مجلة المقتبس/العدد 90/الشيخ إبراهيم الحوراني

مجلة المقتبس/العدد 90/الشيخ إبراهيم الحوراني

مجلة المقتبس - العدد 90
الشيخ إبراهيم الحوراني
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 7 - 1914



رزئت الآداب العربية بفقد هذا العالم المشهور بسعة معارفه ودقة أبحاثه واعتداله بمبادئه الأدبية فاقتطفت ترجمته هذه من كتابي (مفاوض الدرر في أعيان القرن التاسع عشر) لتنتشر في مجلة المقتبس وهناك ما اقتطفته.

1 - أسرته

لا يخفى أن معظم الأسر المسيحية الشرقية المذهب حورانية الأصل من بقايا اليمنيين الذين قدموا حوران وما إليها حتى العراق في حادث سيل العزم الشهير في التاريخ. وكان منهم الغساسنة الذين نسبوا إلى ماء غسان حيث نزلوا وهو اليوم نبع عري في حوران وكانوا عمال الرومان بعد تنصرهم ثم تفرقوا في أنحاء حوران وغيرها فنشأت منهم قبيلة في إزرع المشهورة بأذرعات ومنها تسلسلت أسر كثيرة بأسماء مختلفة أهمها بنو فرح أو الحاج فرح وأبناء عمهم بنو قنديل الذين تعادوا ثم تصالحوا ثم تعادوا وتفرقوا في أنحاء سورية ولبنان. وكان بنو فرح قد قدم بعضهم في أثناء ألفتح العثماني إلى ضواحي حمص مع بعض بني قنديل أنسبائهم متصالحين ثم عادت المشاحنة ففرقتهم فنزل الفرحيون في تلك الجهات والآخرون هجروها مبتعدين عنهم عداءً وكان ممن نزل حمص وحماة من الفرحيين من لقب بألقاب مختلفة مثل بني الحوراني أسرة المترجم الآن وبني اسيسه وبني أبي عريضة وبني نسيم وأنسبائهم أما بنو الحوراني فينتسبون إلى جدهم شدود الحوراني ونشأ منهم سليمان جد جد المترجم فبنى قرية في حصن الأكراد باسم معمورة الحوراني ثم خربت ونزح منها سكانها الذين كانوا كلهم من هذه الأسرة فعرفت إلى اليوم بخربة الحوراني. وعادوا إلى حمص وحماة وضواحيهما.

فنشأ ممن في حمص أبو يحيى يعقوب بن سليمان بن فرح وهو جد والد المترجم كان شاعراً بليغاً وصاحب مكتبة احترقت ومما يحفظ من شعره قوله من أبيات:

لا تعجبي من آسى العاني فأعظمه ... منذ العصور الخوالي حظ يعقوب

وله كثير غير هذا من بليغ الشعر

ثم نشأ من أنسبائه إبراهيم الأول وهو ووالد المترجم حفيدا أخوين وكان عالماً درس على الخوري عيسى الحامض والد الدكتور سليمان الخوري الحمصي واشتهر بطلاقة لس وسعة معارفه في التاريخ والطب وكان واعظاً بليغاً توفي نحو سنة 187. عن نحو ستين سنة. وله أولاد وحفدة في حمص. إلى غير ذلك مما يدل على أن العلم في هذه الأسرة موروث والشعر متسلسل. وأعظم علمائهم المترجم.

2 - نشأة المترجم

هو الشيخ إبراهيم بن عيسى بن يحيى (أو يوحنا) بن يعقوب بن سليمان بن فرح الغساني الحوراني. ذهب والده عيسى إلى حلب نحو سنة 1838 للاتجار بالمنسوجات وتدبرها إلى أن ولد له فيها المترجم في مساء 14 أيلول سنة 1844 (رومية) فعاد به أبوه وبأخيه الأكبر إلى موطنه حمص والمترجم ابن سنة فترعرع فيها وتعلم مبادئ الحساب عند حائك بارع بالقواعد الأربع ومبادئ الصرف والنحو في الأجرومية على يد القس أبيلا والخوري بطرس الأرقش وبعض العلوم على الخوري عيسى الحامض أديب حمص في عهده. وكان يجمع أترابه ويدرسهم ما درسه. وولع بالزجل والمواليا من فنون الشعر العامي فنظمها وهو في الحادية عشرة فتناقل المنشدون قدوده يتغنون بها منها في البغدادي:

يا ساكن البان صبري من بعادك بان ... يبكي دماً كلما غنى حمام البان

سرك كتمته ولكن من دموعي بان ... والدمع فضاح أرباب الهوى في الصبا

يا روح عطفاً على العاني أسير الصبا ... مولاي شكواي ألطف من نسيم الصبا

وإن كان بتهز عطفك يا غصين البان

ونظم الشعر الموزون في سن الثانية عشرة من العمر كما سنرى في شعره

وسنة 186. نزح بيتهم إلى دمشق فتعرفوا فيها إلى الدكتور مخايل مشاقة فأعجب بذكاء المترجم وأقنع والده بإدخاله إلى مدرسة عبية الأميركية فدخلها سنة 1861 وبقي فيها إلى سنة 1864 فأحكم بعض العلوم وعاد إلى دمشق فأتمها على بعض علمائها فدرس الرياضيات والفلك والمنطق على يد الدكتور مخايل مشاقة والطبيعيات والكيمياء على الدكتور يوسف دمر ومبادئ الإنكليزية على السيدة كروفرد. ولكنه كان يعلم نفسه بالبحث والاستقراء والتدبير والمطالعة كما قال في مقالة أنشأها بعنوان أنا معلمي سنة 1913وهو: وما زلت منذ ذلك الوقت أي زمن الصبوة أطالع وأتعلم إلى هذه الساعة فاستفدت من تعليم نفسي أضعاف ما استفدته من معلمي ودرس في بعض المدارس البسيطة في ضواحي دمشق. وحذق علم الجبر والهندسة والمنطق والجغرافية السماوية وبعض أحوال السيارات ومبادئ علم ألفلك وعلم قياس المثلثات والأنساب والفلسفة الطبيعية والكيمياء والنبات والحيوان. واشتهر بسعة معارفه ودقة مداركه فاستقدمته المدرسة الكلية للأميركان في بيروت سنة 187. أستاذا فدرس فيها البلاغة والمنطق والرياضيات وانفتح له باب جديد للتعمق في العلوم والتبحر في إتقانها وابتكار كثير من القواعد الرياضية التي كان يمليها على تلامذته العديدين من أطباء وعلماء وأدباء وهم معظمهم نوابغ السوريين في القطرين وبقي فيها نحو عشر سنوات وقفها للبحث والتأليف والتعريب والتصحيح من سنة 1871 - 188. م ودرس في مدرسة البنات وفي المدرسة البطريركية بضع سنوات وكان يدرس في مدرسة اللاهوت الإنجيلية بعض العلوم إلى آخر حياته. واتصل بالعلامة الدكتور كارنيليوس فانديك الأميركي المشهور ورصد معه الكواكب ثم صار يرصدها بمنظاره في بيته ويحقق شؤونها ويكتب فيها المقالات الضافية.

وتولى كتابة النشرة الأسبوعية منذ سنة 188. فدبجها بفوائد علمية وأدبية رائقة. وكان مصححاً لمطبوعات المطبعة الأميركية ومعرباتها مشتغلاً بالتأليف والكتابة منصرفاً إلى إتقان العلم وتوسيع المدارك. فكتب مئات من المقالات العلمية والأدبية. وابتكر قواعد وضوابط للعلوم مشهورة بين الأدباء. وألقى الخطب البليغة في الحفلات والمجتمعات الأدبية مما أرقص أعطاف المنابر. وعلى الجملة فإنه ملأ الآداب العربية بمباحثه المفيدة. وزين المجلات والجرائد بنفثات أقلامه. وأغنى اللغة بأوضاعه ومعرباته وأساليبه العصرية. وكانت مزايا كتاباته ومنظوماته الجمع بين آراء المتقدمين والمتأخرين مع دقة نظر وصحة بحث.

وما زال يدأب في عمله إلى أن أقعده داء عقام فلازم ألفراش ولم يكن مع اشتداد وطأته عليه يمتنع عن العمل فوافته المنية بعد عام وذلك في 2 شباط سنة 1916 في بيروت. فأقيمت له حفلة حزن مؤثرة رثاه فيها الدكتوران هسكنس وبلي والقسان هاردن وجسب والأستاذان فربان وكروفرد في الكنيسة أما على الضريح فتناوب تأبينه الأدباء ضوبط وبهنا ومصور وحمية وباز. وأقيمت له حفلة تذكارية أبنه فيها الأديبان خوري وغبريل. ورثاه كثير من الأدباء بمراث مؤثرة.

وكان طويل القامة ممتلئ الجبهة حنطي اللون روماني الأنف أجش الصوت وخطه الشيب في آخر حياته ومن أخلاقه أنه كان حاد الطبع سريع الرضا كثير الجلد على العمل لا يكاد يمل ولا يكل من البحث والمراجعة. وإذا نظم ترنم بالوزن سريع الخاطر حاضر الذهن دقيق البحث في الوضع واللغة والترتيب واسع الاطلاع يسير بالقارئ بين حزون المباحث وسهولها. ترجم وألف وصحح أكثر من 25 كتاباً. فكان جبار علوم ومقدام أعمال متحلياً بأجمل الصفات الأدبية مع ترو وتثبت وتحقيق وتدقيق محباً للآداب والأدباء غيوراً على اللغة وأبنائها. فهو من أ - هم أركان النهضة العصرية بلا مراء.

3 - شعره

كانت مزية شعر الحوراني علمية الأسلوب والنزعة رشيقة التعبير متينة القوافي بليغة المعاني فصيحة الألفاظ دقيقة الخيال جامعة بين جزالة القدماء وأفكار المعاصرين. وله ارتجال بليغ ومعربات شعرية أجاد في نقلها مظهراً بلاغتها الأصلية.؟ كيف لا وقد ورث الشاعرية عن أسلافه كما مر ونظم في سن الثانية عشرة موزوناً وفي الحادية عشرة نظم الأزجال والموالينا وغيرها ولكنه كان قليل الحرص على حفظها فتشتت حتى قيل: أنها لو جمعت كلها لكانت خمسة أمثال شعر المتنبي أو تزيد. وقال بعضهم: أنه لا يلام إلا على إهماله جمع منظومه فمرثيته للشيخ ناصيف اليازجي وغيره من المشاهير فقدت من بين أوراقه. وقد اعتنى الأستاذ داود أفندي قربان بجمع ديوانه مما وعته حافظته المشهورة ومما رآه عند أصحابه ونشر بعضها بعنوان (الدقيق الحوراني) في (مجلة المورد الصافي) البيروتية. وسعي في حياة المترجم بجمع ديوانه فاطلع عليه قبل وفاته وأثبت ما صحت روايته منه. وكان يقول عن الأستاذ قربان: أنه روايته وذاكرته كما كان لدماء الشعراء رواة يحفظون منظوماتهم. وبعض أشعاره بدأ بنشرها في جريدة الرئيس التي تولى تحريرها. ثم في جريدة النشرة الأسبوعية وغيرها مم تناقله الأدباء فمتن أول أشعار صباه مورياً بأبواب حمص:

ويونانية في باب (هود) ... سبت بالحسن عادات العريب

فتحت لوصلها أبواب قلبي ... فلوصلها هجرها (باب الدريب)

ومنه وقد سمع من أبيه نظم جده وحثه على تحديه فقال مضمناً ذلك: يقول أبي: بني الشعر فخر ... لمن بمقاله الغاوين يهدي

فزوال نظمه وانشر علينا ... ذكي النشر من ورد ورند

فجدك كان ذا شعر نفيس=فقلت: انشر لنا نفحات جدي

فقال: إليك ما نقلت حداة ... به كانت مطي الشوق تجدي

ألا دع ما استطعت حديث نجد ... ففي ذاك الحديث قديم وجد

فجز تلك الربوع فإن فيها ... لقتلي غادة ربوات لحد

فقلت: طربت من ذا الجد جداً ... سأبذل في نظام الشعر جهدي

وأول ما أعلنه من شعره قواه وفيه صحة مذهبه الشعري:

هذب كلامك في نظامك ... قبل نقد العالم

فالشعر كالمرآة ير - سم فيه عقل الناظم

وقال من أبيات:

وعذاب أرباب ألفضائل لذة ... وكفى الأفاضل أن غدوا أبرار

إن كان موتي في الفضيلة رفعة ... فليقض ربي أن أموت مراراً

ومن ارتجالياته قوله:

جميع الناس في تيهٍ=على طرق الردى باتوا

فلولا الجهل ما تاهوا=ولولا التيه ما ماتوا

ومما كتب تحت رسمه:

رسم يشخصني لمقلة من به ... ولهي وروحي في حماه تقيم

يعقوب أشواق إليه مهجتي ... وأنا بدين الحب إبراهيم

ومن حكمياته قوله من أبيات:

لا يخدعنك عاقل متفقه ... شرح الحقائق للعجاف مجاف

حملاً يمثله المقال وفعله ... أبداً يقول الذئب بين خرافي

لا خير في عقل ولا علم ولا ... دين ولا مال بغير عفاف

وقوله في واعظ مراء:

خلقت شجاعاً ولكنني ... جبنت لبأساء لا تتقي أخاف وكم خفت من واعظ ... كثير الصلاة قليل التقى

وقوله مما يدل على تواضعه وحكمته:

إني لا علم أنني لا أعلم ... وكفى بذا علماً لمن يتفهم

إن الجهول الغر يحسب أنه ... أدرى من الشيخ الحكيم وأعلم

وقوله من مرثية:

يل نفس لست بمدرك كل الذي ... تبغينه فدعي عناءك واقصري

إن الذي في دفتر الأقدار لا ... يأتي على وفق الذي في دفتري

ولقد دخلت الأرض غير مخير ... وسأترك الغبراء غير مخير

وقوله ينصح التي ترغب في مال خطيبها لا في كماله:

ما كل ذي مال شريف فاطلبي ... من شرفته في الورى أخلاقه

كم من غني مجده أمواله ... كالزهر كل جماله أوراقه

وقوله في كأس الخمر:

في هذه الكأس الهلاك فلا تذق ... حلب العصير صديد أهل جهنم

عكست لظى لألائها من نارها ... وحبابه نفث الحباب الأرقم

وقوله في الباخرة من قصيدة:

حملتك جارية المحيط كأنها ... برق سرى ليل النوى بهجوعي

دنت مني ومستني لهذا ... علقت بها كما حكم القضاء

وقوله في صدر خطاب:

لا ذنب لي قد قلت للقوم اطلبوا ... غيري فلست من أهل الخطب

إن الخطابة لا تليق بغير من ... ألفاظه درر ومعناها ذهب

أو ناسج طرفاً سداها حكمة ... ووشيعها علو ولحمتها أدب

قالوا أر العذر المليح ولا تر الب - خل القبيح ولا تفر من الطلب

فأجبت مضطراً فلا تتعجبوا ... من جرأتي هذه فقد عرف السبب

وقال من قصيدة:

ما سواد الشعر عندي حسناً ... كبياض الشعر في بعض الرؤوس إن تاج الشيب يا آل النهي ... عندنا أجمل من تاج العروس

إن ذاك التاج نور ساطع ... من شعاع العقل في رأس الرئيس

ومما يروى أنه كان سائراً مع صديقه المعلم سليم كساب رحمهما الله من بيروت إلى دمشق راكبين فنظم في طريقه قصيدته المشهورة:

حمل النسيم لنا عبير شذاكا ... ظبي الختام فرحت من أسراكا

ومنها:

مغنى توهمت السماء رحابه ... لما رأيت أهيله أملاكا

وظننت سكان المضارب أنجماً ... لما رأيت خيامه أفلاكا

إلى أن قال وقد قدحت سنابك خيلهما شراراً في فحمة الليل:

ركب الظلام وسار يخترق ألفلا ... نحو الربوع وغادر الأدراكا

وتسنمت عصف الرياح جياده ... تجري كدمع الصب يوم نواكا

ترمي سنابكها الشرار كأنها ... وقدت أضالعها بنار هواكا

وهي طويلة بليغة كلها من هذا الطراز الرائع

ومما ارتجله مشيراً إلى اسم أسرته في صغره:

بدوية لاموا العميد بحبها ... فأحبتهم والدمع أحمر قاني

ما شأن فيها ها بدوية ... ترمي السهام بمهجة الحوراني

وله من قصيدة طويلة في صباه:

من كل غرثى وشاح ما دنت ورنت ... إلا رمت بسهام الطرف مضناها

تظل نيران إبراهيم موقدة ... منها كليم الحشى في طور سيناها

هيفاء تزنو في بحر السنا وأنا ... اختال في مثل ما يشكوه جفناه

بالوصل أبخل غادات الورى خلقت ... وعند سفك دم العشاق أسخاها

وله أخرى في صباه متفنناً:

في وجنتيه لكل شمس مطلع ... وبمقلتيه لكل نفس مصرع

قمر لفه في كل صدغ عقرب ... من فرعه ومن البروج البرقع

إلى أن قال وأجاد بالتوجيه النحوي والعروضي: خلفتموني مفرداً متمكناً ... في حبكم فلما بكم لا أجمع

وخفضتموني قد نصبت لنبلكم ... هدفاً فحتى م الجفا لا يرفع

ملتم إلى الواشي بأشعار الثنا ... فصرفتموني والموانع أربع

إعجام صبري وازدياد تولهي ... وصفاتكم وجموع عذل تلذع

بين المحب وطيف ظبي كناسكم ... لم يبق للتمييز عندي موضع

طال النوى بمديد وافر هجركم ... والقرب يبطئ والمدامع تسرع

ومن قديم فلكياته قوله من قصيدة بليغة في مدح السيد عبد القادر الجزائري:

نظمت من الشهب القلائد مثلما ... حوت الأهلة في مقام أساور

وتقنعت بغياهب وتبرقعت ... بكواكب وتمنطقت بنواظر

وقوله موجهاً بخرافة الخسوف وقد جلست عجوز ثقيلة بين عروسين في عرس فسكت المغنون:

ترنموا أيها الشادون وابتدروا ... إلى المزاهر والنايات والوتر

وخلصوا البدر من حوت الخسوف أما ... رأيتم الأرض بين الشمس والقمر

وقوله من قصيدة:

إني رصدت كواكب العادات في ... أفلاكها من قبل نبت عذاري

وعرفت مشارقها ومغاربها وما ... في أمرها من غامض الأسرار

فهويت عن خبروما يرضى الهوى ... في أهله أحداً من الأغرار

وعشقت أجمل غادة كلفي بها ... كلف البخيل برنة الدينار

لا تعجبوا من صبوتي شيخاً ففي ... ثلج المشيب شبيبة من نار

وقوله من قصيدة في مدح خالد بك والي بيروت:

مغاني اللوى للنيرات مراصد ... مضاربها الأفلاك والصب راصد

فكم أمهى العشاق والشوق سائق ... مطايا السري والوجد للركب قائد

رقبنا بها الأقمار والدمع سائل ... بليل به نهر المجرة راكد

ومنها:

حكت مهجتي المريخ لما نوت كما ... نوى عن مدار ألفرقدين عطارد فبت وحادي النجم أعيت قلوصه ... وسرحان فجري للغزالة طارد

وقال من مرثية لأستاذه مخايل مشاقة المتوفى سنة 1888 م:

لم يبق بعد غروبكم من مطلع ... في شرقنا لسوى نجوم الأدمع

إلى أن قال:

يا رمس ميخائيل لو درت العلا ... أمسيت محسود المحل الأرفع

أقليدس الصوري فيك وذو النهى ... اسحاق أهل الغرب فاعرف من تعي

بقراط والشيخ الرئيس وغيره ... من كل ذي زكن حصيف المعي

ما للرياضيات بعد مشاقة ... ما دامت الأفلاك غير تفجع

ودوائر العرفان لم يعرف لها ... من مركز في القطر أو من موضع

شقت عليك جيوبها وصدوره ... وبغير شق قلوبها لم تقنع

والصبر عز على الجميع كأنه ... تربيع دائرة ورسم مسبع

وقال من قصيدة في تهنئة الدكتور كارنيليوس فانديك بيوبيله الخمسيني سنة 189.:

من لي بنظم كواكب الجوزاء ... عقداً فريدته الضحى لذكائي

ليس الجمان إذا أحاط بجيدها ... إلا هباءً حول حبل ضياء

شمس عنت كل الشموس لوجهها ... وغدت به كضرائر الحسناء

وأولوا الصبابة حولها سيارة ... متحيرات من سنا وسناء

وأسيرها أسد الهيام فلم يخف ... في الخافقين ملامة العواء

إلى أن قال:

ورصدتها ليل النوى في مرصد ... ما فيه غير مراقب الرقباء

فكأنني والعين ترقب خدها ... فانديك يرقب نير العذراء

فلك النهى قطب العلوم بعينها ... ومحيط دائرة الهدى للرائي

دع ذكر هرمس وابن حيان وخذ ... عنه بيان صناعة الحكماء

وانسخ به ألفلك القديم وخل ما ... أبداه بطليموس في الإخفاء

وانظر مبادئه الصحيحة تلقها ... في غيرها كالدر في الحصباء

واعدل عن الشيخ الرئيس فشيخنا ... شيخ الرئيس وعمدة الرؤساء لو كان بقراط الحكيم مريده ... في الطب أحيا ميت الأحباء

أو شام جالينوس برق سحابه ... ما مات ميتة سائم للشاء

هذا الذي ما جس نبض أخي ضنا ... إلا تبدل سقمه بشفاء

يشفي العليل بحكمة كشفت له ... سر الدواء ومضمرات الداء

هذا الذي جعلت رياضياته ... أمد الدراري من خطى الغيداء

فلو استبان الدرو من أشكاله ... أقليدس استولى ذرى العلياء

وقوله من أبيات ارتجلها في تأبين الياس صالح البيروتي المتوفى سنة 1895 في شرخ شبابه:

يا معشر الصحب هذه درة نثرت ... من عقدكم فاجتبت ترب البلا صدفا

ذا غصن علم نمت أزهاره وزهت ... قبل اكتهال وزاد الحمل فانقصفت

وقال من قصيدة يرثي بها صديقه الشيخ إبراهيم اليازجي أثابهما الله:

دفنوا حجاب النفس في جوف الثرى ... والنفس حلت بالمحل الأرفع

قالوا الممات من الحياة وما دروا ... أن الحياة من الممات المفجع

فالحب ينبت بع ما يلي أما ... للحي بعد ذهابه من مرجع

إن الخلود حقيقة أزلية ... نفي النفاة لها هباءة زعزع

لم ينفها العلم الحديث وأثبتت ... في مجمع العلم القديم المجمع

ومن معرباته البليغة قوله ناقلاً معنى لشكسبير الشاعر المشهور:

شاب رأسي ولم أزل في مراسي ... واقتداري كأنني في الشباب

سر هذا كرهي الخلاعة دهري ... واعتزالي لمسكرات الشراب

وقوله معرباً نظم إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني:

الله أعلن ذاته في وحيه ... ترساً لدرء الشر عنا والعنا

ولدفع إبليس الرجيم فويل من ... يبغون عن سنن المهيمن دفعنا

(الله معنا) تاجنا فجميعنا ... نسمو به وهو المؤيد جمعنا

وعرب قول جون لو يصف ضوء البدر في المشرق على الغصون:

وبدر الأفق فوق الطود يهدي ... إلى الجنات ضوء المقلتين أشعته على الأغصان تبدو ... كأسلاك غزلن من اللجين

وقال من كريستوفرس كولمبوس مكتشف أميركا وقد طبع في كتابه الذي جمع له بلغات العالم كلها بخطوط أصحابها:

أكرستوفر ألفرد نصف الناس لا ... تنكر علي ولا تكن بالناسي

من كان نصف الأرض من مكشوفه ... أفلا أثمنه بنصف الناس

ومن تواريخه الشعرية قوله موجهاً بالفلك بتاريخ زفاف ومن غرائب الاتفاق أن الشمس كانت في ذلك الوقت ببرج الأسد:

تقول الدراري بتاريخه ... لقد حلت الشمس برج الأسد

إلى غير ذلك مما جمع بين سلالة البحتري ومعاني المعري وأمثالهما