مجلة المقتبس/العدد 8/الإسرائيليون
مجلة المقتبس/العدد 8/الإسرائيليون
(معربة عن كتاب تاريخ الحضارة)
العبرانيون
التوراة - جمع اليهود أسفارهم المقدسة بأسرها في سفر واحد دعوه التوراة وهو اسم يوناني معناه الكتاب. هذا هو سفر اليهود الجليل وقد صار لأعل النصرانية أيضاً كتاباً مقدساً. وفي التوراة أيضاً تاريخ الأمة اليهودية ولقد استفدنا من كل ما اتصل بنا عن الشعب المقدس من الكتب المقدسة.
العبرانيون - لما نزل الساميون من جبال أرمينية إلى سهول الفرات أخذ أحد أسباطهم على عهد مملكة الكلدان الأولى يضرب نحو الغرب فجاز الفرات فالقفر فسورية وبلغ بلاد الأردن وراء فينيقية وتعرف هذه الأسباط بالعبرانيين يعني أهل ما وراء النهر وهم كمعظم الساميين شعب من الرعاة الرحالة لم يحرثوا الأرض ولا سكنوا الدور والمنازل بل كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر في قطعان بقرهم وغنمهم وجمالهم منتجعين المراعي آوين إلى الخيام على نحو ما يعيش العرب في البادية اليوم. وفي سفر التكوين وصف هذه العيشة البدوية.
البطاركة - كان السبط منهم أسرة كبيرة مؤلفة من الرئيس ونسائه وأولاده ومواليه وكان للرئيس على الجميع سلطة مطلقة فكان بهذا السبط أباً وكاهناً وقاضياً وملكاً. من أجل هذا دعونا هؤلاء الرؤساء البطاركة وأعظمهم إبراهيم ويعقوب فالأول أب العبرانيين والآخر والد الإسرائيليين أظهرتهما التوراة في مظهر رجلين أرسلهما الله ليرأسا شعباً مقدساً وقد أعطى إبراهيم ربه ميثاقاً ووعده الطاعة هو ومن يأتي بعده من قومه فبشر الله إبراهيم بذرية تفوق نجوم السماء عدداً واطمأنت نفس يعقوب بأن تكون منه أمة عظيمة وشعب جم.
الإسرائيليون - سمي يعقوب باسم إسرائيل أي مدافع عن الله لرؤيا رآها ودعي سبطه بني إسرائيل أو الإسرائيليون. وذكرت التوراة أن القحط حدا يعقوب أن يغادر بلاد الأردن ليسكن وأهل بيته صغارهم وكبارهم على التخوم الشرقية من مصر وهي البلاد التي دعاه يوسف أحد أبنائه إلى هبوطها وقد صار وزيراً لعزيزها أحد الفراعنة. وظل بنو في تلك الأرجاء قروناً كثيرة فجاءوا وعددهم سبعون نسمة ونموا على قول التوراة حتى صار عددهم ستمائة ألف رجل. خل عنك النساء والأولاد.
نزول الوحي على موسى - افتتح عزيز مصر يسوم الإسرائيليين ضروب المظالم ويضطرهم إلى صنع الملاط والقرمد لابتناء مدن حصينة فقام من بينهم إذ ذاك موسى أحد أبنائهم وقد أوحى إليه ربه وعهد إليه أن ينقذهم من الجور والعسف. وكان يرعى غنمه ذات يوم على الجبل فظهر له ملك وسط عليقة تتلظى ثم سمع هذه الكلمات: أنا رب إبراهيم واسحق ويعقوب رأيت ما دهم شعبي في مصر من الحزن وسمعت شكواه ممن يظلمونه وعرفت ما يناله من العذاب ولذا نزلت لخلاصه مما ينتابه من المصريين لأنزله بلاداً من أرض كنعان تفيض لبناً وعسلاً فتعال إذاً أرسلك إلى فرعون تخلص شعبي أبناء إسرائيل وتخرج بهم من مصر فقاد موسى الإسرائيليين وهاجروا من مصر وهذا ما يدعى بالخروج أو سفر الخروج واجتازوا بسفح جبل طور سيناء وهناك تلقوا شريعة الرب وأخذوا يتيهون جيلاً كاملاً في القفار جنوبي سورية.
إسرائيل في القفر - وكثيراً ما كان الإسرائيليون يودون الرجوع إلى البلاد التي تركوها فيقولون: أنا لنذكر ما كنا نطعمه في مصر من السمك والقثاء والبطيخ والكراث والبصل فخليق بنا أن نؤمر علينا زعيماً يقودنا إلى بلادنا وكان موسى يدعوهم إلى الطاعة ثم بلغوا الأرض التي وعد الله ذراريهم.
الأرض الموعودة - دعيت أرض كنعان أو فلسطين فدعاها اليهود بلاد إسرائيل ثم دعيت بعد بلاد اليهودية ودعاها أهل النصرانية الأرض المقدسة وهي بلاد جافة قاحلة في الصيف ولكن فيها جبال وآكام وصفتها التوراة بما يلي: لقد ساقك ربك القيوم إلى بلد طيب ذات أنهار وينابيع في الأرض تنبجس من الوادي وعلى الجبل بلد البر والشعير والكرم والتين والرمان والزيتون والزيت والعسل بلاد تأكل فيها خبزك آمناً من القحط لا ترزأ في مال ولا ينقصك شيء من رفاهية الحال. وبلغ عدد الإسرائيليين بعد الإحصاء عندئذ 601700 رجل يحمل السلاح منقسمين إلى اثني عشر سبطاً عشر منها من نسل يعقوب واثنان من نسل يوسف هذا عدا عن اللاويين أو الكهنة وعددهم 23 ألف رجل. وكانت تسكن البلاد التي نزلوها عدة شعوب صغيرة تدعى الكنعانيين فأبادهم الإسرائيليون واستولوا على بلادهم.
ديانة الإسرائيليين
الله الفرد - عبد سائر الشعوب القديمة أرباباً كثيرة أما الإسرائيليون فاعتقدوا بوجود إلهٍ منزه عن الهيولى برأ العالم ودبره. ففي سفر التكوين أن الله خلق في البدء السموات والأرض وقد خلق النبات والحيوان وخلق الإنسان على صورته ومثاله فالبشر كلهم صنعة الله.
شعب الله - بيد أن الله أختار من بين الناس جميعاً أبناء بني إسرائيل ليجعلهم شعبه وأمته فدعا إبراهيم وقال له سأجعل بيني وبينك وبين ذريتك عهداً لأكون ربك ورب ذريتك من بعدك. وقد تمثل الله ليعقوب قائلاً له: أنا الله القادر إله آبائك فلا تتحام نزول مصر فسأجعلك فيها أمة عظيمة. ولما سأل موسى ربه عن اسمه أجابه: تقول لأبناء إسرائيل أنني أنا الله السرمد إله إبراهيم واسحق ويعقوب أرسلني ربي إليكم هذا هو اسمي على الدهر.
العهد - فبين الإسرائيليين والمولى تعالى إذاً اتحاد أو عهد فالقيوم جلَّ جلاله يحب الإسرائيليين ويدفع عنهم البوائق فهم والحالة هذه أمة مقدسة وأعلى الشعوب كافة في نظره وقد وعد أن يجعلهم سعداء أقوياء وتعهد الإسرائيليون أن يقابلوه على ذلك بان يعبدوه ويخدموه ويطيعوه فيما يريدهم عليه كما يطاع المشرع والقاضي والمعلم.
الوصايا العشر - أوحى القيوم الصمد عز شأنه مشرع بني إسرائيل بوصاياه إلى موسى على جبل طور سيناء بين البرق والرعد وهي مسطورة في لوحين وهما اللوحان اللذان كتب الله عليهما وصاياه العشر بما نصه: لا يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد على قريبك شهادة زور لا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما قريبك.
الشريعة - على الإسرائيليين ما خلا هذه الوصايا العشر أن يعملوا بكثير من الأوامر الإلهية مما ذكر في أسفاره التوراة الخمسة الأولى وهي التي تتألف منها شريعة إسرائيل. فالشريعة تنظم عندهم احتفالات العبادة وتعين الأعياد (السبت كل سبعة أيام والفصح ذكرى خروجهم من مصر وجمعة الحصاد وعيد المظال في موسم قطف العنب) والشريعة هي التي ترتب الزواج والأسرة والتملك والحكومة وتعين العقوبات على الجرائم وتحدد الأطعمة والأدوية فالشريعة عندهم والأمر على ما ذكر مجلة الأحكام الدينية والسياسية والمدنية والجزائية ولمولى الإسرائيليين تعالى أن ينظم أعمال حياتهم جميعها.
(الديانة ألفت الشعب اليهودي) لم يقبل الإسرائيليون بحكم الله قبول من خضع وخنع فقد قال موسى للاويين وهو على فراش الموت دافعاً إليهم كتاب الشريعة خذوا هذا الكتاب ليكون شهادة عليكم يا إسرائيل لأني عارف بما أنتم عليه من شكاسة الخلق وقساوة القلب ولم تبرحوا طول حياتي تبدون نواجذ العصيان على المولى القيوم فليت شعري ماذا يكون من شأنكم بعد مماتي. وقد حدث أن مرت قرون ومن العبرانيين من يعبد الأصنام وربما كانت هذه الفئة هي السواد الأعظم من الأمة على أنهم أصبحوا أشبه بسائر الساميين في سورية وظل الإسرائيليون وحدهم على قدم الإخلاص للمولى جل شأنه فتألف منهم الشعب اليهودي وخرج الشعب المبارك بدين الله المتعال من قبيلة مجهولة على التدريج. نعم إنها لأمة قليلة الحصا والعدد ولكنها من الأمم التي لها الشأن الأعظم في تاريخ العالم.
مملكة القدس
القضاة - نزل العبرانيون أرض فلسطين ولكنهم ظلوا منشقين قروناً كثيرة فلم يكن لذاك العهد كما تقول التوراة ملك لإسرائيل بتة بل كان يعمل على شاكلته ويحكم بما يوحي إليه رأيه. وكثيراً ما كان الإسرائيليون ينسون ربهم ويعبدون أرباب القبائل المجاورة فاستشاط ربهم عندئذ غضباً من سيئات أعمالهم وأسلمهم إلى أيدي أعدائهم يفعلون بهم الأفاعيل حتى إذا ندموا على ما فرطوا في جنب الله وأصبحوا خاضعين خانعين يرسل ربهم إليهم قضاة يسعون في خلاصهم من أعدائهم المباغتين وربما مات القاضي وعاد دبيب الفساد يدب في نفوس الإسرائيليين فيسجدون لمعبودات أخرى. وكان هؤلاء القضاة مثل جدعون ويفتاح وشمشون من الغزاة يحررون القبائل باسم القيوم الأبدي ثم لا يلبث الشعب أن يعود إلى عبادة الأوثان والتلطخ بحمأة العبودية.
الملوك - سئم الإسرائيليون آخر الأمر وطلبوا إلى شمويل (سمو أل) الكاهن العظيم أن يجعل لهم ملكاً فملك عليهم شاول على رغم إرادته وكان على هذا الملك أن يكون منفذاً خاضعاً لإرادة الرب لكنه حاول الخروج عن الطاعة وشق عصا الجماعة فراح الكاهن العظيم يقول له: لقد نبذت كلام الله ظهرياً فسيبعدك ربك عن الحكومة وينزع السلطة من يدك. ثم أن داود وكان زعيماً جندياً خلفه وحمل على أعداء إسرائيل كافة واسترجع لهم جبل صهيون ونقل إليه عاصمته وهي القدس.
بيت المقدس - كانت القدس بالنسبة إلى بابل وثيبة عاصمة بلاد فقيرة. وما كان العبرانيون يتعاطون البناء ويميلون إلى العمران بل كانت ديانتهم تحظر عليهم إقامة المعابد وكان يقضى على مساكن الخاصة أن تشبه تلك المكعبات من الحجر التي لا تزال تشاهد إلى اليوم في شواطئ لبنان وقد غشيتها الكروم والتين ولكن كانت القدس بلد اليهود المقدسة وكان فيها للملك قصر يسكنه ألا وهو قصر سليمان الذي دهش العبرانيون بعرشه المصنوع من العاج وهناك أقيم بيت الرب وهو أول معبد عبراني.
المعبد - كان المعبد الذي أقيم على عهد سليمان كبيت القربان المقدس عند النصارى مقسوماً إلى ثلاثة أقسام ففي داخله يقوم قديس القديسين حيث كان تابوت العهد ولم يكن يسمح لغير الكاهن العظيم أن يدخله مرة في السنة وفي وسطه المكان المقدس وكان فيه مذبح البخور ومسرجة ذات أغصان سبعة ومائدة الخبز يدخل إليه الكهنة لحرق الغالية ووضع القرابين وفي المقدمة ساحة البيعة مفتحة أبوابها للناس تنذر فيها الضحايا على المذبح الكبير. وعليه فقد صار معبد القدس بعد واسطة عقد الأمة يقصدونه من أقاصي فلسطين لحضور الاحتفالات وكان الكاهن الكبير الذي يرجع إليه أمر العبادة من أعاظم الرجال ورما كان في الأحايين أكبر سلطة من الملك.
الأنبياء
نكبات إسرائيل - إن سليمان آخر ملك عرف بالحول والطول وانفصل بعده عشرة أسباط ألفوا مملكة إسرائيل تلك المملكة التي عبد سكانها عجول الذهب وأرباب الفينيقيين ولم يخلص منها الدين لله وحده أو لملك بيت المقدس سوى سبطين ومنهما قامت مملكة يهوذا (977) ولقد انتهكت قوى تينك المملكتين بما اضطرا إلى دخوله من المعارك حتى إذا جاءتهما جيوش الفاتحين من الشرق خربت مملكة إسرائيل بأيدي بختنصر ملك الكلدان (586).
إحساس الإسرائيليين - رأى المؤمنون من الإسرائيليين هذه المصائب عقوبة لهم وأن الله عذب شعبه لخروجه عن طاعته على نحو ما جرى قديماً على عهد القضاة وأسلمه للفاتحين يمزقونه كل ممزق. وركب أبناء إسرائيل هواهم واجترحوا الآثام في جانب مولاهم فبنوا علالي وقصوراً في المدن كافة وحذوا حذو الأمم المحيطة بهم فخالفوا بذلك أمر ربهم وما حرمه عليهم فصنعوا صوراً مسبوكة وسجدوا للكواكب وعبدوا الصنم بعل ولذا نبذ الله تعالى أصل إسرائيل وعاقبهم فجعلهم طعمة لمن يكتسح بلادهم ويسلب طارفهم وتلادهم.
الأنبياء - على ذاك العهد ظهر الأنبياء وهم إلياس وأرميا وأشيعيا وحزقيل وفي العادة أن يخرجوا من القفر بعد أن نقضوا زماناً في الصيام والصلاة والاعتبار والتدبر يأتون باسم الله لا غزاة مثل القضاة بل منذرين ومبشرين يدعون الإسرائيليين إلى الإنابة وقلب الأصنام والتوبة إلى بارئ النسم وينذرونهم بالخطوب التي يبعثها الله عليهم بعد إذا لم ينيبوا إليه فكانوا من ثم يدعون ويتنبأون.
التعليم الجديد - رأى هؤلاء الرجال المستمسكون بالأمر الإلهي أن العبادة الرسمية في القدس غثة باردة. وليت شعري لم يذبحون البقر ويحرقون البخور إجلالاً لله على نحو ما يفعل الوثنيون. يقول عيسى: أصيخوا إليَّ بأسماعكم وعوا ما يقوله تعالى: ماذا أعمل بجموع قرابينكم فقد شبعت من ضحايا الغنم ومن دهن الحيوانات السمينة وما عاد يلذ لي دم الثيران ولا الخرفان ولا التيوس فكفوا إذاً عن أن تقدموا لي ضحايا هي من العبث فإن نفسي عزفت عن استنشاق بخوركم ومتى ترفعون أيديكم أحول نظري عنكم لأن أيديكم ملأى بالدم المهراق فقوموا وطهروا أنفسكم عن سيئات أعمالكم عودوا أنفسكم عمل الصالحات وخذوها بتوخي طريق الرشاد وحماية المظلومين وأقسطوا اليتيم ودافعوا عن الأيم وعندما تصير خطاياكم كالقرمزي حمراء تبيض كالثلج وبهذا رأيت أن الأنبياء أرادوا الاستعاضة عن القيام بالنذور والضحايا بالعدل وصالح الأعمال.
المسيح - استحق بنو إسرائيل ما دهمهم من المصائب ولكن لكل قصاص حد ينتهي إليه وغاية يقف عندها فقد قال عيسى باسم الحي القيوم أيها الشعب لا تخشى الآشوري أبداً فإنه سينالك من عصاه مثل ما كان ينالك من المصري في الزمن الغابر ولكن ستفثأ سورة غضبي قريباً ويرفع عن كاهلك ذاك العبء الثقيل. وعليه فقد علم الأنبياء الشعب اليهودي أن ينتظروا بعثة من يخلصهم وهيأوا السبل للمسيح.
الشعب اليهودي
الرجوع إلى بيت المقدس - جاء أبناء يهوذا من سهل الفرات ولم ينسوا وطنهم ولطالما احتفلوا به وتذكروه في أناشيدهم يقولون جلسنا على شاطئ أنهار بابل وبكينا وقد ذكرنا صهيون. فعيداننا كانت معلقة في أشجار الصفصاف على ضفة النهر وكان يقول لنا من أتوا بنا: تغنوا ببضع أناشيد من جبل صهيون ولكن أنى لنا أن نتغنى بنشيد للرب في أرض غريبةٍ وبعد سبعين سنة في العبودية أذن سيروس فاتح بلاد بابل أن يعودوا إلى فلسطين فجددوا بناء البيت المقدس والمعبد وعادوا إلى أحياء الأعياد والاحتفاظ بالكتب المقدسة وجددوا العهد مع ربهم علامة على أنهم عادوا إلى طاعته وعدوا من شعبه وهذا العهد عبارة عن ميثاق على الأصول كتبه أعيان الشعب ووقعوا عليه.
اليهود - دامت مملكة القدس الصغرى مدة سبعة قرون يحكمها ملك تارةً وكاهن كبيرٌ أخرى وفي كلتا الحالتين كانت تؤدي الجزية إلى زعماء سورية فجبى جزاها الفرس أولاً ثم المقدونيون ثم السوريون ثم الرومانيون. وإذ صدق اليهود (دعوا كذلك لدن رجوعهم) مع ربهم ظلوا على عهدهم الأول من العمل بشريعة موسى والاحتفال بالأعياد وتقديم النذور في القدس وكان الكاهن الأكبر يحفظ الشريعة بمظاهرة مجمع الأعيان والكتبة ينقلونها والعلماء يفسرونها للشعب وجمهور المؤمنين يرون من واجباتهم الجري عليها والعمل بدقيقها وجليلها واشتهر الفريسيون خاصة بغيرتهم وتفانيهم في القيام بضروب الأعمال الصالحة.
المدارس (الكنائس) - ومع هذا فقد كان اليهود يرحلون في التجارة وينتشرون خارج بلادهم في مصر وسوريا وآسيا الصغرى وإيطاليا وكانت طائفة من أهل مذهبهم في المدن الكبرى جميعاً كالإسكندرية ودمشق وإنطاكية وأفيس وكورنت ورومية وكانوا أبداً يجتمعون في صعيد واحدٍ ليحفظوا كيانهم ويجمعوا شملهم المشتت بين الوثنيين ولم يقيموا المعابد لأن الشريعة كانت تحظر عليهم ذلك وليس لهم أن يبنوا سوى معبد يهودي واحدٍ ألا وهو معبد القدس حيث كان يحتفل بالأعياد وتقام المواسم والشعائر بيد أنهم كانوا يجتمعون ليشرحوا كلام الله ويتلوه ودعيت هذه الأماكن باسم يوناني (الكنيس) ومعناه المجالس.
خراب المعبد - ظهر المسيح في خلال تلك المدة فصلبه اليهود واضطهدوا حوارييه سواءٌ كان في بلادهم أو في المدن الكبرى التي حلَّ فيها الجم الغفير منهم. ولقد شقت القدس عصا الطاعة عام 70 على الرومانيين فأخذت عنوة وذبح سكانها كافة أو بيعوا بيع الإماء والعبيد فألقى الرومانيون النار في المعبد وقد حفل وطابهم بالأعلاق المقدسة. ومن يومئذ لم يعهد لليهود مجمع لدينهم.
ما كتب على اليهود بعد تفرقهم - عاشت الأمة اليهودية بعد خراب عاصمتها ولما تشتت شملها تحت كل كوكب في العالم أنشأت تستغني عن المعبد وأبقت كتبها المقدسة مكتوبة بالعبرية. والعبرية لغة بني إسرائيل الأصلية لم يتكلم بها اليهود منذ رجوعهم من بابل بل اقتبسوا لغات الشعوب المجاورة كالسريانية والكلدانية وخصوصاً اليونانية. على أن المنوَّرين في الدين من الربانيين ظلوا يعرفون العبرية وهم يشرحون التوراة ويفسرونها وهكذا حفظت الديانة اليهودية وبفضل اللغة العبرية أيضاً بقي الشعب اليهودي وكثر أشياع هذا الدين في الأغيار فكان في المملكة الرومانية أناس كثيرون ممن يدينون باليهودية وليسوا من العنصر اليهودي في شيءٍ.
قويت شوكة الكنيسة المسيحية في القرن الرابع فطفقت تضطهد اليهود اضطهاداً دام إلى يوم الناس هذا في البلاد المسيحية جمعاء. ومن العادة أن يتسامح مع اليهود في إجراء مراسيم ديانتهم لغناهم واستئثارهم بفروع الأعمال المالية ولكنهم ينحونهم عن ممارسة الوظائف الإدارية ولقد أكرهوا في معظم المدن أن يلبسوا ثياباً خاصة وينزلوا في حي خاص مظلم وخيم وبيل وأن يبعثوا أحياناً بأحدهم يصفع في عيد الفصح والناس يرمونهم بأنهم يسممون الينابيع ويقتلون الأطفال ويدنسون القربان المقدس وربما يثورون بهم في الأحايين فيقتلونهم ويغنمون ما في دورهم ويسقيهم قضاة البلاد السمَّ أو يعذبونهم أو يحرقون لأقل حجة تافهة ولطالما تفتهم الحكومات زرافات من بلادها وصادرت أموالهم ولقد أجتث دابر اليهود من فرنسا وإسبانيا وإنكلترا وإيطاليا ولم تبق منهم بقية إلا في بلاد البرتغال وألمانيا وبولونيا وفي البلاد الإسلامية ومن هذه الممالك رجعوا إلى سائر قارة أوربا منذ انتهت أيام اضطهاداتهم وكفَّ الناس عن إرهاقهم وإعناتهم.