مجلة المقتبس/العدد 85/في بلاد الغرب
مجلة المقتبس/العدد 85/في بلاد الغرب
نساء الإفرنج
الانكليز أعجب أمم الحضارة في أخلاقهم وعاداتهم لا يقبلون الجديد إلا بشق الأنفس ولكنهم إذا قبلوا تناغوا فيه وحرصوا عليه وبرزوا على من سبقهم وسابقهم.
والغالب أن كل الحاجيات تمت أو كادت في هذه المدنية الغربية حتى قامت بعض نساء الأمم وطالبت بإشراكهن في حقوق المدنية فأصبحن ينتخبن نائبات في المجالس النيابية ويشركن الرجل في أعمال السياسة ومن الفائزات السابقات في هذا السبيل نساء فنلندا واستراليا وزيلاندة الجديدة والنروج.
رأى النساء الراقيات من الانكليزيات ذلك ورأينا حقوقهن مهضومة مع الرجل وغرن الغيرة من خصائصهن من اللاتي سبقهن من بنات جنسهن وقمن منذ ثلاثين سنة يطالبن حكومة بريطانية العظمى بحقوق بنات حواء وما زلن منذ عقدت العقيدتان كوب وميلنر احتجاجا في لندرا سنة 1884 وهن على وتيرة واحدة من السعي وراء مقصدهن لم يدخل الملل على نفوسهن.
خطبت إذ ذاك العقيلة ميلنر وقالت أنها أزمعت أن لا تدفع الخراج الذي عليها للجابي بحيث تضطره إلى أن يكسر بابها ويحجز متاعها وهكذا تقاوم الحكومة وكل سنة تزيد قسوة وإملالا فضحكت الصحف من هذا القول إذ ذاك ومن الغد أرسل إليها من جميع أطراف انكلترا ابر للخياطة إشارة إلى أن المرأة هذا شأنها ولا يليق بها أن تخرج عن هذا الحد.
ولكن المطالبات بهذا الحق ظللن يجمعن قواهن هذا وهن على الملكة فيكتوريا التي سنت للملكات دع نساء الطبقات المختلفة من السوقة سبنة توفر النساء على تربية أولادهن وتدبير منازلهن والقيام على أسراتهن وبيوتهن حتى قالت في مفكرتها أن أحن امرأة هي التي تبدو صالحة لزوجها وأولادها.
ولقد ربت ملكة انكلترا وإمبراطورة الهند بناتها على التربية البيتية الراقية حتى أن الأميرة أليس دي هيس درامستاد كتبت إلى أمها تقول: ها قد صنعت الفساتين اللازمة لبناتي الصغيرات في الشتاء فعملت منها سبعة ولم أطرزها فقد بل فصلتها وخطبتها وعملت أيضاً رداء من الصوف للطفل الذي ننتظر قدومه وأنا التي أتولى حسابات الدار ولذلك تريني مستغرقة في العمل إن أسرتنا الصغيرة تزداد بسرعة وستقضي علينا الحال بضع سنين أن نعيش باقتصاد زائد.
في مثل هذه الأمة التي ملكتها وأميرتها على هذا الطرز من حب الانصراف إلى الأعمال البيتية يقوم ربات الحجال في أقصى بلاد الشمال ويعمدن إلى القسوة في المطالبة في حقوقهن السياسية حتى لقد لجأن كما قالت جريدة المئتين من مقالة افتتاحية إلى استعمال القوة في مقاومة رجال الضبط والربط بل أن تلك الأيدي اللطيفة التي يجب ان تكون رباتها ملكية الأخلاق بلغها ودعتها هي التي أنشأتها التيمس بأنها تشعل الحريق في بعض بلاد الانكليز لتحمل الحكومة على بابه تلك المطالب وإنه قد حرق في شهر تشرين الأول الماضي في بريطانيا من الأملاك ما يقدر بنحو ستة ملايين فرنك ونصف وثبت بالتحقيق أن للمطالبات بحقوق النساء يداً في نحو عشر حرائق منها ران النساء المتحمسات لهذه الفكرة يطلبن شيئاً من المال فلا يلبس أن يحمل إليهن فقد طلبن مرة مئة ألف جنية وأخرى ربع مليون جنية وكلما طلبن مالاً يأتيهن عفواً ويقدر ما يصرف النساء الانكليزيات في الشهر بنصف مليون فرنك على تحقيق مطالبهن.
هذه هي أعمال النساء الانكليزيات ومعظم البشر لا يرافقونهن على استعمال القوة في مقاومة القوة ولكن هذا السبات يدل على روح غريبة لا أثر لها في الشرق وكيف تكون حال نساؤنا مرضية وهن راضيات عن تقهقرهن فرحات بجهلهن العاقل لا يطلب لنساء الشرق أن يشاركن الرجال كما هن في الغرب فإن تقاليدنا وأدياننا وعاداتنا لا تنطبق مع هذا ولكن كل ما تتقيد به من قديم لا يحول بين نسائنا وبين التعليم وليت شعري كم مدرسة فتحت لتربية البنات في عهد الدستور في القطر السوري وكم رجل فكر أن يعلم بناته فن تدبير المنزل كما يعلم في الغرب.
القشور التي يتلقفها بعض بناتنا في الأمريكان ولفرنسيس والألمان ومدارس الحكومة لا ترقي أمة تشكو الليل والنهار من مجهلها وجاءتها وتخبيئها جميع المصائب من تعشيشه في صدور كبرائها فما بالك بالصغار أن ما يراه السائح في أوروبا من مظاهر تربية المرأة ومضاهاتها الرجال في جلائل الأعمال يبكيه على الشرق ولا سيما الشرق الإسلامي يأتيه العبر عن إيمانه وشمائله ولا يعتبر.
تسعى إيطاليا اليوم لإعطاء المرأة حقها في التصرف بمالها كما تحب دون أن تكون مقيدة بإرادة زوجها أو وليها كما كانت حتى الآن وفي الشمال حاز بنات نوعهن كل هذه الحقوق وهن يطالبن بحقوقهن السياسية ونحن حتى الساعة لم يفكر نساؤنا ورجالنا في شيء لإنهاض المرأة من كبوتها فما أبعد الفرق بين الجنوب والشمال في تربية الرجال وربات الحجال.
وبعد فإنا نشاهد كل آن العجب العجاب في هذه الديار الغربية من مشاركة الرجل للمرأة في أعمال الحياة مشاركة هي على غير الطريقة التي جرى عليها الشرق الأقرب الذي جعل المرأة في منزلة يصح أن يقال أنها أقصى دركات الانحطاط وهيهات أن تنجح أمة نصفها عاطل لا يعمل ولا يفكر ينظر إليه بغير العين التي يجب أن ينظر إليه بها وينزل منازل الجهل والخمول.
قلنا أن العاقل لا يطلب لبلادنا أن تكون المرأة فيها كما هي في الغرب فإن هذا أشبه بمريض يحتاج إلى جرعة من الدواء قدر درهم فتعطبه رطلاً وبذلك تقتله لا محالة نعم لا نريد لنسأل الآن أن يكون لهن حق المشاركة في السياسة ولا الاختلاط بالرجال على مثل هذه الحال ولا أن يكن منقطعات إلى العلم والآداب فقط بل تزيد تعليمهن التعليم الابتدائي الراقي الذي يكون محوره ترقيه عواطفهن الدينية والمدنية ليكونوا من المرأة أم تحسن التوفر على تعهد بينها وبيتها وتتدخل السرور على قلب بعلها ومحارمها وأن نقتطع فئة من هؤلاء المتعلمات للتعليم ليتخرج بهن البنات والصبيات على السواء وهن يكن من الدراسات العلوم العالية بالطبع.
قرأت الآن في الجورنال مقالة افتتاحية لأحد المشتغلين بالتعليم عند الفرنسيس جاء فيها بمناسبة القانون العسكري الجديد وجعل الخدمة ثلاث سنسن أن فرنسا استاقت ألفاً وستمائة معلم في سن القرعة للخدمة العسكرية وأنها ستستعيض عنهم بالمعلمات علمن الصبيان قال الكاتب أنه ساح في أوقات مختلفة في عدة بلاد كانت فيها المدرسة الابتدائية تقبل الفتيات كما تقبل الفتيان معاً على نحو ما تقبل المدارس العليا الطالبات مع الطلاب فرأى أن ذلك لا يضر بالآداب بل ينفعها فإن الرجال لما كان شأنهم أن يعيشوا مع النساء فمن السخف أن يفصل بعضهم عن بعض عشراً وخمس عشرة سنة وأن يعود كل جنس أن يعتبر الجنس الأخر دخيلاً وخطراً فإن التعليم المشترك يغرس في الفتيان الشعور بالرجولية وفي الفتيات حياء بدون أن يكشرن عن أنيابهن. فإنا نجد في البيوت التي يكون للبنات فيها أخوة والأخوة أخوات يحرزن صفات ليست أصلا لغيرهن من الأولاد ونحن لا نريد مدارس مختلطة بل مدارس للصبيان تسلم أزمة التعليم فيها للنساء.
المرأة تحب الأولاد وتعرف مراميهم فإن فطرة الأمومة التي تتنبه في الفتاة تحبب إليها الأولاد وتعرفها بهم ويكون الأولاد في الحال على ثقة مع معلمة فتاة كانت أو عجوز في حين أن الشبان المعلمين لا يتيسر لهم أن يحبوا الأولاد وذلك لأن المتزوج رب الأسرة ربما توسع في حبه أولاده فأحب أولاد غيره على ما يوحي إليه العقل ولكن معلما في العشرين لم يتزوج لا يحب الأطفال بل يضربهم ولا يبالي بهم لأنه يعتقد نفسه بأنه أشبه بالمرضعة وأن درجته انحطت فيجب مراعاة مصلحة التعليم والأولاد معاً أن يوسد أمر التعليم في مدارس الأطفال إلى النساء بدون استثناء فإن الطفل الذي يبدو شيطانا أمام معلمه يحاول أن يرضي معلمته كما هو الحال في المقاطعات المتوحشة في غرب الولايات المتحدة فيستبدل بمعلمة كل معلم لا يحسن التصرف مع الأولاد فيعود نظام المدرسة إلى أحسن مما كان.
قال إن للمرأة أسرارا في اللطف والصبر والثبات الممزوج بحب وحسن النظر يجهلها حتى المعلم الخبير فما بالك بالمبتدئ بالتعليم. المرأة تعلم وتفهم ألف أمر لا يستطيع الرجل أن يفهمها ولا يحزرها. إنها رزقت جميع أسباب اللطف التي ترافق الإحسان.
هذا ما له تعلق بموضوعنا نقلناه فمتى تنشأ لنا مدرسة في كل حاضرة من حواضر بلاد العرب تعلم الفتيات ليكن معلمات للبنات أولا وإن أمكن للصبيان أيضا تتم هذه الأمنية يكتفى اليوم بمتخرجات من مدارس المبشرين أو المدارس الطائفية ويوسد إليهن تعليم البنات والبنين.
وما أظن إلا القليلات من المتعلمات في بعض المدن العربية والقليل من المتعلمين يفكرون في هذا المطلب الجليل الذي هو أهم الأدواء القاتلة في جسم مجتمعنا وهيهات أن يحصل على شيء من البرء إلا بتعليم البنين والبنات بل إنه بدون العناية أولا بتعليم البنات لا تستقيم لنا مدنية وتكون تعليمها الأمور النافعة بحسب ما تقضي به عاداتنا ومعتقداتنا فينهض المجتمع العربي بإنهاض شان المرأة وبدون ذلك لا أمل لنا بإصلاح بيوتنا.
المدنية لا تشفق
أحببت أن أخدر أفكاري مؤقتا عن النظر في أخبار بلادي فأخذت أطالع بكثرة صحف هذه الديار ولا سيما باريز منها وأعني عناية خاصة بالحوادث الداخلية مما لا يتيسر للصحافي الشرقي كل حين فأتلو كل يوم مرات أخار القتل والانتحار والاعتداء والفجائع والفظائع بتفاصيلها وكلها تدل على استهانة الغربي بالحياة جريا على ما ورد في المثل العربي احرص على الموت توهب لك الحياة.
لا ينكر أن من الحوادث الطارئة هنا ما يسوق إليه اختلال الشعور من الإكثار من الخمور وانحلال العقيدة باليوم الأخر ولكن منها ما يدل على شمم وعزة نفس وتوقع المجد والشهرة. وبينا نجد أن ابن البادية عندنا يقتل عابر سبيل ليذهب ببندقيته أو فرسه أو كيسه أو ثوبه ترى الغربي ينتحر هو وزوجه أو ولده تخلصا من شقاء الحياة أو تفاديا من الوقوع في فضيحة أو لسائق غضب أو غير ذلك من الأسباب ومنها التافه ولكنها كلها تدور على احتقار الغربيين للحياة.
قرأت الآن في البيتي جورنال إن العلماء بدؤوا يتحركون بفقد بعض أجناس من الحيوان كادت تضمحل بسوء تدبير الإنسان وظلمه وقسوته وان المجمع العلمي الباريزي قد حصر جلسته الأخيرة في البحث عن أسباب حماية الفيل والكركدن والحوت والطيور التي تكثر في البلاد الحارة وتصاد بلا شفقة ليتزين نساء الغرب بريشها وإذا لم ينظر في طريقة تحفظ بها أنسال هذه الحيوانات تنقرض بعد بضع سنين لا محال فيكون الناس أشبه حالا بحكاية من قتل الدجاجة اعتقادا منه أن في بطنها بيضة ذهب.
قال صاحب المقالة: منذ عرف العالم مازال الإنسان يظلم ويطمع في القضاء على الحيوانات ويسيء استعمال الأسباب التي جعلتها الفطرة أمامه فلا جل نفع معجل بل وربما كان لجلب سرور بربري يقتل بدون خشية أنواع من الحيوانات النافعة التي يحدث من فقدها اختلال في ميزانية هذا الوجود هو يقتل الفيل لأن العاج ثمين جدا ويذبح كلب البحر لأن جلده يباع بثمن غال ويصيد الجوارح والطيور لأن ريشها تزدان به رؤوس النساء المتبرجات الخ.
وبينا أتصفح هذا وأعجب من رقة شعور القائمين بهذا الأمر وعطفهم على الحيوان وخوفهم من انقراضه مخافة ان يحدث منه خلل في ميزانية عالم الكون والفساد إذا بي أرى في الصفحة الثانية أخبارا من فجائع الطيارات وهلاك الطيارين مما يحدث مثله كل بضعة أيام في الغرب لأن مدنيته لا تشفق بل لا تقوم إلا ببذل بعضهم أرواحهم في سبيل إعلاء كلمة العلم.
كان بعض رجال الرحلات من الغربيين منذ قرون يهلكون في الصحاري والقفار أو في القطبين وتجشم أخطار وبحار أما اليوم فبعد ان اكتشفوا العالم الأرضي أصبحوا يريدون ان يكتشفوا العالم السماوي كانوا بالأمس يعملون في البسيطة وهم اليوم يريدون ان يسخروا الجو وما ندري غدا ماذا يخبئ العلم والاختراع من بدائع المستحدثات التي تباع في تحقيقها الأرواح بيع السماح.
كنا بالأمس تقول إذا تلون سياحة احد أرباب الرحلات من الغربيين ان كاتب الرحلة في حلم يملي من عالم الخيال ليري انه لقي أهوالا في سفره ويشتهر بين جيله وقبيلة ونرجح ان معظمها أشبه بقصة السندباد البحري وحكاية ألف ليلة وليلة بيد ان ما نقراه اليوم بل نشاهده عيانا من أخبار الطيارين في أخبار السماء كاد يدعونا إلى تحسين الظن بأكثر ما أورده أرباب الرحلات وأن هذه المدنية التي نتمتع بها أن هي إلا ثمرة الاستهانة بالحياة في سبيل الأغراض الشريفة.
مدنية الغرب تقتل الحيوان لفائدة الإنسان بل تقتل الإنسان لفائدة الإنسان وهذه التجارب التي خص الغربي بطول الروح عليها هي التي نشأت منها أكثر الاختراعات والاكتشافات الماثلة حسناتها للبشر اليوم منادية للأمم التي قام أبناؤها بشيء من هذه الأعمال حرية بان تنال ذروة المجد لأن من سخر قوة الطبيعة الصعبة لمنفعته لا يعثر عليه ان يسخر الإنسان للإنسان.
مدنية الغرب لا ترحم أحدا ومتى رحم من لا يرحم نفسه. والغرب لا يحزن لفقد ألف أو ألوف من أبنائه قذفا من الجو وهم يطيرون لأنه موقن بان هذه التجارب في النتيجة عن خير بهذا المضمون فمتى نرى أناسا من الشرقيين ينهجون هذا المنهج ويقلدون الغرب في صالح أعماله فان مما يخجل الشرق من ان يعمل الغرب كل هذه الأعمال المدهشة وهو نائم باهت وان يقتل الشرقي إخاء في غرض تافه ولا يقتل نفسه في تحقيق عمل مجيد ومجد مؤثل:
وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء البعض البطن ليس له دواء
يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلا ما يشاء
وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاء
ولا يعطى الحريص غنى لحرص ... وقد ينمى على الجود الثراء
وبعض الداء ملتمس شفاه ... وداء النوك ليس له دواء
تكريم الرجال
عرف الغربيون حسن الانتفاع من كل شيء فصاروا إلى زمن من هم في العالم كل شيء لا قول إلا قولهم ولا مدنية إلا مدنيتهم التي هي خلاصة مدنيات العالم بأسره فيها اندمجت مدنية رومية وأثينة وبابل وأشور ومصر وفينيقية والأندلس وبغداد وفارس أن هذه المدنية التي تتمثل لنا كل يوم في صور شتى قامت بعقول الرجال وأعمال الأبطال ولذلك كان الحري بالتبجيل مصدر هذا الفضل والمعول الذي كان عليه المعوّل في نبث المدفون واختراع المعدوم.
يكرم الغربيون رجالهم حتى ليخال الشرقي أنهم على شيء من المبالغة وأكثر الأمم ايغالاً في ذلك الفرنسيس على ما رأيت فان رجالهم لقوا من التكريم والتنويه مالا يكاد يراه أمثالهم في الأمم الغربية نفسها. وأن المرء ليعجب كل العجب من تغنيهم حتى اليوم بجان دارك إحدى فتيات القرون الوسطى التي برزت الرجال بشجاعتها ودافعت عن وطنها أمام جيوش الفاتحين من الانكليز وإلى اليوم هي المهماز الأعظم لفتيات فرنسا لشبانها تقام باسمها المعابد وتسمى الشوارع وتنصب التماثيل وتؤلف القصص التمثيلية وغيرها في وصف سيرتها.
ولا بدع فإن الفرنسيس كما قال برزباين - أشهر رجال الصحافة الأميركية - ورثوا عن اليونان والرومان نبوغاً كانوا به أدلة وموحين بالأفكار للعالم منذ عهد شارلمان فقد كانوا الأولين في الحركة العقلية السابقين في شجاعة القلب وشجاعة الفكر المجلين في فن الحرب وفن الهندسة وفن الجرأة الطبيعية الخارقة في إنشاء السيارات والطيارات وفي عامة الأعمال التي تحتاج إلى عقول لا تخاف وتطلب إقداما عليها لساعتها.
قرأت أمس في الماتين مقالة جاء فيها الفرنسويين يتأهبون للاحتفال بعيد مرور مئة سنة على موت بارمانتيه يوم (13 كانون الأول 1913) وربما يقل في قراء العربية من يعرفون هذا الرجل ويودون الاطلاع على طرف من ترجمه حياته ليذكنوا على الأقل من هو الذي يعاد ذكره بعد أن نصبت له التمايل وصيغة باسمه الصفائح التذكارية وأنشأت الجواد الشوارع بل أنشئت قرية باسمه في الجزائر.
بارمانتيه هو مخترع البطاطا في فرنسا أو مدخلها إليها على صورة عم استعمالها جميع طبقات الناس فخدمتهم في اقتصادهم وبيوتهم وتغذيتهم مدة القرن الماضي كان هذا الرجل من أبناء العامة سافر من ببلده مونتيديه إلى باريز ليسابق في وظيفة صيدلة في الجيش فقبل وأرسل مرات إلى ساحات القتال ومنذ سنة 1793 حتى يوم وفاته كان يتولى أعظم الوظائف الصحية العسكرية مثل عضو في مجلس الصحة ومفتش عام وصيدلي أول في الجيش الفرنسوي وفي خلال حرب السبع سنين أخذ أسيراً وفي أسره تسنى له أن يدرك ما في البطاطا من المواد المغذية وكانت في معظم الأوقات الغذاء الوحيد له ولا صحابة الأسرى.
حملت البطاطا من أمريكا إلى أوروبا من سنة 1580 إلى 1585 نقلها الأسبانيون لولا ثم الانكليز من فرجينيا وكانت غير معروفة كثيراً في فرنسا وينظر إليها في الجملة نظرة ازدراء وما زال بارمانتيه منذ استقرار مرة في صيدلية الانفاليد بباريز يكرر في منثورات منوعة فوائدها ويدفع اعتراض المعترضين بشدة لأنهم كانوا يحملون عليه حملات منكرة قائلاً أن رأي الناس في البطاطا أنها غير صالحة لغذاء الإنسان ساقط لا يؤديه له وكذلك دعوهم أنها تضعف الجسم وتحوي الأخطار وعلى العكس فهي لذة الأغنياء ومعوان للفقراء وسلوى في الشدائد.
وكان هذا المحسن مدفوعاً إلى ذلك بالعامل الذي وضعه بقوله: لا يكفي من أراد أن يكون نافعاً لأبناء جنسه أن يقول لهم مرة واحدة ما رآه وما عمله وما يجب أن يعمل بل يجب عليه أن لا يمل من تكرار دعوته على صور مختلفة وطرق منوعة اللهم إلا القوة فإنها لا تستحب ولا تنفع العلوم إلا إذا عمت الطبقات كلها هكذا كان شأن بارمانتيه حتى انتشرت البطاطا بفضل مساعيه المتواصلة وأصبحت تزرع في أرض تبلغ مساحتها مليوناً وستمائة ألف هكتار في وطنه.
ولم يقتصر بارمانتيه على الدعوة إلى البطاطا وتحبيها إلى الناس بل كان له أثر محمود في الخبز والخبازة ودرس الأغذية الرئيسية عند هذه الأمة وله العمل المهم في تنظيم المستشفيات الثابتة والنقالة العسكرية والمدنية إلى غير ذلك من أعماله في تمشيط الأشغال العلمية والصحية والزراعية والصناعات الوطنية ونشر التطعيم وطبخ الأحسية الاقتصادية هذا إلى جمعيات البيطرة والإحسان والمأوي التي كان عضواً فيها أو مديراً لأعمالها مباشرة بحيث كان كما قال فيه أحد واصفيه السابق إلى كل مكان يمكن العمل فيه كثيراً وأن يخدم بدون عوض ويجتمع لعمل الخير ويتأتى لمن يدعوه أن يكون على ثقة من أنه بإشراكه بارمانيتيه في العمل يتسلط إلى وقته وقلمه وعلى ماله عند الاقتضاء.
هذا هو عمل الرجل وربما يتساءل القارئ وكيف وجد من قلبه متسعاً للقيام بهذه الأعمال التي تحتاج إلى بضعة رجال والجواب بارمانتيه كان يصحو باكراً ويجلس إلى منضده عمله في الساعة الثالثة بعد نصف الليل صباحاً قالت (الماتين) وما أحق مدارسنا الابتدائية أن تتخذ من هذا للوالدين والشعب مثالا يبعث الهمم على العمل فإنه قد خرج من مسقط رأسه مستخدما صغيراً في الصيدلة لا سند له ولا مال بل ولا تعليم إلا التافه القليل وتمكن بعمله المتواصل من بلوغ المناصب العالية وجلس في الصف الأول بين المحسنين إلى الإنسانية.
أبعد هذا نلوم الفرنسيس إذ غالوا بحمد رجالهم وهل نشأ لنا نحن يا ترى معشر العرب نصف رجل مثل بارمانتية منذ بضعة قرون وكان بسيرته وعمله حرياً بأن نحتفل به ونذكره بكل شفة ولسان ونخلد اسمه في سجلات الأزمان.
صناعة الفنادق
لعل بعضهم يعترض على هذا العنوان فيقول وهل أصبحت الفنادق والإنزال صناعة حتى تحدثنا بها ولكن من رأى الفنادق في الغرب ولا سيما في البلاد التي بكثير إليها اختلاف السياح كفرنسا وإيطاليا وسويسرا مثلا يهون عليه ان يتصور معنى الفنادق فيرى قصوراً شاهقة ذات حدائق غناء مجهزة بأجهزة قصور الملوك أو أكثر وفيها من التحف والألطاف وبدائع الصناعات ما يلفت عقل البليد دع الحساس الذكي.
صناعة الفنادق لا لتمثل حق التمثل إلا لعين من كثرت سياحته إلى الأقطار المختلفة وهناك يدرك خطرها كما يدرك قدر الصحف فيرى إدارة كل نزل أشبه بديوان كبير من دواوين الدول أو مصرف عظيم أو جريدة منتشرة وإتقان تلك الصناعة متوقف على العلم الحديث فكلما تأمل في الشرق والغرب وكثرة الترف والنعيم زاد رواءً واتقاناً.
إن ما تراه في مصر والشام من إتقان بعض الفنادق أن هو إلا جزء مما أوجده العلم في القارة الأوروبية والأمريكية وفي مقدمة الأمم التي استفادت من فنادقها وأحسنت القيام عليها الأمة السويسرية حتى سمى بعض الفرنسيس أهل سويسرا الفندقيين تحقيراً لهم مع أن هذه الصناعة كغيرها مما لا يثلم الشرف ولا بعبث بالمروءة شريفة في ذاتها ولا يعد التوفر عليها سبة وعاراً. وكفى السويسريين بأن أهم الفنادق في ايطاليا وغيرها هي بأيديهم يديرونها ولا يفوقهم أحد في هذا الشأن.
ليس الفندق أو النزل الحديث كما يتخيل بعضهم عبارة عن خان من الخانات متقن بعض الشيء فإنه قد يوجد في الفنادق الحديثة من أسباب الرفاهية والنعيم مالا يوجد مثله في قصور العظماء الفندق الحديث هو معهد مؤلف من عدة أمور يحتاج حسن سيرها إلى عناية وملاحظة خذ لك فندقاً متوسط الكبر تجد فيه بحسب طبقته ومساحته أعمال الكهربائية مراجل ودينامو وآلات التدفئة والتهوية وأدوات لاستخراج الجليد وحجر مبردة وأفران للخبز والحلويات وآلات للتصعيد ومطبعة ومكتباً للبريد والبرق واصطبلات ومحال لحفظ المركبات والسيارات وأقبية وقد يساوي ما يحويه الفندق من المواد مئات الألوف من الفرنكات تكفي النزل الشهرين والثلاثة ومعملا للتصليح محمل نجارة وحدادة إلى آخر ما هنالك مما لا مقابل له بالعربية للتعبير عنه. وللفندق خدام يقومون على غاباته وحدائقه ومنتزهاته وطرقاته وسواق تامة أدواتهم لنق الأمتعة والأثقال منه واليه على الخيل والسيارات ورجال إدارته أكثر من رجال الوزارة فمنهم المستقبلون والقائمون على إعطاء التعليمات لمن يطلبها ومنهم العارفون بالسكك الحديدية وآخرون للمحاسبة وبعضهم للضجة وغير ذلك.
فالفندق مستعمرة صغيرة ينقسم أقساما قد يختلف عدد القائمين بأعماله من 100 إلى 350 شخصاً. ومدير الفندق سواء كان مالكه أو مديره مسئول عن كل ما فيه مديره ويعنى به ويمونه ويلاحظه ويسأل عن كل غلط يأتيه رجاله العاملون بإشارته أو النازلون عنده والقانون يسأله وحده فقط عن كل ما يحدث.
ولذا لا يكون صاحب الفندق ق في العبر رجلا عاديا يكتفي منه أن يكون حسن البذة عارفا بالقراءة والكتابة والحساب بشوشا مؤنسا بل هو رجل متعلم من الدرجة الأولى يحسن إدراك ألوف من التفاصيل في إدارة تحتوي غرائب معقدة بحيث يكون أهلا لان يتصرف في الحوادث اليومية التي قد تقع اضطرارا في عمل يحوي في حملته أعمالا صناعية وتجارية مختلفة وليست الأدوات التي يقوم بها الفندق ميكانيكية بل عقلية قد تتعارض فلا بدع إذا طلب هنا من صاحب الفندق أن يكون مهندساً نقاشاً سياسياً تاجراً بل طبيباً للأرواح والأشباح.
عرفت الأمم المتمدنة مكانة هذه الصناعة فجعلت لها المكان الأول في حياتها الاقتصادية والتجارية والصناعية وفتحت المدارس لتعلمها كما فتحت مدارس لتدبير المنزل الذي تتوقف عليه حياة البيوت وسعادتها وغبطتها ولقد كانت النفس تحدثني وأنا أشهد من لذاذة الحياة في فنادق الغرب ومساكنه (بانسيون) وحذاقة طهاتها ونظافة خدامها وخادماتها من لي بأن يأتي أناس من الطبقة المستنيرة المثرية من أبناء بلادي ليروا شاهداً عيانياً محسوساً على ترقي الغرب وتدني الشرق ويفاضلوا إذا رجعوا إلى أهلهم بين حالنا وحال غيرنا وينقل بعض ما يمكن نقله من أسباب النظافة وحسن تحضير المأكل وتنويعها وجمال السرر وبساطتها والغرف وفرشها والمقاعد والخزائن والمغاسل والحمامات وأماكن الاطمئنان وغير ذلك من أساليب الراحة والنعيم الذي لم يظفر يبعضه أغنى الأغنياء فينا اللهم إلا بعض عقلاء الكبراء في الحواضر الكبرى وخصوصا في مصر.
ولكم كنت اشتهي أن يأتي بضعة شبان ممن سبق لهم الخدمة أو النظر في فنادق مصر والشام واختلطوا بالإفرنج وعرفوا خصائصهم وتأنقهم في مطعمهم ومنامهم وملبسهم أن يقضوا ولو أشهرا في الفنادق الكبرى ويحضرون ولو سنة دروس مدروسة الفنادق وتدبير المنزل في سويسرا وأظن أن من يفتح فندقاً ويحسن النظر فيه بحيث يضاهي به أو يكاد فنادق الغرب المتوسطة ينفع نفسه وأمته في اقتصادياتها أكثر من ألف موظف في الحكومة متوسط المعارف لا يهمه إلا رضا من سبقه في الدرجة وانتظار آخر الشهر لقبض الراتب.
سوريا بمناخها تشبه سويسرا ولكن هذه تأخذ في السنة من المصطافين والمشتين فيها قناطير مقنطرة من الذهب وذلك لأنها عرفت من أين تؤكل الكتف في خدمة الناس وتوفير أسباب الهناء والصفاء لهم بحيث يتأتى للمرء أن يكون في الفندق سعيداُ كما هو في بيته وزيادة وأن أتاهم بعضهم الدماشقة بأنهم لا يفكرون في غير إلا كل والنوم وان هذه العادة غالبة عليهم ولكن يشفع في ذلك حالة الغرب واهتمامه في هذه الشؤون الحيوية أيضا وأن يكن الفرق بيننا وبين غيرنا أننا نذكر التفكر في ذلك وهم يجعلون له وقتا لا يبحثون فيه بغيره والسلام.
رجال الكثلكة
يجدر بنا ونحن في مهد انتشار الدين المسيحي وكل ساعة يقع نظرنا على قساوته ورهبانه ونرى بيعه ونسمع أجراسه أن نحدث قومنا بعمل هؤلاء الرجال وتفانيهم في واجبهم.
من يمر في شوارع رومية يجد الرهبان والقسوس سائرين زمراً زمراً ويجدهم على الجملة يحلقون شواربهم ولحاهم ويلبسون لباسا اسود في الاكثر على عاداتهم في الشرق ويختلف هذا اللباس فالألمان والمجربون منهم يلبسون أردية حمراء فقط والفرنسيس والانكليز يلبسونها سودا والايكوسيون سودا مع زنانير زرقاء وياقات سوداء والبلجيكيون يلبسون سواداً فيه شيء من الحمرة والبولونيون يكتسون السواد وغيارا اخضر البوهميون سواداً وغياراً ممزوجاً بزرقة فاتحة واليونان الروتنيون يلبسون زرقة وزنانير حمراء مبقعة بزرقة وقسوس أميركا الجنوبية يلبسون الأسود مع غيار ازرق وبطانة زرقاء الأميركان يلبسون لباساً أسود واسع الأكمام والأردان غياراً أحمر وأعضاء الدعوة إلى الدين يلبسون أردية سوداء مع غيار وبطانة هما إلى الحمرة.
هذا هو الشكل الظاهر في طلاب المدارس الاكليريكية الذين يأتون من أنحاء العالم الكاثوليكي ليدرسوا ويتخرجوا بآداب دينهم ثم يعودوا إلى بلادهم أو غيرها يعلمون ويرشدون. وهم قسمان قسم القسوس وهؤلاء يتعلمون في مدارسهم وبعد الدرس يذهبون إلى منازلهم وقد يعيش بعضهم بين أهله وذوي قرباء فمن هؤلاء لا يطلب إلا أن يسيروا بموجب القواعد المقررة وهم أحرار فيما عدا ذلك أما الرهبان فدائرتهم أضيق لأنهم يعيشون في مدرسة واحدة مع أقرانهم ويطعمون طعاماً واحدا ويكون في الاكثر طعام تقشف ولا يخرجون إلا برخصة أي أن هؤلاء مقيدون كثيراً ولا قيد صغار الطلبة في المدارس الداخلية.
والرهبنات أقسام منها الفرنسيسكانيون والدومنيكيون واليسوعيون واللعازريون وغيرهم ولهم أنظمة وقوانين مشوا عليها منذ قرون وأفادوا النصرانية بنشرها في البلاد التي لم تدخلها ولا سيما في الصين والهند واليابان وأواسط أفريقية وغيرها من البلاد النائية.
وكان لليسوعيين يد طولى في هذا الشأن وهم بين الرهبان والقسوس أي أنهم يترفهون ويأكلون ما يشاؤن لكنهم يأوون إلى بيت خاص خلافاً للرهبان الذين يأكلون أكلاً معيناً وخلافاً للقساوسة الذين يأوون إلى بيوتهم واليسوعيون بجند منظمون على نظام غريب لم يختل على كثرة ما نالهم من اضطهاد الحكومات في الأزمان السالفة.
قال الأمير بورغزه في كتابه ايطاليا الحديثة: إن تأسيس طغمة اليسوعيين المشهورة هو من غرائب النظام الحقيقي فتراها جمعية مؤلفة من عناصر مختارة تخضع على الدوام لأداة الرئيس مباشرة والداخل فيها يربى على الطاعة بالتدريج والخروج المطلق عن شخصيته وإرادته. ويتراءى للناظر في نظامهم أن واضعه جندي فإن كل شيء فيه يشعر بالنظام. وقال أن نظام هذه الرهبنة ربما جرى في وضعه أغناس لويولا مؤسس اليسوعية على قواعد بعض الجمعيات الإسلامية التي كانت مشهورة في الأندلس فبنى نظام رهبنته على طاعة لا نهاية لها فتوصل بهذه الصورة أن يؤلف جيشاً يتصرف به رؤساؤه تصرفاً مطلقاً وتفنى إرادة صغيرهم في كبيرهم.
ولمعظم الرهبان والقسوس أعمال علمية وغيرها يتعاطونها ويبرزون فيها فإذا انقطعوا للتدريس تخرج بهم طلاب كانوا صورة صحيحة منهم وإذا أخذوا بالتأليف قد يعدون من كبار المؤلفين ولذا ترى الناس في ايطاليا وفي غيرها كثيراً ما يفضلون أن يربى أولادهم على أيدي القسوس وإن كان آباؤهم ملاحدة مارقين من دينهم.
ترى الرهبان إذا أخذوا بالزراعة والصناعة بما سبقوا من تخرجوا فيها أعمارهم والحكومة هنا قد جعلت رواتب لقسوس الطليان كما عينت راتباً للحبر الأعظم منذ يوم أخذت حكومة الوحدة الايطالية أزمة الأمر بيدها واستولت على أموال الرهبنات وكنائسهم وأوقافهم سنة 1870 لأن جميع مرافق البلاد المهمة كانت بأيديهم إذ ذاك فغيرت بعض المعاهد وجعلت بعضها مدارس ومتاحف ودواوين حكومة وثكناً للجند وغير ذلك وحظرت على أي جمعية دينية امتلاك ملك إلا أن لرئيس الجمعية أن يملك ما يشاء وقد عادت الملة النصرانية فأخذت تدر المال على رجال الدين بعد الوحدة الجديدة ولذا تراهم يعيشون عيشاً حسناً وأديارهم وكنائسهم منظمة وإرادتهم دارة نامية والفضل في ذلك يرجع إلى المتدينين من أغنياء الكاثوليك في العالم.
قلنا أن الحكومة الايطالية عينت منذ زهاء أربعي سنة راتباً لإمام الأحبار ولكنه لم يقبله بعد أن رعت منه السلطة الزمنية وكانت بيده هي والسلطة الروحية بيد أن الحكومة وضعت المبلغ تحت أمره في المصارف وفي كل خمس سنين ترفع منه الفائدة فقط وتبقي رأس المال بحاله الذي يزيد كل سنة حتى بلغ فيما بلغني 180 مليون فرنك وحضرة البابا لا يريد أن يتناوله وهكذا عف هو وأسلافه وسيتعفف أخلافه عن أخذ مال ممن يرونهم غاصبين حقهم معتمدين على سلطتهم.
إن انشقاق ألمانيا وانكلترا وغيرهما عن الكنيسة الكاثوليكية بقيام أمثال جان هوس وكلفن ولو ثيروس في أوائل القرون الحديثة وتلك الأزمة التي دخل فيها المقام البابوي إذ ذاك لم تؤثر كثيراً في سلطته على الأرواح والأشباح وكذلك تغلب الحكومة الزمنية في إيطاليا على جيش البابا يؤثر كثيراً فبقي مقام حضرته مقدساً وكذالك الكرادلة والأساقفة والقس والرهبان وذلك لأن عمل هؤلاء الرجال قائم على أنظمة وقواعد معينة لا تغيرها الطوارئ والرزايا ولأن هذه السلاسل في مراتب الكهنوت لا يصل إليها المريد إلا بالتعلم والتهذيب على الأصول المتبعة وكل ما جعلت التربية والتعلم أساسه يثبت وبعم أثره ويوفق الناهضون به.
ولقد لاحظنا أن الفتن الدينية التي أثارها التعصب الديني في القرون الوسطى كانت في ايطاليا أقل مما هي في فرنسا واسبانية حتى أن الإسرائيليين في اسبانية لما ذاقوا العذاب الأليم جلوا عن بلادهم فكان من إيطاليا أن قبلتهم وهذا ناشئ من لين أخلاق الشعب هنا ويرجح أن كل ما وقع من الاضطهادات لم يكن مما وقف الرؤساء على حقيقته ولو رجعنا إلى تراجم أكثر عظماء هذه الملة من باباوات وكرادلة ورؤساء أساقفة لوجدنا كثيرين منهم خدموا المدينة والآداب خدمة تذكر فتشكر كانوا كذلك يوم كانوا ملوكاً زمنيين وروحيين ويوم أمسوا روحيين فقط حدثنا التاريخ أن الباباليون العاشر في القرن الثالث عشر للميلاد وهم من أسرة ميديسيس المفضلة على العلم قد وسع نطاق الآداب وبث كلمة العلم حتى عد قرنه القرن الذهبي وكان يبسط جناح حمايته للمصورين والنقاشين والمهندسين والأدباء ويفضل عليهم بالطبع أن من يأتي بعده في الدرجة يحاول أن يقلده في محامده. والله أعلم.
العرب والطليان
وصل العرب إلى بلاد الأمة التي هي وارثة الرومان منذ القدم أوائل عهد فتح افريقية وما برح العرب يطمعون في فتح جزيرة صقلية لقربها من الشاطئ المقابل لأفريقية حتى تم لأسد بن الفرات فتحها سنة 212هـ -. قال المؤرخون كان ابتداء حصار بلرم عاصمة صقلية في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين ومائتين ودام إلى شهر رجب سنة عشرين ومائتين وفتحي بالأمان وفي سنة خمس وعشرين ومائتين أستأمنت قلاع كثيرة من قلاع جزيرة صقلية منها حرصه وقلعة البلوط واللاطنوا وقلعة ماروب ومرنا وغير ذلك.
وهذه القلاع ما زال بعضها إلى اليوم أسماء مدن تبدأ بلفظة قلتا أي قلعة فيقولون جيرونة زقلتا بلونة وقلتا لستا وكلها من تلك الحصون والقلاع بقيت أسماؤها كما بقيت أسماء كثيرة عربية في لغة سكان هذه الجزيرة فيقولون مثلاً منديللو للمنديل وغير ذلك مما يشهد بأن العرب حكموا هذه الجزيرة قرنين ونصفاً وأثرت في أهل مدينتهم ولسانهم وعاداتهم كما هي عاداتهم في كل ما ملكوه.
راجت حضارة العرب زمناً في صقلية ومنها تسربت إلى البلاد المجاورة فكان يرشح منها شيء كثير إلى الأقرب فالأقرب من البلاد ولعل تلك الحضارة راجت أيضاً في جزيرة قورسقة وأهلاه يتكلمون الايطالية أيضاً وهم اليوم تحت حكم فرنسا وملك العرب جزائر ميورقة ومنورقة المعروفة بجزائر البالايار ويابسة وكانوا يغزون شطوط اسبانية وفرنسا ولا عجب بعد ذلك إذا دخلت كلمات عربية كثيرة في لغات الفرنسيس والطليان والاسبان والبرتغال.
ومن يعلم أن تلك الجزائر مما ارتفع عليه علم الإسلام وأن أقريطش (كريت) وقبرص ورودس ومالطة كان حظها كذلك يعرف أن العرب كانوا رجالاً في البحر كما هم رجال في البر وأنه لا سبيل إلى الأمن من الداخل إذا لم يحفظ الساحل بالجزائر والمواني والفرض ولطالما كانت الحكومات تمتلك الساحل فلا تلبث أن تبسط سلطانها على الداخل.
كان الأدارسة حكام تونس هم المتكلفين بغزو جزيرتي سردانيا وصقلية ففتحوا صقلية وكذلك ملوك جزائر الغرب أخذوا على عهدتهم غزو منورقة وميورقة فاستولوا عليهما وعامل العرب الايطاليين والاسبانيين بالحسنى على نحو ما يأمرهم به دينهم ولما رأى الايطاليون هذه المعاملة لم يشاؤوا أن يغيروا شيئاً من مصطلحاتهم حتى أن الملك رجار الذي عاد فاستولى على صقلية سنة 485 كان يتكلم بالعربية وهو الذي أفضل كثيراً على الشريف الإدريسي الجغرافي الذي وضع كرة أرضية بالفضة كانت من أعاجيب القرون الوسطى دهشت لها أجيال الإفرنج كلهم كما دهشوا للساعة الدقاقة التي أهداها أمير المؤمنين الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا.
قال الإدريسي في رجار هو الملك المعظم رجار المعتز بالله المقتدر بقدرته ملك صقلية وايطالية وانكبرود وقلورية أمام رومية الناصر للملة الناصرية إذ هو خير من ملك الروم بسطاً وقبضاً.
ولقد كان أهل الشرق على صعوبة ركوب البحر في أيامهم يرحلون إلى بلاد ايطاليا كما يرحلون إلى الأندلس فيكتبون عليها في رحلاتهم ما تقع عليه أنظارهم وممن زار ايطاليا الجغرافي ابن حوقل فقد قال أن مدينة ملف ويقال لها الآن ملفي تتصل بأرض نابل وهي مدينة صالحة بحال دون ملف في كثير من الأحوال وأكثر أموال نابل من الكتان وثياب الكتان وقال أنه رأى بها ثياباً لم ير في سائر أقطار الأرض لها شبيهاً ولا يستطيعها صانع في جميع طرز الأرض وهو ثوب يعمل مائة ذراع في خمسة عشر ويباع الثوب منها بمائة وخمسين رباعي وزائد وناقص.
ووصف ابن حوقل صقلية فقال أن طولها سبعة أيام في أربعة أيام والغالب عليها الجبال والقلاع والحصون وجميع أرضها مسكونة مزروعة وليس لها مدينة مشهورة معروفة غير المدينة المعروفة ببلرم وهي قصبة صقلية على نحو البحر من الشمال وهي خمس جادات محدودة غير متباينة ببعيد مسافة وإن كانت حدودها ظاهرة فمنها المدينة الكبرى التي تسمى بلرم عليها سور من حجارة مانع شامخ يسكنها التجار وفيها مسجد الجامع الأكبر وكان بيعة للروم وفيه هيكل عظيم ومدينة تعرف بالخالصة ذات سور أيضاً من حجارة وليس كالسور الأول يسكنها السلطان وأتباعه وفيها دار صناعة البحر والديوان وبعد أن وصف أسواقها وباعتها واستطرد إلى كثرة مساجدها وقال أن فيها نيفاً وثلاثمائة مسجد وفي قرية البيضاء مائتا مسجد قال ولم أر مثل هذه العدة في بلد من البلدان الكبار على ضعف مساحتها ولا سمعت به وقد رأى على مقدار رمية السهم نحو عشرة مساجد يدركها البصر ومنها شيء تجاه شيء وبينها طريق قال وسألت عن ذلك فقيل لي أن القوم لشدة انتفاخ رؤوسهم كان يحب كل واحد منهم أن يكون له مسجد مقصور عليه لا يحب أن يشركه فيه غير أهله وحاشيته وربما كان إخوان منهم متلاصقة دارهما متصافية الحيطان فعمل كل واحد منهما مسجداً لنفسه ليكون جلوسه فيه وحده وفي جملة هذه العشرة مساجد التي ذكرتها مسجد لولد وابنتاه ليتفقه فيه وغرض كل واحد منهم أن يقال مسجد قلان لا غير. قال وبها رباطات كثيرة على ساحل البحر مشحنة بالبطالين والفساق ووصف أبواب بلرمة التسعة وقال أن هذه المدينة مستطيلة ذات سوق قد أخذ من شرقيها إلى غربيها يعرف بالسماط مفروش بالحجارة عامر من أوله إلى آخره بضروب التجارة.
ووصف الشريف الإدريسي جزيرة سردانية فقال أنها كبيرة القطر مثيرة الجبال قليلة المياه وطولها مائتان وثمانون ميلاً وعرضها من المغرب إلى المشرق مائة وثمانون ميلاً وطولها ماراً من الجنوب إلى الشمال مع قليل تشريق وفيها ثلاث مدن منها الفطينة وهي مما يلي في جنوبها وهي مدينة عامرة ممدنة ومنها مدينة قالمرة وهي رأس المجاز إلى جزيرة قرسقة ومدينتها الثالثة تسمى قشتالة وأهل جزيرة سردانية في الأصل روم أفارقة متبربرون متوحشون من أجناس الروم وهم أهل نجدة وحرم لا يفارقون السلاح وفي جزيرة سردانية معادن الفضة الجيدة ومنها تخرج الفضة إلى كثير من بلاد الروم وبين سردانية وجزيرة قرسقة مجاز طوله عشرون ميلاً.
ثم وصف جزيرة قرسقة وجزيرة البتة وبالوسة وقبريرة وقبرة وشكلة وبيت برة ومونسة وبونسة واسترنجلو وجزيرة البركان وليبر ودندمة وفيكوذة رركذة وأشتقة وجزيرة الراهب واليابسة وغيرها وقال في وصف مدينة بلرم: وبها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناتها ودقائق صناعتها وبدائع مخترعاتها وهي على قسمين قصر وربض فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم وهو في ذاته على ثلاثة اسمطة فالسماط الأول يشتمل على قصور منيفة ومنازل شامخة شريفة وكثير من الفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار والسماطان الباقيان فيهما أيضاً قصور سامية ومباني فاخرة عالية.
وذكر القزويني في عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات مدينة رومية فقال أنها مدينة رياسة الروم وعلمهم وهي في شمال غربي القسطنطينية وبينهما مسيرة خمسين يوماً وهي في يد الفرنج ويقال لملكهم ملك المان وبها يسكن البابا الذي تطيعه الفرنج وهم عندهم بمنزلة الإمام الذي يكون واجب الطاعة ومدينة رومية من عجائب الدنيا لمعظم عمارتها وكثرة خلقها. ذكر الوليد بن مسلم الدمشقي أن استدارة رومية أربعون ميلاً في كل ميل منها باب مفتوح فمن دخل من الباب الأول يرى سوق البياطرة ثم يصعد درجاً فيرى سوق الصيارفة والبزازين وذكر أن بين يدي السوق سوق آخر على أعمدة نحاس كل عمود منها ثلثون ذرعاً وبين هذه الأعمدة نقير من نحاس في طوق السوق من أوله إلى آخره فيه لسان من البحر تجري فيه السفن فتجيء السفينة في هذه النقرة وفيه الأمتعة حتى تجتاز على السوق بين يدي التجار فتقف على تاجر فتختار منها ما تريد ثم ترجع إلى البحر.
وذكر أشياء عجيبة عن كنيستها وقال أن فيها عشرة آلاف دير للرجال والنساء وبها جامع لمن يلتمس صنوف العلم من الطب والنجوم والحكمة والهندسة وغير ذلك قالوا أنها مائة وعشرون موضعاً قال وقد مثل في الكنيسة صورة كل نبي من وقت آدم إلى عيسى عليه السلام وصورة مريم عليها السلام كأن الناظر إليهم يحسبهم إحياء وحكي أن أهل رومية يحلقون لحاهم ووسط هاماتهم فسآلو عن ذلك فقالوا لما جاؤوهم شمعون الصفى والحواريون دعوهم إلى النصرانية فكذبوهم وحلقوا لحاهم ورؤوسهم فلما ظهر لهم صدق قولهم ندموا على ما فعلوا وحلقوا لحى أنفسهم ورؤوسهم كفارة لذلك.
وممن رحل إلى ايطاليا جمال الدين محمد بن سالم بن واصل قاضي القضاة بحماة وكان إماما مبرزا للعلوم العقلية عارفا بالمنطق والهندسة والأصول والفقه والهيئة والتاريخ توفي سنة 697 ذهب هذا رسولا إلى صاحب صقلية من قبل الملك الظاهر بيبرس الصالحي وذكر انه أقام عنه وفي مدينة من مدائن البر الطويل المتصل بالأندلس من مدينة انبوليا واجتمع به مرارا ووجده متميزا ومحبا للعلوم العقلية يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس قال وبالقرب من البلد الذي كنت فيه مدينة تسمى لو حارة أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية يقام فيها الجمعة ويعلن بشعار الإسلام.
وفي هذا القرن كان الايطاليون هم رجال التجارة والأساطيل في البحر المتوسط وكانت لسكان بيزاوهم من إقليم توسكانيا تجارات واسعة في الشام وقال ياقوت أن السعة ظاهرة عليهم وجمهوريات بيزا وجنوا والبندقية هي أكثر البلاد الايطالية في القديم والحديث ولما كان الطليان يأتون بلاد مصر والشام وسواحل البحر المتوسط منتجعين للزق والاتجار كانت بقية أمم أوروبة غائصة في مفاوز الجهالة.
نشر المستشرق ميشيل أماري في مدينة فلورنسا الشروط والعقود السياسية بين ملوك بيشة (بيزه) وفورنتا (فلورنسا) أو فلورنسا وبين ملوك المسلمين في تونس والغرب الأقصى ومنها عقد من الملك قايتباي للفلورنتيين ذكر في شروط البنادقة ان تجار المسلمين يبتاعون من تجار البنادقة أصنافاً من متاجرهم من جوخ وصوف وغير ذلك وآخر هذه العقود سنة عشر وتسعمائة هجرية وأولها في منتصف القرن السادس.
وهكذا عاد العرب فاستخلصوا بلادهم من الطليان فكان الاختلاط على اتمه بين الأمتين ولاسيما عندما تضع الحرب أو زارها وكثيرا ما كان رسل ملوك الإسلام يأتون ايطاليا فقد ذكروا أن ابن خلدون المؤرخ جاءها رسولا من قبل صاحب تونس وصورة الطليان إذ ذاك على الحجر وجاءها في القرن الحادي عشر الأمير فخر الدين المعني صاحب لبنان وأقام بها عدة سنين ملتجأ ووصف عمرانها بالضخامة وتفنن أهلها في النقش والرسم والبناء.
ولا يتسع المجال هنا إلى ذكر كل من زاروا ايطاليا من العرب ومن زاروا من الطليان بلادنا إلى هذا العصر. ولقد كانت اللغة الايطالية في مصر والشام معروفة أكثر من الافرنسية والانكليزية إلى منتصف القرن الماضي ثم تراجعت وخلفتها هاتان اللغتان.
هذا وكان رجال الدين من كاثوليك الشرق يختلفون إلى رومية منذ القديم ويتعلمون لغتها ويدرسون الدين فيها وهم أكثر من أن يحصوا وفي مقدمتهم السمعاني اللبناني المشهور واللبنانيون الموارنة على ما يظهر أشد الكاثوليك رغبة في المهاجرة إلى رومية وتواريخ رجال الكهنوت عندهم شاهدة بذلك.
لذائذ الغريين
قرأت في الصحف الباريزية أن إمبراطور ألمانيا منع ضباط مملكته من رقص التانغو وألوان ستب في الحفلات الرسمية وكذلك فعل ملك الانكليز وهما رقصتان قيل أنهما من أصل أمريكي في أقصى ما يكون من الخلاعة خلافاً للرقص الذي اعتاده الأوروبيون في حفلاتهم الراقصة خاصة كانت أو عامة.
ولعل الآن بعضهم يقول وأنت الآن تحدثنا عن الرقص وأمامك محيط أوروبا وكله مما يستملي القرائح مهما كانت كليلة للكتابة والتأمل. نعم أن البحث في الرقص هو مما يجب البحث فيه أيضاً لشرقي يبحث في مدنية الغربيين.
إننا بحسب عاداتنا واصطلاحنا سكان المدن العربية لا البوادي ننكر الرقص ونعده حطة ولكن الغربيين يرون غير رأينا فيه. يرونه من الحاجات الطبيعية لبسط النفس ولذلك لا تكاد ترى الكبير والصغير والرجل والمرأة إلا ويعتادون الرقص على أنواعه من غير نكير اللهم إلا رقص التانغو وألوان ستب فإن العقلاء أنكروه لأنه باعث الشهوات البهيمية ومخرج للرقص عما وضع له.
والرقص في الغالب يكون على إيقاع النغمات الموسيقية على لحن متساوق وربما أشفع بغناء. فالرقص والموسيقى والغناء هي من المستحبات وربما تجوزنا وقلنا من الواجبات في بلاد الغرب لا يعد الفتى ولا الفتاة من أهل الظرف بدون الأخذ بحظ وافر منها فكأن الغربيين رجعوا في مدنيتهم إلى الفطرة الأولى وذلك لأنا نرى سكان البوادي في الشرق أيضاً يرقصون ويغنون ويضربون بطبل أو ينفخون بمزمار. أمور يأتونها على الفطرة وعلى حال أولية ولكنها على كل حال تدل على أن سكان غير المدن في شرقنا أقرب إلى الفطرة من المتحضرين.
كانت الطبقة العالية من رجالنا أيام رقي العرب في الأندلس ومصر والشام والعراق والجزيرة وفارس وغيرها من البلاد التي تأصلت فيها الحضارة لا تستنكف من الضرب بالعود أو غيره من أدوات الطرب أو ترفع أصواتها بالغناء ولا ينكر عليها ذلك ولطالما كنت ترى بينهم الفقيه والمحدث والطبيب وصاحب الوقار من القضاة والعمال.
انحطت الحضارة عندنا والفنون الجميلة آخر ما تستعيده الأمة الناهضة وأول ما تفتقده المنحطة وما الغناء والموسيقى إلا من الفنون الجميلة فارتقاء صناعة الغناء والموسيقى في الأمة دليل ارتقائها فهما محركان عظيمان لأرواح أبنائها ومهمازان قويان لترقية شعورهم وتحسين عواطفهم يصرفون فيهما آونات الفراغ فيدخل بهما السرور على القلوب.
تصدر هذه العجالة من بلاد هي مهد الرقص والغناء والموسيقى من أرض أين اتجهت في حواضرها وبواديها تجدها تطرب وتتغنى من بلد قام فيها من الموسيقيين القدماء أمثال روسيني وبلليني ودونيزيتي ومن المحدثين أمثال فردي وبوتنشيني وما سكانية وليون كافاللو ومن المغنيين في المحدثين بونشي وماركوني وكاروسو ود يللوكا وباتستيني وغيرهم من المغنيات والموسيقيات ممن أعظمت الأمة واحاتهم في منزلة علمائها وفلاسفتها ورجال نهضتها.
وكل ما نراه من الموسيقى ونسمعه من الغناء يكون على ضرب النوتة بأدوار وتقاطيع مخصوصة وهو ما لم يتم حتى الآن عند العرب اللهم إلا الموسيقى الوترية في مصر ولما يعم استعمالها فإذا أصبحت موسيقانا وغنانا ضمن دائرة القانون يكون قد وضع الحجر الأول في أساس نهضة هذه الفنون الجميلة في شرقنا العربي على نحو ما جرى عليه سكان الأستانة وأفلحوا فيه من تقليد الأوروبيين في موسيقاهم وغنائهم.
الموسيقى والغناء هما مثال من حالة النفس ومن لا يريد أن تكون نفسه شفافه براقة حساسة ولكل أمة غناؤها قد تتبرم به الأمة الأخرى وتعد منكراً ولكنه يفيدها ويلذها كما ذكر ابن زندقة الاسكندري من سياح القرون الوسطى في وصف أهل شلشويق (أي أهل شلزويك هولستايين في شمال ألمانيا) وقال أن لهم نوعاً من الغناء يشبه عواء الكلاب ولو فهم معناها لما حكم هذا الحكم الذي يقوله اليوم أيضاً كل من لا يعرف لغة غيره ولا تأثير موسيقاه وغناءه ومراميها.
اللذائذ الثلاث هما من أول ما تدور عليها الحياة الغربية اليوم ولا تضر بالوقار بل تعد من أدوات الظرف والكمال ولعل شرقنا يحتذى في الموسيقى والغناء حذو الغرب مع تعديل تقتضيه طبيعته وعاداته واشتغال البيوت أو لأصحاب آونة الفراغ بضرب من ضروب الموسيقى والغناء أنفع ألف مرة من لغو الحديث وانتقاض بعضهم بعضاً والحط من أقدار أنفسهم والسلام.