مجلة المقتبس/العدد 83/التربية الاجتماعية

مجلة المقتبس/العدد 83/التربية الاجتماعية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1913


أخواني الأعزاء

لا بد أنكم قرأتم أموراً كثيرة عن ذلك الفيلسوف الإنكليزي الشهير داروين. اصطدمت مخيلة هذا العالم الطبيعي صاحب الفكر الثاقب والنظر النافذ بحادثة فجائية تجلت أمامه أينما حل وحيثما ذهب، حادثة عامة وجدها تتناول جميع ما يدخل تحت عنوان الحياة نباتاً كان أم حيواناً: تلك الحادثة، كما تعلمونها عي التنازع عَلَى البقاء أو بتعبير أخص من عزم عَلَى محافظة حياته. وجب عليه أن يتجهز لرد طوارق الحدثان التي لا بد من أن يصطدم بها في كل آن.

جلبت نظره تلك الحادثة العامة فابتدأ من ساعته يبحث عن دواعي ذاك النزاع والأسباب التي تؤدي لتقوية بعضهم وتفوقهم وإضعاف الآخرين وتقهقرهم. فمكن جملة الأسباب التي وجدها، الصبر عَلَى شدائد الطبيعة، والتفوق من جهة الاقتدار المادي والمعنوي، وتزايد النسل عند فريق أكثر من الآخر غير أنه لم يقف عند هذا الحد بل واصل البحث والتنقيب حتى ظهر له بأن نتيجة هذا النزاع الدائم بين العناصر الحية هو بقاءُ الأنسب في العالم وأن السيادة مع تقلب الزمان تبقى في أيدي أولي العزم والتدبير فوجد عَلَى توالي الأيام أن الضعيف محكوم عليه والقوي حاكم، أو بعبارة أقرب إلى الحقيقة، الضعيف يموت والقوي يسود.

فهذه حقيقة قد أيدها علماء كثيرون قبل داروين، وفي جملتهم الفيلسوف العربي الشهير ابن رشد فإنه قال: (ليس عَلَى الضعيف عَلَى مر الأزمان إلا حالتان، إما أن يموت مذلولاً وإما أن يتمثل بأقوى منه فيكتسب صفاته وبذلك يقوى فيسهل عليه النزاع مع معامع الحياة) ولكن داروين، أيها الأخوان، لم يكتف بإثبات ما ذكر بل تدرج من القانون العمومي، قانون بقاء الأنسب، وظهر بنظريته المسهورة التي طالما تجاذبتها العقول وتشاحذت بها القرائح والأذهان وهي: الارتقاء في العالم.

سردت لكم أيها الأخوان هذه العبارات لا لأنني أريد شرح نظرية ذاك العالم المدقق، ولو أردت ذلك حقيقة لأضحككم حالي لعلمكم أن الوقت ضيق جداً وأن شرح تلك النظرية يتوقف عَلَى معرفة مسائل جمة لا تدخل في موضوعنا كما أني لست بقادر عَلَى إتيانها، وإنما أردت أن أذكركم والذكر لا تنفع، أن الحياة ليست كما يتوهمها كثير منا. فالطفل لدى خروجه من حجر أمه يقع في ارتباك ظاهر لما يتهاجم عليه من العوارض الكثير: فلمسة يد تؤذيه ولفحة قر تؤثر فيه. فيربو وينمو بين حرص الطبيعة وصعوبة المعيشة وكلما تقدم في السن كثرت احتياجاته وتراكمت عليه المشاكل وتضاعفت عَلَى جانبيه الرقباءُ حتى إذا ما أراد شيئاً وجد ألوفاً مع الموانع تزاحمه.

فهذه المناقشة أو بالأحرى هذا النزاع والتزاحم يتجلى بكل سعته وشدته عندما يخرج الإنسان من المدرسة إذ يكون حينئذ قد قبض عَلَى زمام إرادته وافلت من الحماية العائلية فيدخل إذ ذاك في حياة جديدة يطلب الرغيف والزاد متكلاً عَلَى قوة ساعديه وقيمة كسلبه فالوسط الذي يلجه يجد فيه أناساً كثيرين يزاحمونه عَلَى مرغوبه ويحولون بينه وبين مطلوبه. وهناك الطامة الكبر إذا لم يكن قادراً عَلَى دفع المشكلات وإزالة العثرات.

فحالة الأمم في وقتنا هذا لا تختلف عن حالة الأفراد إن لم تكن أشد وطأة وأعظم خطراً. فالأمة لا تنظر إلى حقائق الأمور بعين الاعتبار وتهمل نفسها بمجاراة مجاوريها في سبيل الرقي الأدبي والمادي تمسي ولا شك متدهورة في هاوية الدمار من حيث لا تشعر تختار السر وهو أشأم أصناف الانتحار وأفظعه.

قلنا أنه يجبعلى الأمة أن تنظر إلى عواقب الأمور وتسعى بكل جهدها وطاقتها وتستعمل جميع الوسائط لترقية أبنائها لا لترقيتهم بصورة مطلقة إذ أن ذلك لا يكفي، بل لإيصالهم إلى درجة يقدرون بها، بواسطة التعاون والتضامن بينهم، عَلَى الاحتفاظ بحريتهم وشخصيتهم لا جرم أنكم تعلمون أيضاً أن بعض الأمم في حالة من الرقي تختلف درجاته غير أن الرقي النسبي لا يجهل أحد منكم أن فرنسا تجتهد كل الاجتهاد لتزييد نفوسها ويحق لها أن تضطرب كل الاضطراب في الوقت الحاضر. أو بينا ترى نفوسها تزداد مائة وثلاثة آلاف في خمس سنين أي من تاريخ 1905 إلى 1909 فألمانيا قد زادت في الوقت نفسه، بما يربو عن الأربعة ملايين ومائتين وسبعة وأربعين ألفاً في حين أن إنكلترا وعدد سكانها 36 مليوناً ما عدا نفوس إيرلاندا واسكوتلاندا قد زادت سنة 1909 فقط بما يقدر بأربعمائة وثلاثة عشر ألفاً فالزيادة المطلقة التي وقعت في فرنسا في هذه المدة هو سبب ضعفها لعدم كفايتها بالنسبة لمجاوريها فهذه الزيادة العظيمة في ألمانيا تدعوها إلى أن تزيد عسكرها إلى 700 ألف مقاتل في وقت السلم وأن تتداخل في مسائل أغادير وغيرها مضطرة لا مختارة وتحتل أصقاعاً جديدة لتعينها وقت الشدة.

ذكرت لكم هذه الأمثل لألفت نظركم إلى أننا في ضيق وأن الوقت حرج جداً ومن ضيع الفرصة لا ينفع أن يعض أصابعه ويندم حيث لا ينفعه الندم. فيكتفي بمدح ماضيه ويعقد يديه أمام المستقبل. فمن أحب وطنه وعشقه حقيقة وجب عليه قبل كل شيء أن يصلح نفسه ويزينها بالعلوم العصرية ثم يفكر بأن هناك أمة له عليها حقوق عديدة منها حق بقائه فيجتهد إذ ذاك للقيام بواجبه نحوها وإيصالها إلى درجة الرقي والإسعاد، درجة تمنحها حق البقاء بين الأمم الحية.

أخواني، لا تظنوا بأني أعرض بالذين يفاخرون بماضيهم لأني أعتقد أن الإنسان لا يمكنه تسلق سلم المعالي إلا إذا عرف نفسه ومعرفة النفس لا تتم إلا بمعرفة الآباء والأجداد وما تركوا من الآثار. لأن الإنسان ليس ابن يومه بل ربيب أمه وأن هناك سلسلة تربطه، شاء أم أبى بالماضي. وما أصدق ما قاله الفيلسوف الشهير رنان الأمة مؤلفة من أمواتها أكثر من أحيائها فمن أراد خدمة أمته كان جديراً بأن يبحث عن ماضيها ويدرس تاريخها ويكشف التراب عن تلك الجذور التي تسنده في حياته دون أن يراها ثم يستعين بها لخدمة مبدأه وتعزيز غايته، غير أنني قصدت بقولي إذ ذاك من يتحمس مفاخراً بقوميته مع أنه يجهل أصلها وفرعها يجهل رجالها وآثارها، قصدت بقولي من يصرخ دائماً، أمتي، أمتي، كانت صاحبة علم ومجد، صاحبة مدنية عظيمة، أوليست هي مهد المدنية الغربية؟. . . . وكلها جمل مفخمة سمعها من رفيقه واكتفى بتردادها في كل محفل ومحضر دون أن يفكر بأن الألفاظ لا قيمة لها إذا لم تستند عَلَى دلائل علمية وأدلة حية.

من حب أمته فليبحث عن أحوالها وآثارها وليجتهد في تلقيح ما هو موفق من المدنية الغربية فيها. نحن العرب، يقال عنا أننا أذكياء، فلو سمعنا بهذه القضية أليس يجدر بنا أن نفهم الآن أننا في القرن العشرين، قرن الجهاد المتمادي والسعي المتوالي وإن الذكاء وحده لا يكفل للإنسان حياته إذا لم يأخذ بالأسباب بإرادة أشد من الحديد. نعم عن هذه الصفات صعبة المنال غير أنه يجب عَلَى الإنسان أمام المصاعب أن لا يقنط إن الأمة لا تعمد عَلَى حالها وليس لها ثقة بأفرادها تكون قد أساءت الظن بنفسها ومن أساء الظن بنفسه تدرج إلى اليأس وهناك الطامة الكبرى إذ ليس بنتيجة اليأس إلا الفتور والخمول.

فحينئذ يجب عَلَى كل أمة أن تنتبه كالأفراد إلى شخصيتها وتتأهب إلى يوم معلوم. يوم لا بد أن تختبط مع غيرها فيه فإذا كانت خبيرة متيقظة في أمورها حازت قصب السباق وإلا وقعت كما هي حالتنا الآن في هوة الذل والهوان.

تذكرون ولا ريب قول ذاك الحكيم الاجتماعي مونتسكيو بحق القوة: القوة تجري إلى أن تجد مانعاً فيصدها فهذا القول ينطبق عَلَى جميع القوات طبيعية كانت أم اجتماعية. أليست تشكلات أوربا السياسية وتجمعها حول الاتفاق والائتلاف مستندة عَلَى هذه النظرية أوليس ضعفنا وتشتت شملنا هو الذي أطمع الحكومات البلقانية أن تزحف علينا بقواتها وترغب في ابتلاعنا. التساهل بالأمور وحسن النية والاتكال عَلَى الغير أمور لذيذة. لأنها هينة التناول ولكن يا للأسف إننا نرى السياسة متلونة ولا تلون الحرباء لا ثقة بها مطلقة. وما التساهل وحسن النية بالأمور إلا بلاهة ومسكنة.

كنت أظن أننا قد اعتبرنا بما قد أتى عَلَى رؤوسنا من الدروس التي أوشكت أن تضي علينا بتاتاً، كنت اظن أنه لم يبق أحد في المملكة العثمانية إلا وقد اعتبر بما انتهت إليه سياستنا العنصرية التي بعثرت قوانا وكادت تفرق قلوبنا بعضها عن بعض ولكني وجدت ويا للأسف - بالرغم عما كنت آمل - منشئاً يكتب السطر الآتية في جريدة تنشر في العاصمة: العناصر المختلفة التي تعيش في السلطنة العثمانية لا يمكنها أن يكون لها قوة نافذة بجانب العنصر التركي. منذ خمسة عصور ونحن عائشون تحت عنوان العثمانية، ففي القرن العشرين ينبغي أن نعيش تحت عنوان الترك؟.

لم اذكر لكم معشر الشبان الكرام هذه الأمثولة إلا عَلَى سبيل الاستطراد وليس جديراً بالإنسان أن يغالي بسوءِ الظن، لأن التسامح واجب والتعاضد ضروري خصوصاً في الهيئات الاجتماعية - غير أنه ينبغي علينا أن لا يحسن الظن بما يستحقه وأن ينظر إلى المستقبل بعين الدقة خصوصاً إذا كانت حياة أمة في موضع البحث وأن يعتمد عَلَى نفسه واجتهاده وعند الحاجة يكون مقتدراً عَلَى العمل بوصية الشاعر:

وإذا بليت بظالم كن ظالماً ... وإذا لقيت ذوي العدالة فاعدل

أخواني الكرام،

أريد الآن أن أتكلم عن التربية الاجتماعية أو بالأحرى عما تحتاج إليه التربية الديمقراطية.

والذي دفعني لتخصيص هذا البحث في هذا الموضوع ظاهر عَلَى ما أظن. لأن هذا الفرع من التربية هو الذي شغل أكثر المفكرين لتناوله جميع الأفراد وله في وقتنا الحالي مكانة عظمى عند الأمم الراقية.

إن الوقت الذي كانت تستعد به الأمم بمجيءِ رجل ذي دهاء يتولى أمورها قد قل حظه وسيدفن عن قريب بين صفحات التاريخ وإن الدور الذي كان الأمر فيه بيد شخص واحد يتصرف كيف يشاءُ قد مضى وانقضى وها نحن الآن في زمن، لصغير القوم وكبيرهم حقوق يطالب بها ووظائف يدعى إلى القيام عليها، يشترك برأيه بمهام الأمور ويضع إصبعه في كل مسألة تتعلق بحياة أمته وارتقائها فمن ثم وجب عليه أن يكون قادراً عَلَى تمييز الغث من السمين ليفيد الهيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها بسعيه وعلمه. هذه المسألة من أهم المسائل الاجتماعية قدرتها المم الغربية حق قدرها وهي تشتغل ليلاً ونهاراً بتطبيقها، بنشر العلم وتعميم الفائدة بين جميع أبنائها حتى يكون كل فرد مفيداً لأمته برأيه وسعيه وعلمه وماله.

إن من الأفراد من يعلقون آمالهم وترقية أمتهم عَلَى حياة شخص واحد. إن الأمة التي لا يمكنها أن تكون معجن الرجال والتي تعلق شقاءَها وسعادتها عَلَى شخص واحد ليس لها الحق في أن تدخل مصاف الأمم الحية. الأمة الحية هي من إذا فقدت بالمرستون أتاها بيكونسفيلد ومن إذا أضاعت بيكونسفيلد داءها غلادستون ثم شامبرلين، فساليسبوري، فالبسفور فاسكويس من الرجال الدهاة والأمة الحية هي التي تملك أمثال هؤلاء الرجال ولا يهمنا إذا سقط واحد فإن هناك جماً غفيراً قادراً عَلَى أن يخلفه. فالروح الأساسية هي التي تأتي بالأعمال العالية هي روح الأمة من حيث المجموع ولا تظنن أن بسمارك كان يمكنه أن يفعل ما فعل ويوحد العنصر الجرماني تحت يد واحدة لو لم يكن مستنداً عَلَى أمة غذاؤها العلم والانتظام وأعني بهما التربية المدرسية والروح العسكرية ولا تظنن بأن تيير الفرنسوي كان يستطيع دفع الخمسة مليارات ويخلص وطنه بمدة وجيزة لو لم يكن وراؤه أمة تعودت الاقتصاد وتأصلت فيها مزايا الاستثمار.

فحري بنا نحن أبناء العرب أن نقتفي إذا أردنا لنفسنا حياةً حرةً أثر تلك المم وأن نبث روح التربية الديمقراطية بكل صقع من أنحاء جزيرة العرب وسورية.

إن الأخصائيين في هذا الفن قد عرفوا التربية بصور عديدة فقال الفيسلوف الألماني (كانت) التربيثة تنمية الصفات الكمالية في الإنسان بقدر ما تستطيع طبيعته أو بقدر ما يتحمل استعداده. وتقول مادام نكور دوسو سور وهي آنسة اشتهرت بهذا الفن: تربية الطفل، هو إيصاله الحالة يقدر بها أن يفي بوظائفه الحيوية بأحسن صورة، ويرى هربرت سبنسر أن التربية هي إحضار الطفل للحياة الكاملة، وعرفها جيمس ميل الفيلسوف الأميركاني هكذا المقصد من التربية هي جعل الطفل آلة سعادة لنفسه ولغيره.

وبعد فإن جميع ما ذكرناه من التعاريف في التربية يتعلق بغايتها لا بذاتها ويخلو أحدها من الإبهام. لأنه إذا سئلنا ما هي الحياة الكاملة وما هي السعادة يصعب علينا أن نجاوب جواباً شافياً لأن هذه الكلمات تدل عل أشياء نسبي لا يمكن حصرها ثم فهمها. عرف جان جاك روسو التربية بذاتها فقال: التربية هي صنعة لتنمية الأطفال وإعداد الرجال فحسن هذا التعريف أنه قصير ومختصر غير أن قصره المفرط ولد فيه نوعاً من الإبهام.

ولذلك أرجح التعريف الآتي وإن كان مطولاً غير أنه يدل عَلَى المقصود ويؤلف بين التعارف التي ذكرناها التربية هي مجموع الأعمال المفكرة لمعاونة طبيعة الإنسان في ترقية خصائصه الجسمية والعقلية والأخلاقية، بقصد تكامله وإسعاده وإيفاء وظيفته الاجتماعية فهذا التعريف يجلو للأنظار بأن التربية ينبغي لها أن تنطبق عَلَى الصفات الثلاث المتمم بعضها بعضاً في الإنسان وهي الصفات الجسمية والفكرية والأخلاقية.

أستأذنكم أن أتبع كلمتي في التربية الديمقراطية بما يتعلق بالمعلومات الأساسية والصفات الفكرية والإرادية التي يجب أن تؤسس في عقل الطفل من حيث أنه عضو فعال وأن يكون بحثي بصورة خاصة في الولد الذي دخل مدرسة لتكميل ما تعلمه لأجل ذلك خصصت بحثي بالتربية وتركت تربية الأسرة والتربية اللا مدرسية (إن صح التعبير) أي التربية الذاتية بعد الخروج من المدرسة. ولي بذلك مأرب يهم الحياة العربية.

لا بد أنكم اطلعتم عَلَى بعض المقالات التي نشرت في المدة الأخيرة عَلَى صفحات الجرائد في دمشق تحت هذا العنوان المبادئِ العالية فتوالت المقالات عَلَى إثر انتشار المقالة الأولى حتى ظن أنه يوجد اختلاف بين آراء الكتاب في هذا الشأن ولكن الخلاف لم يكن إلا اختلافاً وهمياً لمن ادعى أنه لا صلاح إلا بإصلاح الأسرة فقد نطق بالصواب لأن العائلة عَلَى التحقيق هي أساس كل جمعية وقوامها. غير أنه إذا سئل كيف تصلح الأسرة، فماذا يكون إذاً الجواب؟

أيتمكن الأبوان أن يتوفرا عَلَى تربية ابنهما أو بنتهما مع أنهما لا يفقهان ما هي التربية وما معناها، وهل يكفي أن يلقن الآباء والأمهات معنى التربية بواسطة المحاضرات والمؤلفات والجرائد وهل هم يحسنون القراءة وإذا قرؤ أو توصلوا لفهم معنى التربية هل يتمكنون من تطبيقها وهل يمكننا أن نغير طبائعهم وعاداتهم بعد أن وصلوا إلى تلك السن ونعلمهم الثبات والدوام في العمل لأجل أن يتيسر لهم اقتطاف الثمرات أن يمكننا أن ندخل البيوت ونأخذ النفس بتربية الأطفال. كل هذا وهم باطل إذاً فلنوجه أنظارنا إلى المدارس لأن هناك آمالنا وهناك مستقبلنا هناك يمكننا أن نؤثر في الطفل وأن نغرس فيه بقدر الإمكان بعض الطبائع الحسنة ونعلمه الثبات والمضاء إنني لا أنكر ما للمؤلفات والمحاضرات من الخدم العظيمة بهذا الشأن كما أنني أعتقد أن تلك الخدم بالرغم من مكانتها ثانوية بالنسبة لتربية أمة كأمتنا.

قلت أن المكتب هو الذي يجب أن يكون المبدأ لتربيتنا: لأن الولد الذي يتيسر له نيل تربية حقيقية في المدرسة يمكنه أن يؤثر في إصلاح أسره وأن يكون سبباً لإسعاد أولاده وترقية أمته في المستقبل. ولكن من لنا بأن يربى تلك التربية التي أشرنا إليها في مدارسنا. أولئك الرجال الذين يعلمون فيها الآن؟ فكفى بنا ذهولاً واسمحوا لي بأن أهتف إلى الغرب الغرب.

لنرجع إلى موضوعنا أي إلى كيفية المعلومات الأساسية والصفات التي تتعلق بالفكر والإرادة والتي يجب عَلَى المعلم أن يلقنها تلميذه بصفته عضو من أعضاء هيئة اجتماعية وديمقراطية ولذا فلنبدأ بالتربية العقلية لأن التربية الجسمية المدرسية وضررها معلوم عند الجميع.

قلت فلنبدأ بالتربية الفكرية لأن الطبيعة الأخلاقية في الرجل وإن كانت هي التي تعطيه القوة اللازمة لاقتحام المصاعب غير أن الذكاء هو الذي ينير طريقها ويعين لها وظيفتها.

وعليه فلتربية يجب أن يكون أساسها العلم وأن تستند في جميع أوقاتها عَلَى مكتشفاته وأصوله الثابتة. لأننا في قرن الحقائق العلمية والخرافات الناشئة عن الجهل، التي تدرس في مدارسنا بدون أن يشعر بها المعلم هي لائقة بعصر كان للخرافات والتخريفات فيه حظ وجال. فالعقل البشري في عصرنا هذا خاصة لا يطأطئ لسهولة أمام البداهة العلمية.

ولكن ماذا يفهم من قولنا أن العلم يجب أن يكون روح التربية الفكرية في مجمع ديمقراطي؟

هل يمكننا أن نطلب من الخلق بان يملكوا كلهم فنون العلم بحذافيرها ويتمثلوا بها. كلا! فإن ذلك لا يدخل تحت دائرة الإمكان. وحيث أن الجمعية مرتبة من أعضاء مختلفين في استعداداتهم وطبائعهم فقسم منهم بطبيعة الحال يبرع مثلاً بالعلوم الاجتماعية وآخر بالعلوم الرياضية وآخر بالتجارة والصنائع والزراعة. . . الخ. وعلى كل منهم أن يكون عالماً في صنعة آمراً كان أو مأموراً وما العالم إلا من أخصى في شعبة من شعب الفنون الحاضرة فعليه ليس المقصد، كما قال رنان، أن يكون كل الأفراد علماء بل المقصد أن يشترك الكل بثمرات العلم أو بعبارة أجمل كما قال نوسيديد ليس المقصود أن يكون فرد قادراً عَلَى حل كل المعادلة بل يكتفي أن يقتدر عَلَى إدراك النتيجة من حلها.

فعليه ماذا يترتب لاستحصال هذه النتيجة العامة التي يجب أن تشمل الجميع بدون استثناء؟ أو بعبارة أخص وأوضح ما هي الأمور الضرورية التي يلزم نشرها بين جميع أبناء العرب تلك الأمور ثلاثة. أولاً نشر الحد الأصغر من المعارف الأساسية بين جميع أبناء الناطقين بالضاد ثانياً تأسيس عادات فكرية حسنة ثالثاً نشر بعض المعلومات التي تتعلق بالاكتشافات الفنية.

الحد الأصغر الذي يجب نشره من المعارف لا يمكن تحديده بصورة قطعية، لأنه يتغير بتغير الأحوال والاستعدادات فمنهم من يبرعون ومنهم من يتأخرون غير أن القاعدة العامة هو أن يبتدأَ بنشر المعلومات الابتدائية التي هي بمثابة الآلات الضرورية لترقية الفكر في المستقبل كالقراءة والكتابة وبعض قواعد اللسان العربي والحساب بإضافة بعض المعلومات التي تتعلق بالتاريخ وبما يحيط بالإنسان إذ لا بد لها لمعرفة الماضي والحال وإنارة طريق المستقبل فإذا دعمت هذه المعلومات الابتدائية بصورة مختصرة معقولة وبواسطة المدارس عَلَى الخص تمكن الرجل من أن يوسع معارفه فيما بعد بدرس المؤلفات وسماع المحاضرات هذا إذا لم يدخل في إحدى المدارس العليا ولم يساعده الحظ عَلَى إتمام عقبات التعليم.

غير أن المقصد الأساسي من تلقين هذه المعلومات الابتدائية يلزم أن ينصرف لتأسيس عادات وطبائع فكرية حسنة بحيث يكون الرجل صاحب فكر سليم في جميع أفعاله ومحاكاته وأن يتعود فهم الحقائق بدون أن ينخدع بالظواهر وأن يرى، كما قال المسيو ألفرد كروازي، مدير كلية العلوم الأبية بباريس، من وراء الكلمات المعاني، ومن وراء المعاني، الأشياء بذاتها. المقصد من المعرفة أن يستطيع الإنسان فهم الحقائق والحكم عَلَى الأشياء لا يتيسر إلا بالاطلاع عَلَى كنهها ومعرفة القوانين التي تدار بها.

سلامة الفكر تقتضي نفوذ النظر وشدة الثبات لنيل المقصد والذي يجب أن يولد عند الطفل الميل لمعرفة الحقائق لأجل أن يستخدمها، يجب كما يقول ديكارت الفيلسوف، أن نتمثل بالأشياء بدل من أن نقودها بميولنا الهوائية. الطبيعة لا تنقاد لمن يغضب عليها بحمق وجهالة، لأن الغضب وسواه عندها سواءٌ. وماذا يا ترى، نفع كيكاوس عندما أخذ السوط بيده وجلد به البحر ليؤدبه عَلَى هيجانه أمامه.

فعليه يجب علينا أن نعود الطفل النظر في الأشياء بعين البصيرة والتروي وأن نولد عنده طبيعة البحث عن حقائق الأمور والمثابرة عَلَى العمل ليتلذذ بثمراته.

قلت أن المثابرة عَلَى العمل والبحث ضروريان لكل شخص إذا أراد أن يتمتع بثمرات حياته ويا للأسف معاشر أبناء الشرق واخص أبناء العرب تنقصنا هذه الفضيلة الاجتماعية؟ لأن لذة التحصيل ومعنى الحياة لم تمازج أرواحنا فالذي يخرج منا من إحدى المدارس العالية يعد نفسه أنه وصل إلى منتهى الكمال في العلم؟ فيعقد يديه ويتمدد عَلَى سريره كأنه بلغ الغاية القصوى. هذه حالتنا الآن وهذه حالتنا في زمن ليس بقريب. درس كلوت بك أحد المستشرقين أخلاق العرب عَلَى عهد محمد علي باشا الكبير بمصر وسورية فامتدح منهم وأعجب بذكائهم وسرعة انتقالهم وقال إنهم لا يقصرون عن أبناء الغرب شيئاً غير أنهم يملون بسرعة ولا يداومون العمل بصورة جدية.

فهذه الخصلة، أيها الأخوان، من أتعس النقائص الاجتماعية في زمننا هذا ولقد ثبت أن الألمان لم ينجحوا ويبرزوا أكثر الأمم إلا لأن هذه الصفة امتزجت بطبائعهم وقبضوا عليها أكثر من غيرهم. فيمكننا نحن العرب، والأمثال عديدة احتذاء مثال الناهضين بأن نعطي للحياة حقها ونتخلق بهذه الصفة الضرورية لنا إذا أردنا أن نخدم أنفسنا ونقوم بأمتنا.

بقي عليّ أن أقول كلمة في القسم الثالث ألا وهي الأفكار العامة التي يجب أن تلقن للطفل في صغره. أول شيءٍ يمكننا أن نعلمه للطفل أن يعرف شخصه ومن هو وإلى أي أسرة ينتمي، وبأي لسان أمة ينطق ومن هي تلك ألأمة التي يرتبط بها بعاداته وطباعه ثم ننتقل به إلى الأمم الأخرى بحيث تدخل في ذنه النقطة الأساسية وهي الفرق بين الماضي والحاضر فنشا له بذلك فكرة عامة وهي فكرة الترقي الدائم في العالم. يلزم أن يعرف أن العالم لا يتبع الأهواء والأهوية في تقلباته ودورانه بل هناك نظام وقوانين يدار بها يخضع لها لا بد أنكم توهمتم بعظم هذه التعابير التي ذكرتها كالرقي الدائم والنظام في العالم، وسألتم أنفسكم كيف يمكن تلقين ولد حديث السن فهم هذه الحقائق العالية ولربما ضحك بعضكم في سره من هذا الفكر.

نعم ليس المقصد أن يدخل المعلم في تفاصيل هذه المسائل لأنه يستحيل عليه إفهامها كلها للطفل ولكن يمكنه أبداً أن يوضح ما أشرنا إليه بيان الخطوط الأولى فقط المدونة في التواريخ والكتب الاجتماعية. وعلى وجه الاستدلال أريد أن أنقل لكم عبارة للمؤرخ العالم الكبير المسيو لافيس أحد أعضاء المجمع العلمي بباريز قال: إن التقلبات التي أتت عَلَى الإنسانية مرئية محسوسة ولا حاجة للإنسان لأن يكون عالماً نحريراً أو فيلسوفاً كبيراً ليتمكن من التوقف عَلَى سرير الروح البشرية التي تقلبت بين الأعصر الغابرة لا يكتف المعلم بتفهيم شروط الحياة بين الأدوار المهمة فقط وليقل مثلاً أن الإنجيل يفرق بين كليتمنستر ولاسيل وأتالي لرسين والحروب الصليبية بين أشيل والسيد والصليب بين أفلاطون وباسكال ويبن الفروق الأساسية بين القسمين فعندها يحس الولد من نفسه بأنه منقاد بتاريخ الإنسانية عَلَى الدوام. وفي الوقت نفسه يقوده معلم التاريخ من الجمعيات الابتدائية إلى أن يوصله إلى الجمعيات الحاضرة بشرط أن يوقفه عَلَى الأصول ويهمل ما دون ذلك من الفروع.

وبديهي أنه لا يمكن استحصال هذه الشروط ولا يتيسر توسيع الفكرة وإنارة الذهن إذا لم يكن هناك حرية فكرية مطلقة. فالحري هي غذاء الفكر وقوامه وبدونها يصبح الفكر كالعضو المعطل عن الحركة فبعد أن يمضي عليه مدة من الزمن يتحضر ثم يعجز عن الإتيان بعمل واحد أحب أن أذكر لكم هذه الأمثولة التاريخية بهذا الشأن.

دخلت الدجة دورليان ذات يوم سنة 1842 ومعها ولدها عَلَى فيكتور هوجو وسألته ماذا يجب أن تعلم ولدها فقال: يجب أن تعلميه أن فرنسا تقيد العالم بأسره وأن الذكاء يقيدها. ماذا كان القصد من هذا الجواب يا ترى؟ القصد، هو أنه إذا ساعد الحظ ابنها الدوج دي باري وجلس عَلَى سرير السلطنة بعد والده لوي فيليب، يعرف أن الفكر حاكم عَلَى كل شيءٍ وأن مراعاته واجبة حتى عَلَى الملوك فبالحقيقة لا يقف شيءٌ أمام الإنسان إذا كان متبصراً مستنداً عَلَى حرية الفكر وقوة الإرادة.

وهاءَنذا أختم حديثي بكلمات عن التربية الأخلاقية فأقول: تعرفون ولا بد أن قسماً من الأخلاق تكون عَلَى مدى الأزمان وسير الأيام بصورة قطعية فالمذاهب والأديان العالية كلها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر مثل: يلزم عليك أن تطيع والديك وتع ين جارك وتحافظ عَلَى ح رمتك وتصبر عَلَى الأجن والآلام وتفتش عن السعادة باكتساب الفضائل فهذه الأحكام هي أحكام ثابتة، تتعلق بغايات عالية وبمقاصد شريفة. غير أن هناك صفات أخرى من الأخلاق بالنسبة إلى التشكلات الاجتماعية الحاضرة يجب أن تضاف إلى القسم الأول وأن ترسخ في عقول الأطفال وهذه الصفات تدعى بالأخلاق المدنية فأريد أن أجعلها كلمتي الأخيرة.

المقصد من الخلاق المدنية مزدوج فمن جهة، هو توليد فكر الاستقلال الشخصي في الطفل وجعله قادراً عَلَى أن يأتي بأعمال شخصية مثمرة، من الجهة الأخرى السقاءُ حسن التأليف بين الأعمال واستقلال الإرادة وسوقها إلى هدف معين. فالمراد من الأول هو الشخص ومن الثاني الجمعية. فالأول يقوي الفرد عَلَى السعي والعمل والثاني يحمله عَلَى إشراك مساعيه مع غيره فنقول بذلك لتأمين منفعة الشخص ومنفعة الهيئة الاجتماعية معاً. ولا شك بأنه يتيسر للأمة رقيها ونجاحها إذا كان الأفراد أقوياء متقدمين عَلَى فكر التعاون والتضامن.

الرجل القوي صاحب الاستقلال الشخصي والجرأة المدنية هو، عَلَى مذهب سقراط، من تغلب العقل فيه عَلَى الأميال والذي إذا تحقق لديه عمل نافع وغاية شريفة مشى نحوهما بقدم ثابتة دون أن يبالي بكثرة الموانع وازدحام المهالك.

المستر روزفلت، رئيس جمهورية أميركا الشمالية سابقاً، هو مثال مجسم في هذا الشأن ومن درس حياته ومناقشاته الاجتماعية إلى الآن يدرك أنه هو ذاك الرجل الذي يقول في كتابه (الحياة المتينة): الأمة لا يمكنها النجاح إذا لم تعود أولادها بذل الجهد. لا لاجتناب المصاعب، بل لقمعها، ولا للبحث عن الراحة فقط، بل عن معرفة إحراز الظفر من أيدي المشاكل والمخاطر. يجب عَلَى الرجل أن يفرح إذا أتى بعمل الرجال ويسر إذا تجرأ عَلَى تحمل الصعوبات وكد وجد وحافظ عَلَى نفسه وعل من يلوذ به، يجب عَلَى المرأة أن تكون مديرة لبيتها، رفيقة لزوجها، عاقلة لا تجزع من كثرة الأولاد الأقوياء الأشداء حولها. فرجاؤنا إلى أبناء العلم والتعليم عَلَى الأقل أن يبذلوا الجهد في إنشاء هذه الصفات العالية بين الناشئ الجديدة ومن يليها.

ويكفي أن يكون الأفراد أقويا إذا لم تنور أفئدتهم بحب المنفعة العامة وتعلق آمالهم وغاياتهم برقي الشعب الذي يرجعون إليه؟ الرجل المتفرد لا قيمة له وما قيمة المرء إلا بقيمة الهيئة الاجتماعية التي ينتسب إليها. وهل ينكر أحد أن مبدأ الترقي والمدنية هو التعاون والإخلاص المتقابل بين الأفراد! ليست هي الجمعية التي تحمل الفرد أن يتجول بكل حرية ويظهر استعداده ولياقته أينما كان. إذاً عَلَى كل فرد أن يحب أمته ويسعى لإرضائها وإسعادها، تلك الأمة التي ضمته إلى حجرها ضمنت له الحياة ثم دربته إلى أن تيسر له استنارة مداركه وأعماله. الرجل الذي تبرأ من أمته ويهمل أمرها بعد أن أخذ غذائه منها هي ولا شك، غنية عنه وعن أمثاله ومن يقدر المنفعة العامة ويخدمها ولو كان ذلك يؤدي في بعض الأحيان إلى ضرره الذاتي، فهو مبجل في جميع الأزمنة في نظر أمته ونظر الإنسانية.

حكمت أثينة ظلماً عَلَى سقراط بشرب السم. فبدلاً من أن يركب العار ويفر من قانون أمته رضي بحكم الجمهور وتجرع كأس المنون صابراً غير جازع فحب الأمة وحسن المفاداة بمنافعنا الحسيسة بحبها يجب أن تنير أفئدتنا ويعلي مقاصدنا وما أحسن ما كتب عَلَى نصب قبر أحد أولئك الأبطال الذين فادوا بأرواحهم في حرب ترموبيل حباً بأمتهم: أيها العابر اذهب وخبر إسبارطة إننا لم نمت في هذا المكان إلا حباً بإعلاء شرفها وتأييد حريتها! وهل فعلت الأعراب أقل من ذلك وما السائق الذي دفع طارق بن زياد أن يحرق المراكب وينادي بعسكره: الموت أو الظفر، وما الذي ساق محمداً المنصور الوزير الأندلسي الشهير أن يتمدد عَلَى الطريق ويصد الفارين بنفسه إذا لم يكن حب الوظيفة وحب الأمة والوطن.

الفضيلة التي تأمر الإنسان أن يضع نفسه دون مبادئه العالية هي من أول الفضائل التي سطرها التاريخ عَلَى صفحاته. فلنجد أيها الأخوان، لاكتسابها فإن لنا باكتسابها الفوز العظيم.