مجلة المقتبس/العدد 8/تأثير العلم في ألمانيا
مجلة المقتبس/العدد 8/تأثير العلم في ألمانيا
من مقالة لأحد علماء الفرنسيين
ارتقى التعليم العام وانتشر كثيراً في ألمانيا منذ نحو قرن وأصبح التعليم الابتدائي إجبارياً وإن كان ناقصاً وفيه نظر. وبالتعليم فنحن العقول واستعدت لقبول الأفكار الحديثة فرقَّ شعور الأفراد ومرنت قواهم واحتد ذكاؤهم وقويت عقولهم وقلَّ الاختلاف بين الطبقة العالية والطبقات النازلة في المجتمع وذلك في الأمور الذهنية على الأقل.
قامت منذ خمس عشرة سنة معاهد التعليم وتهذيب الأمة على أمتن الدعائم وانتشرت في الآفاق الألمانية أيما انتشار. وأنك لترى في كل ناحية أو عمالة لها بعض الأهمية صفوفاً ومدارس يتلقى فيها الكبار العلم ومارس ليلية ومؤتمرات تعليمية إجبارية في كثير من النواحي للشبان ممن سنهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة ولكل مدينة بل لكل إقليم مكتبة موقوفة على سكانها عامة تحبب إليهم المطالعة متى أرادوا بل تضطرهم إلى الاختلاف إليها. دع ما هناك من تمثيل الروايات العامية التي تطلعهم على أسرار الفنون وتحسن أذواقهم وخل عنك أندية المطالعة وأندية التمثيل وجمعيات الغناء والموسيقى التي تتكاثر الحين بعد الآخر.
وهكذا تجد العامي من الألمان قد خرج من غفلته وتغفله وصقل ذكاؤه ورق إحساسه وبدأ يفكر في غير الضروريات المادية في حياته اليومية واتسع أمامه ميدان النظر وامتد أفق الغايات السامية وراح يود الاطلاع على ما يحدث في العالم وعلم أن ليس لكل الشعوب ملوك وليسوا دونه في السعادة وأن بعض الشعوب تتألم لأنها محرومة من الحقوق السياسية وأخذ الألماني يفكر في قوانين حكومته وأوامرها ويبحث فيها ناظراً ما يتعلق منها بمصالحه واحترامه الشخصي ورأى من الظلم أن تكون الشؤون السياسية بيد طبقة خاصة من الأمة فينال النعم غيره على حين لم يكن دونه في المدارك وهو لا يرضيه الشقاء الذي قاساه حتى اليوم بل يتطلب الظهور ونيل حظه من اللذائذ.
ولما استحكم أساس الوحدة الألمانية تقدمت الديمقراطية بين أهلها كثيراً وسهل ذلك في سبيلهم ارتقاء الصناعات والتجارات ارتقاءً لا مثيل له. فصارت ألمانيا مملكة صناعية بعد أن كانت إلى سنة 1870 زراعية فكان يستخرج منها إذ ذاك 897. 000 طن من الفولاذ فبلغ ما استخرج من هذا المعدن سنة 1899، 6. 317. 000 وكان المستخرج من الحديد المسبوك سنة 1889، 3. 381. 000 فصار سنة 1900، 8. 520. 000 وكان قدر أنوال المنسوجات سنة 1887، 5. 381. 000 فأصبح بعد إحدى عشرة سنة 7. 884. 000 ونجحت الصناعات الكيماوية والكهربائية نجاحاً باهراً. ولألمانيا المقام الأول بين الأمم في استخراج السكر.
كانت نفوس ألمانيا سنة 1871، 39. 360. 000 نسمة تقريباً فبلغت سنة 1890، 47 مليوناً وسنة 1905، 60 مليوناً أي أن الشعب الألماني يزيد في السنة 805. 000 نسمة وكل مولود جديد يحتاج إلى مرتزق جديد له وقلما يجده في الزراعة إذا لم يجده في الصناعة والتجارة لأن مواد الزراعة ضيقة النطاق في تلك البلاد بحكم الطبيعة ولا يتأتى أن يعيش بها إلا عدد محدود من السكان فلم يبق من ثم إلا الصناعة يقيمون لها كل يوم أنواع المعامل الجديدة والمشاريع الصناعية والتجارية الحديثة وسينتهي الحال بأن تغدو ألمانيا بحكم الطبيعة في مقدمة الأمم بصناعتها.
ولقد كان لهذا التقدم الاقتصادي نتائج اجتماعية وسياسية كثيرة ذلك لأن هذا الارتقاء زاد في رفاهية الأمة وحسن الأخلاق وسعدت الحياة في ألمانيا وأصبحت داخلية المدن إلى اللطف والذوق يتوفر فيها الزخرف والبهرج والنظافة المفرطة. وإنك لترى في كل مكان خطوط الترامواي والإنارة بالكهربائية مألوفة في البلاد كلها وواجهات الدكاكين مزدانة وإمارات الغنى تتجلى في جميع الأعمال وترى أحياء العملة في المدن الكبرى كهمبورغ وبرلين وكولون لا تشبه غيرها من المدن الفرنسية مثلاً إذ ترى في تلك البلاد دلائل الحضارة ماثلة والناس يظهرون في أجمل بزة وزي وشارة. وللوالدين مطامع يرجونها لأبنائهم ويبحثون عن إيجاد أعمال أحسن من أعمالهم. وبالجملة فإن الشعب الألماني يرفع أسبابه المادية والأدبية عن معدلها السابق في المدن على الأقل.
ومعلوم أن كل نجاح مادي لا يقوم إلا ببذل النفس والنفيس في سبيله فالعامل والسوقة من الألمان يدفعون أجور منازلهم أغلى من ذي قبل وهي جديدة البنيان وإذ أصبحوا ينفقون على معيشتهم أكثر اضطروا أن يسعوا في زيادة أجورهم ومداخيلهم وهذا هو السر في قيام الاعتصابات واتحاد الطبقة النازلة مع أهل حزب الشمال الذي يعنى أهله بتحسين حالة الشعب وإعطائه من النفوذ السياسي أكثر مما كان له.
زاد نماء الشعب وانتشار الصناعة عنصر سكان المدن في ألمانيا. فكان سكان برلين سنة 1871، 800 ألف فأنافوا اليوم على مليونين وصار سكان همبورغ زهاء 800 ألف وارتقى عدد سكان كولون من 200 إلى 440 ألف فزاد عدد سكان المدن الكبرى ثلاثة أضعاف بعد الحرب السبعينية وهو يزيد على معدل 15 في المائة كل خمس سنين وليس في الأرياف غير 43 في المائة من مجموع سكان البلاد. وانتشرت الديمقراطية في المدن أسرع منها في الضواحي والقرى حيث يعتزل الأصاغر فيضعف أمرهم ولا يلتفت الناس إلا إلى القيام على الزراعة وتربية الماشية أما ساكن المدن فهو أكثر علماً وحركة وحضارة. ويسهل بث الدعوة الديمقراطية في عقول عملة المدن فإن اجتماعهم في صعيد واحد من الأرض يزيدهم قوة ومضاءً. وقد كان الصناع في كل زمن أسرع إلى النشوء في الديمقراطية من سكان الريف المزارعين إذ الفلاح في العادة من المحافظين وعامل المدن من الديمقراطيين. هكذا هو الحال الآن وهكذا كان الشأن في قديم الزمان. فقد ظلت إسبارطة منصرفة إلى الزراعة وحكمها أرستقراطياً عدة قرون وأصبحت أثينا ديمقراطية منذ انتشرت فيها الصنائع وراجت أسواق التجارة.