مجلة المقتبس/العدد 84/في بلاد الغرب

مجلة المقتبس/العدد 84/في بلاد الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1914



(كتبنا في جريدتي القبس والمقتبس زهاء أربعين رسالة من ديار الغرب وضفنا فيها رحلتنا الأخيرة إليها وما لحظناه من أسباب ارتقائها واقتبسناه من فوائدها وعلومها وقد رأينا ان ننظر في أكثرها ونحذف ما ليس له علاقة بموضوع هذه المجلة وان ننشرها تباعا عسى ان تكون عليها هنا مسحة غير التي كانت لها في الصحف الطيارة وان يراجعها ويمعن النظر فيها من تهمهم هذه الموضوعات الاجتماعية).

دواعي الرحيل وجهلنا ببلادنا

كان من طاف بلادنا وقابل بين حالها وحال الأقطار الراقية يدرك لأول وهلة اننا عيال على الغرب والغربيين في كل شيء وأنهم إذا قطعوا عنا أقل صادراتهم نعود أدراجنا على النحو الذي كنا عليه منذ بضعة قرون. وهذا مما يصدق علينا في عامة شؤوننا والعلم هو أول بضاعة يجب علينا ان نستبضعها من الغرب وهو رأس الحاجيات وبدونه الممات.

وما كنا نظن بعد ان أحفينا مكاتب مصر والشام لدرس موضوع اننا كلما أوغلنا في تضاعيفه يتجلى كل التجلي جهلنا ببلادنا وأننا سنحتاج بعد بحث نحو خمسة عشرة سنة إلى ان نقصد إلى مكاتب أوروبا نأخذ منها ما فاتنا في أرضنا من المواد التي لم يحولها المطبوع ولا المخطوط مما كتب لنا الاطلاع عليه في مكاتبنا الخاصة والعامة أي غضاضة على الشرقي ان يرحل باحث في شؤونه حباً بإتقان عمله إلى غير أهله وبلده وان يتسقط الفوائد من الغريب والقريب في معزل. بيد ان يوما طويلا امتدت لياليه السود على هذا الشرق سلبت منا بحكم تنازع البقاء وبقاء الأنسب تراث أجدادنا في هذا الوجود وجردنا من منافعنا ومرافقنا وكتب أسلافنا العرب كانت أول ما رحل عنا غير آسف إذ لم يعرف لها الخلاف قيمتها الحقيقية والأسفار في كل الإعصار هي مفتاح فتح الأمصار والعلة الأولى في سعادة الشر ونقل المدنيات من النظريات على العمليات.

هاجت الخواطر في النفس خصوصا عندما ذكرت ان أميرا واحدا من أمراء ايطاليا وهو البرنس ليوني كايتاني مؤلف تاريخ الإسلام الكبير هو الذي جمع بسعيه وتنشيط حكومته مكتبة له منقطعة النظير في الغرب نفسه فيها كل ما يحتاجه باحث في تاريخ الإسلام والعرب وبلادهم فاستنسخ من المكاتب الخاصة والعامة في أوروبا وأميركا واسيا وإفريقيه كل مخطوط عربي فيه شيء من هذا القبيل وما لم يقدر على نقله اخذ له بالتصوير الشمسي فمن زار هذه المكتبة فكأنه زار مكاتب العالم أجمع واطلع على ما فيها من المواد التاريخية والجغرافية في هذا الباب.

شبهتني وأنا أشد الرحال إلى رومية للبحث في مكتبة الأمير الايطالي بطلاب العلم في أوروبا في القرون الوسطى وكان بعضهم من الإسرائيليين يقصدون بلاد الأندلس ليقرؤوا على علماء العرب علومهم ويرجعوا من كتب المسلمين ببله تروي غلة جهلهم فسبحلت وحوقلت قائلا ما أغرب تبدل الأمم والبلاد وما أهنأ الغرب بما صار إليه من دواعي المنعة وأسباب اعلم وما أشقانا بما فعل السفهاء منا.

يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواما بأقوام

وليت شعري يعود ذاك العهد السعيد بالعلم على العرب ويصبح أبناء اليوم يفاخرون بالقاهرة والقيروان وفارس ودمشق وبيروت وحلب وبغداد والموصل وصنعاء ومكة كما يفاخرون بغرناطة واشبيلية ولشبونة وغيرها من مدن الاندلس وصقلية التي استعمرها العرب بالعقل والعلم وأضاعها بعد ذلك جهل أبنائهم وغرورهم؟

أيظل الشرقي يا ترى يعتقد في نفسه الكفاءة والغناء ويقلع عن القول بان الغربي يغمطه حقه باستباحته حماه واكتساحه دياره الحين بعد الأخر؟ أم يهب باحثا عن جميع علل هذا الارتقاء عندهم والتدلي عندنا ويتعلم ما جهل مع الشكر لكل من يعلمه وينعشه من سقطته.

حكوماتنا هي السبب الرئيسي في إظلام العقول واشتغالها بالفضول وأهل الغرب هم الذين قوموا معوج حكوماتهم فهل ندرك جيلا من الناس يقوم اعوجاج حكومات الشرق ونتمتع على الأقل بمعرفتنا بأنفسنا ومن عرف نفسه عرف ربه.

دار الدعوة والإرشاد في القاهرة

اغتنمت فرصة مقامي بضعة أيام في القاهرة لقضاء بعض المشاكل أثناء شخوصي إلى ايطاليا لازور دار الدعوة والإرشاد التي أنشأها صديقي السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار في السنة الماضية وكان ينوي إنشاءها في الأستانة أولا لو صادف من القابضين على زمام الأمر تنشيطاً على مشروعه وغرضه الأول من إنشائها إيجاد هيئة صالحة بالعمل من رجال الدين يجمعون إلى معرفة الدين النقي وأسراره وحكمه المطابق لأحوال الزمن معرفة أحوال العصر حتى تحل هذه الطبقة محل الهيئة القديمة التي كادت الأمة تنزع ثقتها منها.

انشأ هذه المدرسة الصديق الرصيف أو جماعة الدعوة والإرشاد وهي جمعية مؤلفة من ظاهر الفضل والعقل والتدين لتخريج علماء مرشدين قادرين على الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والإرشاد الصحيح وإرسالهم إلى البلاد الشديدة الحاجة إليهم ويرسل الدعاة إلى البلاد الوثنية والكتابية التي فيها حرية دينية ولا يرسلون إلى بلاد الإسلام إلا حيث يدعى المسلمون جهرا إلى ترك دينهم والدخول في غيره مع عدم وجود علماء مرشدين يدفعون الشبهات عن الإسلام ويبينون حقيقته لأهله.

وقد جاء في النظام الأساسي لجماعة الدعوة والإرشاد انه تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات الموقوتة والإعانات والتبرعات والهدايا والوصاية والأوقاف التي توقف أو ما تناله من ريع أوقاف أخرى ومن ريع رأس مالها ويضاف ربع دخل الجمعية السنوي إلى رأس المال للاستغلال وهذا ماعدا المبلغ الاحتياطي وكان تبرع لهذه الجمعية بعض الأجواد من العرب وفي مقدمتهم الشيخ قاسم آل إبراهيم من كرماء جزيرة العرب بالغي جنيه مباشرة ولعله يتبرع بغيرها كل سنة.

في جزيرة الروضة المشهورة الآن بالنيل حيث قام في جنوبها مقياس النيل المبارك بين جسر (كوبري) عباس وجسر الملك الصالح أو بين القاهرة المعزية ومديرية الجيزة قامت اليوم دار الدعوة والإرشاد في أحد مصايف أبناء شريف باشا الوزير المثري المشهور وقد ضمت في حجرها إلى الآن صنفين عدد طلبتهما الداخليين 35 والخارجين بين 20 إلى 30 يعلمهم عشرة معلمين منهم أناس من رجال الدين وآخرون أساتذة علوم صرف وطعام الطلبة ونظافتهم ونظامهم في قيامهم ونومهم مما لم يعهد طلبة العلوم الدينية اللهم إلا ان يكون طلبة مدرسة القضاء الشرعي الحكومة والحكومة أقدر على البذل من الأفراد.

ويستفاد من نظام مدرستنا هذه أنها تدرس العلوم والفنون التي تدرس عادة في الكليات مع التربية الدينية وزيادة العناية بالعلوم الإسلامية تنشأ أقسامها بالتدريج يبدأ منها بقسم عال لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين للمسلمين بالوعظ والتدريس ولسان التدريس فيها اللسان العربي ويتحتم فيها تعلم لغة من لغات العلم الأوروبية ويجوز ان تدرس فيها عدة من اللغات الشرقية والغربية ولاسيما لغات الشوب الكبيرة من المسلمين كالتركية والفارسية والاوردية والملاوية. ومدة صنف المرشدين ثلاث سنين وكذلك صنف الدعاة ويختار طلابه من متخرجي صنف المرشدين يمكثون ثلاث سنين أيضا وذلك ماعدا السنة التمهيدية الأولى.

التعليم في قسم الدعاة والمرشدين من المدرسة مجاني والمدرسة تنفق على الطلاب الداخلين فيه وتكفيهم كل ما يحتاجون إليه فيها وتعطيهم إعانة شهرية بحسب الحاجة والاجتهاد والتهذيب لا تقل عن ريال مصري في الشهر وأما الطلاب الخارجيون فلا تنفق عليهم شيئا.

ومما يشترط في قبول الطلبة الداخلين ان تثق المدرسة بان طالب الدخول حسن السيرة وتكون سنة بين 20 و25 وان يكون حافظا لطائفة من القران الكريم بحيث يسهل عليه إتمام حفظه قبل إتمام دراسة الصنف الأول وان يكون قد حصل قدرا صالحا من النحو والصرف والفقه وعرف القواعد الأربع من الحساب على الأقل وان يكون صحيح الإملاء وحسن الخط في الجملة جيد المطالعة في الكتب العربية ومن أصل قديم في الإسلام وتتحرى المدرسة ان يكون طلابها من الأقطار المختلفة وتمرنهم على القيام بالفرائض والسنن وعلى الرياضة البدنية والتخاطب باللغة الفصحى داخل المدرسة وخارجها وإذا وفقت هذه المدرسة إلى تطبيق فصل العلوم والفنون التي تدرس فيها حق التطبيق يجيء ولاشك من متخرجيها طلاب يشبهون دعاة الكثلكة والأرثوذكسية والبروتستانتية في علمهم واستعدادهم خصوصا ومن غرض المدرسة في باب تربية الأخلاق ان يعلم الطالب الفرق بين زماننا وزمان القرون الأولى من المسلمين في الحاجة إلى سعة الثروة وتوقف حياة الأمة عليها الآن وعدم توقفها في ذلك الزمن وكون الزهد الصحيح والقناعة الفضلى لا يتنافيان تحصيل الثروة وعمارة الدنيا لأنهما من صفات القلب وفائدتها ان يجعل الإنسان فضل ماله لنفع أمته ومجد ملته انه لا ينبغي تعمد ترك تحصيل الثروة إلا لعمل نفع للأمة والملة. ويعلمون في باب انتقال الأمم والدول من حال إلى حال مثل قوله سبحانه: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وقوله: وتلك الأيام نداولها بين الناس.

هذا ما أمكنني التقاطه مما عساه يفيد واني لأرجو لرئيس جماعة الدعوة والإرشاد محمود سالم بك أحد علماء مصر العاملين وسائر مؤازريه الفضلاء الخير في الدارين لعلمهم المبرور وآمل ان يكتب البقاء لهذا العمل العظيم بهمة جامع شمله الأستاذ محمد رشيد رضا ناظر المدرسة ووكيل الجمعية وان يكون أساسه على صخر متين سداه الماديات ولحمته المعنويات فيكون من مادياته مخرجا إلى معنوياته والسلام.

في طريق رومية

أول ما يلاحظ المسافر من الأرض العثمانية إلى الديار الأوروبية ان كل ما يقع نظره عليه هو غريب عنه ليس له منه إلا النظر فسبحان من جعلنا في بلادنا وبلاد غيرنا غرباء مساكين.

ركبت هذه المرة القطار من دمشق إلى بيروت وهو لشركة فرنساوية ثم أبحرت من ثغر الشام على باخرة ايطالية (تيفرا) حتى إذا بلغت الإسكندرية وأردت الركوب منها إلى نابل ميناء رومية ركبت الباخرة البرنس هتري من بواخر شركة نوردتش لويد الألمانية وهكذا كنت عالة في تنقلي على الفرنساوي والايطالي والألماني ولو قصدت وجهة أخرى لكنت في ضيافة الروسي والنمساوي والانكليزي والروماني!

حالة يأسف لها وأيم الحق كل من ينبض فيه عرق الوطنية لانها تصغر نفسه في عينه ومن ساء ظنه بنفسه انحطت عن كل عمل. نعم يتألم الفؤاد من هذه الحركة الاقتصادية المباركة لان العثمانيين عامة والسوريين خاصة بعيدون عنها كل البعد ليس لهم علم الغربي يذكرون به ما ينهضهم من كبوتهم ليتمثلوا به في جهاد الحياة الراقية ولا أسبابه المادية التي تبعثهم على تقليد الناهضين من شعوب العالم المتحضر في هذا العصر.

نحن ويا للآسف نريد ان نعيش في القرن العشرين عيش ابن القرن العاشر ونرى لسوء حظنا ان مجدنا القديم يكفي تذكره وحده ليحيينا إلى الأبد حياة طيبة رشيدة ونتطاول إلى ان نقنع العالم بأنفسنا بأننا شعب راق بمجرد إيراد الشواهد على أيامنا الغر المحجلة في تاريخ المدينة السعيدة ولكن حضارة الغرب اليوم لا تبقي على ضعيف في قوته ومعرفته ومادته وحكومته. هي تبتلع العالم والشاهد على ذلك استصفاؤها قارة إفريقيه وتوشك قارة آسيا لولا بقايا شعوب مستقلة عظيمة كاليابان والصين.

مدنية أوروبا هي التي حملتنا في البحر المتوسط من بيروت إلى الإسكندرية في 32 ساعة ومن الإسكندرية إلى نابل في 70 ساعة ومن نابل إلى رومية في أربع ساعات على السكة الحديدية والبخار والكهرباء هما صفوة العلم الأروبي بل المثال الحي من هذه المدينة الحية التي سيعم فضلها كل بقعة من بقاع الأرض شاء أهلها أم أبوا. فتحيا الأمم التي تقوم بما قامت به أمم الحضارة الحديثة وتموت لا محالة الأمم التي لها من حكومتها أو من تقاليدها أو من ضعفها ما يعوقها عن الانبعاث والحركة.

تهتز نفس الشرقي وأي اهتزاز عندما يدوس ارض الغرب وتتوارد الخواطر عليه والتذكارات والمؤلمات وتتنازع عوامل المنشطات والمثبطات. هكذا كان حالي يوم أزعجني القدر منذ أربع سنين فنزلت مرسيليا ثغر الفرنسيين وهكذا أنا اليوم وقد وافيت نابل ثغر الطليان. وليس في هذه الفرضة من جديد فان حركة المدن الساحلية والعواصم الغربية واحدة إجمالا تكاد تتشابه لأنها قائمة بالعمل قوامها انتظام أحوال تلك الحكومات وتناغي سكانها بوطنيتهم وذهابهم بفضل العلم والنشاط وتميزهم بالذوق واللطف.

من أجل هذا كانت نابل مماثلاً مصغراً من حضارة الطليان ورومية وهذه هي العاصمة المثال المكبر والفرع يدل على أصله والكتاب يقرأ من عنوانه. لم يتسع لي الوقت وقد قضيت يوما في نابل ان أزور معالمها وكليتها وآثار بومي الرومانية خصوصاً وهي على مقربة منها لأنني في صدد البحث عن تاريخ أجدادي وبلادي لاتهمني أولا إلا الغاية التي أنا قاصد لها من البحث عن المخطوطات حتى إذا كان في الزمن متسع ازور من معاهد هذه الديار ومصانعها ما نستفيد منه عبرة لنا ولامتنا وينفعنا في الأخذ بمذاهب الرقي ان صحت نياتنا عليه.

إلى ساعة كتابة هذه السطور لم أتمكن من معرفة شيء من أحوال ايطاليا اللهم إلا ما هو معروض في الأزقة والشوارع والساحات ومحال القهوة والمنتزهات وهذا لا يبني عليه حكم ومع ان البقة الراقية تكلمك باللغة الفرنسية وكذلك تتخاطب مع أهل الفنادق والمخازن الكبرى وبعض الأماكن العمومية فانك تجد صعوبة في التفاهم مع جميع طبقات القوم لجهلك لغتهم الوطنية. هذا تقارب مع اللغتين الفرنسية والايطالية إحداهما من الأخرى واللغات اللاتينية أي الفرنسية والايطالية والاسبانية والبرتغالية متشابهه لأنها من أصل واحد كما ان اللغتين الألمانية والانكليزية متشابهتان لأنهما من أصل سكسوني واللغة الروسية والرومانية والبلغارية والصربية متشابهة لأنها من أصل سلافي.

ومع أن جليسك تنقبض نفسه منك في العادة إذا لم تكن لك معه لغة مشتركة لا تجد فيها تسمعه في المحال العامة ودور التمثيل والموسيقى هنا ثقلا على سمعك من لغة الطليان وان كنت لا تفهمها بل تبلغ نبراتها صماخ أذنك كأنها أوتار موسيقار تتكلم ألحانها أكثر من ألفاظها. ولا عجب فإيطاليا مهد الصناعات النفسية بل هي بلاد الموسيقى والشعر والتصوير والبناء عرفت بذلك منذ أوائل عهد الإسلام وباعت على الغرب بل وعلى الشرق من موسيقاها وشعرها وتصويرها وهندستها وهي بلاد النهضة منها نشأت وانتقلت إلى فرنسا وأوروبا كلها وطليان الجنوب يشبهون السوريين في كثير من عاداتهم وملامح سحناتهم وكلما تقدمت نحو الشمال تزيد المدنية ويفخم العمران.

وعلى ذكر الجنوب والشمال لا بأس بان يعرف القارئ ان البلاد الأوروبية كلما قربت من سمت الشمال كانت اقرب في الجملة إلى الأخذ بأسباب الرقي والحضارة. وهذا مشاهد محسوس. فنك تجد شمال ايطاليا أرقى وأعمر من جنوبها وكذلك فرنسا بل ان ألمانيا في جنوبها أحط منها في شمالها وهو سر غريب من أسرار هذا الكون ولعل الباحثين في طبائع الأقاليم بحسب القرب والبعد من خط الاستواء لا يعدمون تعليلا لذلك. أما رومية فهي مجموعة بدائع الطليان ولا جدال لأنها معدودة من أواسط ايطاليا على ما سنذكره.

الأمير كايتاني

كان الأغنياء والأمراء في الغرب قبل ان تتقرر قواعد المدنية الحديثة وترسخ أصولها يدلون على شعوبهم بحكم التغلب وقوة المال وأرجحية القدم. أما الآن فان أمثال هذه الطبقة أدركت ان كل تلك الامتيازات والاعتبارات قد ألغتها القوانين الدستورية في الأمم الحرة النيابية فلم يبقى من أسباب الفخر إلا شخصية المرء وعلمه معمله ولذلك لا تسمح بأمثال هؤلاء الناس إلا إذا أتوا عملا ينفع المجتمع ويخدم الحضارة أو يرقيها درجة أخرى.

وممن جمع فضيلتي المجد القديم والمجد الحديث فعد عصامياً عظامياً الأمير ليوني كايتاني من كبار الأسر القديمة في رومية التي يرد تاريخها إلى زهاء ألف سنة ومنها خرج رجال خدموا أمتهم على اختلاف العصور والمنازع فكان الباباوات ورؤساء الدين والقواد والحكام ولقد سار سليل هذا البيت على سنة كثير من أمراء الغرب فلم تبطره الزخارف ولم يستهوه المال والمجد القديم وتنكب عن الرفاهية منذ صغره فدرس في كلية رومية الآداب وأتقن من اللغات الايطالية والفرنسية والانكليزية والألمانية واللاتينية والفارسية والعربية.

ولما أحرز حظاً وافراً من العلم والآداب سمت به همته وهو قبيل الخامسة والعشرين أي منذ زهاء عشرين سنة أن يضع لأمته كتابا في التاريخ الإسلامي بلغتها يغنيها عن أكثر الكتب ويرفع كثيراً من المشاكل في تاريخ العرب الذي أدهش العالم. فجمع لذلك مكتبة ضخمة باللغة العربية وغيرها من اللغات واستنسخ واخذ بالتصوير الشمسي كل ما عرف من تاريخ العرب من المخطوطات وكان مبعثرا في مكاتب أوروبا وغيرها فجاءت مكتبته خير مكتبة في الشرق والغرب في موضوع التاريخ الإسلامي خاصة ومن رآها فكأنما زار مكاتب الغرب للبحث عن آثار العرب ومدنيتهم.

ولقد نشر حتى الآن من تاريخه ستة مجلدات ضخمة ولم ينجز بها أكثر من عشرين سنة من تاريخ الإسلام وهو يرجو أن يفسح الله في أجله عشرين سنة أخرى ليكمل القرن الأول من الإسلام فيقع في خمسة وعشرين مجلداً ولا يطبع من تاريخه أكثر من مائتين وخمسين نسخة يوزعها على المجامع العلمية في بلاده والغرب وعلى بعض أصحابه من العلماء فقط وقد جعل سعاره فيها فيقول الشاعر العربي:

كفاف عيش كفاني ذل مسألة ... وخدمة العلم حتى ينقضي عمري

يقول كفاف عيش وثروته وثروة أبيه فيما بلغني تقدر بمائة مليون فرنك فرنسي دع ثروة حليلته الأميرة وهي غنية أيضا ولهم المزارع الواسعة في ضواحي رومية إذا استثمرت حق الاستثمار على احدث الطرق تزيد ثروتهم أضعافاً في ضواحي رومية والأمير مع هذا تفرغ إلى العمل في مزارعه ويتعهدها كما يتعهد رياض العلم كل يوم ويصرف على إتقان عمله الذي صرف شبابه وهو يصرف الآن فيه سن الكهولة وسيصرف فيه أيضا سن الشيخوخة بحول الله شطرا ليس بقليل من المال فعنده ثلاثة مترجمين من اللغات المختلفة ينظر فيما يترجمون لكتابه من المواد ما عدا ما ينفقه في الكتب وطبع كتابه ولكن كل ما ينفقه في سنة لا يعادل ما ينفقه غني واحد من فساق أغنياء الأمريكان أو الروس مثلا في ليلة واحدة في باريس أو مونت كارلو فسبحان من أودع في كل قلب ما شغله.

طاف الأمير كثيراً من بلاد الشرق ولا سيما الهند وفارس والشام ومصر ودرس أحوالها وطابق بين ماضيها وحاضرها فإذا تكلم في تاريخنا صدر عن علم نظري وعملي. ولقد ذهب منذ ست سنين إلى بلاد الشام ليرى بعينه المكان الذي كانت فيه الوقعة الفاصلة بين العرب والروم في اليرموك. وهذا قلما يتيسر إلا لمن أوتي همة شماء واستسهل ركوب كل صعب في سبيل تحقيق رغائبه.

ومازال منذ بدء في التأليف وهو يدأب وراء منضدته في مكتبته كأنه عامل بسيط فإنه يبدأ في عمله كل يوم الساعة الخامسة صباحا ولا يزال أكثر النهار يعمل ويطالع لا تعرو همته ملل ولا ينظر في سفساف الأمور. ولقد كان نائبا في الانتخاب الماضي في مجلس النواب فأضاع في النيابة شيئا من وقته ولكن لم ينتخب هذه المرة فكان ذلك من حظ العلم والآداب لأنه توفر بجملته على خدمتهما.

وعدم انتخابه ناشئ من أن خصومه السياسيين اتخذوا من خطة الأمير في مسألة فتح ايطاليا لطرابلس وبرقة حجة أثاروا الرأي العام حتى لا يعودوا لانتخابه وذلك أن الأمير أحب أن يتكلم بلسان العالم المنصف ولم يعقه حبه لامته عن أن يقول لها وقت قامت حكومته لفتح تلك البلاد أن هذا العمل منها ضرب من ضروب اللصوصية لا يليق بأمة متمدنة وليس له مسوغ معقول قال هذا بالتلميح في المجلس وكتبه في الصحف الايطالية وغيرها بالتصريح فحنق عليه من حنق وأثاروا الخواطر من جهته وقد بذل مالا كثيرا للنيابة عن أمته قيل أنه عشرون ألف ليرة ولكن خصمه بذل خمسة وثلاثين ألف ليرة ففاز عليه.

والأمير على ما رزق من الشهرة العلمية لجمعه بين المجد التالد والطارف رقيق الحاشية يغلب عليه عدم التكلف ولما قابلته لأول مرة حاملا إليه من صديقه أحمد زكي باشا العالم المصري كتاب توصيه ليقبلني للبحث في مكتبته اعتذر عن كونه قابلني بثياب عمله وقال أن عنده شيئا من المخطوطات العربية أخذت بالتصوير الشمسي ولا يدري إن كان فيها حاجتي على انه تفضل ودلني على مظانها وما برح اليوم بعد الأخر يشير علي بالرجوع إلى كتاب كذا فقيه وهو يبش ويقول في الأحايين انه مسرور لعثوري على شذرات تهمني كل هذا وهو لا يضيع دقيقة من وقته الثمين ناهيك بارتفاع الصحف والمجلات ومنشؤها مثلا.

لئن امتازت التيمورية في مصر بأنها تحوي أمهات كثيرة من مخطوطات علماء الاسلام في علوم مختلفة وامتازت الخزانة الزكية بالقاهرة بجمعها أنفس المطبوعات العربية في الغرب فان الخزانة الكايتانية في رومية تحتوي على الغالب أهم كتب التاريخ الإسلامي أو ماله علاقة فيه وذلك باللغات المختلفة ولا سيما العربية مما هو جدير أن يرحل إليه من الصين لا من دمشق.

وقديما كان أمراء المسلمين وعلماؤهم يفتحون خزائنهم للباحثين والمؤلفين ينزلونهم على الرحب والسعة كما فتح منصور بن نوح الساماني خزانة لأبي منصور الثعالبي فألف فقه اللغة وكما فتح علي بن يحيى المنجم من أهل القرن الثالث في قرية له نفسية بكركر من ضواحي القفص خزانة كتب عظيمة في قصره الجليل وسماها خزانة الحكمة فاخذ الناس يقصدونها من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم والكتب مبذولة في ذلك لهم والصيانة مشتملة عليهم والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى وكما وقع من غيرهما كثير أما اليوم فان هذا المعنى كاد يتفرد به علماء الغرب وأمراؤه وأصبح الشرق بلقعا حتى من كتبه وآثاره وانتقل تراثه بحكم الطبيعة إلى من أحسن تعهده واستثماره سنة الله في خلقه.