مجلة المقتبس/العدد 79/تاريخ الحضارة

مجلة المقتبس/العدد 79/تاريخ الحضارة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1912


مترجم عن الإفرنسية

علم الكلام - بقي علم اللاهوت خلال القرون الوسطى العلم الرئيسي (ولمدرسة اللاهوت في جميع الكليات التقدم عَلَى كل المدارس) وقد توفر عَلَى الفلسفة خاصة أرباب العقول العاملة وكان لمشاهير علماء القرون الوسطى أمثال أبيلاروسان توما ودونس سكوت وألبر الكبير القدح المعلى في الفلسفة وليس علم المدرسة أو علم الكلام سوى فلسفة مطبقة عَلَى اللاهوت فكان المتكلمون يتقبلون تعاليم الكنيسة كلها. قال كيتموند أسقف فرنسا لا يجب أن يفهم المرء أولاً ليعتقد بعد بل يجب أن يعتد أولاً ليفهم بعد ذلك. وقال سان توما بعد حين من الدهر: إن حقيقة العقل ليست عَلَى تناقض مع حقيقة الإيمان المسيحي. ثم أن علماء الكلام درسوا فلسفة أرسطو (عرفوها من ترجمات رديئة باللغة اللاتينية نقلت من ترجمات عربية) وقد أعجبوا بمنطقه فكانوا يذهبون إلى أنهم باستعمالهم طرق البرهان يحلون المسائل التي لم تحلها الكنيسة. وهذه المسائل: قد تكون دقيقة مثل قول بطرس لومبارد: إذا كان الله يقدر أن يعرف من الأشياء أكثر مما يعلم. وقال دونس سكوت: إذا كانت الصعوبة في أن يكون مولوداً هي خاصية في تركيبة الشخص الأول في اللاهوت. وقال سان توما: إذا كان جسد المسيح عاد إلى الحياة وعليه جروح وفيما إذا كانت الحمامة الي ظهر فيها الروح القدس هي حيوان حقيقي.

وكان علماء الكلام من أكبر العاملين فقد مات دونس سكوت (الدكتور المحقق) في الحادية والثلاثين وقد ألف 12 مجلداً من قطع النصف ولخص سان توما (الدكتور العام) في كتابه السوم جميع أفكار العصور الوسطى وعلى كتابه المختصر المعول في اللاهوت بالمدارس الإكليركية الكاثوليكية. واخترع ريموند لول في القرن الرابع عشر الصناعة العظمى وهي أداة للبرهان يتأتى بها حل جميع المسائل بدون استخدام الذهن. وإذا كان المتكلمون لا يستخدمون إلا البرهان الاستقرائي دون ملاحظة الحوادث لم يزيدوا شيئاً عَلَى العلم البشري وظلت فلسفتهم كما يقولون هم أنفسهم خادمة لعلم اللاهوت.

خزائن الكتب والأدب العلمي - كان في الديار العظمى أبداً بعض القسوس لا عمل لهم إلا استنساخ الكتب وتزيينها فينقلون المخطوطات التي استعارتها أديارهم من غيرها. وعلى هذه الصورة أسست خزائن الكتب فلم تتجاوز بضع مئات من المجلدات (فمكان في فيكان 148 وفي سان يفرول 138) لأن الكتب كانت نادرة والرق عزيزاً وجميع الكتب كانت باللاتينية ومعظمها كان كتب عبادة وتنسك مثل الكتاب المقدس وآباء الكنيسة وكتب الطقوس وحياة القديسين وكان القسوس عَلَى صلابتهم لا يسمحون لغير هذا النوع من الكتب ويقولون أن كتب شيشرول وكتب فرجيل لا تنفع في سلامة النفس بيد أنه كان في بعض الأديار التي يغلب عليها حب الأدب بالأكثر شيء من المؤلفات اللاتينية الأخرى مثل مصنفات شيشرون وفرجيل وهوراس وبلين لجون والتعزية لبويس.

كتب رجال الإكليروس كالأساقفة ورؤساء الأديار والقسس في القرون الوسطى كثير من المؤلفات لأنفسهم فكانوا يؤلفون في الشعر والأدب ورسائل في اللاهوت وتواريخ يسرد فيها جميع أحداث العالم منذ البدء إلى زمن المؤلف ووقائع مؤلفة من أخبار جافة جداً تكتب سنة فسنة تذكر فيها أخبار المجاعات والأوبئة والمذنبات والحروب ووفاة الملوك أو رؤساء الأديار. كل ذلك باللغة اللاتينية وإنشاء مطول مزهر مصنع تكثر فيه الاستشهادات أشبه بلغة تلميذ يتعلم اللاتينية. وكان رجال القرون الوسطى جبناء الفكر يعتقدون أنفسهم أحط جداً ممن سلفوهم ولا يطمعون إلا في أن يقلدوهم وإنك لتجد في آدابهم بعض الأفكار صرح بها بقوة وبعض صحف حية في تواريخهم ولكن أدبياتهم أدبيات طلبة فهم طلبة اجتهدوا وأعوزهم الإبداع.

أدب العامي - أم عامة المدن والقصور ممن لا يعرفون اللاتينية فقد اقتضت لهم كتب باللغة العامية لغة الرومان (المشتقة من اللاتينية) وهكذا نشأ نحو أواخر الحادي عشر الميلادي الجديد فابتدأ من الشعر كما جرت العادة في أنواع الآداب فسموا هؤلاء الشعراء المتجولين وهم الذين يتجولون في شمالي فرنسا ويؤلفون أشعارهم بالفرنسوية ويسمون شعراء الجنوب الطوافين وهم يؤلفون بلغة أقاليم البروفانس (البروفنسال) وكان بعضهم فرساناً وصناعة الآخر الشعر ويسمونهم المتشعبدين كانوا يذهبون إلى الأسواق الكبرى حيث يجتمع أغنياء التجار ويقصدون قصور أعاظم السادة في أيام الأعياد ويغنون ومعهم ربابة صغيرة وهذه الشعار ذات الثمانية أو العشرة مقاطع سميت بالأغاني لأنه كان يتغنى بها وسميت (بلغة البروفنسال الرومانية) لأنها كانت باللغة الرومانية. وكان شعراء الجنوب أكثر خفة ولغواً فينظمون قطعاً صغيرة من الهجاء أو أغاني العشق أو أغاني الليل أو غاني السحر. وشعراء الشمال أميل إلى الجد يترنمون بالحروب والغارات وحملات شارلمان ورفاقه وارتور ملك الغال وبحروب الإسكندر فكانت أغانيهم أغاني العمل وقد نظموا من هذا القبيل مدة ثلاثة قرون في الولايات الفرنساوية في الشمال ووجد في أيامنا منها زهاء ألف قطعة في مخطوطات منسية من القرن الرابع عشر ومن يعلم كم فقد من نظائرها. ومن المتفق عليه أن أجملها ما كان قديماً مثل أغاني رولاند وراول دس كامبري وكارن لوتهرين واشعار كريتن دي تروا. ومما يسقم قصائد القرون الوسطى سواء كانت بلغة الرومان أو اللغة اللاتينية الهوس في التقليد والشرح وإذ لم يكن لشعراء لالقرن الثاني عشر أمثلة يحتذونها ذهبوا مع الطبع ونطقوا بما شعروا به ووصفوا ما رأوا. ولم يأت الشعراء في القرون التالي غير التوسع في القصائد القديمة وأصلحوها ثم حدثت القصائد ذات العشرين والثلاثين ألف بيت التي لا يحكم عَلَى غير المتأدبين بتلاوتها.

منشأ الهندسة الرومانية - لما أخذ المسيحيون في القرن الرابع يحتفلون عَلَى ملأ الناس بعبادتهم كانوا يجتمعون في كنائس كبرى وهي قاعات عظيمة مسطحة السقف تكون محكمة مدنية وسوقاً للتجار في آن واحد فكان المؤمنون يقعدون في ساحة التجار أو الصحن وهو مقسوم إلى رواقات تقسمها صفوف من السواري ومحل المحكمة عَلَى شكل نصف دائرة وأعلى الصحن كان بمثابة محراب يجلس فيه الأسقف أو القس. وقد احتفظت الكنائس المسيحية زمناً باسم البازيليك (البيعة الكبرى) وصورتها أن تتألف من صحن كبير عَلَى جانبها صحنان صغيران ومحراب يسمى عقداً بسبب العقد الذي يغطيه ثم تصوروا أن يبنوا في مقدم الكنيسة برجاً أو برجين يجعلون فيه الأجراس وأن يستعيضوا عن السواري الخفيفة بدعائم مصمتة وأن يجعلوا بدلاً من الخشب والسقف المسطح المعرض للحريق بناء من حجر عَلَى شكل عقد وبذلك نشأت هندس جديدة سميت الرومانية لأنها نشأت في بلاد الرومان. فقد بدأت في إيطاليا الشمالية وجنوبي فرنسا في القرن الحادي عشر ولكنها انتشرت في جميع أوربا الغربية والكنائس الكاتدرائية الكبرى في ورمس وسبير في ألمانيا هي كنائس رومانية ولا يزال في كثير من القرى في وادي الرون أو في أوفرنيا ونورمانديا كنائس قديمة عَلَى الشكل الروماني إذ لم تمكنها حالتها المالية من إبدال ذاك القديم بطرز من البناء الجديد.

الهندسة الرومانية - لما كانت الكنائس الرومانية قد بنيت في بلاد مختلفة وعصور متطاولة عَلَى يد مهندسين لم يتبعوا أصولاً واحدة في الهندسة فقد بعد الشبه بينها ولذلك لا ترى لأوفرنيا هندسة خاصة بها ومثل ذلك لنورمانديا ولألمانيا. ولكنها كلها ترجع إلى مبدأ عام وهو أن الجزء الأكثر زينة أي الواجهة متجهة نحو الغرب وقبة الجرس (وأحياناً تكون قبتان) تقوم فوق الواجهة وتنتهي بذروة محدودة وتشرف عَلَى الكنيسة بأسرها والرتاج أو الباب الأعظم يكون في أسفل الكنيسة ومنه يدخل المصلون وهو نجايا منقوشة وأحياناً لا يبغ الداخل الرتاج قبل أن يجتاز دهليزاً وهو ذو سوار في مقدم البناء والرتاج يؤدي إلى صحن الكنيسة الأعظم في الوسط وعلى الجانبين عمد متينة تضمها أروقة تمل الحوائط الداخلة التي تجتمع في أعلى البناء فيتألف منها عقد ومن كل جهة من الصحن الأكبر بين صف الأعمدة والحائط الخارجي من الكنيسة صحنان صغيران ويسميان الجانبان الواطئان فالصحن الكبير والجانبيان الواطئان بفضل بينها رواق عريض عالٍ ينتهي في كل طرف من أطرافه برتاج متطرف يشبه رتاج الواجهة (وأحياناً تعلوه قبة جرس) ثم يكون الخورس عَلَى شكل مدور عَلَى خط مستقيم مع الصحن الأعظم ولكنه أعلى منه ببضع درجات والصحنان الواطئان يمتدان عَلَى جانبيه وكثيراً ما يحيطان به من الوراء وكل هذا الشطر من البناء الذي يسمونه الرأس مغطى بقبة.

وتحت الخورس غرف معقودة وهي الناووس فيها ذخائر القديسين وتضيء الكنيسة بنوافذ تطل عَلَى الصحنين الواطئين أو الصحن الأعلى وقد أقيم في الخارج لتدعم الحوائط الخارجية لتحمل ثقل العقود الباهظ دعائم قوية جعلوها سنداً من جانبي الكنيسة بين النوافذ وأرتجة الصحنين الواطئين وقباب الجرس كلها وأقبيتها ونوافذها عَلَى صورة العقود أي عَلَى شكل نصف دائرة مثل البنية الرومانية القديمة وقد جعل شكل الكنيسة عَلَى صورة الصليب ورجله الذي هو عبارة عن ثلاثة أرباع مجموع رقعة المكان مؤلف من الصحن وما عَلَى جانبيه من الفنائين الواطئين وفيه يجتمع الناس والرواق العريض العالي يمثل ذراع الصليب والرأس المدور هو القلب وهو المحل المقدس من الكنيسة يجلس فيه رجال الدين وتقام فيه الحفلات الدينية.

هندسة رسم البيكارين - بدأ المهندسون الذين بنوا الكنائس نحو القرن الثاني عشر يستعيضون عن العقود المدورة بعقود عَلَى رسم البيكارين. وقد احدث هذا الاختراع الذي تيسر به إنشاء عقود أعلى وأخف انقلاباً في هندسة الأبنية. فظل الرسم العام في الكنيسة واحداً: صليباً رجله الصحن ورأسه محرابه (خورس) وبلكن بدلت جميع تفاصيل البناء إذ بنيت العقود كلها عَلَى رسم البيكارين لا عَلَى صورة قوس فارتفع الصحن الوسط إلى علو شاهق وارتفع الصحنان الواطئان أيضاً وأصبحا فنائين حقيقيين. واستغني عن العمد المصمتة التي كانت تمسك العقود بجملة من العمد الصغيرة الخفيفة وجعل فوق الإسناد التي تمسك فوق الحوائط الخارجة زوافر (نصف قناطر) عظمى مارة مثل جسر هوائي فوق الصحن تدعم حائط الصحن الأكبر الأوسط من جهة وإذ كانت القناطر الضيقة موطدة البنيان عَلَى هذه الصورة ساغ أن تكون فروج البناء أكثر علواً وسعة فانفرج الحائط الذي كان في الكنيسة الرومانية يشغل أكثر من نصف الجانبين وجعلت مكانه نوافذ. فغدت النوافذ القسم الرئيسي من الكنيسة وهي عَلَى ضروب منوعة منها نوافذ عَلَى شكل المبضع تستعمل لقباب الأجراس خاصة وهي فروج عظيمة تقسمها عميدات طويلة رقيقة إلى قسمين وتشبه فرجة تتخلل الكنيسة من أعلاها إلى أسفلها والنافذة من الجوانب الخارجة مزينة منقوشة من داخلها وخارجها بتخاريم من الحجر زينت بالزجاج وفوق الأرتجة نافذة عظمى مدورة يسمونها الوردة وهي أيضاً تتخللها تخاريم عَلَى شكل الورد وليس للسواري تيجان بل تنتهي في ذروتها بباقة من الورق معمولة من حجر.

تغشى الكنيسة كلها من داخلها وخارجها نقوش من الحجر فمنها ما هو عَلَى الرتاج والنوافذ فوق الإسناد وفي طرف الزوافر وفي جميع طبقات قبة الجرس ومقدم البناء. ولقد مهر النقاشون فغدوا ينوعون تزييناتهم فكانوا يرسمون أوراق الحجر عَلَى مثال نبات البلاد مثل القراص والعوسج والحسك والورد وعليها مسحة من الظرف وتماثيل القديسين التي لا تزيد الأرتجة والكوى والمشاهد المصورة فوق الرتاج مشهورة بما فيها من الحياة والحقيقة وتمثل الميازيب حيوانات خيالية وشياطين غريبة الصور أو بشعتها معلقة في الفضاء وكل ذلك اختراع غريب مستفيض. وصور القبور ولاسيما في القرن الخامس عشر كثيراً ما تكون من بدائع النقش وقد بدأت هذه الطريقة في البناء نحو القرن الثاني عشر في أرباض باريز من أملاك ملك فرنسا (وربما كان ذلك في كنيستي سان ديني ونويون) ومن هنا انتشرت في أنحاء فرنسا كافة ثم في سائر بلاد أوربا وكانت هذه الطريقة هي المعول عليها منذ القرن الثالث عشر إلى أواخر القرن الخامس عشر في كل من فرنسا وألمانيا وإنكلترا. وأخذ المهندسون الإيطاليون في القرن السادس يبنون عَلَى مقال القدماء فنازعوا بذلك هندسة القرون الوسطى نزاعاً شديداً إذ كانوا اتخذوه بمثابة اختراع للبرابرة الذين داهموا إيطاليا وهم الغوت فقد سموه الغوتي وبقي هذا التعبير لتحقير هذا الطراز من البناء يطلق عليه. وليس من ينكر اليوم أن الهندسة الغوتية هندسة متانة وإبداع فأجمل كنائس القرون الوسطى مثل كنيسة نوتردام دي باري وكاتدرائيات ريمس ولاون وأمين وبوفي وكولون وستراسبورغ وبال وفريبورغ كلها كنائس غوتية.

الطراز الغوتي المدني - استعملت الهندسة الغوتية بادئ ذي بدء للكنائس ثم استعملت في لأبنية الأخرى. ففي القرن الرابع عشر والخامس عشر خصوصاً نهض بعض السادة وأغنياء المدن فبنوا لنفسهم قصوراً وفنادق وبنت المدن مجالس بلدية ولا يزال كثير من هذه الأبنية باقياً إلى اليوم أثراً باهراً من آثار الهندسة ففي إقليم الفلاندر مجالس البلديات في بروج وإيبر وأدونارد وفي فرنسا قصر العدلية في روان ونزل جاك كور في بورج. وأهم ما في هذه الأبنية المدنية مقدم البناء فهي في المجالس البلدية تشبه مقدم بناء الكنيسة والمرقب يوم مقام قبة الجرس وواجهة الفنادق خاصة تطل في العادة عَلَى عَلَى فناء داخلي ويفصل بين النوافذ صليب من الحجر (ومنه اشتق اسم المشبك) وهي مزينة بأبراج صغيرة من الورق وقد فتحت في السقوف طيقان بديعة والأجنحة والأبراج عَلَى شكل حقة الفلفل وهي في جميع الزوايا بارزة عن الواجهة والزوايا كلها مزدانة بتماثيل صغيرة وداخل الحجر مزين بغصون أو صور منقوشة بألوان جميلة. وربما لم تعمل أبنية كهذه في البهجة واللطف.

الطرز الغوتي المتلألئ - كلما تقدمنا نحو أواخر القرون الوسطى رأينا الكنائس مغشاة برسوم ونقوس منوعة بديعة وأكثرها في الاستعمال ورق الملفوف المعوج اعوجاجاً غريباً فالكنيسة كانت وإحالة هذه تشبه وشياً من الحجر وهذا ما يسمونه الغوتي المشعشع شاع في القرن الخامس عشر خصوصاً وأهم ما صنع منه في ذاك العصر كنيسة وستمنستر في إنكلترا وبرج سان جاك في فرنسا وسان أوان في روان. واعتاد القوم أن يزهدوا في الطرز الغوتي المتلألئ وأن يعدوه إفساداً للطرز الغوتي الخالص. لا جرم أن أجمل الكنائس بناء هي من العهد الأول لاختراع الطرز الغوتي ولكن معظم الدور الجميلة هي من بناء القرن الخامس عشر.

صفة البناء الغوتي - لم يتفق الناظرون عَلَى التأثير الذي ينشأ من الكنائس الغوتية فإن معظم الزوار تملك عليهم مشاعرهم بما يروه من جلال تلك العقود العالية والسواري الصغيرة كالغابة بكثافتها وهي في الجو محلقة وبمنظر هذه القباب للأجراس المحددة والأوراق المعوجة والغيلان المتخيلة والأنوار التي ترسل من خلال الزجاج الملون وقفص الحجر والزجاج الذي يظهر أنه لا يقوم إلا بمعجزة كل ذلك مما يحدث اثر صناعة قابلة العطب ومخالفة للطبيعة واجتهاد قوي لبلوغ السماوات العلي. ومن هنا نشأ هذا الرأي الشائع وهو أن الهندسة الغوتية هي نتيجة سامية لعصر متألم تعذبه الحاجة إلى اللانهاية. ويقول بعض أهل هذه الصناعة أن هذه الهندسية عَلَى العكس تمتاز بنظامها المعقول وترتيبها المدقق في أطرافه وأعطافه والتأثير العام الذي يحدثه تأثير حياة قوية راقية فيها البهجة والأنس.

التوسع في الحريات السياسية وارتقاء الطبقات النازلة

تحرير المدن

صكوك التحرير - معظم مدن فرنسا قرى قديمة يملكها أحد السادة عَلَى ما استبان من أسمائها فأن (فيل) (المدينة) أو في معناها المحلة حتى أن المدن التي يرتقى عهد تأسيسها إلى الرومان قد سقطت في أيدي أساقفتها (مثل أمين ولاون وبوفي) أو في يد الملك (مثل أورليان وباريز) أو في أيدي بعض الأمراء (مثل أنجر التي كانت للكونت دانجو وبوردو للدوق أكيتين) فكان السيد أو وكيله يحكم كما يحكم السيد عَلَى سكانه فيكرههم عَلَى أداء المال ويقضي بينهم ويحكم عليهم وكثيراً ما يأخذ منهم بضائعهم أو يوفقهم بدون سبب لأنه كان القاضي فيهم وحده. وكانت المدن في القرن العاشر حقيرة للغاية لا تمتاز عن القرى إلا أنها محاطة بسور.

غدا السكان في القرن الثاني عشر أكثر غنى فأخذوا يرغبون في النظام المرتب واخذ بعضهم بشقه عصا الطاعة أو بأدائه مبالغ باهظة يتوصلون إلى أن يناولوا من سيدهم وعوداً يسجلونها في صك فكان السيد يقول إنني أعلم الجميع إنني أمنح أهل مديني العادات الآتية وذلك بأن يدفعوا إلي من الآن فصاعداً المبلغ الفلاني كل سنة في وقت كذا وأتعهدهم بأن لا أتقاضاهم شيئاً غيره. وجرت العادة في هذا الصك أن يشفع بقائم الغرامات مثل قولهم من يضرب غيره بجمع كفه يؤدي إلى 3 سولات غرامة ومن يلبطه برجله يدفع خمسة وإذا سال دمه سبعة ومن يستل مدية أو حساماً بدون أن يضرب بها يؤدي 60 سولاً وإذا ضرب عشر ليرات ومن يبصق عَلَى غيره يسمى أجذم ويدفع لي 7 سولات الخ ويشترط أحياناً أن لا يعد الدم الذي يجري من الأنف دماً مسفوحاً وأن الأولاد في سن الثانية عشر ونازلاً إذا تضاربوا لا يغرمون ومن شأن الصك أو العهد أن يحدد كل التحديد مبلغ الغرامة أي ما يحق للسيد أن يتقاضاه عن كل خطأ يرتكب. وإليك الصورة التي عرف بها أحد رؤساء الأديار في القرن الثاني عشر واسمه كيبردي نوجان هذا العقد الذي عقد بين المدينة وسيدها: إن لفظة مديرية من الألفاظ الجديدة الممقوتة ومعناها أن العبيد يدفعون مرة في السنة فقط إلى سيدهم الدين المعتاد لقاء عبوديتهم له وإذا ارتكبوا بعض الذنوب لا يؤدون سوى غرامة معينة من قبل أما سائر السخرات والتكاليف التي تتقاضى في العادة من العبيد فإنهم يعفون منها بتاتاً. وهذه العادة في تعيين الواجبات نحو سيدهم تسمى عادات وحرية أو تحريراً. فقد عنيت جميع المدن أن تنال مثلها فبدأت الحركة في أواخر القرن الحادي عشر في مدن الجنوب وفي الشق الآخر من فرنسا في إقليمي فلاندر وبيكارديا حيث كان التجار الذين يغتنون من التجارة ومنها امتدت إلى أوربا بأسرها بحيث أنه لم ينقض القرن الرابع عشر حتى لم تبق بلاد لم تحصل عَلَى حريتها.

المديريات - كان في المدن عدة ضروب من السكان وأرباب الصناعات والعملة المرتبين بحسب حروفهم ومهنهم وتجار وبيوت لها شيء من الغنى تعيش به بدون أن تعمل ويدعى مجموعهم البورجوا أي سكان مدينة حصينة (بروج) وهم محافظون عَلَى الاعتصام بطاعة سادتهم ولكن بحسب الشروط المذكورة في عهداتهم وهذه الشروط تختلف اختلافاً كثيراً. فلم يكن لهؤلاء السكان في معظم المدن من الحقوق إلا أن يعينوا أناساً منهم يسمونهم أهل الحشمة وهؤلاء هم نصحاء وكيل السيد ويعينونه عَلَى جباية الضرائب. أما في المدن التي نالت حظاً أوفر (مثل بوفي وليل وديجون وناربون وتولوز) فقد رخص لسكانها أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وهناك كانت المديريات الحقيقية. جاء في صك العهد الذي نالته مدينة بوفي أن كل واحد يعاون الآخر ولا يسمح بأن يؤخذ منه شيء. وكان يكفي إذا اعتدى غريب عَلَى أحد سكان ليل أن ينادي للبرجوازية أي بالسكان المدينة فيهرع إلى نجدته من كان حاضر منهم ومن يختلف يغرم وللمديرية ما للفارس من حقوق فلها أن تحارب أعدائها وتخرب بيوتهم. ولها طابع تختم به عهودها علامة عَلَى حقها كما أن لها خزانة تضع فيه مالها ومرقباً فيه جرس تدعو به سكان المدينة إلى حمل السلاح (والمرقب هو كبرج الجرس عند سكان المدن) ومجلساً بلدياً أي داراً يجتمع فيه رجال المدينة يعني مجلس الرجال الذين يحكمون المدينة.

رجال المدينة - يتألف رجال المدينة من أعضاء المديرية فيكونون تارة أربعة وأخرى اثني عشر وآونة مئة وأحياناً متساويين في العدد ويرأسهم رئيس في الأحايين فيعون في الجنوب القناصل وفي الشمال شيوخ البلد أو مشايخ الحرف أو الحكام يختارون من أشراف المدينة وكثيراً ما ينتخب بعضهم بعضاً أو يتوارثون الحكم أباً عن جد ولم يفكر أحد قط في القرون الوسطى أن يطالب بالمساواة سواء كان ابن المدن أو من الأشراف. ولهؤلاء الأشراف عَلَى السكان سلطة مطلقة فهم الذين يقضون في الدعاوي ويحكمون عَلَى المجرمين ويجبون الخراج ويحتفظون بمفاتيح الأبواب فيمدون السلاسل في الشوارع وقت الخطر ويقرعون جرس المرقب وعلى صوته يهب السكان بأجمعهم مدججين بأسلحتهم ويقفون طوعاً وإرادة رؤسائهم وعليهم أن يحضروا أيضاً إلى المجلس العظم إلى الساحة وإلى المقبرة أو إلى الكنيسة للمفاوضة في المسائل العامة لاسيما قرارات رجال المدينة.

العدل المدني - ليس لابن المدينة أن يأخذ حقه بسلاحه كما هو شأن الفارس بل عليه أن يعمد إلى رجال المدينة أو نائب السيد ليعيدوا إليه حقه المهضوم وذلك في محكمة أبناء المدينة ويطبقوا في هذه المحكمة مقاصل العادة القديمة فالمهان أو قريب المصاب يقف موقف المدعي فيبين الجرم ويركع عَلَى الأرض ويضع يده عَلَى ذخائر القديسين ويقسم بأن ذلك الرجل ارتكب الجرم ويحلف المدعي عليه بالعكس كلمةً كلمة وقد تقضي المحكمة أحياناً عليهما بأن يتبارزا بالعصي ومن غلب منهما يحكم عليه. وإذا أتي المدعي بشهود يجب عَلَى كل منهم أن يقسم اليمين مردداً الكلمات ذاتها من أن المدعى عليه مجرم وإذا حلف شاهدان يحكم عَلَى المدعى عليه ومن الصعب إيجاد شاهدين كل حين إذ يطلب من الشاهد أن يكون قد رأى المجرم يرتكب بعيني رأسه.

يجري كل ذلك علناً في العراء ولا يسجل شيء مما يقرر فبعد البراز أو الأيمانات تصدر المحكمة حكمها قرأ أفتوه علناً وهو: بحسب الحقيقة التي وعاها مشايخ البلد نقول لكم أن هذا وجد مجرماً ذا قلنا لكم تعاقبون بما تستحقون. ويحترم رجال البلد في القرون الوسطى الصور بحيث أن أقل هفوة تكفي في خسارة الدعوى. فقد جاءت في عادة ليل أن كل من ينزع يده من القديسين (أي من ذخائرهم) قبل أن يقسم اليمين وينطق بالكلمات التي يقضي بها القانون والعادة يخسر دعواه. وكل كلام يربط من يلفظ به لأن القضاة لا يعتبرون إلا الكلام ولا يحكمون إلا عَلَى النيات وتقدر العقوبات عَلَى صورة مبرمة لا نقض فيها وليس في مكنة القضاة أن يغيروا فيها. فالقاتل يقطع رأسه وهو الذي قتل متعمداً فيجر عَلَى طبق إلى المشنقة ويصلب والذي يحرق يحرق والمرأة التي يحكم عليها بالإعدام تدفن حية وهذه القاعدة لا تتخلف في التنفيذ. وإذا أقر المحكوم عليه تعدم صورته فيحرق أو يصلب مجدار (صورة من خشب) عَلَى صورته ومثاله. وإذا انتحر أحدهم تجر جثته عَلَى نطع ويصلب فيفعل به كما يقضي العدل بأن يفعل به ل ثبت أنه قتل آخر. وإذا قتل ثور رجلاً أو افترست خنزيرة ولداً يصلب الجلاد الخنزيرة أو الثور وقد دام قتل الحيوانات عَلَى هذه الحالة إلى أواخر القرون الوسطى.

تخفيف العبودية - حسنت أيضاً في القرون الوسطى حال السكان في القرى (وإن كان تحسينها عَلَى ضعف) وكنت ترى في القرن الحادي عشر العامة عبيداً أكثر مما كنت ترى أحراراً فكان معظم الفلاحين من المكلفين بأداء الجبايات عَلَى نحو ما يريد سيدهم وبقدر ما يستنسب وإذا ماتوا يخرجون عن ملكهم فتعود الأرض التي حرثوها إلى السيد واضطر عبيد القرى بعد القرن الثاني عشر كما اضطر سكان المدن سادتهم أن يحددوا ما يقضى عليهم أداؤه من مال ويعدلوا عن استصفاء الأرض لأنفسهم بعد موت صاحبها وكان يسمى ذلك التحرير أو الاشتراك (تحديد الحدود) وتكلف هذه العناية كثيراً لأن السيد لا يبذلها إلا مقابل مبالغ باهظة يتقاضاها ولكن عمله لا ينقض متى أبرم فقد أصبح العبد المشترك وهو لا يدفع هو وأخلافه إلا جباية معينة دائمة وأمسى من العامة الأحرار وهكذا كلما نالت بعض القرى الجديدة صكوكاً بذلك يقل عدد العبيد. ولم يبق أثر لذلك في بعض الولايات خلال القرن الرابع عشر وبقي من هذا الإصلاح شيء إلى القرن الثامن عشر (ولاسيما في مقاطعات بورغونيا وكونته وأوفرنيا) لكن عَلَى قلة.

ولقد نال من يحررهم سادتهم حريتهم وقضت العادة بأن كل عبد يستطيع مغادرة قريته عَلَى شرط أن يخلع طاعة سيده والسيد يحتفظ بالأرض ويجب عليه أن يطلق سراح خادمه.

معاهد إنكلترا في القرون الوسطى

السكسونيون - كان ينزل جنوبي بريطانيا العظمى منذ القرن السادس أناس من المحاربين الجرمانيين سكسونيين وإنكليزيين الذين كانوا يأتون من سهل ألمانيا الشمالية الواسع المضب (المملوء بالضباب) القاحل بلغو هذه الأرض مسلحين عصابات مع أسرتهم وقد أبادوا الشعوب القديمة أو طرحوها إلى أطراف البلاد إلى جبال كورنوال القاحلة وبلاد الغال وكانوا من الجرمانيين الخلص شقر الشعور زرق العيون ضخام الجسام مفتلي العضلات بيض الوجوه عظاماً في مآكلهم عظاماً في حروبهم يقضون النهار عَلَى المائدة (في قصور ملوكهم أربع وجبات من الطعام كل يوم) فيزدردون أبقاراً برمتها ويشربون شراب العسل ملء أوانيهم كما يتعاطون شراب العسل المخمر الذي يسكر أقوى الرجال ومتى طفحوا يغتنون بملاحم محاربيهم يحبون الحروب حتى أنهم لما انتصروا أيضاً كانوا يحبون أن يموتوا والأسلحة بأيديهم. قال الدوق دي نور تومبرلاند وهو عَلَى فراش المرض: أي عار علي يلحقني إذا أنا لم أمت في الحروب التي خضت غمراتها وأن أموت كما يموت البقر ضعوا لي درعي وسيفي وخوذتي وترسي وفأسي المذهبة حتى يموت المحارب العظيم وهو في حالة القتال.

ولقد كانوا يقتتلون سكسونيهم مع سكسونيهم والأقرباء بعضهم مع بعض. رأينا توستي أخا آرولد في القرن الحادي عشر مغاطباً من نيل أخيه الحظوة من الملك ذاهباً إلى أحد القصور الملوكية حيث كان أدب آرولد مأدبة ويقتل خدمة آرولد ويقطع رؤوسهم ويبتر أعضاؤهم ويجعلها في أواني الجعة وشراب العسل ويبعث إلى الملك يقول له: إذا قصدت قصرك تجد فيه زاداً طيباً من اللحم المملح. وبذلك يعد رجال تلك الأحقاب شجعاناً مخلصين صادقين لآبائهم وساداتهم في لعب السيوف أشداء عَلَى الأعداء والأولياء وقد ورد في القصيدة السكسونية الوحيدة التي أبقتها الأيام أن بيوفولف البطل مات دفاعاً عن شعبه بإنقاذه من تنين كان يحرس كنزاً. وإليك منشأ الأمة الإنكليزية: مقاتلون متوحشون سفاكون ولكنهم أهل مضاء وإخلاص.

النورمانديون - كان السكاندينافيون (الدانيمركيون والنرويجيون السويديون) في القرن التاسع كما كان الجرمانيون في القرن الرابع أهل غارة متوحشين وثنيين تقضي عادتهم أن يرث ولد واحد من أبيه بيته وماله أما سائر الأولاد فينضمون عصابات بعضهم إلى بعض ليذهبوا في طلب الثروة. فالمقاتل البربري إذا لم يخلف له أهله ما يعيش به يرى من دواعي شرفه أن ينال الغنى بحد الحسام ويعتبر العمل مخلاً بشرفه فإذا لم يكن مالكاً يسرق وينهب وإذا جاور السكاندينافيون البحر أصبحوا قرصاناً فتبحر العصابة منهم في قوارب خفيفة ذات قلوعي بقيادة زعيم تختاره من بين ملوك البحار الذين طالما فاخروا بأنهم لم يناموا تحت سقف ولم يفرغوا قرن الجعة بالقرب من الدور المأهولة. ذهب تلك العصابات ذات اليمين وذات الشمال فمنها من ضربت نحو الشمال تفتح أيسلاندا وغيروانلاندا واعتصمت أخرى في القلاع تنهب السفن وتستاق القطعان هكذا كان شأن رؤساء القرصان المشهورين في جمسبورغ الذين أرغوا البحر البلطيكي وأزبدوه خلال قرنين وقد آثر أكثر تلك العصابات أن يذهبوا إلى البلاد التي حازت شطراً من المدنية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا فنزلوا فجأة عَلَى الشواطئ وساروا في الأنهار ينهبون الدور ويهاجمون المدن إذا كانت حصينة ويشتدون في بمعاملة الكهنة لكراهة فغيهم بصفتهم وثنيين فكانوا يقولون لهم إنا أقمنا لهم قداساً من الرماح. وكانوا يدعون فقي إنكلترا الدانيمركيين وفي غيرها رجال الشمال (النورمانديين) وقد قبلت العصابة الرئيسة فيهم أن تستوطن فرنسا وكانت الولاية التي اصبحت نورمانديا خاملة لم تشتهر قط وبعد قرن ونصف عرفت في جميع أوربا فاقتبس النورمانديون في الحال الدين المسيحي واللغة الفرنسوية (ولم يتكلم باللغة الدانيمركية إلا في بايو) وتألفوا مجتمعاً وكان هذا المجتمع المؤلف من قرصان عَلَى نظام وترتيب أكثر من غيره. فكان الدوق مطاع الكلمة فيهم يعدل بين قومه كلهم وإقليم نورمانديا الوحيد في أقاليم فرنسا الذي حظرت فيه الحرب الخاصة وكان العدل منظماً عاماً للجميع. ولقد رويت من هذا القبيل قصة خاتم الذهب الذي ظل معلقاً عَلَى شجرة بدون أن يجرأ إنسان أن يسرقه ومع هذا فقد احتفظ النورمانديون عَلَى كر الدهور بأجسامهم الضخمة الشقراء وبالمضاء والإقدام عَلَى العمل الذي انتقل إليهم من أجدادهم المتشردين.

الفتح النورماندي - زعم غيليوم دوق نورمانديا أن ورث من تاج إنكلترا فأعطاه البابا الحق في ذلك وبعث إليه بعلم مقدس فجمع جيشاً قوياً نحو ستين ألف متشرد ليسترد مملكته وكلهم من الفرنسيس ووعدهم بأن يمنحهم أراضي وبعد أن كتبت لهم الغلبة أهمل أمر جنده وتركهم يعولون أنفسهم ويسكنون بيوت السكسونيين اللذين حاربوه ويحلون في أملاكهم ويأخذون بالقوة أياماهم أو وراثاتهم وهكذا يصبحون أرباب أكلاك وشرف (وهذا ما دعي بفتح إنكلترا) وأصبح بعد ذلك معظم الأشراف والأحبار فرنسيساص لم يقتبسوا أخلاق السكسونيين إذ كانوا يحتقرونهم بل ظلوا يتكلون بالإفرنسية ويعيشون عيش فرسان الفرنسيس فيبعثون بأولادهم إلى نورمانديا ليعلموهم اللغة وقضى بأن لا يتكلم في المدارس إلا باللغة الإفرنسية أو اللاتينية وبقيت اللغة الإفرنسية مدة ثلاثة قرون لسان الملك والبلاط والأشراف والقضاة وظلت الحال عَلَى هذا المنوال حتى أواخر القرن الرابع عشر والقوم يؤلفون قصائد إفرنسية وقد اعتذر شاعر يقصد القصيد باللغة الفرنسوية عما ارتكب من غلطات اللسان بقوله عفواً عما بدر عني فإني إنكليزي.

الملوكية - حكم الملوك الجدد مملكة إنكلترا كما حكموا دوقية نورمانديا والناظم والترتيب رائدهم وأخذوا يستنبطون أسرار مملكتهم واختار الملك أناساً من الأشراف (البارونات) يطوفون البلاد طولاً وعرضاً يبحثون عن الأراضي ويسجلون جميع أملاك إنكلترا مبينين لكل واحد كيف تسمى الدار ومن يملكوها وكم كان ثمة من الأراضي والعبيد والعامة والأحرار والحراج والمروج والمراعي والمطاحن مع أثمانها كلها وهكذا ألف كتاب - وبفضل هذا الإحصاء العام استطاع أن يعرف مبلغ قوته ومن هو الشعب الذي يبذل طاعته وذلك من الشروط الضرورية في الحكم عَلَى ما نرى ولم توفق غير نورمانديا وإنكلترا أن يتحققاه في القرون الوسطى ثم ذكر الملك أن كل إنسان حر (لا كبار السادة من أتباعه بل جميع الفرسان) ويقسم أن يذود عن حياض أرضه ويحمي شخصه من اعتداء العدو واستطاع الملك عَلَى هذه الحال أن يجمع في جيشه جميع فرسان إنكلترا.

ولقد استخدم الملك في كل كونتيته التي قسمت المملكة بها أقساماً عاملاً وهو الفيكونت واخذ منذ القرن الثاني عشر يبعث بقضاة جوالين وكان لدى الملك مجلس يبيت بالمسائل الكبرى وقضاة يقضون في المسائل التي لها علاقة بالملك (وتسمى هذه المحكمة مقعد الملك) وقضاة للنظر في حساباته ومداخيله (وكان هؤلاء هم قضاة الرقعة. سموا كذلك لأنهم كانوا يجتمعون حول منضدة مغشاة ببساط عَلَى صورة رقعة الشطرنج) وكان المستشارون والقضاة ونواب القواسة (فيكونت) ينصبون ويعزلون من قبل الملك ولهم الحق باسم مواليهم أن يسيطروا عَلَى أعظم السادات وأن يطلبوهم إلى التقاضي وأن يحكموا عليهم. ويحظرون عليهم أن يتحاربوا بينهم كما كان شأن أشراف فرنسا وكل من كان بداهم عدوه في إنكلترا بحجة أنه يريد أخذ حقه بيده يحاكم لأنه نقض سلام الملك ولم يكن في جميع أوربا مملكة حازت مثل هذا النظام ولا ملك أطيع هذه الطاعة.

النبالة الإنكليزية - قسمت إنكلترا إلى محلات كبرى يقوم عَلَى زراعتها العامة والمزارعون وتسمى كل محلة بيتاً أي منزلاً وتتألف منها قرية وكان للسادات الذين يدعون بالفرنسية بارونات وبالإنكليزية لوردات عدة بيوت مجموعة في سمط واحد وملك أعظم سادات إنكلترا من خمسمائة إلى ستمائة محلة ودعوا بقلب (كومس كونت) (وبالإنكليزية آرل) وكانت هذه البيوت منبثة في أنحاء إنكلترا عامة ولم يكن للقومس كما في فرنسا ولاية هو الحاكم المتحكم فيها وحده يشهر حربها وإليه يرجع أمرها وكان قوامسة إنكلترا من الغنى عَلَى جنب عظيم بيد أنهم لم يكونوا ملوكاً كما كان أمثالهم في فرنسا.

ولقد كثر عدد الفرسان بادئ بدء فكانوا في القرن الحادي عشر ستين ألف رجل شاكي السلاح وصاحب الملك ومن العادة أن يملك كل واحد بيتاً وإذا حظر عليهم الملك أن يقاتلوا لم يلبثوا أن نسوا سريعاً المران عَلَى الحروب والذوق فيها وبينا كان الفرسان في فرنسا يحاربون مدفوعين بعامل الهوى والتلذذ كان فرسان إنكلترا منذ القرن الثاني عشر يرون خدمة الجندية وطاعة الملك فيها ضرباً من ضروب السخرة الشاقة ولذلك عت الحاجة أن يحمل الملك أرباب الأملاك أن يتجهزوا بجهاز الفرسان ولما عرض عليهم أن يشتروا منه أنفسهم بدفع بدل مالي عن الخدمة قبل أكثرهم مقترحه والجدل آخذ منهم. وجاء زمن (1278) أصجر فيه الملك أمره إلى نواب قوامسته أن يكرهوا جميع الرجال الذي يتجاوز دخلهم العشرين جنيهاً إنكليزياً عَلَى الدخول في غمار الفرسان. ولقب فارس عَلَى كثرة رغبة الناس فيه في فرنسا كان مزهوداً فيه كل الزهد في إنكلترا فيكتفي هنا أن يظل أشراف الإنكليز من حملة السلاح (سلاحدار) يعيشون في الفلاة متوفرين عَلَى حرث أراضيهم وما من فارق يميزهم عن صغار الأحرار في حين كان في فرنسا لمن أراد أن يكون شريفاً أن يكون من نشل أب شريف أما في إنكلترا فيرون شريفاً كل من كان له دخل كاف ليعيش برفاهية فإن المزارع الذي اغتني يصبح شريفاً. ولم يكن من فرق بين أشراف الحقول في القرن الخامس عشر وبين صغار أرباب الأملاك غير الثروة ولذا لم تصبح النبالة بالإنكليزية طبقة لا يدخلها غير أهلها مناقضة لسائر الطبقات كما في فرنسا.

العهد العظيم - كان الملك في إنكلترا قوياً والأشراف ضعفاء وهو عَلَى يقين بأنه ما من رجل من رعاياه يستطيع أن يقاومه ولذلك يسيء استعمال قوته فيضطر الأشراف أن يمدوه بالمال ويغتصب منهم أراضيهم وغلاتهم وماشيتهم ويسجنهم من دون ما سبب ويعدمهم بلا حكم. ولقد شوهد رجل يقتل لأنه ضرب أيلاً كان في غابة الملك وبقيت طريقة الحكم قرناً ونصفاً عَلَى هذا المنوال وانتهى الأمر بالبارونات أن بلغوا من الضعف مبلغاً لم يستطيعوا معه أن يقاموا منفردين بل اشتركوا ليقاموا تلك القوة يداً واحدة فاغتنموا فرصة كان فيها جان سان تر في حرب مع ملك فرنسا وحاجته ماسة إلى معاضدتهم فهددوه سنة 1215 بأن يتخلوا عنه حتى أكرهوه أن يقسم لهم أيماناً علناً بان يحترم في المستقبل جميع ضروب الحرية أي حقوق الرجال الأحرار في مملكته. وكتبت وعوده في عهد دخل في 63 ماجة ختمه الملك بطابعه وكان هذا هو الصك العظيم المرشد وإليك المادتين الرئيسيتين منه: لا يوضع مال جديد عَلَى جميع المملكة قبل أن يراجع مجلسها العام. لا يوقف رجل حر ولا يحبس ولا ينفى ولا يؤذى بوجه من الوجوه ولا نقبض ولا نأمر بالقبض عَلَى أي شخص إلا بحكم عَلَى الأصول بين أقرانه وبحسب عادة البلاد. وهكذا تعهد الملك (أولاً) أن يكف عن أموال رعاياه ويعف عن أخذ حاجاتهم إلا برضاهم (ثانياً) أن يحترم أشخاصهم بحيث لا يجازيهم إلا بعد صدور حكم عَلَى الأصول.

عَلَى أن هذا التعهد لم يخرج عن حد الوعد وما من قوة تحظر عَلَى الملك أن ينقضها وكثيراً ما نقضه إلا أن الملك عند جلوسه يجدد هذا الوعد (وقد جدد الصك العظيم 33 مرة). وهذا القسم ينبه الملك الجديد عَلَى الأقل إلى واجبه وهذه الوعود مسجلة في عهد علني يعرفها كل إنكليزي يذكر للرعايا فيه أن لهم الحق أن لا يؤخذ مالهم ولا يوقفوا بحسب رغائب الملك. ومن هذين الفكرين نشا ترتيبان ابقيا عليهم حريتهم وهما مجلس النواب ومجلس المحكمين. فالعهد العظيم يقضي بأن للملك حقوقاً كما أن للأمة حقوقاً فهو أساس حريات إنكلترا.

أصل نجلس المحكمين - للملك في إنكلترا الحق فقط في أن يقضي في الجنايات ويحكم بالإعدام فهو يعين القضاة ويبعث بهم يطوفون مملكته. فلي كل سنة وفي كل بلد في أوقات معينة يأتي قاض من قبل الملك يؤلف باسمه مجلساً عاماً يحضره الأحرار والأشراف وسادات الكورة ويسمونه مجلس قضاء الجنايات (وقد حفظ هذا الاسم وانتقل إلى اللغة الإفرنسية) فينظر القاضي في الدعاوى والجنايات التي ارتكبت في المملكة ويستعين باثني عشر رجلاً شريفاً ويحلفهم أن يقولوا بعدل ما يعرفونه ويبدأ بالتحقيق لكشف الغطاء عن الحقيقة ويسألهم أي المدعيين محق في دعواه إذا كان المدعى عليه مجرماًَ أو بريئاً يحكم في مسائل الجنايات بموجب أجوبتهم بين الخصمين وكان يسمى هذا الضرب من الحكم التحقيق البلدي والاثنا عشر رجلاً منة الفرسان الذي أخذت آراءهم يسمون المحلفين أو المحكمين وهكذا نشأ مجلس المحلفين (ولم ينظر أولاً إلا في القضايا المتعلقة بالأملاك ومنذ القرن الثالث عشر أصبح ينظر في المسائل الجنائية) وقد اخترع القضاة هذا المجلس لتسهيل عملهم فكان أعظم ضمان من ظلم القضاة لأنه يطلق الحكم عَلَى المتهم للوطنيين. وما مجلس المحلفين إلا من الأوضاع في إنكلترا وعنها أخذ جميع أمم أوربا تقريباً.

مجلس نواب إنكلترا - كانت الأموال التي تجبى للملك من أملاكه والغرامات التي تتقاضى باسمه تكفي لنفقة داره والإدرار عَلَى رجاله وإذا نشبت الحرب لا تعود تكفيه بتاتاً فيكتب إلى جميع أرباب الشأن من أمته ويستدعي الأساقفة والبارونات برسائل خاصة فيجتمعون لديه ويقررون بينهم الضريبة التي يرخص للملك أن يجبيها وكانت هذه المشورة مقصورة زمناً عَلَى كبار الرجال (وهم الذين أخذوا من (جان) العهد العظيم) وفي أواخر القرن الثالث عشر سمح لكل مدينة وقصبة أن تبعث برجلين من أبنائها. ولكل مجلس مديرية أن يرسل فارسين يختارهما ولم يجيء هؤلاء النواب أولاً إلا لاستماع ما يقرره كبار السادات ليحملوا خبره إلى بلادهم ثم قبلوا في الدخول بالمناقشة. وقد سمي هذا المجلس الكبير بالبرلمان (مجلس الشورى) ولا يستدعيه الملك إلا ليسأله تقريراً في جباية مال إلا أن العادة جرت بأن البرلمان قبل أن يمنح الملك ما يريد يضطره إلى سماع شكاويه وكثيراً ما يسأله إصلاح إدارته أو عزل عماله. وهذه طريقة في الحكم بالواسطة وحاول البرلمان مرات أن يجعل عَلَى الملك رقباء إلا أن هذا تخلص منهم ولم تثبت العادة في ذلك إلا أن القوم اعتادوا الاستئناس بفكر أن الواجب عَلَى الملك كل سنة أن يجمع المجلس.

مضى زمن طويل والسادات الأساقفة يدعون وحدهم فقط ولذا كانوا يجلسون عَلَى انفراد ويتألف منهم مجلس اللوردات (النبلاء) وفرسان الكونتيان سكان المدن الذين تبعث بهم البلاد يؤلفون مجلساً جديداً هو مجلس العموم (النواب). وإلى هذا التنظيم ترجع شؤون إنكلترا فبدلاً من أن يتخذ صغار الأشراف مع كبارهم لمقاومة الطبقة الوسطى (كما حدث في فرنسا) قد اتحدوا عَلَى العكس معها وظل اللودرة قرنين يقودون مجلس النواب وفي خلال حرب الوردتين أفنى بعضهم بعضاً بحيث لم أنه يبق سنة 1486 غداة تولت أسرة تودور زمام ملك إنكلترا سوى 25 لورداً وأحدث الملك لوردات من جديد إلا أن الجدد منهم لم يحوزوا ما كان القدماء من الاعتبار. وأخذ مجلس النواب في القرن السادس عشر يدير شؤونه بنفسه ويستمتع بماله من السلطة. هكذا نشأ مجلس نواب إنكلترا الذي تكفل وحده بجعل الإنكليز بمأمن من الدفاع عن حقوقهم من الاستبداد الملكي فالبرلمان هو من الأوضاع المبتكرة خاص بإنكلترا حدا جميع الأمم الممدنة أن يروا من الشرف حذا مثاله.

الأمة الإنكليزية - امتزج السكسونيون والنورمانديون كل الامتزاج في القرن الخامس عشر فتألفت منهما الأمة الإنكليزية بعد أن كانا شعبين متباينين وأصبحت لغاتهم لغة واحدة جديدة وهي اللغة الإنكليزية والتي أصلها اللغة السكسونية القديمة وهي لغة الشعب وتشبه لغة الأقاليم التي لا يزال ألمان الشمال يتكلمون بها إلى اليوم. أما اللغة الفرنسية لغة الشرفاء فإنها لم تأت إلا بألفاظ علمية ومصطلحات في الحقوق السياسية والفلسفة (بيد أنها تهزعت في النطق بحيث لا تكاد تعرف) فامتزجت اللغتان حتى بات من المتعذر تركيب جملة إنكليزية بدون الرجوع إلى الكلمات السكسونية.

وما كانت الأمة الإنكليزية في أواخر القرن الخامس عشر أمة رجال البحر والتجارة كما هي اليوم وما من شيء كان يدل عَلَى ما يكون مصيرها فقد كانت المدن صغيرة حقيرة إلا أربع منها فقط يزيد سكانها عَلَى عشرة آلاف نسمة حتى أن صوف الغنم الإنكليزي لم يكن ينسج في إنكلترا بل يبيعه الإنكليز من حاكه فلا ندر عَلَى نحو ما تقدم أوستراليا اليوم صوفاً للمعامل الإنكليزية وما كان لهم بعد أسطول ولا ملاحون وهم عبارة عن فلاحين ومربي حيوانات ومع هذا فقد كان يلاحظ الناظر فيهم صفات تكون أمة عظمى ألا وهي النشاط وفكر الاستقلال وبطل القصائد الإنكليزية روبين هود زعيم اللصوص عاش في الغابة يقتل حراسها وبطل الشحنة ومع هذا كان يجود عَلَى فقراء الأكارين وقد صادف ذات يوم عَلَى جسر جان الصغير الذي لم يرض أن يذل له فأخذا يقتتلان بالعصي حتى رنت عظامهما فسقط روبين في الماء وهكذا أصبحا أحباباً وأخذ الإنكليز يحبون هذه المقاتلات التي يخرج منها المتقاتلان وقد كسرت ثناياهما وانثلمت خاصرتاهما وإليك المديح الوحيد الذي مدح به أمته أحد أشراف الإنكليز السير جون فورتسكو: كثيراً ما شوهد في إنكلترا ثلاثة أو أربعة من اللصوص ينقضون عَلَى سبعة أو ثمانية من أبناء الحشمة ويقتلونهم بأجمعهم أما في فرنسا فلم يشاهد سوى سبعة أو ثمانية من اللصوص ليس لهم من الجرأة إلا ما يستطيعون معه ثلاثة أو أربعة من أهل العرض ولذا كان المصلوبون من الرجال في إنكلترا خلال سنة بدعوى اللصوصية والقتل أكثر مما كان في فرنسا محكوم عليهم منهم بمثل هذه الجرائم مدة سبع سنين. ولذا احتاج هؤلاء الإنكليز حاجة لا تغالب إلى الاستقلال. قال هذا المؤلف بعينه: إن الملك لا يستطيع أن يحكم عَلَى هذه الشعوب بغير القوانين التي أقروا هم عليها ولذلك لا يستطيع أن يجني منهم ضرائب بدون رضاهم. ثم قابل بين رفاهية الفلاح الإنكليزي وشقاء الفلاح الفرنسوي فقال أن كل ساكن في هذه المملكة يتمتع بالثمرات التي تأتيه به أرضها وماشيته يستعملها كما يشاء وما من أحد يحول دونه ودون الاستمتاع بها اغتصاباً ولا يطلب قط إلى التقاضي إلا أمام القضاة العاديين وبحسب قانون البلاد ولذا اغتنى أهل هذه الديار فملكوا الذهب والفضة وجميع الحاجيات فتراهم لا يشربون ماء بتة اللهم إلا أن يكون ذلك عَلَى سبيل التوبة ويطعمون لحوماً وأسماكاً بكثرة وأقمشتهم من جيد الصوف قهم أغنياء بأثاثات بيوتهم وبأدوات الزراعة وفي كل ما من شأنه أن يجعل الحياة وديعة.

مدن القرون الوسطى

الفتح الألماني - تخلت الشعوب الجرمانية بهجرتها إلى الغرب لتدخل إلى الإمبراطورية الرومانية عن بلاد الشرق لشعوب من عنصر آخر وهم السلافيون (الصقالبة) حتى لقد غدت جميع البلاد الواقع شرقي الألب ملكاً لقبائل من السلافيين وقد صادف القديس بونسياس حتى عَلَى شواطئ الفوادا أناساً من السلافيين هزؤا منه وسخروا وبقي ما وراء ذلك من مستنقعات شواطئ بحر البلطيق شعوباً قديمة (كالبروسيين والليتوانيين والفنلنديين) وهو الشعوب وثنية محاربة ولكنها رديئة السلاح منقسمة إلى قبائل لا قبل لها بالمقامة فشرع الألمان في تنصيرهم وإخضاعهم وأنشأ ملكوك جرمانيا بلاداً عَلَى التخوم وأطلقوا لقومها حرية الحكم كما يشاؤون ومن هذه البلاد نشأت الثلاث إمارات الألمانية الرئيسية وهي إمارة براندبورغ مملكة بروسيا وإمارة ميسني وسط مملكة الساكس والإمارة الشرقية في جنوب مملكة النمسا وأسسوا أيضاً أسقفيات بعثت من قبلها المرسلين.

أخذ التنصر يجري ببطء (من القرن العاشر إلى الرابع عشر) بطرق مختلفة فدان بالمسيحية أمراء الصقالبة في معظم البلاد عَلَى أيدي نسائهم اللاتي تنصرن وحطموا الأصنام وأكرهوا رعاياهم عَلَى قبول الدين المسيحي وكان من يتناول اللحم في الصوم الكبير من أهل بولونيا تقلع أسنانه عقاباً له. وبقى السكان في تلك البلاد صقالبة. ونال زعيمهم الوطني لقب دون أو ملك ويعترف أنه من عمال الإمبراطور ولم تكن معظم هذه الأمم عَلَى شيء من التعصب ولما جاء برنارد الإسباني إلى بومرانيا لينال الشهادة أخذ في تحطيم الأصنام المقدسة فاكتفى الوثنيون بضربه وإذ قد ظل عَلَى الدعوة الدينية اركبوه عَلَى قارب في نهر الأودر قائلين إذا كنت كثير الرغبة فيما أنت آخذ نفسك بسبيله فاذهب لبث دعوتك بين الأسماك والطيور.

وعلى العكس تمرد بعض الشعوب في الشمال فإن الأوبتريين ذبحوا ملكاً يريد أن ينصرهم (1066) وبعد ذلك قام الليفونيون وكان أتاهم الفرسان الألمان وعمدوهم مكرهين يسرعون في أثر الجيش يلقون بأنفسهم في نهر الدونا ليتسلوا من العماد وعلى أولئك أعلن الألمان حرباً أبادوهم فيها وقد فتح قوامسة الرهبنة التوتينية بلاد بروسيا وفرسان حملة السيوف ليفونيا وليستونيا فكانوا يحرقون القرى ويذبحون الرجال ويعودون بالنساء والأولاد وقد كثر بيع الأسرى السلافيين في بلاد ألمانيا كلها حتى أصبحت كلمة سلافي في الإفرنسية والألمانية مرادفة لكلمة عبد وبقيت كذلك وقد باد الوانديون (ولم يبق منهم إلا بقايا لجأوا إلى مستنقعات سبرى وعاد البروسيون والليفونيون رعايا هكذا فتح العنصر الألماني ثلاث ولايات جديدة براندبورغ وبروسيا وليفونيا).

الاستعمار الألماني - كانت السهول العظيمة من نهري الأودر والفيستول منخفضة رطبة ومغشاة بغابات وسط البطائح فولاية براندبورغ (رملة ألمانيا) لم تكن غير صحراء كئيبة من الرمل ولا يزال الرمل إلى اليوم عندما يهب الريح يسد أبواب البيوت وعند شيخ البلد في أرض فلامن مفاتيح عين البلد يوزع كل صباح عَلَى السكان ما يحتاجون إليه من الماء فاستدعى أمراء الألمان والسلافيون من ألمانيا فلاحين وأرباب صنائع يأتون إن أحبوا لزرع هذه الرمال واستثمار الغابات وتأسيس المدن وأنشأ الألمان يهاجرون عن رضى خلال قرنين وأتت ألوف من السر ألمانية تتوطن في القفار الشاسعة من الشرق كما يذهب الناس في أيامنا لاستيطان صحارى أميركا الشاسعة. فكان الأمير يبيع من أحد الملتزمين قطعة من غابة أو طريدة من الأرض تكفي لإنشاء قرية فيجلب الملتزم فلاحين ويوزع عليهم الأراضي حصصاً حافظاً لنفسه مالاً ويجبيه في أوقات معينة فيكون حاكمهم الوارث إلا أن الفلاحين يبقون أحراراً لأنهم هم الذين أحيوا موات الأرض ويحتفظون بعاداتهم الألمانية. وإذا أريد تأسيس مدينة يقيم لها الملتزم خنادق وحوائط في جهاتها الأربع ويؤسس فيها سوقاً يحفظ لنفسه الحق أن يأخذ منهم رسوماً. جرت هذه الأعمال عَلَى مهل تحت طي الخفاء ولقد شغل مؤرخو تلك الأيام بذكر حروب الأباطرة فلم يفكروا بأن يلموا في الصورة التي جرت في تأسيس ألوف من القرى ومئات من المدن في براندبورغ وبومرانيا وبروسيا وسيلزيا وبوهيميا. ونشأت في الجهة الأخرى من نهر الألب ألمانيا حديثة ألمانيا العاملين والجنود ألمانيا النمساويين والبروسيين الذين آل إليهم فيما بعد أمر جميع أمم ألمانيا القديمة.

المدن الحرة - أسست المدن الرئيسية في ألمانيا حول قصر الملك أو حول بيت أسقف أو أمير فالملك أو الأسقف سيد المدينة والتجار مستأجرون لأن أرض المدينة ملكه وأرباب الصناعات عبيده يعملون له ولرجاله وفرسانه وخدامه يحكمون عَلَى الصناع والسوقة. وكلما نما الشعب يتخلى الملك عن النظر في شؤون السكان حتى انتهت الحال أن لا يتناول سوى رسوم مقررة من الصناع أخلاف العبيد فلم يعد في المدن سوى رجال أحرار فالمدن التي زاد نجاحها في القرن الثاني عشر هي من أملاك الأساقفة جاء في المثل الألماني ما أحلى عيش المرء في ظل العكاز فيجمع الأسقف خدامه وأهم التجار في مجلسه ليحكموا مدينته ولم يكن هذا المجلس سوى مجلس للأسقف. ولما قوى نفوذ المدن في القرن الثالث عشر وطردت أساقفتها أصبح ذاك المجلس مجلس المدينة وغدت له سلطة أمير فكان يقضي ويشهر الحرب ويخاطب الإمبراطور مباشرة وتسمى المدينة المدينةُ الحرة لأنها لم تخضع لسيد.

الصنائع - قسموا الصناع إلى طوائف منذ كانوا عبيد الأسقف يعملون له ولرجاله وكل طائفة تؤلف من صناع يحترفون حرفة واحدة ويخضعون لأحد خدام الأسقف وتسمى مهنة (أي خدمة) وزعيمها وكيل المدير أو شيخ الحرفة وذلك مثل مهنة الحدادين ومهنة السروجيين ومهنة الخياطين وغيرها ومن هنا اشتق اسم صنعة بالمعنى الذي نطلقه عليها وأصبح أرباب الصناعات أحراراً بالتدريج فبدلاً من أن يصنعوا لسادتهم وهم يعولونهم يعملون لحسابهم ويبيعون ما يعملون في السوق ظلوا منظمين طوائف بحسب الحرف ويتألف من كل حرفة جماعة ولهم صندوقهم العام وعلمهم الذين يحملونه في الحفلات ويرفعونه إذا خرجت المدينة لقتال ولهم حاميهم المقدس (ويسمون في فرنسا شيوخ الحرف) ولهم نظاماتهم بحسب عادة القرون الوسطى كانت عادات لا حاجة لتدوينها. وفي فرنسا لم تدون عادة صناعات باريز إلا في أواسط القرن الثالث عشر وهذا القانون يبين الشروط التي يقبل بها المرء في هذه الصناعة. فيبدأ الولد بأن يكون خريجاً عَلَى معلم في الصنعة فيعلمه المعلم صناعته ويطعمه ويؤويه فالخريج يعمل لحسابه ويخضع لها وللمعلم الحق بأن يضربه وبعد بضع سنين يصبح الخريج رفيقاً ولا يزال يعمل باسن معلمه وله أن يغادر معلمه ويذهب إلى غيره فالرفقة هم أناس متنقلون وكثير منهم يتنقلون من مدينة إلى أخرى يعرضون عَلَى أرباب الصناعات أن يشتغلوا معهم وبقيت هذه العادة جارية في فرنسا في تنقل صاحب الصنعة في أطراف البلاد. ومن كانوا عَلَى شيء من الغنى يفتحون حوانيت ويصبحون معلمين ولهؤلاء فقط الحق في أن يعطوا آرائهم في مجلس أهل الصناعة وتبين القوانين كيف يجب العمل ويحظ عَلَى العامل أن يشتغل في غير دكانه وبذلك يتيسر للجمهور أن يراقبه. ويحظ عليه أن يعمل تحت نور المصباح حتى لا يعمل عملاً رديئاً ويمنع من استعمال مواد أخرى أو عمل أشياء تخالف القدر الذي أمر به القانون فالصياغ مثلاً لا يطلون الذهب بالفضة وصناع التماثيل لا يستعملون إلا أجناساً مخصوصة من الخشب وإذا كان ثوب الجوخ أكثر أو أقل عرضاً من مقياس المقرر يصادر ويغرم صانعه ويحتفظ أهل الصنعة بشرفهم وشرفهم أن يبيعوا إلا بضائع حسنة السرد والتقدير ولذا كان يراقب بعضهم بعضاً أشد المراقبة ثم أنهم يعضدون بعضهم بعضاً أمام الغرباء وأمام سائر أرباب الحرف وليس لأحد في المدينة الحق أن يصنع سلعة أو يبيعها إلا معلمو الصناعة فيغرم كل رجل يفتح دكان خياط قبل أن يقبل في صناعة الخياطين وتغلف دكانه فحق عمل شيء من الصناعة وبيعها ملك خاص لأهل تلك الصناعة فالخياطون يمنعون باعة الخلق (الأسمال) من بيع ثياب جديدة لأن لهم وحدهم الحق في عمل ذلك وما عمل باعة الخلق إلا أن يبيعوا ألبسة عتيقة وصانعوا اللحم يتقاضون عَلَى السروجيين ليمنعوهم من عمل اللحم وذلك لأن صناعات القرون الوسطى كانت تحاذر من المنافسة كثيراً.

وأهم أرباب الحرف هم الخبازون والقصابون والحاكة والصباغون والبناؤون والدباغون وصانعوا الأسلحة والنجارون وعدد الصناعات متوقف عَلَى مكانة المدينة وليس في كثير من المدن الألمانية سوى 18 أو 20 صناعة وكان في باريز زهاء مئة حرفة وذلك لأن عدة صناعات مختلفة يمكن جمعها في صناعة واحدة أو أنه يتيسر تجزئة الصناعة الواحدة إلى عدة حرف (في باريز مثلاً ثلاث حرف لصناعة السبحات).