي بأن يعمل كل راهب كانوا يعنون بحرث الأرض أو ملاحظة خدمتهم أو صنع أمتعة لزينة الكنيسة أو نسخ المخطوطات. وقد وصف كثير من الرهبان عيشتهم في أديارهم ولكن الصورة تختلف باختلاف غنى الدير وفقره وجدته وقدمه وحسن إدارته وسوءها.

الخورنيات - لم تكن كنائس ولا قسيسون في غير المدن أيام الرومان ولما غدت البلاد مسيحية كلها اخذ كبار أرباب الأملاك والسادة ورؤساء الديار والأساقفة ينشئون بيعاً ومعابد في محلاتهم فيعطي المؤسس لكنيسة قطعة ارض كافية تقوم بنفقات الكنيسة وطعام راهب ويصدق الأسقف عَلَى هذا التأسيس وعندئذ يخدم ككاهن تلك الكنيسة (يكون لمؤسسها وأعقابه الحق في تعيينه) أرواح أهل القرية ويجب عَلَى السكان أن يأتوا إلى كنيسته ويطيعوه والأرض التي يدير شؤونها راهب تتألف منها خورنية أو إدارة ولما تم هذا العمل (وكان ذلك نحو القرن العاشر في فرنسا) انقسمت جميع البلاد المسيحية إلى خورنيات كما هي إلى اليوم وأصبح لكل قرية كنيسة أو تبعت كنيسة القرية المجاورة لها. ودخل الدين إلى المزارع الشاسعة واستطاع الفلاحون أن يتعبدوا بدون أطن يأتوا المدن وغدوا يقيمون صلواتهم في كنائس قراهم حيث يجتمعون وصارت أبراج أجراسهم وقبابها ترى من بعيد وتدعو الأجراس المؤمنين إلى الصلاة وهم أجران معمودية لتعميد أولادهم وقبور ليدفنوا فيها موتاهم وبين أظهرهم كاهنهم يعلمهم الدين ولهم قديسهم أو حامي كنيستهم وعيده عيد للقرية وكثيراً ما كانت تسمى القرية باسمه.

الحرم - كان رجال الدين في العصور الوسطى أغنى من العامة وأكثر تهذيباً وتعليماً منهم ولهم مع هذه قوة لا تغالب وهو أنهم كانوا ينالون القربان الذي لا يستغني أحد عن تناوله ولم يكن عَلَى ذاك العهد ملاحدة وإذا حدث أحيانا لأحد العامة أن نشز عَلَى الكنيسة أو أنه أساء إلى راهب في حالة غضب فإنهم كلهم يعتقدون اعتقادا راسخاً في اليوم الآخر ويثوبون وينيبون لينالوا الغفران وكان رجال الدين يستعملون الأسلحة الروحية كما كانوا يسمونها في تأديب الجناة والعصاة فكان المجرم محروماً أي مطروداً من تناول القربان مع جمهور المؤمنين فكان الأسقف يقول إننا بموجب السلطة الإلهية التي منحها القديس بطرس إلى الأساقفة ننبذ فلاناً من حجر أمه الكنيسة المقدسة فيلعن في المدينة وفي الحقول وفي بيته وعلى كل مسيحي أن لا يكلمه ولا يواكله وعلى أي راهب أن لا يقيم له القداس ولا يناول القربان وأن يدفن كما يدفن الحمار كما أن هذه المشاعل التي ألقينا بها من أيدينا ستنطفئ وأن ضوء حياته سيخمد إن لم يتب ويقدم ترضية.

وقد بدء في القرن الحادي عشر باستعمال المتع الكنائسي ضد السادة الذين كانوا يزدرون الحرم فكان رجل الدين يحرم من تناول القربان السيد ومحلته فلا يعقد عقد زواج في كل أرضه ولا يدفن ميت ولا يقرع جرس وينال السكان ما ينال سيدهم ولذلك يقضى عليهم أن يصوموا ويرسلوا شعورهم علامة عَلَى الحداد. وعلى هذه الصورة كلن رجال الدين يكرهون السادة عَلَى أن يحترموا القوانين الدينية ويحظرون عليهم الاستيلاء عَلَى أرزاق الكنيسة.

إصلاح الكنيسة

اختلاط السلطات - كانت الميزة ضعيفة جداً في القرن الحادي عشر بين السلطة الروحية عَلَى الأرواح والسلطة الزمنية عَلَى الأجساد فلم يكن الأساقفة ورؤساء الأديار رؤساء دينيين فقط بل كانت لهم حصة كبرى من السلطة السياسية فكانوا لما يملكون من الأملاك يعدون في السادة العظماء أي حكاما عَلَى فلاحيهم وأتباعهم من الفرسان ثم أن الملوك والأمراء وكلهم من رجال السيف كانوا في حاجة إلى رجال الكنيسة في شؤون الحكومة المرتبكة فالأساقفة هم الذين كانوا يتولون عنهم ذلك فيجلسون في قصورهم يكتبون أوامرهم ويملون أحكامهم ويحكمون. وبم يقف الأمر عند هذا الحد بل قد منح الأساقفة منذ عهد شارلمان نصيباً في إدارة الولايات وكان لكثير من الأساقفة في ألمانيا سلطة كسلطة الكونت. وهم مع حصولهم عَلَى سلطة سيد من العامة يخضعون لما يقضي به السيد. هم تابعون للملك كالكونتية فيتحتم عليهم أن يقدموا للملك كالكونتية منائح ويخدموا في الجيش وكان جيش الملك في ألمانيا مؤلفاً من فرسان أتي بهم أساقفة ورؤساء أديار ولكن الملك كان يضطرهم أحياناً أن يجيبوا الدعوة إلى حمل السلاح بأنفسهم. فقد كتب فيليب الأول إلى دير سان ميدار أي سواسون أن القاعدة القديمة تقضي عَلَى فرسان الدير أن يحضروا بقيادة رئيس الدير للاشتراك بالحملات الملوكية وأن عَلَى رئيس الدير أن يخضع لهذه العادة أو يستقيل. فاستقال رئيس الدير وجاء خلفه إلى الجيش.

الفكر السائد إذ ذاك - كان الأساقفة ورؤساء الأديار في القرن العاشر من أبناء السادات في العادة والكهنة والقسيسون من أبناء الفلاحين وخلوا في الرهبنة بدون ميل منهم بل لمجرد طاعة أهلهم أو للاستمتاع بنعم الكنيسة. فكانوا يأتون إلى كنائسهم بأخلاق العامة فيقضون أوقاتهم في الصيد والشرب واللعب والتقاتل ورؤساء الأديار يبددون أموال الدير ليعولوا عصابة من المتشردين وكثير منهم يتزوجون ويقفون كنيستهم عَلَى أولادهم. وقد شوهد في نورمانديا كهنة يتنازلون عن دورهم بائنة لبناتهم وكثير منهم كانوا أميين يحرفون كلام القداس بجهلهم وابتاع معظمهم مناصبهم من أناس من العامة وكانوا يبيعونها إلى غيرهم من رجال الكنيسة. وتسمى هذه التجارة بيع المقدسات الروحية (سيمونية) وأصبح الإكليريكيون الخاصة جفاة غلاظاً جهلاء طماعين كالعامة وكان بقال أن الكنيسة قد سرى إليها الفكر السائد في ذاك القرن.

رهبنات جديدة - أوجس رجال الكنيسة المخلصون لآدابها خيفة من هذه الفضائح فحملوا أرباب الغيرة منهم عَلَى تأسيس رهبانيات جديدة فجاء بعضهم في هذا العالم الفاسد وهربوا إلى البادية مثل القديس برونو الذي جاء منة شمالي فرنسا وتوغل في جبال دوفينيه المتوحشة في بضعة من رفاقه وأسس رهبنة القلايين (شارتر أو الكرتوسيين) وأسس أحد عظماء الطليان القديس رومولاد في جبال طوسكونيا رهبنة الكامالدويين. وأراد آخرون استئصال هذه الفضائح مباشرة بعد بإدخال رجال الدين تحت قاعدة فبدءوا يشددون في نظام أحد الأديار ليكون نموذجاً في إصلاح غيره. وأهم مراكز الإصلاح كان دير كلوني أقدم الأديار وقد جرى إصلاحه في القرن الحادي عشر ودير سيتو الذي أسس سنة 1094 وكلاهما في إقليم بورغونيا ودير كليرفو المؤسس سنة 1115 وبرمونتره المؤسس سنة 1120.

ولم يقصدوا من ذلك أن يستعيضوا عن القاعدة القديمة التي وضعها القديس بنوا بل عَلَى العكس أن يضعوها موضع العمل بإنفاذ نظام العمل عَلَى الرهبان والطاعة والفاقة مما بطل في الأديار بما تسرب إليها من أفكار ذاك القرن. فمنع مؤسس دير كليرفو القديس برنارد رهبانه من لبس الفراء والدثر والقبعات وقضى بحظر جميع أنواع الزينة حتى في الكنائس ولم يسمع بغير صليب من الخشب المنقوش وشمعدان كبير مشعب من الحديد ومباخر من النحاس. وبقي الرهبان كلهم بعد الاصلاح من البندكتيين وتقرر لتوقيف الخلل الذي دخل عَلَى أيسر وجه إلى دير مستقل أن ترجع للدير المصلح إدارة الأديار المؤسسة أو المصلحة عَلَى يده. وهكذا أصبحت أديار كلوني وسيتو وبرمونتره زعيمة رهبنة ولم تعد أديار رهبنتها أدياراً كبرى بل بيعاً ومعابد تخضع لرئيس واحد وتبعث بمفوضين من قبلها يمثلونها في المجتمعات العامة في الرهبنة. فنجحت الرهبنات في أسرع ما يمكن فكان لكلوني في القرن الثاني عشر أربعمائة راهب وينظر في شؤون ألفي دير وكان لسيتو تحت طاعتها نحو 1800 دير منتشرة في جميع أوربا وعند ذلك بدأت المنافسة بين رهبان كلوني السود ورهبان سيتو البيض. وكان هؤلاء الرهبان المصلحون هم الذين اضطروا بقية رجال الدين أن يصلحوا أخلاقهم وهم الذين عضدوا البابا أحسن عضد وحملوا المسيحيين كافة عامتهم وخاصتهم أن يحنوا رؤوسهم لسلطته. فقد كان غريغوريوس السابع العظيم المصلح الحاكم من رهبان كلوني والقديس برنارد اللاهوتي العظيم في القرن الثاني عشر من رهبان سيتو.

كان من العادة القديمة في الكنيسة إذا أقرأ أحد المؤمنين بخطيئة ارتكبها أن يقضي عليه القسيس بالتوبة قبل أن يغفر له ويدعه يدخل الكنيسة بين الناس وتجري هذه التوبة علنية إذا كانت الخطيئة ارتكبت كذلك. وكتبت في القرن الثامن كتب توبة فيها العقوبة المقدرة لكل خطأ. . مضت قرون وهذه التوبات مثال القسوة وإذلال النفس ففي بعض التوبات التي تطول سبع سنين كان يتحتم عَلَى التائب في السنة الأولى أن يقف حافياً أمام باب المدينة يركع أمام الداخلين يتوسل إليهم أن يصلوا له. والتوبات عبارة عن الصيام وترديد صلوات وضرب البدن بالعصي ثم انتظمت هذه الطريقة فرأى رجال الكنيسة أن ثلاثة آلاف ضربة بالعصا تعادل سنة في التوبة. وقد اشتهر أحد نساك الطليان في القرن الحادي عشر واسمه دومينيك ولقب بالدارع بأنه يتمكن في خمسة عشر يوماً أن يقوم بمئة سنة من التوبة وأقروا أيضاً عَلَى ابتياع التوبة بالأعمال الصالحة مثل الحج ومنح العطايا إلى الكنائس وكانوا يقولون أن للقديسين من الفضائل أكثر مما يجب لخلاصهم وهذه الفضائل الزائدة قد تألفت منها كنز الغفرانات التي بها تشترى خطيئات المخطئين. ولدى الكنيسة هذا الكنز في الغفران تنفق منه عَلَى المؤمنين وفي وسعها أن تفضل منه عَلَى أرواح الموتى التي يراد تطهيرها وتطلب لقاء ذلك بعض المال. فالخاطئ لا يشتري الغفران (كما قيل ذلك خطأ) بل يبتاع التوبة فقط وبعبارة أخرى أن الكنيسة تعطيها له. هذه هي نظرية الغفرانات. فقد قال داميانوس إننا بما نأخذه من أراضي التائبين نمنحهم كمية من التوبة بحسب ما يعطوننا. وعلى هذا كانت التوبة قسمين أحدهما وهي السهلة (ما ينال الغفران من العطايا والحج) وهكذا يكفي الأرواح الفاترة وأوقات السكون والآخر وهو بربري (ضرب العصي) تطمئن إليه الأرواح المتحمسة وقد كان الغيورون من المسيحيين مثل القديس لويس والقديسة إليزابثة يلبسون قميصاً من الشعر ويضربون بعصا يد من يعترفون له. وفي أوقات الفزع الديني خلال الأوبئة والحروب تتألف عصابات من المضروبين بالعصي يجتازون البلاد وأكتافهم عريانة وهم يضربون أنفسهم حتى تسيل دماؤهم.

انفصال الكنيسة الرومية - مضى دهر طويل لم يؤلف المسيحيون الروم في بلاد الشرق سوى كنيسة واحدة مع مسيحيي الرومان في الغرب فكان لهم عدة بطارقة في الآستانة والإسكندرية والقدس وأنطاكيا ويعترفون أيضاً بتقدم أسقف رومية ولكن بعد أن فتح العرب مصر وسورية لم يبق في الإمبراطورية سوى سوى بطريرك واحد هو بطريرك القسطنطينية الذي أخذ ينافس البابا. ولما قطع البابا العلائق مع الإمبراطور في القرن الثامن بشأن عبادة الصور بدأ المسيحيون الروم أن لا ينظروا إلى مسيحيي الغرب أخوانهم وكان بين الفريقين من أهل العالم المسيحي بعض فروق خفيفة في أمور التعبد والمعتقد فالروم يعتقدون أن روح القدس لم ينبثق إلا من الأب والغربيون يعتقدون أنه ينبثق من الآب والابن معاً وأن الابن من مادة الآب نفسها. والروم يستعملون الخبز في المناولة والغربيون خبزاً بدون خمير والروم يسمحون بزواج القسوس والغربيون يحظرونه.

وظهرت تلك العداوة الخفية بين الكنيستين جهاراً في القرن التاسع فعزل الإمبراطور أغناس بطريرك القسطنطينية وأقلم عوضاً عنه فوتيوس أحد قدماء الساسة والقواد وهو أكثر الناس تعلماً في زمنه ولم يكن راهباً بل اجتاز درجات الكهنوت كلها في بضعة أيام فتحزب البابا نقوى للبطريرك المقال وحرم فوتيوس وأشياعه فجمع فوتيوس في الآستانة مجمعاً حكم عَلَى معتقدات اللاتين الخاصة بأنها إلحاد وحرم نقولا (867) فاغتنم البابا فرصة تبديل الإمبراطور ليجمع في القسطنطينية مجمعاً مسكونياً (869) قضى بعزل فوتيوس وفسخ أعماله. وفي سنة 879 فسخ مجمع جديد أوامر مجمع سنة 869 وأعلن أن البابا ليس سلطاناً عَلَى الكنيسة إلا في الغرب فأجاب عَلَى ذلك بجرم فوتيوس الذي انقطع إلى أحد الأديار وبدا بذلك أن التقاطع بين الكنيسة أصبح مبرماً ولكن الباباوات في أواخر القرن التاسع أصبحوا في أيدي بارونات رومية فأمسوا من الضعف بحيث لا يستطيعون المقاومة في هذا الباب ولما شعر البابا أواسط القرن الحادي عشر بتوطيد مركزه في رومية والغرب بعث بنائبين من قبله يضعان باحتفال في كنيسة القسطنطينية براءة الحرم الذي صدر من البابا عَلَى البطريرك وأشياعه (1054) فأبت كنيسة الشرق أن تخضع وظل المسيحيون منذ ذاك العهد منقسمين إلى كنيستين الكنيسة اللاتينية أو الكاثوليكية التي خضعت للبابا والكنيسة الرومية أو الأرثوذكسية التي اعترفت ببطريرك القسطنطينية وليس الروم فقط هم أتباع هذه الكنيسة بل الروس والبلغار والصرب والرومانيون.

الإلحاد - كان الملاحدة (الهراطقة) نادرين متفرقين في القرون الأولى والوسطى فبدأوا في القرن الثاني عشر يتكاثرون ولاسيما في جنوبي فرنسا وشمالي إيطاليا وانقسموا إلى شيع مختلفة يصعب علينا تمييزها ولا نعرفها إلا بما ينقله عنها أعداؤها فمنهم من اقتبسوا من ملاحدة بلغاريا مذهب المانوي الفارسي القديم في تنازع الخير والشر وآخرون هم الكاتاريون (الأطهار) فقراء ليون الفورديون كانوا ملاحدة بغضاً بمفاسد رجال الكهنوت في عصرهم وزعيم شيعة الفوديين فالدوس تاجر غني من أغنياء ليون كان ترجم له الكتاب المقدس باللغة العامية فأحب عملاً بحكمة الإنجيل أن يوزع جميع ما يملك عَلَى الفقراء وأخذ يدعو إلى الدين عَلَى رغم منع الأسقف عليه ذلك وكان أنصاره يرفضون كل ما لا يرونه مسطوراً عندهم في التوراة مثل الصور والماء المقدس والقديسين والذخائر والمطهر والصوم والغفرانات وكانوا يقولون أن الكنيسة الرومانية ليست كنيسة المسيح بل كنيسة الشيطان وما الأحبار إلا فريسيون يجب أن لا يملكوا شيئاً من حطام الدنيا بل أن يعملوا كل عمل الحواريون وأن لا يقودوا إذ ليس في الكنيسة الحقيقة إلا أهل التساوي فالعامة ليست دون الخاصة ولهم الحق أنة يبشروا كما كان يبشر الرسل والعامي التقي هو أشد عراقة في الرهبنة ويحسن أن يناول القربان من رجال الكهنوت أهل الخطيئات الحاكمين المتحكمين بالكنيسة فسر القربان المقدس والغفرانات لا فائدة فيه لأن الإيمان والتوبة يكفيان في السلامة. وكانت قوة هؤلاء الملاحدة باختلاطهم مع الشعب مباشرة يلكمونه بلسانه ويعيش وعاظهم عيش الفقر والشدة المخالفة لأخلاق أحد رجال الدين الأغنياء الفاسدين أحياناً ولكن معظم المسيحيين كانوا يفزعون من اسم إلحاد وطفقوا عن رضى يخدمون رجال الكهنوت ليقضوا عَلَى الملاحدة ودعا البابا فرسان فرنسا فأعلنوا عليهم حرباً صليبية كما أعلنوا عَلَى المسلمين فذبحوا جميع سكان بزيير عَلَى نحو ما فعل الصليبيون في الشرق من ذبح الرجال والنساء في أورشليم. وقد حرم البابا الإمبراطور فريدريك الثاني في ألمانيا وهو نصف عربي بشدته فاحرق كل من اشتبه فيهم أنهم ملحدون.

ديوان التفتيش الديني - بعث البابا إلى مدن إقليم لانكدوك بموظفين عهد إليهم البحث عمن يشتبه بهم بالإلحاد وذلك ليستأصل الملاحدة عن بكرة أبيهم ومنحهم كل سلطة في إلقاء القبض عَلَى كل شخص ومحاكمته والحكم عليه وأطلق لهم الحرية أن يعملوا بما يرونه مناسباً مبيحاً لهم أن يغفر بعضهم لبعض إذا بدرت منهم بادرة وهؤلاء المفتشون (وفي العادة أن يكونوا قسوساً) يستقدمون الرجال الذين يرمون بالزندقة ويسألونهم بدون أن يقولوا لهم أسماء من أظهر أمرهم فإذا أبى المشتبه به الكلام يسجنونه ويضيقون عليه الخناق ولقد قال أحد هؤلاء المفتشين ولطالما رأيت أناساً حبسوا عَلَى تلك الصورة سنين كثيرة فانتهى بهم الحال أن اقروا أيضاً بأجرام لهم قديمة وعادوا أيضاً ليحملوهم عَلَى الإقرار يستعملون معهم طريقة التعذيب التي تركت منذ عهد الرومان وأخذت بالاستعمال عند ظهورهم وكانت محكمة التفتيش تحكم بطريقة عرفية بدون استئناف تحكم عَلَى بعضهم بغرامات فاحشة أو بحج بعيد وعلى غيرهم أن يحملوا عَلَى ثيابهم صلباناً صفراء تخاط عليها فتشعر بأنهم مشتبه بأمرهم أمام القوم ويقضى عَلَى الآخرين أن يطوفوا تائبين يحملون العصي ليجلدوا. وغيرهم يسجنون مؤبداً في مطبق صغير مظلم عَلَى خبز الكرب وماء العذاب وبعضهم يحرقون في وقود الحطب وديوان التفتيش لا ينفذ الحكم عليهم بنفسه بل يكتفي بان يدفعهم إلى القاضي المدني العامي وهو يعيدهم إلى الجلاد.

الرهبان الشحاذون - أصبحت الرهبنات الدينية التي حملت في القرن الحادي عشر عَلَى الفساد المستحوذ غنية عنىً فاحشاً فكان رئيس دير كلوني يسيح في موكب مؤلف من ثمانين فارساً والرهبان البيض الذين أرسلوا لتنصير الملاحدة قد حملوهم عَلَى العصيان بما رأوه من بذخهم ولذا دعت الحال إلى وضع نظام جديد وذلك بما قام به القديس فرانسوا الإيطالي والقديس دومينيك الإسبانيولي.

فكان القديس فرانسوا (ولد سنة 1182) ابن تاجر غني في آسيز تخلى عن المال وراح إلى المدن يستوكف الأكف ويدعو الناس. فظنه القوم مختل الشعور ولعنه أبوه ولكن لين جانبه ولطفه وحماسته لم تلبث أن عقدت القلوب عَلَى حبه فأعجبت به وجاءه من تلقوا دعوته زرافات فعزم أن يضم شتاتهم وأنشأ رهبنة الأخوان القاصرين (الفرنسيسكان) وكان القديس فرانسوا يعيش عيش التنسك يسهر ويصلي ويصوم ويلبس مسحاً ويمزح رماداً في طعامه لئلا يلذه طعمه ويجلد نفسه كل ليلة بسلاسل من حديد (ثلاث مرات واحدة عن نفسه وأخرى عن أرباب الخطايا الأحياء وثالثة عن أرواح المطهر) ومات مضجعاً عَلَى الأرض بلا وطاء وكان خلافاً للحبساء منخفض الجناح راغباً في خلاص غيره يريد أن يكون من جماعته الفرنسيسكان نساك أبداً فقراء ولكن نساك يعيشون بين أظهر الناس ليحرضوهم عَلَى التقوى قال لتلامذته: اذهبوا اثنين اثنين مبشرين الناس بالسلام والتوبة للعفو عن خطيئاتكم. لا تخافوا شيئاً لأننا نبدو للناس كالأطفال أو المعتوهين ولكن بشروا فقط بالإنابة والتجدد وكونوا عَلَى ثقة بأن روح الله الذي دبر العالم ينطق بلسانكم. وكانت قاعدته بسيطة للغاية وهو أن لا يملك الأخوان شيئاً بل أن يمضوا في هذا العالم كالحجاج والغرباء يخدمون الله بالفقر له والضراعة إليه والصدقات قصارى ما يتبلغون به ولا يخجلون من حالهم لأن السيد المسيح سن لنا من سنة الفقر. ويلبس الفرنسيسكان لباس الحاجين وهو عبارة عن ثوب من الصوف الغليظ له قبعة ومن هنا اشتق اسمهم (الكبوشيون) ويلبسون في أرجلهم نعالاً ويتمنطقون بحبل (ومن هنا سموا أيضاً بالحباليين) ولا يعيشون إلا من الصدقات.

وكان القديس دومينيك (ولد سنة 1170) من النساك أيضاً لا يشرب الخمر ويلبس مسحاً مع سلسلة حديد ومات مضطجعاً عَلَى الرماد وكان واعظاً وعظ عشرين سنة في البلاد الألبية لهداية الملاحدة وهناك رأى كيف يطمع الشعب لسماع كلام الله وهو يتألم لما يرى من بذخ رجال الكهنوت. وسن سنة السير عَلَى القدم بألبسة ساذجة للغاية وأراد أن يكون عَلَى شاكلته في الأمة رسل مبشرون فأنشأ جمعية الأخوان الواعظين جعل شأنهم أن يتكلموا في كل مكان بما فيه سلامة الأرواح ووضع الفقر قاعدة لهم.

وهكذا كان الفرنسيسكان شحاذين فأصبحوا واعظين والدومنيكيون واعظين فأصبحوا شحاذين وكانت الرهبنتان تتشابهان من وجوه كثيرة وكانتا كلتاهما منظمتين ولهما قائد يقودهما يطيع البابا مباشرة ولكن الدومنيكيين كانت علاقتهم بالسادة والملوك أكثر والفرنسيسكان بجمهور الشعب وامتدت كلمة هاتين الجمعيتين امتداداً لا يكاد يصدق فلم تدخل سنة 1277 إلا وكان للدومنيكيون 416 ديراً وكان للفرنسيسكان سنة 1260 - 1808 أدياراً وفي كل دير اثني عشر راهباً عَلَى الأقل وإذ كان اعتمادهم عَلَى الله الذي كان هريهم وخوانتهم كانوا يقبلون في جملتهم من الإخوان ما جاءهم فمن يقصدونهم يعطونهم ثوباً وحبلاً وما عدا ذلك فيكلون أمره للعناية الإلهية. ولقد عاش قدماء الرهبان خارجين عن العالم أما الرهبان الشحاذون فاختلطوا بالمجتمع وأذن لهم البابا أن يبشروا ويعرفوا ويدفنوا فاخذ المؤمنون يهرعون إليهم تاركين قسوسهم المعتادين وكان بذلك ثورة عظيمة وطدت سلطة البابا كل التوطيد.

عدل الكنيسة - كان في كل أبرشية منذ القرن الثالث عشر محكمة للكنيسة يجلس فيها مندوب الأسقف للحكم فينظر فيها في عامة القضايا التي لها مساس بأحد الإكليريكيين إذ لم يكن يقبل أن عامياً يرفع يده عَلَى رجل من رجال الله فالإكليريكي إذا ارتكب جرماً لا يحاكم عليه إلا مثله وهذا من جملة امتيازات رجال الدين امتيازات يرغب فيها لأن قضاة الكنيسة لا يحكمون بالإعدام بتاتاً وكثيراً ما كان أحد الأشقياء فراراً بنفسه من المشنقة يدخل في درجة من درجات الإكليروس ويتعلم صلاة باللاتينية ويظهر بمظهر ديني وقد امتدت سلطة المحاكم الكنائسية عَلَى العامة. فالكنيسة التي تدير أسرارها القربان المقدس يجب أن تبت في كل المسائل التي لها علاقة بهذا الشأن ومثل هذه المسائل ليست بقليلة. فقد أصبح الزواج منذ ظهور الدين المسيحي سراً من أسرار القربان فيأتي الزوجان في شهودهما يقفان تحت دهليز الكنيسة فيسألهما الكاهن فيما إذا كانا يقبلان الزواج فيقول الزوج أنا يا هذه أرضاك زوجة وتقول العروس أنا يا هذا أرتضيك بعلاً ويأتي أهل المرأة ويضعون يدها في يد زوجها ويبارك القسيس خاتم الزواج إشارة العقد ثم يدخلون كلهم الكنيسة فيتلو القسيس القداس عَلَى الزوجين الراكعين المستورين بشعار خاص وهذه الحفلة جعلت الزواج في يد الكنيسة وكانت تكفي في عهد الرومان إرادة الزوجين لعقد القران كما يكفي إرادتهما لفسخه أما المسيحيون فعلى العكس لا يستطيعون الزواج إلا إذا سمحت الكنيسة (وكثيراً ما تحظره حتى بين الأهل البعيدين) فإذا تزوجوا كان زواجهم طول العمر لأن سر الزواج لا ينحل. وهكذا بطل الطلاق وإذا تعذر التئام الزوجين لا تسمح الكنيسة إلا بالتفريق بينهما ولا تحل رابطة الزواج مطلقاً.

والكنيسة تحكم أيضاً في الوصايا لأن الرجل لا يتأتى له أن يوصي إلا بعد الاعتراف والاعتراف سر من الأسرار وتأبى الكنيسة أن تدفن من لم يعترف ولم يوص والعادة تقضي أن يكون في كل وصية وقف يحبس للكنيسة وترجع جميع القضايا في الوصية إلى محكمة الكنيسة. والكنيسة تحكم أيضاً عَلَى العامة المتهمين بجريمة تخالف الدين أمثال الزنادقة والمجرمين والمرابين (وذلك لأن الكنيسة تحظر الربا) وزعم أينوسان الثالث أن من واجب الكنيسة أن تحكم في جميع الخطايا وكانت محاكم الكنيسة إلى القرن السادس عشر أكثر عملاً من المحاكم العادية.

البابوية

البابوية - الباباوات في القرن العاشر كسائر أساقفة إيطاليا سقط تحت سلطة العامة من السادات الذين هم نصف لصوص في رومية فكانوا يخلون بعضهم بعضاً في خرائب المعاهد القديمة ويتوافرون عَلَى اختيار البابا الذي يشاؤن. فكان الكرسي المقدس ملكاً لأسرة من البارونات زمناً طويلاً ونساء تلك الأسرة تيودورا وماروزيا تنتخبان الحبر الأعظم فشوهد بابا في الثانية عشرة من عمره وآخر باع البابوية من خلفه وقد جعل الإمبراطور هنري الثالث حداً لهذه الفضائح وذلك بأن أخذ عَلَى نفسه تعيين البابا وما كان أنصار الإصلاح يرضون أن تكون أرقى مناصب الكنيسة خاضعة لسلطة رجل من العامة وقد وقف ليون التاسع الذي نصبه ابن عمه الإمبراطور بابا عَلَى أبواب رومية بصفة حاج وأراد أن يجري انتخابه بحسب القانون من قبل رجال الإكليروس وشعب رومية ثم قرر مجمع لاتران سنة 1061 أن يجري انتخاب الباباوات في المستقبل بمعرفة أساقفة المدن الصغرى في بلاد الأقاليم الرومية وأن يصدق الإمبراطور عَلَى انتخابه ولكن لم يلبث هذا القرار أن صرف النظر عنه. وهذه القاعدة في الانتخاب التي جرى العمل عليها بعد قد جعلت للبابوية استقلالاً عن شعب رومية والملوك الأجانب. ولما أصبح البابا مستقلاً أخذ يطهر الكنيسة من روح العصر بمنع زواج الرهبان وبيع الأشياء الروحية وتولية العامة للبابا.

خصام عَلَى التولية - تقضي القوانين القديمة في الكنيسة أن ينتخب الأسقف بمعرفة الكهنة القانونيين ورئيس الدير بمعرفة رهبانه وإذ كان لكل أبرشية ولكل دير أملاك واسعة أعطاها له الملك عَلَى سبيل الإقطاع وكان الملك ولاسيما في ألمانيا يطالب بحق تعيين من يستمتعون بهذه الإقطاعات فإذا مات أسقف أو رئيس دير يحملا الكهنة القانونيون أو القساوسة إلى الملك علامات المنصب الأسقفي أو الرئيس وهي العكاز رمز السلطة والخاتم رمز اتحاد الحبر مع الكنيسة فيختار الملك من يريده وفي العادة أنه يختار أحد رجال الكنيسة في قصره ويحلفه يمين التابعية له ويوليه أي يملكه زمام منصبه بان يدفع إليه العكاز والخاتم. وهذه العادة قد ثار لها المصلحون في الكنيسة. قال البابا أوربانوس الثاني أمن الممكن أن تكون الأيدي التي تشرفت بالشرف العالي في إيجاد الخلق (كذا) بحيث يؤول أمرها إلى العار بالخضوع إلى أيد ملوثة بالسم والدم. وما معنى قبول منصب كنائسي من عامي إلا الاتجار بالأشياء المقدسة وبذلك ارتكاب الخطيئة المميتة في بيع هذه المقدسات فطالب البابا من ثم أن يتخلى الإمبراطور عن انتخاب الأساقفة ورؤساء الأديار ليكون انتخابهم بحسب القواعد القانونية. وكان الإمبراطور يجيب عَلَى هذا المقترح بان الأبرشيات والأديار جزء من الأملاك الإمبراطورية وللإمبراطور وحده الحق في أن يوليها من أراد. وعلى هذا الوجه ثار بين الإمبراطور والبابا خصام عَلَى التولية. وأنصار البابا في مطالبه القسيسون وأنصار الإصلاح وأنصار الإمبراطور الأساقفة ورؤساء الأديار في ألمانيا ولومبارديا أتباعه والقساوسة المتزوجون وعندما حضر أسقف كوار سنة 1075 ليبلغ رئيس أساقفة مايانس الأمر البابوي في حظر الزواج عَلَى القسيسين قام جميع الإكليروس الذين كانوا حاضرين المجلس مغاضبين شاتمين رئيس الأساقفة ومانعيه من قبول هذا الأمر. ودام الأخذ والرد في ذاك نصف قرن (1075 - 1122) وتعذر التوفيق فيه بسبب حقوق مداخيل الكنيسة أو سلطة الأساقفة السياسية وقد حل البابا باسكال الإشكال بأن قرر تنازل الأساقفة عن المدن والكونتيات والنقود والمكوس والقصور والأملاك والحقوق التي يعطيها الإمبراطور لهم فلم يرض رجال الإكليروس عن هذا النظام ولما عقد الصلح سنة 1122 احتفظ الأساقفة بحقوق مداخيلهم وسلطتهم السياسية فسمح الإمبراطور بانتخاب الأساقفة ورؤساء الأديار من قبل الكهنة القانونيين أو القسوس وأن يعطوهم العكاز والخاتم ولكنه أبقى حق توليتهم بالعلم كالأمراء من العامة.

مناوشات البابا مع الإمبراطور - كان البابا والإمبراطور متفقين عَلَى أن يحكموا مشتركين كما وقع عَلَى عهد شارلمان فلم يكن من حاجة لتمييز سلطة أحدهما عن الآخر وتحديد حقوق كل منهما وكان يقال أن الله أعطى سيفين سيف السلطة الزمنية للإمبراطور وسيف السلطة الروحية للبابا ليحكموا العالم معاً ولكن عندما استعلت جذوة الخلاف بين البابا والإمبراطور اقتضى أن يتساءل الناس ما هي حقوق السلطة الروحية والسلطة الزمنية وعند أي حد تقف. وهي مسالة صعبة لم يتيسر للعصور المقبلة أن تحل عويصها ولا تزال تتناقش فيها تحت اسم صلات الكنيسة بالحكومة.

ولقد كان الناس في العصور الوسطى يسيئون فهم سلطتين متساويتين مستقلتين وهل البابا أو الإمبراطور هو الذي يحكم عَلَى الآخر وكل منهما يزعم أن سلطته رفيقة سامية فكان الإمبراطور وارث القياصرة والملقب بألقابهم يطالب بحق الزعامة عَلَى العالم أجمع والبابا يقول أن الله بإعطائه إلى القديس بطرس الحق المطلق أن يحل ويربط في السماء وعلى الأرض لم يستثن أحداً بل أخضع إليه الأمراء وجميع دول العالم وولاه أميراً عَلَى ممالك الدنيا. والبابا أسمى مقاماً من جميع الأمراء وهو قاضيهم ففي وسعه إذا رآهم غير لائقين للحكم أن يحرمهم وأن يعزلهم وأن يجعل رعاياهم في حل من إخلاص البيعة لهم. وقد نفذ غريغوريوس السابع هذه الحكمة بعزل هنري الرابع. فطال الخصام بين السلطتين فبدأ في القرن الثاني عشر عَلَى التولية ودام بشأن حقوق الإمبراطور عَلَى مدن لومبارديا إلى سنة 1250 فغلب الإمبراطور لأن سلطته عَلَى العالم وهمية ولم تكن له سلطة في ألمانيا وإيطاليا ثم أنه عجز عن أن يبذل له الطاعة أمراء الألمان ومدن الطليان.

نفوذ البابا - أصبح البابا في القرن الثالث عشر وسنده رجال الكهنوت الذي قوي بالإصلاح والتهذيب زعيم العالم المسيحي بلا منازع فهو بصفته نائب المسيح يحكم عَلَى رجال الإكليروس كافة وهؤلاء يحكمون عَلَى جمهور من المؤمنين وحفظ لنفسه الحق أن يجمع المجامع ويعزل الأساقفة ويغفر لكبار المجرمين ويعطي ما يلزم من النفقات فيتناول القربان عَلَى عرش عالٍ ويقبل جماعته رجليه ولرسائله قوة الشريعة في الكنيسة كلها وإليك كيف تحدد سلكته قال إينوسان الثالث: لقد وضع الخالق في سماء الكنيسة منصبين أعظمهما البابوية فهي تحكم عَلَى الأرواح كما تحكم الشمس عَلَى النهار واقلهما الملك فهو عَلَى الأجسام كالقمر والليل فالبابوية مفضلة عَلَى الملك كما تفضل الشمس عَلَى القمر. وقد عهد سبحانه وتعالى إلى القديس بطرس أن يحكم لا الكنيسة العامة فقط بل العالم فكما أن جميع مخلوقات السماء والأرض والجحيم تثني ركبتيها أمام الله. هكذا كلهم يجب أن يخضعوا لنائبه حتى لا يكون في الأرض سوى قطيع واحد وراع واحد.

وقد كتب بونيفاس الثامن سنة 1296 إلى ملك فرنسا يقول: اسمع يا ولدي كلام أب شفوق وإياك أن تعتقد بأن ليس فوقك يد وأنك غير خاضع لزعيم رجال الدين. وكتب سنة 1300 في المنشور المشهور أن الكنيسة واحدة هي جسم واحد ليس له إلا رأس واحد لا رأسان كالمسخ هو خليفة القديس بطرس علمنا الإنجيل أن في الكنيسة سيفين زمني وروحي تستعمل الكنيسة ويد البابا أحدهما والثاني الكنيسة ويد الملوك بأمر البابا.

مضتى القرون الأولى وليس في الكنيسة سوى قوانين أي قواعد وضعتها المجامع وعندما عرف البابا سلطته إلى جميع رجال الإكليروس أصبحت أوامره قوانين للكنيسة عَلَى نحو ما كانت قديماً أوامر الإمبراطور الروماني شرائع للملكة وقد جميع كراتين الراهب الإيطالي في القرن الثاني عشر الأوامر التي نسبت لقدماء الباباوات وألف منها كتاباً سماه الديكري أي الأمر. فزاد عليه الباباوات في القرن الثالث عشر عدة مجاميع جديدة مؤلفة من رسائل الباباوات التي ظهرت بعد جميع الرسائل الأولى وهكذا فكما أن يوستينيانوس ألف مادة الشريعة المدنية ألف الباباوات مادة الشريعة القانونية التي ظلت قانوناً للكنيسة.

المدنية الشرقية في الغرب

تقدم شعوب الشرق في القرون الوسطى - ليمثل القارئ لعينيه المدنيتين اللتين كانتا في القرن الحادي عشر تقتسمان العالم القديم ففي الغرب مدن حقيرة صغرى وأكواخ فلاحين وقلاع لا هندسة لها وبلاد مضطربة عَلَى الدوام بالحرب لا يتأتى أن يسير فيها السائر عشرة فراسخ بدون أن يسلب وينهب في الشرق مدن القسطنطينية والقاهرة ودمشق وبغداد وجميع مدن ألف ليلة وليلة بما فيها من قصور المرمر والمعامل والمدارس والأسواق والحدائق الممتدة عَلَى بضعة فراسخ وبرية تروي أحسن إرواء غاصة بالقرى والضياع وحركة التجار التي لا تنقطع فتراهم يذهبون بسلام من إسبانيا إلى فارس ولا شك أن العالم الإسلامي والعالم البيزنطي كانا أغنى وأحسن نظاماً ونوراً من العالم الغربي فكان المسيحيون يشعرون بنقصهم في التهذيب ويعجبون ببلاهة بما يبدو لهم من غرائب الشرق ومن يحب التعلم يقصد إلى مدارس العرب. وبدا العالمان الغربي والشرقي في القرن الحادي عشر يتعارفان ودخل المسيحيون البرابرة إلى حمى المسلمين الممدنين من طريقين الحرب والتجارة.

الحروب الصليبية - انتهى المسلمون من جهادهم المقدس فتسرع النصارى بجهادهم فكانت الحروب الصليبية. وقد دبر شأن الحروب الصليبية البابا أوربانوس الثاني في كلرمون وكان فرنسوياً. وكان يقصد من هذه الحرب إنقاذ البيت المقدس (أي قبر المسيح) من أيدي غير المسيحيين فمن يسافرون يجعلون عَلَى أكتافهم صليباً أو صليب البابا ومن هنا اشتق اسم الصليبيين. فكان الصليبي حاجباً مسلحاً ووعد البابا كل من يشترك بهذه الحملة أن يعفو عنه من كل التوبات التي تحملها لقاء خطاياه. وانضم إلى هؤلاء التائبين أناس من تجار الطليان وفرسان رغبت أنفسهم بالغنيمة وانتفعوا من غلبات الصليبيين عَلَى المسلمين ليقيموا في سورية حيث أنشئوا أربع إمارات (كانت تسمى الإفرنج) وفي سنة 1204 سير البنادقة حملة عَلَى القسطنطينية وفتحوا إمبراطورية الروم ولقد بدأت هذه الحرب أواخر القرن الحادي عشر ودامت إلى القرن الثالث عشر وكثيراً ما كانوا يتحدثون حتى القرن الخامس عشر بمعاودتها. وكانت آخر حملة من حملات الصليبيين في إسبانيا سنة 1492 انتهت بأخذ غرناطة.

صفة الحروب الصليبية - كانت الحروب الصليبية حملات مؤلفة من المسيحيين منظمة بمعرفة البابا زعيم النصارى العام فكان كان صليبي حاجاً مسلحاً تعفو الكنيسة عن جميع الذنوب التي وقف فيها فكان الحاجون يجمعون جيوشاً ضخمة حول السادات القادرين أو حول نائب البابا ولكن لا نظام في صفوفهم فهم أحرار أن يتنقلوا من جيش إلى آخر أو أن يتركوا الحملة عندما يرون أن نذرهم قد تم. فالجيش الصليبي لم يكن سوى اجتماع عصابات تسير إلى مقصد واحد من طريق واحد فكانوا يسيرون مشوشاً نظامهم عَلَى مهل راكبين خيولاً ضخمة لابسين دروعاً ثقيلة يحملون أثقالهم فينؤون بها كما ينؤون يخدمهم وبالنهابين معهم فكانوا يضيعون أشهراً في اجتياز الإمبراطورية البيزنطية وقتال فرسان الأتراك في آسيا الصغرى والرجال والخيول تموت في القفار التي لا ماء فيها ولا سبيل إلى أخذ الميرة جوعاً وظمأ وكانت الأوبئة التي تحدث في المعسكرات التي ينزلونها من قلة العناية والصوم المتعاقب بعد الإفراط في الطعام والشراب تحصد أرواحهم بالألوف. وكان من يبلغون سورية قليل عددهم ففي الرجال وأي فناء في القرن الثاني عشر عَلَى هذه الصورة عَلَى طريق الأرض المقدسة فضاق صدر الصليبيين من هذه الرحلات القاتلة في البر واخذوا يعدلون عنها وفي القرن الثالث عشر قصدوا كلهم البلاد المقدسة من طريق البحر فكانت السفن الإيطالية تقلهم وخيولهم إلى الأرض المقدسة في بضعة أشهر حيث يجاهدون الجهاد الحقيقي.

كان الفرسان في قتالهم المسلمين إذا تساوى عدد المقاتلين قد يكتب النصر لهم وذلك لأنهم كانوا بخيولهم الضخمة وسلاحهم الذي لا يتأتى خرقه يؤلفون كتائب متراصة لا يستطيع فرسان العرب الراكبون عَلَى خيول صغيرة أن يخرقوها بسهامهم وسيوفهم. نعم عن حروبهم لم تسفر عن نتيجة فعاد الصليبيون الظافرون إلى أوربا ورجع المسلمون. وهذه الجيوش المتقطعة كانت تستطيع فتح الأرض المقدسة ولكن لم تكف لحفظها بيد أنه كان ينضم إلى أهل الصليب الذين أتوا للنجاة بأنفسهم من الخطايا رجال من الفرسان والتجار الذين قصدوا البلاد ليغتنوا فكانوا يعنون بحفظ البلاد وبهؤلاء كتب التوفيق التام في الحروب الصليبية باستخدامهم القوة المؤقتة التي كان يوليها سواد الصليبيين. فكانوا يديرون الأعمال الحربية وينشئون أدوات الحصار ويأخذون المدن ويتحصنون فيها بحيث يتوقعون عودة العدو. ولو ترك أولئك الصليبيون وأنفسهم لما استطاعوا أن يقاتلوا في تلك البلاد القاصية فإن الحملات ذات الأبهة التي كان الملوك قوادها (مثل لويس الثاني عشر وكونراد وفريدريك بربروس وفيليب أغسطس وملك المجر وسان لوي) قد أخفقت كلها إخفاقاً ذليلاً. والحروب الصليبية الوحيدة التي نجحت حقيقة (الأولى التي فتحت سورية والرابعة التي فتحت إمبراطورية الروم) وكان قواد الأولى النورمانديين من إيطاليا والأخرى البنادقة. وكانت حماسة الصليبيين وشجاعتهم قوة عمياء لا ينتفع بها إلا إذا كان المدبرون لها أناساً من أهل التجربة. وما كان الصليبيون سوى معاونين والمؤسسون الحقيقيون للمالك المسيحية هم المتشردون والتجار ممن كانوا يشبهون المهاجرين المحدثين الذين كانوا يسافرون لاستيطان الشرق. وما كان هؤلاء المهاجرون قط من الكثرة بحيث تأهل بهم البلاد بل ينزلوها متخذين لهم معسكرات بين أهلها الوطنيين ولم تكن الإمارات الإفرنجية سوى عبارة عن حكم أشراف يقوم به بضعة ألوف من الفرسان الفرنسويين والتجار الإيطاليين فليس لها من تماسك الأجزاء ما كان لممالك الغرب التي تستند عَلَى الأمم والشعوب. فأشبهت هذه الإمارات الممالك التي أسسها زعماء المحاربين العرب أو الأتراك حيث تمتزج الحكومة والجيش وتهلك وإياه. وطال عمر هذه الإمارات قرنين وهي حياة تعد طويلة في الممالك الشرقية ولو تيسرت هجرة قوية لها لتوطدت أسسها إزاء آسيا الإسلامية والبيزنطية ولكن أوربا في القرون الوسطى لم تستطع أن تقوم بهذه الهجرات.

مضى نصف قرن ولم يشتغلوا بغير حرب صغار الأمراء في سورية وكان مسلمو مصر يعيشون معهم بسلام وهذا زمن نجاحهم ولما أتى صلاح الدين عَلَى الخلافة بمصر فقرضها وتألف بدلاً منها حكومة عسكرية في القاهرة وهوجم المسيحيون من جهة مصر فلم يستطيعوا أن يقاوموا زمناً طويلاً (كما دلت عَلَى ذلك انتصارات صلاح الدين) فإذا كانوا احتفظوا بممالكهم قرناً آخر فذلك لأن السلاطين لم يحرصوا أن يبيدوهم. لا جرم أن هذه الحرب كانت في نظر المسلمين جهاداً مقدساً ولكنها انقطعت بمهادنات بضع سنين ولا ينبغي لنا أن نتصور جميع أمراء المسيحيين متحدين عَلَى أمراء المسلمين بل كانت المصالح السياسية أشد قوة من البغضاء الدينية وما برح أمراء النصارى يتقاتلون بعضهم مع بعض كما كأمراء المسلمين يقتل بعضهم بعضاً وقد حدث أن أميراً مسيحياً تحالف مع أمير مسلم عَلَى أمير مسيحي. وما قط كان الاتفاق تاماً في جيش النصارى فالحماسة التي كانت تجمعهم لم تأت عَلَى منافستهم في التجارة ولا عَلَى تباغضهم الجنسي وكان النزاع دائماً بين الأمراء من مختلفي الممالك بين الفرنسيس والألمان والإنكليز بين تجار جنود جنوة وتجار البندقية بين التامبلية والإسبتالية (فرسان الهيكليين والمقرين) وكثيراً ما تقاتلوا. ومثل ذلك الخلاف بين الصليبيين القادمين من أوربا والإفرنج المقيمين في سورية. ولقد اتخذ الإفرنج عادات الشرقيين لما عاشوا بين أظهرهم فاستعملوا الحمامات والألبسة المسترسلة ونظموا خيالة مسلحين عَلَى الطريقة الإسلامية وانشئوا يعاملون المسلمين معاملة المجاورين ولا يحاربونهم بدون داعٍ. وأراد فرسان الغرب القدمين وقد ملئت صدورهم غيظاً من المسلمين أن يبيدوا كل شيءٍ وقد حنقوا من هذا التسامح فكانوا إذا خرجوا من البحر ينقضون عَلَى الأرض الإسلامية ويهرعون للتقاتل والنهب وكثيراً ما كانوا لا يسمعون لما ينصح لهم به مسيحيو البلاد الواسع اختبارهم في الحرب في الشرق أكثر منهم. ولقد وصف مؤرخو الغرب نصارى الأرض المقدسة بالنذالة والخديعة والفساد ونسبوا إليهم خرائب ممالك سورية. وليت شعري ماذا يكون منة الصدق في هذه التهم؟ ولا جرم في أن أولئك المتشردين من الإفرنج قد اغتنوا عَلَى أسرع وجه وأخذوا يعيشون في بذخ باحتكاكهم بشعوب فاسدين قد سرت إليهم مفاسد كثيرة ولاسيما من ولد منهم في سورية وكانوا يدعونهم المهارى ولكن الصليبيين لم تكن لهم من المكانة ما يخولهم إصدار مثل هذه الأحكام فإنهم أنفسهم بفعلهم قد أحدثوا من المصائب أكثر مما أحدث نصارى سورية بترفههم.