مجلة المقتبس/العدد 9/صدور المشارقة والمغاربة
مجلة المقتبس/العدد 9/صدور المشارقة والمغاربة
جول سيمون
1814_1896
كان سيمون مثل كثير من رجال الإدارة في الإسلام جامعاً بين العلم والسياسة يشبه بعلمه وعقله يحيى بن خالد وزير الرشيد ويحيى بن أكثم وزير المأمون ولسان الدين بن الخطيب وزير بني الأحمر ويعقوب بن كلس وزير العزيز بالله الفاطمي والصاحب بن عباد وزير بني بويه وأبي بكر بن زهر الأندلسي وزير المصامدة وابن سينا وزير شمس الدولة صاحب همذان وعبد الملك بن سعيد وزير يحيى بن غانية الملثم ملك الأندلس وأبو القاسم الحسين بن المغربي وزير العبيديين وصاحب ديار بكر وميافارقين والقاضي الفاضل وزير صلاح الدين يوسف وغيرهم من الأفراد في العلم والرئاسة على اختلاف في الطباع والبقاع. لكن هؤلاء الأعاظم تمكنوا من العلم ونشأوا على معاطاة الأعمال بفضل عقولهم وقوة ولوعهم ومترجمنا هذا نشأ وسط أمة منورة ترغب في التعليم والتهذيب وتنشط القائمين بأمرهما فكان له من جودة طريقة العلم أعظم سبب يوصله إلى غاية الفضل والفضيلة.
ولد صاحب الترجمة من أبوين فقيرين في إحدى قرى مقاطعة لوريان إحدى العمالات الفرنسية فلما ترعرع دخل المدرسة وناهيك بما يقاسيه أبناء المعوزين في المدارس للقيام بحاجاتهم المدرسية وأداء أجور الدراسة. بيد أن فقره لم يثن من عزمه ودرس في مدرستي لوريان وفان اللتين درّس فيهما بعد. ولما أتم الدراسة عين أستاذاً في مدرسة رين عام 1832 ومازال يتقلب في التعليم من دار علم إلى دار علم حتى انتهى إلى مدرسة السوريون الباريسية الكبرى وعهد إليه تدريس الفروع الحكمية العالية وظل طول هذا الدهر حليف فاقة اضطرته أن يشغل أوقات فراغه من التدريس في مؤازرة الصحف وتأليف الكتب فقضى في ذلك تسع سنين أتته بأجزل الفوائد. وقد بدأ أولاً يؤازر في مجلة بريتان ثم في مجلة العالمين ومازال يؤازر في الجرائد والمجلات طول حياته فقد ذكروا أنه ساعد في كتابة جريدة البريس والسيكل وكان مديراً لهذه من سنة 1875 إلى سنة 1877 وأدار شؤون الغولوا من سنة 1878 إلى سنة 1881 والماتين والفيغارو والطان والديبا وغيرها من الجرائد والمجلات ومنها مجلة البيوت.
قالوا أن الأحوال توجد الرجال وهو قول يصدق على سيمون كما يصدق على غيره فلو لم تطرأ على فرنسا طوارئ سياسية هائلة لظل سيمون يعلم في المدارس ويكتب في الصحف وينشر الكتب ولكن حب بلاده دعاه إلى الدخول في غمار السياسة فخطب في قاعة السوربون بعد سقوط الحكومة الملكية سنة 1851 داعياً إلى الحكم الجمهوري فقال وهو مما اشتهر به كثيراً: ما جئت لألقي عليكم درساً في الأخلاق بل جئت وعامل الواجب يدفعني أن أكون لكم مثالاً تجرون عليه لا أن ألقنكم درساً تحفظونه. جئت لأقول لكم أن غداً تجتمع فرنسا وتلتئم منتدياتها لتندد بما أحدثته الحكومة أو لتقر عليه. أما أنا فأصرح على رؤوس الأشهاد بأنه إذا لم ير الراؤون غير رأي واحد يناقض الآراء ويكون إلى التنديد فأنا أكون صاحب هذا الرأي لا غيري.
فكانت هذه الجملة المأثورة سبباً في تنحيته عن التدريس في السوربون واضطر إلى الاعتزال في نانت زمناً انقطع فيه إلى الأبحاث التاريخية. وبعد فإن الثورة الفرنسية الثانية (1848) هي مبدأ دخول سيمون في السياسة فعين بعدها بقليل وزيراً للمعارف والأديان والفنون الجميلة وكان أكبر همه إصلاح التعليم فوضع مشروع التعليم الابتدائي الإجباري ثم استقال ولما كان في مجلس الشيوخ عني أيضاً بمسائل العلم وحاول أن يحول دون نشوب الحرب بين فرنسا وبروسيا فلم يفلح ولما انتخب سنة 1863 عضواً في المجلس التشريعي استمال بما رزقه من شدة العارضة وقوة البيان قلوب من كانوا عليه إلباً حتى صاروا من أعز أنصاره فعرفه قومه بأنه من أشد أعوان الفقيرات من النساء وداعية الحرية الدينية ومصلح حال العملة والعلم والتعليم. وعين أيضاً عضواً في المجمع العلمي الباريسي وهو المجمع المؤلف من أربعين عالماً من كبار علماء الفرنسيين وسنة 1876 تولى رئاسة الوزارة كما تولى رئاسة عدة جمعيات وحفلات سياسية وعلمية وأدبية.
هذا هو الرجل العظيم الذي جمع في جنبيه العلم والعمل فكان العلم والتهذيب أكبر دافع له إلى مقاومة أنصار الباطل والصبر على المكاره فيما يلقاه من فقر وقلة ولم يتنازل عن مبدأه الذي ثبت عليه طول حياته. وأنت ترى بهذا النظر أن لسيمون من حيث السياسة والعلم شركاء ونظراء ليسوا بقلائل في كل أمة مرتقية لهذا العهد وإنما سمت منزلته من عداه بالأخلاق الفاضلة والتفاني في خدمة الإنسانية والمدنية. عاش من شق القلم وظل كذلك طول حياته بعد أن خطبته المناصب ورقي درجات العلى ولو أسف قليلاً للتنازل عن مذهبه في الأخلاق لأصبح في رئاسة الجمهورية وعد من كبار ساسة الأرض كما هو من أكبرهم في العلم والعمل ولقضى حياة طيبة خصوصاً في أخريات أيامه فقد ذكروا أنه كان يكتب في الصحف ليعيش بما يكتب حتى أن إحدى الصحف الكبرى نشرت مقالة من قلمه كان بعث بها في خلال مرضه ليأخذ أجرتها فصدرت يوم وفاته.
يعد سيمون من مؤسسي الجمهورية الثالثة الحالية ومن أشد أنصار التكافل الاجتماعي كما يعد رأساً في الكتابة والخطابة. وكتبه ومقالاته وخطبه ومقاماته تعد بالمئات وأول كتاب نشره الواجب والدين الطبيعي والحرية الدينية والحرية السياسية والحرية المدنية وهذه الكتب الثلاثة الأخيرة موضوع واحد قسمه ثلاثة أقسام وأراد بها تعليم الجمهوريين وتنشئتهم على حب الجمهورية واشرابها قلوب الأمة. ونشر أيضاً عدة كتب مثل كتاب الفلسفة والطبقة العاملة والمدرسة وإصلاح التعليم الثانوي والوطني الصغير وموت سقراط والفلسفة الإسكندرية والمرأة في القرن العشرين والتعليم المجاني الإجباري وغير ذلك من الأعمال العلمية النافعة وكلها دالة على روح فاضلة ونفس شريفة طاهرة تألم للظلم وتطمع في الإهابة بالإنسانية إلى حظيرة التعاضد والتكافل وتنزع إلى إصلاح حال البائسين اليائسين.
والناظر في كتبه يقرأ فيها أحسن ترجمة لحياته فقد كان على ما يظهر منها متديناً تديناً معقولاً مازجته الحكمة والاعتدال فصح أن يدعى فيلسوفاً إلهياً وهو ممن نحتاج إلى أمثالهم في مثل هذا القرن الذي قل الاعتدال في أهله فمن متدين غر جاهل لا يدري من أحوال العالم شيئاً ومن متعلم ينكر كل ما يقره المتدينون ويعد حطة عليه أن يتنزل إلى ما لا يفيد بزعمه.
ألا أكرم برجل كسيمون بل أكرم ببلاد رفعته من حضيض قرية حقيرة كان فيها فلاحاً خاملاً إلى منصة العلم والوزارة فصار عضواً عاملاً في أمته بل أكرم بمبادئ صالحة وعلم صحيح سار على منهاجها فعف عن مالها وعاش عيشة حرية بمن يكتب في الحرية الحقيقية ويدعو الناس إليها عاش عيشة من وافق علمه عمله فكان العالم العامل والسياسي المحنك والغيور الصادق والنزيه المستقيم والحكيم العاقل. وقد كافأته أمته بأن نصبت له تحت رعاية الجمهورية تمثالاً في باريس خطب في الاحتفال به عظماؤهم في يونيو سنة 1903 ورددوا أعماله وتأثيراته في عالم السياسة والعلم وأثنوا خصوصاً على طيب أخلاقه وفضيلته العملية.