مجلة المقتبس/العدد 9/النشوء العقلي والاجتماعي

مجلة المقتبس/العدد 9/النشوء العقلي والاجتماعي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 10 - 1906



في مصر

أخذ التقدم يرتقي في مصر بعد أن كانت مثل جميع البلاد الإسلامية لقلة العلم والزهد في معاناة الحياة التجارية تقول أن الحياة الدينية والمدنية شيءٌ واحد وأن في القرآن والسنة أحكام الحياتين وفي مضامينهما جميع القوانين. أما الأديان السماوية الأخرى فقد رأت من الضرورة الفصل بين السلطة الزمنية والروحية ولم يتسن للإسلام أن يشذ عن هذا القانون. ومن تأمل ما جرى في مصر منذ خمسين سنة فقط وقاس ما نتج من دخول التمدن إلى هذا القطر خلال هذه المدة يدرك بأن النشوء يكون على أتمه بعد قليل وأن هذا التغيير يجري تحت طي السكون جارياً في مجراه الطبيعي من دون إكراه ولا إعنات. ومع هذا ظنَّ كثير من المفكرين بأن البلاد الإسلامية تبقى بعيدة عن التمدن. حملهم على هذا الظن ما رأوه من شدة تحمس المسلمين لدينهم وخضوعهم لما أمر به القرآن خضوعاً أعمى.

وحجة أهل الإسلام في هذا الباب أن التمدن الإسلامي لما كان منشراً أكثر من غيره كانت العقائد سالمة لم تمس وراسخة لم تزعزع إلا أنه يقال لهم أن علماء العرب في تلك العصور لم يكونوا يدرسون سوى علوم مقررة قام بها تمدن الشعوب الأخرى ولم يقتربوا من الكتب التي حوت علوماً غيرها أو من المصنفات الأدبية والصناعية التي تفتح على العقل باباً جديداً.

على أن التمدن العربي لم تعهد له طفولية إذ ولد كاملاً وبلغ رشده في قرنين فكان من الإسلام كما كان من سائر الأديان أن عدل من امتداد تأثيرات الذكاء وتقهقره في آن واحد وذلك مما لا يتأتى أن يجدد اليوم عهده. لأن تحاكك البلاد الإسلامية بالعنصر الأوربي وانتشار العلم وضروريات الحياة الجديدة ستؤدي ولا جرم إلى تحرير العقول من قيودها وتنتهي بفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية لا محالة على نحو ما نرى من سرعة النشوء الذي بدأ الآن يظهر في مصر آخذاً نحو المدنية الحديثة.

ومما لا شك فيه أن الإسلام بعيد أن يضمحل الآن بل أنه على العكس ينتشر ويزداد أشياعه ويتجدد له أنصار حتى في أوربا وأميركا حيث تجد له الآن طوائف من المسلمين ولكن هذا السير سيكون أبطأ من ذي قبل ويقوم المسلم بفروضه الدينية سراً. نعم يكون للمسلم ك للمسيحي لعهدنا حياتان إحداهما ظاهرة والثانية باطنة ولا تكون الثانية سبباً في التشويش على الأولى. يقول المسيو هوداس من علماء المشرقيات من الفرنسيين إن المتعلمين يحبون أن يريحوا عقولهم بعض الراحة وذلك بأن يتناسوا أن لهم عقولاً. ولذلك تبقى الأديان الرئيسة في أوربا سنين كثيرة بعد على حالة ملائمة بعض الملائمة.

فنشوء الجنس الإسلامي لا مناص من وقوعه لأنه يجري بطبيعة الحال والدين لا يكون عائقاً له في بادئ الأمر لأن جميع الديانات في الأصل تعمل كأنها أعنة تحول دون كل تقدم على أن اليهودية والنصرانية اللتين لهما تعاليم ضيقة وهما أقل حرية من الدين الإسلامي لم يحولا دون نشوء الأجناس الأوربية.

يمثل الإسلام صورة مجتمع ديمقراطي فلا يعوقه عائق من سلطة الأشراف ولا عائق من سلطة رجال الدين ولا عائق من البابوية أي ليس فيه رئاسة دينية. وهذه العوائق هي من الأسباب المؤخرة فلا يخشى منها أن تؤثر في نشوء العنصر الإسلامي.

ومنذ سقوط الدولة العباسية أصبح الخلفاء لا يجمعون في شخصهم وحدهم بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية الدينية والسياسية وأخذت الشعوب الإسلامية تنمو وتنتشر في أطراف العالم بأسره ولا تخضع لسلطان واحد.

ولقد عرف التعصب في جميع الأديان وأعني بالتعصب ذاك الإحساس الذي يحمل صاحبه على الجهاد دفاعاً عن دينه وحفظ التاريخ حوادث هائلة من هذا القبيل لكل طائفة من طوائف أهل الأديان وردد ما سكرت به من حب الغلبة وبسطة السلطان أما الإسلام فعلى العكس من ذلك ظهرت فيه مظاهر التسامح أكثر من غيره مما يرجع الفضل فيه أسباب خاصة بالإقليم الذي قامت في وسطه تلك الديانة أو هو خاصة من خواص العنصر الذي دان بها.

وكان الداعي إلى المذابح التي أهرقت فيها الدماء في هذا الدور الجديد من الهجرة بواعث سياسية لا بواعث دينية. والدليل على ذلك أنك تجد في الشرق عناصر مسيحية كما فيه عناصر إسلامية وترى فيه الجامع مجاوراً للكنيسة والمسلم يعيش مع المسيحي وصلاتهما حسنة ومنافعهما متبادلة. وليس في الشرق ما يعد خطراً على نشوء الأمة الإسلامية السريع سوى جهل السواد الأعظم ممن لم يرزقوا حظاً من الذكاء يكفي لتكبير عقولهم فيراقبون أعمال رؤسائهم مراقبة فعالة ويعارضون إذا دعت الحال إلى معارضة سوء استعمال الأحكام.

ونذكر من الأسباب التي تؤخر سير التقدم إلى الأمام قلة الاتفاق بين المصري المسلم والمصري غير المسلم. فإن الأول لا يعترف للثاني بأن يقول عن نفسه أنه مصري ويزعم أن مصر له دون غيره. نهم إن المسلمين أكثر عدداً ولكن المسلمين مع غير المسلمين في مصر من حيث التهذيب العقلي ومن حيث وجود طبقة عالية يكادون يتعادلون ويتوازون وكذلك نفوذ الطائفتين وتأثيراتهما. وأقول هذا وأنا على يقين من أن التعصب الإسلامي غير ممتد الرواق في مصر بحيث يحول دون سير المسلمين نحو الارتقاء وإذا فرض وجوده بقوة التقاليد فالتربية تكفي لإزالته.

قلت أن الإسلام بعيد عن أن ينافي التمدن بل هو على العكس دين يسمح لمنتحله أن يقصد إلى الارتقاء مطلق الحرية والتصرف. ومن المعلوم أن المسلمين ليسوا تابعين لإمام واحد وأنه ليس من ضرورة في الدين أن يتبعوا خليفة واحداً يتولى السلطة السياسية والسلطة الدينية فتوسيد الأمر إلى رجل يجمع بين السلطتين متعذر في الإسلام. وإني لأعرف من الإنكليز والأمريكان من دانوا بالإسلام فما عاقتهم وطنيتهم الإنكليزية والأميركية عن التفاني في نصرة دينهم الجديد فتراهم خاضعين لحكوماتهم ونظامات أمتهم عاملين بشعائر الدين الذي انتحلوه.

كان للعلم مقام جليل بين المسلمين بحيث كان من يعرف القراءة والكتابة يعد من الطبقة الراقية ويحترمه الناس ويبجلونه. وليس لرجال الدين عند المسلمين وأعني بهم العلماء والأئمة ما لأمثالهم عند أهل النصرانية. بل تؤلف تلك الفئة في الإسلام من جميع الناس على السواء مهما كانت طبقتهم. فإذا أحرزوا قسطاً من العلم يخضع لهم الناس وإن لم يكن في أيديهم شهادات تؤذن بأن لهم حق التسلط عليها.

والباعث الثاني على نشر التمدن بين المسلمين اختلاطهم بأوربا فإن كل من رأوا انتشار التمدن المصري وقدروا تأثير السياحات إلى أوربا حق قدرها وعرفوا ما ينتج من اختلاط المسلم بغيره في هذه السياحات يتجلى له الشوط البعيد الذي قطعته الأمة المصرية والتقدم الذي سعى إليه هؤلاء السائحون فصح أن يدعوا من الممهدين لسبيل الحضارة والتمدن.

والفرق في الحقيقة بين هؤلاء السائحين وبين المقيمين في البلاد جوهري محسوس إذ أن السياح سواء كانت رحلتهم للنزهة أو التجارة قد غيروا شكل البلاد وكان منهم أن جعلوا مصر اليوم تخالف مصر منذ ستين سنة وبين هذين الدورين بون شاسع كما لا يخفى على الناظر البصير. ومن يجرأ أن يشبه بلاد الجزائر اليوم بالجزائر قبل أن يفتتحها الفرنسيين؟ ومثل ذلك يلاحظ في جميع البلاد الإسلامية حتى أن مراكش لتمس بإصبعها المدنية الرافعة في جوارها أعلامها. وساكن الشاطئ أسمى عقلاً ومدنية من ساكن الداخلية لأنه يختلط على الدوام بالعناصر الراقية وينال بذلك علماً لا يناله سكان الوسط.

اعتبر ذلك في أوربي يتوغل في داخلية مراكش فإن المسلمين يسبونه ويشتمونه. وإذا كان الأوربي في صحبة مراكشي تهذبت نفسه بالاختلاط بالأجانب فإن هذا يحاول أن يشرح للأوربي خطأ ابن دينه مستدلاً على دعواه بجهل مواطنه وأنه مازال على الفطرة متعصباً ومتشبعاً بأفكار أمته القديمة.

وبعد فإن تهذيب المرأة سيكون من أعظم العوامل في المدنية الإسلامية. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نعترف بأن ما تم من الارتقاء لبعض الطبقات المنورة في المسلمين كان الباعث الأكبر عليه تأثير تربية المرأة. لأن الشريعة المحمدية خولتها من الشعور ما تعرف به كرامتها لتكون مستقلة ولأن محمداً صلوات الله عليه أراد إنهاض المرأة من سقوطها الذي كانت فيه قبل الإسلام فتسامح بتعدد الزوجات. ومن المحقق أن أسباباً شديدة كانت تقضي بنيلهن هذا الامتياز. ذلك أن في تعدد الزوجات مضاعفة الأمة ونموها وتكثير سواد الموحدين مما حسن أثره في هذه الأمة. نعم كان تعدد الزوجات من الدواعي إلى تجنب الفسق فاستطاعت بذلك المرأة التي تحدثها نفسها بمن في خارج بيت زوجها أن تجد لها من الشرع نصيراً يجعلها في حل من التزوج ممن تحب. وبهذا لم يعهد بين المسلمين الزواج غير الشرعي ورفع عنهم عار التسري واضطروا إلى احترام الأبكار في بيوت غير بيوتهم.

والدليل على هذا بأنه منذ قل تعدد الزوجات في البلاد التي نال أهلها نصيباً من التعلم أصبحت بيوت الفجور مملوءة بالوطنيات المسلمات بعد أن كان أهلها من غير بنات البلاد وقامت بيوت العهر الوطنية تجاري مواخير الدخلاء وتتغلب عليها.

ظلت المرأة المسلمة راضية بما قسم لها من مال زوجها بعد وفاته إلى أن استنارت بقيس من المعرفة فأنشأت تدرك بأن حظها هذا يسجل عليها بأنها دون الرجل في المنزلة. وإنا لنلاحظ اليوم أن الرجل المسلم في البلاد المتحضرة لا يتزوج بغير زوج واحدة وقلما كانت الزوج فيما مضى تقضي أوقاتها مع زوجها بل تبقى في خدرها ولا تخرج منه إلا محجبة مبرقعة ولا تزور غير النساء إذ لا يزورها غيرهن فتخلصت المرأة اليوم من هذه العادات وهذا الزوج مهما بلغ من تدينه يتسامح مع زوجه لتخرج لمقابلة الناس على الطريقة الأوربية.

وهذا مما أحدث في الرجل أيضاً أحسن تأثير لأنه بالاختلاط المتواصل مع المرأة في البيت أخذت أخلاقه تتدمث وعواطفه تلطف وترق واقتبست المرأة المسلمة بما عرفت به من الرقة المعهودة عن المرأة الأوربية - لما نزلت هذه بلاد الشرق مع زوجها الموظف - أساليب الانبساط والبهجة اللذين ما كان زوجها يجدهما من قبل إلا في البيوت الأوربية.

ومن الغريب أن تعدد الزوجات الذي كان في القديم خاصاً بالغني أصبح لعهدنا عادة من عادات الفقير لأن هذا يستخدمهن آلات ينتفع بها في أموره المعاشية فإذا كان له عدة زوجات يكن له بمثابة أجيرات يحرثن أرضه ويزرعن زرعه ويوفرن عليه ماله فلا يحتاج بهن إلى أيدي العامل والزارع.

لا جرم أن تعليم المرأة المسلمة سيكون من الدواعي الرئيسة في نشوء العنصر الإسلامي ويساعدها على ذلك فقدان الرئاسة الدينية عند المسلمين وخلاص المسلمة من التأثيرات السيئة التي ترجع بها القهقرى إذا تولى بعض أمرها أحد خدمة الدين.

وهنا نلم بالارتقاء الاقتصادي في المسلمين لأنه أحدث تغييراً في حالتهم. فقد ظلوا قروناً كثيرة بعيدين عن الحركة الاقتصادية محتفظين بتقاليدهم في متاجرهم فكان منهم لما رأوا تكاثر الأعمال المالية أن عقدوا الصلات التجارية مع غيرهم من الشعوب. وأي واسطة أحسن في قلب العادات القديمة من المراباة. فقد كان المسلمون لا يقولون بجمع رؤوس أموالهم وقلما كانوا يستدينون بالربا فأنشأوا اليوم يستدينون بالربا ولكنهم لا يدينونه فنجحت بذلك أعمالهم وأخذوا يملكون أموالاً طائلة اضطرتهم إلى استثمارها والمسلمون اليوم يتعاطون جميع أعمال المصارف والخصم. وإنك لترى الآن في مصر شركات عظيمة ورؤوس أموالها من أهل الإسلام خاصة.

وجملة القول ليس الإسلام كما رأيت جامداً لا يتحرك بل أنه يجري في نشوئه بحسب الحاجات والضرورات الحالية وأنا موقن بأنه يضرب الآن نحو المدنية ويسعى لها سعيها بطبيعة الحال.