مجلة المقتبس/العدد 77/بين دمشق والقاهرة

مجلة المقتبس/العدد 77/بين دمشق والقاهرة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 7 - 1912



سادتي الأخوان

يعجز البيان عن توفية صداقتكم حقها ومقابلة عواطفكم الجميلة بمثلها فقد كسوتهم وطنيكم هذا حلة تقصر عنها قامته وظهر إحساسكم الشريف في مظهر أنساه ما لقيه من المشاق في سبيل الوصول إلى حماكم فدمتم ودامت عوارفكم كيفا يلجأ إليه في الملمات وعلم نور يستضاء به في الظلمات، ولقد كنت بيت العزم منذ شهرين أن أزور مصركم في الشتاء المقبل لألقى من خلفتهم فيها من خلص الأصدقاء مصريين وعثمانيين ولكن قضت الأقدار أن أهبط مصر في صيفها وأهلها يرحلون عنها عَلَى أن مصر حلوة في فصولها الأربعة لأن السر في السكان لا في المكان كما كنت أود أن أشخص إليها من طريق البحر المطروق في ست وثلاثين ساعة موفورة لي أسباب الراحة لا أن أوافيها من طريق البر المهجور عَلَى مطية أقضي في السير والسرى من دمشق إلى القاهرة أربعة عشر يوماً وألقى فيها من فقد الراحة ما يلقاه العادة السفار في القفار.

إن ما حملني عَلَى انتيابكم في هذه الحال تعرفونه بأجمعكم وليس ببدع أن ينال مثله كل من يتصدى لطلب الإصلاح وينشد الحق والعدل في بلاد حكمت قروناً بالاستبداد ولم تكتب لها السلامة منه، ومن ابتلى بذلك يستطيب الأذى إذا أنتج عمله نفعاً للخير العام.

قضيت في الشهر الفائت ثلاثة وعشرين يوماً في زيارة مدينة الرسول وآثار وادي موسى أو بترا المعروفة بالعربية الصخرية وبلاد مآب أي الكرك وارض الشراة التي كان يسكنها بنو العباس في أيام بني مروان ومنها خرجوا بالدعوة لدولتهم وأرض البلقاء التي كانت مصايف لني أمية أيام حكومتهم في دمشق وغير ذلك من الأقاليم في أقصى حدود بلاد الشام الجنوبية ومن هذه الأقاليم ما وصل إليه الخط الحجازي ومنها ما يقصد إليه عَلَى الدواب فلما عدت إلى دمشق أستريح من وعثاء السفر فاجأتني الحكومة المحلية بما عودتنيه أيام الحكم المطلق والحكم المقيد من خرق قانون الحرية الشخصية والفكرية ومحاولة النيل مني بلا موجب.

سعيت وطائفة من أصدقائي في سورية بعد انتشار القانون الأساسي أن يكون في بلادنا دستور حقيقي يستمتع به العثمانيون عَلَى اختلاف عناصرهم ونحلهم ولكن الفئة المتغلبة عَلَى الحكومة في الآستانة والمرسلة بصنائعها إلى الولايات أبت وخصوصاً بعد سقوط وزارة رجل السياسة العثماني كامل باشا إلا أن يكون الدستور استبدادياً في صورة حرية فكنا كلما طالبنا بمطلب من مطالب الإصلاح الطفيف اتهمونا بأنواع التهم بل كنا معهم كما قال ابن أبي طالب كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم فالحكومة بل الحاكم الذي كان يرهقنا زمن الاستبداد ويشردنا عَلَى أننا ناقمون عَلَى حكومة المخلوع حتى اضطررنا أن نقضي أربع سنين في هذا القطر فراراً من الحيف عاد في الدور الذي يدعونه بالحرية يرمينا بالارتجاع ثم الدعوة لإنكلترا ثم بالدعوة لحكومة عربية إلى غير ذلك مما يختلقون من ضروب الافتراءِ الذي لا يستنكف كل ضعيف في حكومة هذا الشرق التعس من أن يلصقه بمن لا يقدر عَلَى حجابه بالبرهان إذا دله عَلَى عيوبه ليتقيها ونصح له بالاعتدال لتطويل أيامه ولا تساوره أسقامه.

ففي مثل هذه الحالة يسارع مثلي إلى الهرب من وجه الظلم إذ لا قانون هناك يأخذ للضعيف من القوي وما القانون عندهم إلا هوى النفس ولا رواج إلا للزور والنفاق ولا عجب فقد قال ابن خلدون أن الدول إذا تنزهت عن التعسف والميل والأفن والسفسفة وسلكت النهج الأمم ولم يجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الإبريز الخالص واللجين المصفى وإن ذهبت مع الإغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي الباطل نفق البهرج الزائف.

ولذا أرسلنا ساقينا للريح ساعة بلغنا أن الحكومة المحلية في سورية تريد القبض علينا عَلَى نحو ما قبضت عَلَى شقيقنا أحمد المدير المسئول لجريدة المقتبس فسرنا (يوم 17 نيسان (أبريل) 1912) بدون ريث بين حدائق صالحية دمشق حتى بلغنا الزاوية الغربية الشمالية منها في المكان المعروف بقبة السيار ومنها قصدنا من دمر إلى المزة بالتصعيد في الجبل أيضاً وهناك اختبأنا في إحدى قرى وادي العجم أياماً حتى تهيأت لنا أسباب الهزيمة عَلَى حصان في صحابة صديق لنا قديم رافقنا من أقصى حدود وادي العجم فمررنا من طرق معوج اجتزنا فيه أرض المزة وبلاس والأشرفية وصحنايا والدرخبية والطيبة وشقحب ثم دير العدس والحارة من قرى إقليم الجيدور المعروف عند الإفرنج بايتورة حتى بلغنا النقرة من بلاد الجولان التي يسميها الفرنجة غولانيتيد فقدنا بالقرب من نهر الرقاد وكنا هومنا في الليلة الفائتة عَلَى مقربة من نهر الأعوج المعروف في الكتب المقدسة باسم فرفر من عمل وادي العجم.

وفي الجولان اتصلنا بجماعة من تجار الإبل ذاهبين إلى مصر فسايرناهم وقطعنا سهول الجولان ومراعيه وبتنا في الليلة الثالثة دون عقبة فيق ومن الغد هبطنا العقبة وهي لا تقل عن ساعتين وتعد من أعظم عقاب بلاد الشام ومنها يشرف المرء عَلَى أراضي الغور غور بيسان وبحيرة طبرية ونهر الشريعة أي الأردن وليس عَلَى هذا النهر العظيم سوى جسر قديم متداع وجسر بنات يعقوب فقطعنا الأول سباحة عَلَى الدواب ثم توقلنا الجبل إلى موقع الدلايكة وهو وادٍ بين جبلين منفرجين متآزيين من عمل طبرية عاصمة الأردن القديمة بل عاصمة الجليل أصبح أكثره ملكاً للصهيونيين من مهاجرة الإسرائيليين الأوربيين يستنبتونه ويستثمرونه عَلَى طريقتهم المتعارفة في ديار الغرب حتى لقد تحس للحال بالفرق بين زراعة الوطنيين وزراعة المهاجرين فقرية مما ملكهم أرقى بزراعتها مرات من قرية كفر سبت وسكان هذه من المهاجرة الجزائر فبتنا تلك الليلة في سوق الخان بلد الصبيح عَلَى ساعتين من الناصرة وفي سفوح جبل الطور المشهور في التاريخ المسيحي.

وفي اليوم الرابع اجتزنا غابة غبياء من شجر البطم فرأيناها آيلة للخراب كما تؤول الآن غابات سورية كلها اللهم إلا ما كان من غابات لبنان التي تزيد ولا تنقص وقطعنا هذه الحراج في ساعة ونصف حتى بلغنا قرية دبورية وفي منقطع أرض هذه الدسكرة يبتدئ مرج ابن عامر أو سهل يزرعيل المذكور غير ما مرة في التوراة، قطعنا بالعرض في أربع ساعات حتى بلغنا قرية اللجون ومنها دخلنا في وادي عارة من عمل نابلس وطوله ثلاث ساعات وهو ضيق النطاق متوازي الأضلاع خصب الرباع وفي آخره كان آخر عهدنا بجبال سورية إذ لم نعد نرى بعده جبلاً يذكر حتى بلغنا أرض مصر في جهات العريش وقطية فلمحنا عن بعد جبلاً في الرمال يسمونه جبل الحلال وبتنا الليلة الخامسة في عيون الأساور عَلَى ساعتين من قيسارية وهي قرية يسكنها مهاجرون من البوشناق وكانت من المدن الكبرى العامرة في القديم، وفي اليوم السادس اجتزنا قرى بلاد نابلس مثل قاقون وقلنسوة والطيرة ومسكة حتى بلغنا نهر العوجاء عَلَى ساعة ونصف من يافا وعنده حططنا رحالنا وطريق هذا اليوم الذي قبله عامر بالحبوب ويكثر الزيتون في بلاد نابلس إحدى أمهات مدن السامرة من كور فلسطين وتقل المياه حتى يضر الأهلون أن يستقلوا من أماكن بعيدة، وفي اليوم السابع اجتزنا بقرى الساحل أمثال جبنة سدود مجدل بربرة بئر هديهد غزة وقضينا الليل في دير البلع وفي اليوم الثامن بدأ سيرنا في رمال عَلَى نحو ثلاث ساعات من غزة وبعد أن سرنا ست ساعات دخلنا في رفح أول حدود مصر والشام وقد كانت تنتابني الهواجس تلك الليلة أحاذر أن أقع في يد عدو للحرية أو أن أجالس من يستدل بذكائه عَلَى أنني لست من تجارة الإبل في العير ولا في النفير أو لا ناقة لي في ذاك القطيع ولا جمل فما فتحت عيني قبيل الغسق إلا وأنا أنشد بيت المتنبي:

تدبير ذي حنك يفكر في غد ... وهجوم غرّ لا يخاف عواقبا

فتفاءلت خيراً بالنجاة وإن كنت لا أحب التفاؤل ولا التشاؤم ولا أبني أعمالي عَلَى الأحلام والمرائي حتى إذا قيل لي ها أنت في رفح تدوس تربة مصر قلت ما أحراها أن تدعى فرحاً لا رفحاً ليكون لكل شيءٍ من اسمه نصيب ولا غرو فليس أحلى من النجاة عَلَى من كان يتوقع الخطر أو من الوصل عَلَى ما يطال به السهاد.

ومن عجيب ما لاحظته في أراضي فلسطين أنني شهدت لحكومتنا بعض أثر من عمل مثل إنشائها بعض الجسور عَلَى الأودية في حين لم أر عملاً عمرانياً في ولايتي سورية وبيروت كأن مجاورة لواء القدس للأراضي المصرية عدت فلسطين أو القسم الأعظم منها من ارتقاء بلاد الفراعنة فصحت عزيمة حكومة القدس عَلَى أن تمد جسوراً عَلَى الأقل وتعبد الطرق بعض الشيء ولا جرم أن العلى تعدي كما قال أبو تمام، ولقد كنا كلما اقتربنا من غزة نحس بتغير المشاهد في بلاد أشبه بهوائها وزراعتها بالبلاد المصرية والناس يكادون يشبهون سكان الصعيد بألبستهم ولهجاتهم وهذا من عدوى الجوار وكثر اختلاط المتجاورين من سكان القطرين فإنك كما ترى جمهوراً كبيراً من جالية المصريين في يافا وغزة هكذا تجد الجميز والموز من أشجار البلاد الحارة شائعين في صقيع غزة.

دخلنا اليوم التاسع في رمال ولم يكن يتغير شكلها خمسة أيام متوالية إلى أن قالت الإسماعيلية ها أنا ذا. وهذه الرمال كانت تعرف قديماً بالجفار جمع جفر وهي البئر القريبة القعر الواسعة لم تطو قال ياقوت وهي ارض من مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي متصلة برمال تيه بني إسرائيل والخشبي بينه وبين الفسطاط ثلاث مراحل كما في معجم البلدان فيه خان وهو أول الجفار من ناحية مصر وآخرها من ناحية الشام قال أبو العز مظفر بن إبراهيم ابن جماعة بن علي الضرير العيلاني معتذراً عن تأخره لتلقي الوزير الصاحب صفي الدين بن شكر وكان قد تلقي إلى هذا الموضع:

قالوا إلى الخشبي سرنا عَلَى لهفٍ ... نلقى الوزير جمعاً من ذوي الرتب

ولم تسر قلت والمولى نعمته ... ما خفت من تعب ألقى ولا نصب

وإنما النار في قلبي لغيبته ... فخفت أجمع بين النار والخشب

وكل الجفار رمال سائلة بيض في غربيها منعطف نحو الشمال بحر الشام وفي شرقيها منعطف نحو الجنوب بحر القلزم وسميت الجفار لكثرة الجفار بأرضها ولا شرب لسكانها إلا منها وكان فيها لعهد ياقوت نخل كثير ورطب جيد وهو ملك لقوم ميفرقين في قرى مصر يأتونه أيام لقاحه فيلقحونه وأيام إدراكه فيجتنونه وينزلون بينه بأهاليهم في بيوت من سعف النخيل والحلفاء وفي الجادة السابلة إلى مصر عدة مواضع عامرة يسكنها قوم من السوقة للمعيشة عَلَى القوافل وهي رفح والقس وزعقا والعريش والواردة وقطية وفي كل موضع من هذه المواضع عدة دكاكاين قال المهلبي واعيان مدن الجفار العريش ورفح والواردة والنخل في جميع الجفار كثير وكذلك الكروم وشجر الرمان (أما نحن فلم نر كرماً ولا رماناً ولا دكاناً ولا خاناً) وأهلها بادية متحضرون ولجميعهم في ظواهر مدنهم أجنة وأملاك وأخصاص فيها منهم كثير ويزرعون في الرمل زرعاً ضعيفاً يؤدون فيع العشر وكذلك يؤخذ من ثمارهم، ويقطع في وقت من السنة إلى بلدهم من بحر الروم طير من السلوى يسمونه المرغ (والمرغ هو الطير بالفارسية) يصيدون فيه ما شاء الله يأكلونه طرياً ويقتنونه مملوحاً ويقطع إليهم من بلد الروم عَلَى البحر في وقت من السنة جارح كثير فيصيدون منه الشواهين والصقور والبواشق وقل ما يقدرون عَلَى البازي وليس لصقورهم وشواهينهم من الفراهة ما لبواشقهم وليس يحتاجون لكثرة أجنتهم إلى الرأس لأنه لا يقدر أحد منهم يعدو عَلَى أحد لأن الرجل منهم إذا أنكر شيئاً من حال جنانه نظر إلى الوطء في الرمل ثم قفا ذلك إلى مسيرة يوم ويومين حتى يلحق من سرقه وذكر بعضهم أنهم يعرفون أثر وطء الشاب من الشيخ والأبيض من الأسود والمرأة من الرجل والعاتق من الثيب فإن كان هذا حقاً فهو أعجب من العجائب.

قلت وبعض ما قاله هذا المؤرخ من الاستدلال بالإقدام عَلَى الأشخاص صحيح والوطء يبقى أثره في الرمل أياماً وليس من الصعب أن يتأثر المرء هنا من استباح جنته فإنه إذا علا نشزاً من هذه الرمال وهي عبارة عن تلعات ومنعرجات ومنفرجات وأحادير لا يلبث أن يشاهد السائر من مسيرة ساعات وفي اليوم العاشر اجتزنا بالعريش وهو من البحر الأبيض عَلَى نصف ساعة فالمسعوديات عَلَى الساحل وفي الحادي عشر نمنا بالمزار وفي الثاني عشر بالجنادل وفي الثالث عشر بأبي العفين وفي الرابع عشر مررنا بقطية وبتنا بعراص، وفي الخامس عشر بلغنا الإسماعيلية فالقاهرة.

هذا هو الطريق الذي كان يطرقه المصريون والشاميون منذ علاف التاريخ وكثيراً ما كان بعضهم يؤثرونه عَلَى ركوب المراكب والسفن الشراعية لما كان فيها من الأخطار أيام لم يكن البخار يسير مراكب البحار قطعناه في أربعة عشر يوماً وكان أجدادنا يقطعونه في أربعة أيام عَلَى خيل البريد ومن هذا الطريق سار عمرو بن العاص سنة 19 للهجرة لفتح مصر فنزل العريش ثم أتى الفرها وبها عَلَى رواية البلاذري قوم مستعدون للقتال فحاربهم فهزمهم وحوى عسكرهم ومضى إلى الفسطاط، والفرما أو الفرماء كان حصناً عَلَى ضفة البحر يحمل إليه مياه النيل في المراكب من تنيس ويخزن أهله ماء المطر في الجباب وكان بعض أهلها قبطاً وبعضهم من العرب وقد ورد ذكرها كثيراً في شعر أهل القرون الأولى وفي الفرما أوق الخليفة المأمون رضي الله عنه لما سار إلى مصر فبلت فيها وقد ذكر بغداد ونعيمها وقصورها فقال:

لليلك كان بالميدا ... ن قصر منه بالفرما

غريب في قرى مصر ... يعاني الهم والسدما

والميدان من أحياء دار الإسلام والسدم الهم مع الندم والحزن ذكر المقريزي أن الدرب الذي يسلك فيه إلى مصر في القرن التاسع للهجرة لم يحث إلا بعد الخمسمائة من سني الهجرة عندما انقرضت الدولة الفاطمية. وفي المسالك والممالك أن الطريق من دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلاً (كذا والميل بحسب اصطلاحهم ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي والذراع أربعة وعشرون إصبعاً والإصبع أربع شعيرات ظهر واحدة إلى ظهر الأخرى والشعيرة أربع شعيرات من ذب بغل) ثم إلى جاسم بلد أبي تمام الطائي أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى فيق أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال ومن طبرية إلى اللجون عشرون ميلاً ثم إلى القلنسوة عشرون ميلاً ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلاً والطريق من الرملة إلى أزدود (؟) اثنا عشر ميلاً ثم إلى غزة عشرون ميلاً ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى جرير ثلاثون ميلاً ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى مسجد قطاعة ثمانية عشر ميلاً ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلاً ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلاً فهذه ثلثمائة وخمسة وستون ميلاً تبلغ نحو سبعمائة كيلومتر.

وكان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق من بلبيس إلى الفرما في البلاد التي كانت تعرف ببلاد السباخ من الجوف ويسلك من الفرما إلى أم العرب وهي بلاد خراب عَلَى البحر فيما بين قطية والواردة فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية في سنة تسعين وأربعمائة أغار بغدوين صاحب الشوبك عَلَى العريش وهو يومئذ عامر بطل حينئذ من مصر إلى الشام وصار يسلك عَلَى طريق البر مع العرب مخافة الفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بيت المقدس من أيدي الفرنج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فصار يسلك هذا الدرب عَلَى الرمل إلى أن ولي ملك مصر الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل فأنشأ مدينة الصالحية في سنة أربع وأربعين وستمائة فلما ملك الظاهر بيبرس البندقداري رتب البريد في الطرقات حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام ويعود في مثلها فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرتين ويتحكم في ممالكه بالعزل والولاية وهو مقيم بالقلعة وأنفق في ذلك مالاً عظيماً حتى تم ترتيبه وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة.

ومازال أمر البريد مستمراً فيما بين القاهرة ودمشق يوجد بكل مركز من مراكزه عدة من الخيول المعدة للركوب وتعرف بخيل البريد وعندها عدة سواس وللخيل رجال يعرفون بالسواقين وأحدهم سواق يركب مع من رسم بركوبه خيل البريد ليسوق له فرسه ويخدمه مدة مسيره ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني وتارة يمنع الناس من ركوبه إلا من انتدبه السلطان لمهماته وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطاني قال صاحب الخطط وكانت طريق الشام عامرة يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد وعلف وغيره ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة أو ماشية لا تحمل زاداً ولا ماء فلما أخذ تيمورلنك الشام وسبى أهلها وحرقها في سنة ثلاث وثمانمائة خربت مراكز البريد واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد من المحن عن إقامة البريد فانخل بانقطاعه طريق الشام خللاً فاحشاً.

قالوا والبريد خيل تشترى بمال السلطان ويقال لها السواس والعلوفات وهي مقررة عَلَى عربان ذوي إقطاعات عليها خيول موظفة تحضر في هولال كل شهر إلى كل مركز أصحاب النوبة بالخيل فإذا انسلخ الشهر جاء غيرهم وهم لهذا يسمون خيل الشهارة وعلى الشهارة والٍ من السلطان يستعرض في رأس كل شهر خيل أصحاب النوبة فيه ويدوغها بالداغ السلطاني وقد أنشأ أمراء مصر وملوكها مثل كريم الدين وكيل الخاص الناصري والملك الأشرف خليل ومفخر الدين كاتب المماليك وناصر الدين الداوادار التنكزي وطاجار الداوادار وكافل الشام الطنبغا والظاهر بيبرس البندقداري وغيرهم خانات ورباطات وفنادق ومساجد وآباراً ودساكر لأبناء السبيل وكان الطريق في بعض الأدوار يتحول قليلاً من أول الكورة إلى آخرها ولكنه لم يخرج قط في كونه من مصر من الغرب إلى الشرق ثم يعرج في بلاد الشام نحو الشمال قليلاً حتى دمشق.

وكان حمام الزاجل الذي هو بمثابة تلغراف أجدادنا يسير من القاهرة إلى ببليس ومنها إلى الصالحية ومن الصالحية إلى قطية ومن قطية إلى الواردة ومن الواردة إلى غزة ومن غزة إلى القدس ومن عزة إلى نابلس ومن غزة إلى لد ومن لد إلى قاقون ومن قاقون إلى جنين ومن جنين إلى صفد ومن جنين إلى بيسان ومن بيسان إلى إربد ومن إربد إلى طفس ومن طفس إلى الصنمين ومن الصنمين إلى دمشق.

وكان الثلج ينقل عَلَى الهجين من بلاد الشام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل بالقاهرة وقد جاء زمن وهو لا يحمل إلا في البحر خاصة - كما جاء في التعريف بالمصطلح الشريف - من الثغور الشامية بيروت وصيدا ويفرض عَلَى البقاع وبعلبك إرفادهما في ذلك وكان يسيراً فكثر وقرر منه عَلَى طرابلس ممن استقر عَلَى جبة بُسري والمنيطرة من عمل لبنان اليوم. والمراكب تأتي دمياط في البحر ثم يخرج الثلج إلى الشرابخانات الشريفة ويخزن في صهريج أعد له وأصبح في القرن الثامن يحمل في البر والبحر ومدة ترتيب حمله من حزيران (يونيو) إلى آخر تشرين الثاني (نوفمبر) وعدة نقلاته في البر 71 نقلة متقاربة مدة ما بينها وقد صار يزيد عَلَى ذلك ويجهز بكل نقلة بريدي يتداركه ويجهز معه ثلاج خبير بحمله ومداراته يحمل عَلَى فرسه بريد ثان والمرصد في كل نقلة خمسة أحمال والمستقر في كل مركز له ستة هجن خمسة للحمل وواحد للهجان قال العمري ولا يصل الثلج متوافراً إلا إذا أخذ الثلج المجلد وأجيد كبسه واحترز عليه من الهواء فإنه أسرع إذابة له من الماء. وكذلك قال المناور مواضع رفع النار في الليل والدخان في النهار للإعلام بحركات العدو وقد أرصد كل منور الديادب والنظارة لرؤية ما وراءهم وإيراء ما أمامهم وهي من أقصى ثغور الإسلام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل حتى أن المتجدد بكرة بالفرات كان يعلم بها عشاء. وهذه المناور بدخانها ونيرانها أشبه بالهليوستا والإبجكتيف لعهدنا.

هكذا كان طريق مصر إلى القرن التاسع للهجرة وهذا أقصى ما بلغته مدينة القوم في أسباب النقل والراحة وينزل اليوم في هذه النفوذ أي الرمال المتراكمة كما يسميها العرب أناس من عرب مصر يرجعون في أصولهم إلى يطون وأفخاذ معروفة عندهم تعرفهم بسيماهم ضئال الأجسام صفر الوجوه عَلَى نحو وصفهم واصفوهم في القرون الوسطى وهم شاوية يقومون عَلَى تربية الشاء ولهم جمال قليلة وزرعهم في الأكثر الشعير في الشتاء والبطيخ في الصيف ولهم نخيل قليل في بعض واحاتهم وبالقرب من سبخاتهم ولا حجر في ديارهم يبنون به بيوتهم ومساكنهم حقيرة يصنعونها من الخوص فلا هم بادية يؤون إلى الخيام ولا هم حضر كالعرب النازلين منذ القديم في ريف مصر كالفيوم والشرقية وغيرهما من مديريات القطر مثلاً ولهجاتهم أقرب إلى لهجات سكان جنوب سورية منها إلى اللهجة المصرية ومن فلسطين يكتالون وفي فلسطين يقضون شطراً من السنة في رعي أغنامهم وماعزهم ولم تعمل الحكومة المصرية شيئاً لارتقائهم سوى أنها نشرت أعلام الأمن عَلَى ربوعها. ولذلك ترى تجار الإبل يأتون بها من بلاد مجد والجزيرة والشام ولا يزالوا يحاذرون اعتداء السراق عليها حتى يبلغوا رفح وعندها يوقنون أنه لا يضيع لهم في تلك البادية عقال بعير ركان العرب هذه النفوذ من قبل مثلاً سائراً في الاعتداء عَلَى السابلة وهم اليوم معفون من الضرائب والخدمة العسكرية وغريب كيف لا ينالهم قسط من مدنية مصر فحرموا منها كما حرموا من الاستمتاع بماء النيل العذب وتربه واديه الممرعة.

هذه النفوذ هي الحد الطبيعي بين مصر والشام بل الحد الناعي الذي اصطلحت عليه مؤخراً الحكومتان المصرية والعثمانية في رفح والعقبة بل الحد الفاصل بين قارتي آسيا وأفريقية لم يحل كل الزمان دون اختلاط أهل هذين القطرين الشقيقين ومن قرأ تواريخ الجبربي وابن إياس والسخاوي وابن حجر والغزي وغيرهم يدرك أن هجرة السوري إلى مصر ترد إلى مئات من السنين ومن بحثوا في أنساب من تولوا أعمال الحكومة المصرية وشاركوا مصر في سعودها ونحوسها من العلماء والتجار والصناع يجد فيهم كثيراً من الشاميين وكذلك الحال في المصريين ببلاد الشام فلا عجب إذا كان حظ مصر والشام واحداً في السراء والضراء وعلائقهما الاقتصادية موفورة مستحكمة وليس أعلق بالقلوب من الصلات المالية. وإنا لنرى العوارض السماوية أو الأرضية كلما اجتاحت الشام فمصر والشام هما قطران بالاسم ولكن بالفعل قطر واحد جرى الاصطلاح عَلَى تسمية كل منهما باسم وكل منهما متمم لصاحبه حتى لقد سئل أحد عمال الدولة العلية في القرن الماضي عن رأيه في القطرين فقال مصر مزرعة حسنة والشام مصيف جميل.

وإذ قد عرفنا أن أجدادنا قد أحسنوا الانتفاع من مجاورة القطرين العزيزين ساع لنا أن نطالب في هذا العهد بزيادة أواخي الإخاء بينهما من طريق البر عَلَى نحو ما هي عليه من طريق البحر فيسعى العقلاء من الماليين إلى نيل امتياز يربط عاصمة الشام بعاصمة مصر بخط حديدي عريض حتى يأتي الراكب في أربعة عشرة ساعة بدلاً من أربعة عشر يوماً وإذا أحب القائمون بالأمر الاكتفاء بوصل السكة الحديدة مع أقرب الطريق إلى مصر فما عليهم إلا أن يكتفوا الآن بإيصاله إلى القدس وهذه ستتصل هذا العام بخط حيفا مبدأ السكة الحديدة من محطة العفولة والمسافة بينهما مئة عن لا تقل كيلومتر تمد عَلَى نفقة أداوة الخط الحجازي ومعلوم أن حيفا مرتبطة بدرعا ودمشق وعندها يسهل عَلَى ابن مصر الاصطياف في جبال الشام وتةبعث هذه يحبونها وثمارها وترسل مصر إلى دمشق بشيءٍ من مدنيتها وعلومها وانتظامها ويخلص كل من يريد أن يخلص إلى مصر من هذه الرمال الموحشة المرعشة والمفازة المدهشة المعطشة التي تعوذ منها كل من اجتازها وقاسى الأمرين من مائها البشع المر الهوع المتروح ولولا أنني تسليت عن المأكل والمشرب في الأيام الخمسة التي قضيتها في اجتياز هذه المفوز بما سمعته في أحاديث رفاقي العرب في الإبل حتى صرت كأني بعض رعاتها لطال علي أمرها ولكني حملت النفس عَلَى أن تتعلم الصبر من تزلك الجمال وطبقت فيها بالعمل ما قرأته بالنظر أيام الطلب من مصطلحات العرب في إبلهم وحدائهم فصار مذهبي ولا فخر جمالياً بعد أن كان جمالياً وعملي بالأباعر عملياً وكان من قبل نظرياً.

وكأن رحزلتي في الشهر الماضي إلى الحجاز وجنوبي الشام ونزولي عَلَى أهل البادية من أهلب المدر والوبر كانت مقدمة لما امتحنت به هذا الشهر من مواكلة الأعراب في صفحة واحدة والتخلي عن الملعقة والشوكة والسكين والفوطة والكأس والأكل من أطعمتهم وهي الثمن أرز العراق والبرغل جيش الحنطة والتمر والخبز المعمول بالملة أو عَلَى الصاج يسجر ببعر الأباعر والإدام في هذه الأيام يخالطه رمل وهذا يدخل في كل مأكول ومشروب تسفوه الرياح طوعاً أو كرهاً ولقد صدق الواصفون منذ القديم لهذه الجفار بأن الخبز إذا أكل يوجد الرمل في مضغه فلا يكاد يبالغ فيه.

وإني أحمد الله إليكم عَلَى أني قضيت أيام هذه الرحلة ولياليها برمتها لم أطالع فيها جريدة ولا مجلة ولا كتاباً ولا وقعت عيني عَلَى ورقة ولا مسكت قلماً ولا كتبت مقالة ولا محاضرة ولا نكتة ولا قيدت شاردة ولم أسمع غير حداءِ الإبل وغناءِ الأعراب ولم يصل فكري إلى أبعد من عمل القهوة البدوية أو أكل التمر ولم يبلغ أذني غير أحاديث الإبل فأصبحت ولله المنة استعذب تردادها استعذابي لترديد أخبار المدنية. ومن نعم المولى علي أني رأيت صورة مصغرة من عيش أهل جزيرة العرب تمشي بين بلاد الشام ومصر ودرست نموذجاً صالحاً من أخلاق العرب بالاختلاط بتجار الجمال ورعاتها ممن كانوا يختلفون إلينا ونختلف إليهم كل مساء وصباح فلم اسمع كلمة هجر وبذاءِ وتجديف قط وما تبيت في أخلاقهم إلا الجد الذي ليس وراءه جد والعزيمة التي تخور أمامها العزائم والبحث عَلَى الدوام فيما هم بسبيله من التجارة والعناية برعية إبلهم والقيام عَلَى صحتها فكان وجود السبط والإرطة والقطف والحمط من العريش إلى قطية فالإسماعيلية وغير ذلك من الشواك والأعشاب كالشيح والرثم التي تستطيبها أنعامهم أهم إليهم من كل حديث واشهى لقلوبهم من كل نغمة وأفعل في نفوسهم من كل نعمة من نعم الجمال والكمال.

قضيت ويا لسعادتي أسبوعين كاملين في عالم الأباعر والبعران والإبل والحوار والبطين والبطنان والكثيب والكثبان وشين وزين وترد وتصدر وندلج ونسري وننشد ونمرح ونضحي ونعشي وغير ذلك من فصح العربية الباقية عَلَى أسلات ألسن أولئك العرب الأميين ولو أردت أن أستوفي ما سمعته في هذا القبيل لاستغرق مجلداً برأسه وما أحلى ما سمعته من أحدهم يقول لصاحبه يا فلان خذ من فلان كذا وأنت الفالج أي الرابح من الفلج وهو الظفر وكيف لا أوخذ بما وعيت ورأيت وأنا طول هذه الفترة لم أسمع نميمة ولا غيبة ولا شهدت كذباً ولا منكراًَ وكان أولئك الأعراب بأجمهم مواظبين عَلَى صلواتهم بدون تكلف يتيممون يوم يقل ماؤهم ولا يسرفون فيه إذا وجد. أخلاق طاهرة متينة ما كنت أظنها باقية في البادية وأرجو أن لا تفقد بتاتاً من أهل الحضر ولو تهيأ لسكان اليمن ونجد خاصةً شيءٌ من المدنية الصحيحة لفاقوا ولا جرم الإنكليز والسكسونيين بأخلاقهم وأناتهم ورويتهم وإني لما أخبرت القوم أيقنت بفساد القضية التي وضعها أحد الباحثين من أصول الشعوب من أن الطيش والرعونة والفسق تغلب عَلَى سكان البلاد الحارة ومع أن بلاد هؤلاء الأعراب من الأقاليم الحارة جعلت منهم التربية الدينية المعتدلة أهل اعتدال وكمال وأهل مال وأعمال.

هذا وقد أطلت حواركم حتى خفت عليكم التبرم بحديثي وإني حامد شاكر لكل ما تم عليَّ لإيقاني بأن الحوادث أكبر معلم ولولا الحادثة الأخيرة في دمشق لما تيسر أن ابلغ مصر من شرقها وأن أستمتع بلقياكم الآن وأرجو أن يدوم لي هذا الاستمتاع ولكن عَلَى شرط أن يقيض الله للبلاد العثمانية من يغار عَلَى مصلحتها وينقذها من سقطتها وأسأل قاهرة الجبابرة والسلاطين أن يمن علينا بنعمة الراحة أجمعين.