مجموع الفتاوى/المجلد الثاني والعشرون
كتاب الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل هل كانت الصلاة على من قبلنا من الأمم مثل ما هي علينا من الوجوب والأوقات والأفعال
هل كانت الصلاة على من قبلنا من الأمم مثل ما هي علينا من الوجوب والأوقات والأفعال والهيئات. أم لا؟
فأجاب رضي الله عنه:
كانت لهم صلاة في هذه الأوقات، لكن ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات والهيئات، وغيرهما، والله أعلم.
سئل عن رجل يفسق ويشرب الخمر ويصلي الصلوات الخمس
وسئل عن رجل يفسق ويشرب الخمر ويصلي الصلوات الخمس، وقد قال ﷺ: (كل صلاة لم تنه عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد صاحبها من الله إلا بعدًا).
فأجاب:
هذا الحديث ليس بثابت عن النبي ﷺ، لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه. وبكل حال، فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدا. بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي، وأقرب إلي الله منه، وإن كان فاسقًا.
لكن قال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. وقد قال النبي ﷺ: (إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها)، حتى قال: (إلا عشرها). فإن الصلاة إذا أتي بها كما أمر نهته عن الفحشاء والمنكر، وإذا لم تنهه دل على تضييعه لحقوقها، وإن كان مطيعًا. وقد قال تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } الآية 1. وإضاعتها التفريط في واجباتها وإن كان يصليها. والله أعلم.
سئل عن قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
وسئل عن قوله تعالى: { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } 2 والرجل إذا شرب الخمر وصلي وهو سكران، هل تجوز صلاته أم لا؟
فأجاب:
صلاة السكران الذي لا يعلم ما يقول لا تجوز باتفاق، بل ولا يجوز أن يُمَكَّن من دخول المسجد لهذه الآية وغيرها، فإن النهي عن قربان الصلاة، وقربان مواضع الصلاة. والله أعلم.
فصل في قاعدة ما ترك من واجب وفعل من محرم قبل الإسلام والتوبة
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
في قاعدة ما ترك من واجب وفعل من محرم قبل الإسلام والتوبة
قاعدة ما تركه الكافر الأصلي من واجب كالصلاة والزكاة والصيام فإنه لا يجب عليه قضاؤه بعد الإسلام بالإجماع؛ لأنه لم يعتقد وجوبه، سواء كانت الرسالة قد بلغته أو لم تكن بلغته، وسواء كان كفره جحودًا، أو عنادًا، أو جهلا.
ولا فرق في هذا بين الذمي والحربي، بخلاف ما على الذمي من الحقوق التي أوجبت الذمة أداءها كقضاء الدين، ورد الأمانات والغصوب فإن هذه لا تسقط بالإسلام؛ لالتزامه وجوبها قبل الإسلام.
وأما الحربي المحض، فلم يلتزم وجوب شيء للمسلمين، لا من العبادات ولا من الحقوق، فليس عليه قضاء شيء لا من حقوق الله، ولا من حقوق المسلمين، وإن كان يعاقب على تركها لو لم يسلم، فإن الإسلام يهدم ما كان قبله.
وكذلك ما فعله الكافر من المحرمات في دين الإسلام التي يستحلها في دينه كالعقود والقبوض الفاسدة، كعقد الربا، والميسر، وبيع الخمر والخنزير، والنكاح بلا ولي ولا شهود، وقبض مال المسلمين بالقهر، والاستيلاء، ونحو ذلك فإن ذلك المحرم يسقط حكمه بالإسلام، ويبقي في حقه بمنزلة ما لم يحرم، فإن الإسلام يغفر له به تحريم ذلك العقد والقبض، فيصير الفعل في حقه عفوًا بمنزلة من عقد عقدًا أو قبض قبضًا غير محرم، فيجري في حقه مجري الصحيح في حق المسلمين؛ ولهذا ما تقابضوا فيه من العقود الفاسدة أقروا على ملكه إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا.
وكذلك عقود النكاح التي انقضي سبب فسادها قبل الحكم، والإسلام، بخلاف ما لم يتقابضوه، فإنه لا يجوز لهم بعد الإسلام أن يقبضوا قبضًا محرمًا، كما لا يعقدون عقدًا محرمًا، وهذا مقرر في موضعه. لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } 3، فأمرهم بترك ما بقي في الذمم من الربا، ولم يأمرهم برد المقبوض.
وقال النبي ﷺ: (من أسلم على شيء فهو له)، وقال: (وأيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام)، وأقر أهل الجاهلية على مناكحهم التي كانت في الجاهلية، مع أن كثيرًا منها كان غير مباح في الإسلام.
وهذا كالمتفق عليه بين الأئمة المشهورين. لكن ثَم خلاف شاذ في بعض صوره.
وأما ما استولي عليه أهل الحرب من أموال المسلمين ثم أسلموا، فإنه لهم بسنة رسول الله ﷺ، واتفاق السلف، وجماهير الأئمة، وهو منصوص أحمد، وظاهر مذهبه.
وأما التحاكم إلينا في مثل هذه الصورة، فإنها تكون إذا كانوا ذوي عهد بأمان أو ذمة أو صلح فنقرهم عليه في هذه الصورة أيضًا فهذا في الحقوق التي وجبت له باعتقاده في كفره، وإن كان سببها محرمًا في دين الإسلام.
وأما العقوبات، فإنه لا يعاقب على ما فعله قبل الإسلام من محرم، سواء كان يعتقد تحريمه أو لم يعتقده، فلا يعاقب على قتل نفس، ولا ربًا، ولا سرقة، ولا غير ذلك. سواء فعل ذلك بالمسلمين، أو بأهل دينه. فإنه إن كان بالمسلمين، فهو يعتقد إباحة ذلك منهم، وأما أهل دينه، فهم مباحون في دين الإسلام، وإن اعتقد هو الحظر؛ ولهذا نقول: إن ما سباه وغنمه الكفار بعضهم من نفوس بعض وأموالهم، فإنهم لا يعاقبون عليها بعد الإسلام، وإن اعتقدوا التحريم. فمتي كان مباحًا في دينه أو في دين الإسلام زالت العقوبة.
لكن إن كان محرمًا في الدينين مثل أن يكون بينه وبين قوم عهد فإن كان عهده مع المسلمين، فهذا هو المستأمن والذمي والمصالح، فهؤلاء يضمنون ما أتلفوه للمسلمين من النفوس والأموال، ويعاقبون على ما تعدوا به على المسلمين، ويعاقبون على الزنا، وفي شرب الخمر خلاف معروف. وأما إن كان عهدهم مع غير المسلمين مثل قضية المغيرة بن شعبة.
فصل فيما تركه المرتد من الواجبات
فأما المرتد، فلا يجب عليه قضاء ما تركه في الردة من صلاة وزكاة وصيام في المشهور، ولزمه ما تركه قبل الردة في المشهور. وقيل: يجب عليه القضاء، وقيل: لا يجب في الصورتين. ويحكي ثلاث روايات عن أحمد. وأما ما فعله من المحرمات: فإن كان في قبضة المسلمين، ضَمِنَ ما أتلفه من نفس ومال، وإن كان في طائفة ممتنعة ففيه روايات.
فصل فيما تركه المسلم من الواجبات
وأما المسلم، إذا ترك الواجب قبل بلوغ الحجة، أو متأولًا، مثل من ترك الوضوء من لحوم الإبل، أو مس الذكر، أو صلي في أعطان الإبل، أو ترك الصلاة جهلًا بوجوبها عليه بعد إسلامه، ونحو ذلك، فهل يجب عليه قضاء هذه الواجبات؟ على قولين في المذهب: تارة تكون رواية منصوصة، وتارة تكون وجها.
وأصلها أن حكم الخطاب بفروع الشريعة هل يثبت حكمه في حق المسلم قبل بلوغه؟ على وجهين ذكرهما القاضي أبو يعلي في مصنف مفرد. وفيها وجه ثالث اختاره طائفة من الأصحاب، وهو الفرق بين الخطاب الناسخ، والخطاب المبتدأ. فلا يثبت النسخ إلا بعد بلوغ الناسخ، بخلاف الخطاب المبتدأ. وقد قرروه بالدلائل الكثيرة أنه لا يجب القضاء في هذه الصور كلها، وأنه لا يثبت حكم الخطاب إلا بعد البلاغ جملة، وتفصيلا.
ولهذا لم يأمر النبي ﷺ بالقضاء لأبي ذر لما مكث مدة لا يصلي مع الجنابة بالتيمم، ولا أمر عمر بن الخطاب في قضية عمار بن ياسر، ولا أمر بإعادة الصوم من أكل حتى يتبين له العقال الأبيض من الأسود، ونظائره متعددة في الشريعة.
بل إذا عفي للكافر بعد الإسلام عما تركه من الواجبات لعدم الاعتقاد وإن كان الله قد فرضها عليه، وهو معذب على تركها فلأن يعفو للمسلم عما تركه من الواجبات لعدم اعتقاد الوجوب، وهو غير معذبه على الترك لاجتهاده، أو تقليده، أو جهله الذي يعذر به أولى وأحرى. وكما أن الإسلام يجب ما كان قبله، فالتوبة تجب ما كان قبلها، لا سيما توبة المعذور الذي بلغه النص، أو فهمه بعد أن لم يكن تمكن من سمعه وفهمه، وهذا ظاهر جدًا إلى الغاية.
وكذلك ما فعله من العقود والقبوض التي لم يبلغه تحريمها لجهل يعذر به، أو تأويل. فعلى إحدى القولين حكمه فيها هذا الحكم وأولى. فإذا عامل معاملة يعتقد جوازها بتأويل: من ربا، أو ميسر، أو ثمن خمر، أو نكاح فاسد، أو غير ذلك، ثم تبين له الحق وتاب، أو تحاكم إلينا، أو استفتانا، فإنه يقر على ما قبضه بهذه العقود، ويقر على النكاح الذي مضى مفسده، مثل أن يكون قد تزوج بلا ولي أو بلا شهود معتقدًا جواز ذلك، أو نكح الخامسة في عدة الرابعة، أو نكاح تحليل مختلف فيه، أو غير ذلك، فإنه وإن تبين له فيما بعد فساد النكاح، فإنه يقر عليه.
أما إذا كان نكح باجتهاد وتبين له الفساد باجتهاد، فهذا مبني على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، لا في الحكم ولا في الفتيا أيضًا فهذا مأخذ آخر.
وإنما الغرض هنا أنه لو تيقن التحريم بالنص القاطع كتيقن من كان كافرًا صحة الإسلام فإنا نقره على ما مضى من عقد النكاح، ومن المقبوض في العقد الفاسد، إذا لم يكن المفسد قائمًا. كما يقر الكفار بعد الإسلام على مناكحتهم التي كانت محرمة في الإسلام وأولى.
فإن فعل الواجبات وترك المحرمات باب واحد، كما تقدم في الكافر. وهذا بَين؛ فإن العفو والإقرار للمسلم المتأول بعد الرجوع عن تأويله أولى من العفو والإقرار عن الكافر المتأول، لكن في هذا خلاف في المذهب وغيره.
وشبهة المخالف نظره إلى أن هذا منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد وجعل المسلمين جنسًا واحدًا، ولم يفرق بين المتأول وغيره. ونظير هذه المسألة: ما أتلفه أهل البغي المتأولون على أهل العدل من النفوس والأموال، هل يضمنون؟ على روايتين:
إحداهما: يضمنونه، جعلا لهم كالمحاربين، وكقتال العصبية الذي لا تأويل فيه، وهذا نظير من يجعل العقود والقبوض المتأول فيها بمنزلة ما لا تأويل فيه.
والثانية: لا يضمنونه، وعلى هذا اتفق السلف، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فلا ضمان فيه وفي لفظ: ألحقوهم في ذلك بأهل الجاهلية.
ولهذ لم يضمن النبي ﷺ أسامة دم الذي قتله بعد ما قال: لا إله إلا الله ؛ لأنه قتله متأولا: أي أنهم وإن استحلوا المحرم لكن لما كانوا جاهلين متأولىن، كانوا بمنزلة أهل الجاهلية في عدم الضمان، وإن فارقوهم في عفو الله ورحمته؛ لأن هذه الأمة عفي لها عن الخطأ والنسيان، بخلاف الكافر؛ فإنه لا يغفر له الكفر الذي أخطأ فيه.
فصل عدم عقاب المتأول في الآخرة لا يمنع قتاله وجلده
وهذا الذي ذكرته فيما تركه المسلم من واجب، أو فعله من محرم بتأويل اجتهاد أو تقليد، واضح عندي، وحاله فيه أحسن من حال الكافر المتأول.
وهذا لا يمنع أن أقاتل الباغي المتأول، وأجلد الشارب المتأول، ونحو ذلك. فإن التأويل لا يرفع عقوبة الدنيا مطلقًا؛ إذ الغرض بالعقوبة دفع فساد الاعتداء، كما لا يرفع عقوبة الكافر، وإنما الكلام في قضاء ما تركه من واجب، وفي العقود والقبوض التي فعلها بتأويل، وفي ضمان النفوس والأموال التي استحلها بتأويل، كما استحل أسامة قتل الذي قتله بعد ما قال: لا إله إلا الله، وكذلك لا يعاقب على ما مضي إذا لم يكن فيه زجر عن المستقبل.
وأما العقوبة للدفع عن المستقبل، كقتال الباغي، وجلد الشارب، فهذه مقصودها أداء الواجب في المستقبل، ودفع المحرم في المستقبل، وهذا لا كلام فيه، فإنه يشرع في مثل هذا عقوبة المتأول في بعض المواضع.
وإنما الغرض بما يتعلق بالماضي من قضاء واجبه، وترك الحقوق التي حصلت فيه، والعقوبة على ما فعله، فهذه الأمور المتعلقة به من الحدود والحقوق، والعبادات هي التي يجب أن يكون المسلم المتأول أحسن حالا فيها من الكافر المتأول وأولى.
فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها، والمسلم المتأول معذور، ومعه الإسلام الذي تغفر معه الخطايا، والتوبة التي تَجُبّ ما كان قبلها، وفي إيجاب القضاء وإسقاط الحقوق وإقامة العقوبات تنفير عن التوبة، والرجوع إلي الحق أكثر من التنفير بذلك للكافر، فإن أعلام الإسلام ودلالته أعظم من أعلام هذه الفروع، وأدلتها، والداعي إلي الإسلام من سلطان الحجة والقدرة قد يكون أعظم من الداعي إلي هذه الفروع.
وهذا لا شبهة فيه عندي، وإن كان فه نزاع؛ فإني أعلم أنه لولا مضي السُّنة بمثل ذلك في حق الكفار، لكان مقتضى هذا القياس عند أصحابه طرده في حق الكافر أيضًا. وقد راعى أصحاب أبي حنيفة ذلك في النكاح، فلم يمنعوا منه إلا ما له مساغ في الإسلام، والنزاع لا يهتك حرمة العلم والفقه بعد ظهور حجته.
فصل هل يعفى عمن ترك الواجب أو فعل المحرم جهلا
ولكن النظر في فصلين:
أحدهما: من ترك الواجب، أو فعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه، ولكن جهلا وإعراضًا عن طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه أو أنه سمع إيجاب هذا، وتحريم هذا، ولم يلتزمه إعراضًا لا كفرًا بالرسالة، فهذان نوعان يقعان كثيرًا من ترك طلب العلم الواجب عليه، حتى ترك الواجب وفعل المحرم، غير عالم بوجوبه وتحريمه أو بلغه الخطاب في ذلك، ولم يلتزم اتباعه، تعصبًا لمذهبه. أو اتباعًا لهواه، فإن هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي. كما ترك الكافر الإسلام.
فإن الاعتقاد هو الإقرار بالتصديق، والالتزام.فقد يترك التصديق والالتزام جميعًا؛ لعدم النظر الموجب للتصديق، وقد يكون مصدقًا بقلبه لكنه غير مقر ولا ملتزم، اتباعًا لهواه، فهل يكون حال هذا إذا تاب وأقر بالوجوب والتحريم تصديقًا والتزامًا، بمنزلة الكافر إذا أسلم لأن التوبة تجب ما قبلها، كما أن الإسلام يجب ما قبله؟ فهذه الصورة أبعد من التي قبلها، فإن من أوجب القضاء على التارك المتأول، وفسخ العقد والقبض على المتأول المعذور، فعلي هذا المذنب بترك الاعتقاد الواجب أولى.
وأما على القول الذي قررناه وجزمنا بصحته، فهذا فيه نظر. قد يقال: هذا عاص ظالم بترك التعلم، والالتزام، فلا يلزم من العفو عن المخطئين في تأويله العفو عن هذا.
وقد يقال وهو أظهر في الدليل والقياس: ليس هذا بأسوأ حال من الكافر المعاند الذي ترك استماع القرآن كبرًا وحسدًا وهوي، أو سمعه وتدبره واستيقنت نفسه أنه حق من عند الله، ولكن جحد ذلك ظلمًا وعلوًا: كحال فرعون، وأكثر أهل الكتاب، والمشركين، الذين لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
والتوبة كالإسلام، فإن الذي قال: (الإسلام يهدم ما كان قبله) هو الذي قال: (التوبة تهدم ما كان قبلها) وذلك في حديث واحد من رواية عمرو بن العاص رواه أحمد ومسلم.
فإذا كان العفو عن الكافر لأجل ما وجد من الإسلام الماحي، والحسنات يذهبن السيئات، ولأن في عدم العفو تنفير عن الدخول، لما يلزم الداخل فيه من الآصار، والأغلال الموضوعة على لسان هذا النبي ﷺ، فهذا المعني موجود في التوبة عن الجهل والظلم، فإن الاعتراف بالحق والرجوع إليه حسنة يمحو الله بها السيئات، وفي عدم العفو تنفير عظيم عن التوبة، وآصار ثقيلة وأغلال عظيمة على التائبين.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي ﷺ: (إن الله يبدل لعبده التائب بدل كل سيئة حسنة)، على ظاهر قوله: { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } 4. فإذا كانت تلك التي تاب منها صارت حسنات، لم يبق في حقه بعد التوبة سيئة أصلا، فيصير ذلك القبض والعقد من باب المعفو عنه، ويصير ذلك الترك من باب المعفو عنه، فلا يجعل تاركًا لواجب، ولا فاعلا لمحرم، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة الشرعية. فإن النبي ﷺ قال: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها).
واختلف الناس فيمن ترك الصلاة والصوم عامدًا: هل يقضيه؟ فقال الأكثرون: يقضيه، وقال بعضهم: لا يقضيه، ولا يصح فعله بعد وقته كالحج. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها: (فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة).
ودل الكتاب والسنة، واتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت، والفرق بين من يتركها. ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال، لكان الجميع سواء، لكن المضيع لوقتها كان ملتزمًا لوجوبها، وإنما ضيع بعض حقوقها وهو الوقت، وأتي بالفعل. فأما من لم يعلم وجوبها عليه جهلا وضلالا، أو علم الإيجاب ولم يلتزمه، فهذا إن كان كافرًا، فهو مرتد، وفي وجوب القضاء عليه الخلاف المتقدم لكن هذا شبيه بكفر النفاق.
فالكلام في هذا متصل بالكلام فيمن أقام الصلاة وآتي الزكاة نفاقًا أو رياءً، فإن هذا يجزئه في الظاهر، ولا يقبل منه في الباطن، قال الله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } 5، وقال: { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } 6، وقال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } 7، وقال تعالى: { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا } 8.
وقد اختلف أصحابنا في الإمام إذا أخذ الزكاة قهرًا: هل تجزئه في الباطن؟ على وجهين مع أنها لا تستعاد منه:
أحدهما: لا تجزيه لعدم النية مع القدرة عليها.
والثاني: أن نية الإمام تقوم مقام نية الممتنع؛ لأن الإمام نائب المسلمين في أداء الحقوق الواجبة عليهم. والأول أصح، فإن النبي ﷺ كان يأخذها منهم بإعطائهم إياها، وقد صرح القرآن بنفي قبولها؛ لأنهم ينفقون وهم كارهون. فعلم أنه إن أنفق مع كراهة الإنفاق، لم تقبل منه، كمن صلي رياء.
لكن لو تاب المنافق والمرائي: فهل تجب عليه في الباطن الإعادة؟ أو تنعطف توبته على ما عمله قبل ذلك فيثاب عليه، أو لا يعيد ولا يثاب.
أما الإعادة فلا تجب على المنافق قطعًا؛ لأنه قد تاب من المنافقين جماعة عن النفاق على عهد رسول الله ﷺ ولم يأمر أحدًا منهم بالإعادة. وقد قال تعالى: { وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } 9.
وأيضًا، فالمنافق كافر في الباطن، فإذا آمن فقد غفر له ما قد سلف، فلا يجب عليه القضاء، كما لا يجب على الكافر المعلن إذا أسلم.
وأما ثوابه على ما تقدم مع التوبة: فيشبه الكافر إذا عمل صالحًا في كفره، ثم أسلم هل يثاب عليه؟ ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال لحكيم بن حزام: (أسلمت على ما سلف لك من خير).
وأما المرائي إذا تاب من الرياء مع كونه كان يعتقد الوجوب، فهو شبيه بالمسألة التي نتكلم فيها، وهي مسألة من لم يلتزم أداء الواجب وإن لم يكن كافرًا في الباطن ففي إيجاب القضاء عليه تنفير عظيم عن التوبة.
فإن الرجل قد يعيش مدة طويلة لا يصلي ولا يزكي، وقد لا يصوم أيضًا ولا يبالي من أين كسب المال: أمن حلال؟ أم من حرام؟ ولا يضبط حدود النكاح والطلاق، وغير ذلك. فهو في جاهلية، إلا أنه منتسب إلي الإسلام، فإذا هداه الله وتاب عليه، فإن أوجب عليه قضاء جميع ما تركه من الواجبات، وأمر برد جميع ما اكتسبه من الأموال، والخروج عما يحبه من الإبضاع إلي غير ذلك صارت التوبة في حقه عذابًا، وكان الكفر حينئذ أحب إليه من ذلك الإسلام، الذي كان عليه، فإن توبته من الكفر رحمة، وتوبته وهو مسلم عذاب.
وأعرف طائفة من الصالحين من يتمني أن يكون كافرًا ليسلم فيغفر له ما قد سلف؛ لأن التوبة عنده متعذرة عليه، أو متعسرة على ما قد قيل له واعتقده من التوبة، ثم هذا منفر لأكثر أهل الفسوق عن التوبة، وهو شبيه بالمؤيس للناس من رحمة الله .
ووضع الآصار ثقيلة، والأغلال عظيمة على التائبين الذين هم أحباب الله، فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين. والله أفرح بتوبة عبده من الواجد لماله بعد قوامه، بعد اليأس منه.
فينبغي لهذا المقام أن يحرر، فإن كفر الكافر لم يسقط عنه ما تركه من الواجبات، وما فعله من المحرمات، لكون الكافر كان معذورًا، بمنزلة المجتهد فإنه لا يعذر بلا خلاف، وإنما غفر له لأن الإسلام توبة، والتوبة تجب ما قبلها، والتوبة توبة من ترك تصديق وإقرار، وترك عمل وفعل. فيشبه والله أْعلم أن يجعل حال هؤلاء في جاهليتهم كحال غيرهم.
فصل الأحوال المانعة من وجوب القضاء للواجب والترك للمحرم
فالأحوال المانعة من وجوب القضاء للواجب والترك للمحرم: الكفر الظاهر، والكفر الباطن، والكفر الأصلي، وكفر الردة، والجهل الذي يعذر به لعدم بلوغ الخطاب، أو لمعارضة تأويل باجتهاد أو تقليد.
وَسُئِلَ عن قوم منتسبين إلي المشائخ يتوبونهم عن قطع الطريق، وقتل النفس، والسرقة، وألزموهم بالصلاة لكونهم يصلون صلاة عادة البادية، فهل تجب إقامة حدود الصلاة أم لا؟
فأجاب:
أما الصلاة فقد قال الله تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } 10، وقال تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } 11، فقد ذم الله تعالى في كتابه الذين يصلون إذا سهوا عن الصلاة، وذلك على وجهين:
أحدهما: أن يؤخرها عن وقتها.
الثاني: ألا يكمل واجباتها: من الطهارة، والطمأنينة، والخشوع، وغير ذلك. كما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق ثلاث مرار يترقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلا).
فجعل النبي ﷺ صلاة المنافقين التأخير، وقلة ذكر اسم الله سبحانه وقد قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا } 12، وقال: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } 13.
وأما قوله سبحانه وتعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } 14، فقد قال بعض السلف: إضاعتها: تأخيرها عن وقتها، وإضاعة حقوقها، قالوا: وكانوا يصلون، ولو تركوها لكانوا كفارًا؛ فإنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة)، وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وفي الحديث: (إن العبد إذا كمل الصلاة، صعدت ولها برهان كبرهان الشمس. وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإن لم يكملها، فإنها تلف كما يلف الثوب، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول ضيعك الله كما ضيعتني).
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها) حتى قال: (إلا عشرها)، وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.
وقوله: { وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } الذي يشتغل به عن إقامة الصلاة كما أمر الله تعالى رسوله ﷺ بنوع من أنواع الشهوات: كالرقص، والغناء وأمثال ذلك.
وفي الصحيحين: أن رجلا دخل المسجد فصلي ركعتين، ثم أتي النبي ﷺ فسلم عليه، فقال: (وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل) فرجع فصلي ثم أتاه فسلم عليه، فقال: (وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل) مرتين أو ثلاثًا. فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيرها، فعلمني ما يجزئني في الصلاة، فقال: (إذا قمت إلي الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمأن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها).
وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: (لا تقبل صلاة من لم يقم صلبه في الركوع والسجود)، (ونهي عن نقر كنقر الغراب). ورأى حذيفة رجلا يصلي لا يتم الركوع والسجود فقال: لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا ﷺ، أو قال: لو مات هذا. رواه ابن خزيمة في صحيحه.
سئل عن قوم منتسبين إلي المشائخ يتوبونهم عن قطع الطريق وقتل النفس وألزموهم بالصلاة
وَسُئِلَ عمن قال: إن الصبيان مأمورون بالصلاة قبل البلوغ، وقال آخر: لا نسلم، فقال له: ورد عن النبي ﷺ أنه قال: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فقال هذا ما هو أمر من الله، ولم يفهم منه تنقيص، فهل يجب في ذلك شيء؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
إن كان المتكلم أراد أن الله أمرهم بالصلاة، بمعني أنه أوجبها عليهم، فالصواب مع الثاني، وأما إن أراد أنهم مأمورون: أي أن الرجال يأمرونهم بها لأمر الله إياهم بالأمر، أو أنها مستحبة في حق الصبيان، فالصواب مع المتكلم.
وقول القائل: ما هو أمر من الله، إذا أراد به أنه ليس أمرًا من الله للصبيان، بل هو أمر لمن يأمر الصبيان، فقد أصاب. وإن أراد أن هذا ليس أمرًا من الله لأحد، فهذا خطأ يجب عليه أن يرجع عنه، ويستغفر الله . والله أعلم.
سئل عن أقوام يؤخرون صلاة الليل إلي النهار لأشغال لهم من زرع أو حرث
وَسُئِلَ عن أقوام يؤخرون صلاة الليل إلي النهار؛ لأشغال لهم من زرع أو حرث أو جنابة أو خدمة أستاذ، أو غير ذلك. فهل يجوز لهم ذلك أم لا؟
فأجاب:
لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة النهار إلي الليل، ولا يؤخر صلاة الليل إلي النهار لشغل من الأشغال، لا لحصد ولا لحرث ولا لصناعة ولا لجنابة، ولا نجاسة ولا صيد ولا لهو ولا لعب ولا لخدمة أستاذ، ولا غير ذلك، بل المسلمون كلهم متفقون على أن عليه أن يصلي الظهر والعصر بالنهار، ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس، ولا يترك ذلك لصناعة من الصناعات، ولا للهو ولا لغير ذلك من الأشغال. وليس للمالك أن يمنع مملوكه، ولا للمستأجر أن يمنع الأجير من الصلاة في وقتها.
ومن أخرها لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس، وجبت عقوبته، بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب فإن تاب والتزم أن يصلي في الوقت، ألزم بذلك، وإن قال: لا أصلي إلا بعد غروب الشمس لاشتغاله بالصناعة والصيد أو غير ذلك، فإنه يقتل.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله). وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله). وفي وصية أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب أنه قال: إن لله حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل.
والنبي ﷺ كان أخر صلاة العصر يوم الخندق لاشتغاله بجهاد الكفار، ثم صلاها بعد المغرب، فأنزل الله تعالى: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } 15.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ: (أن الصلاة الوسطى صلاة العصر)؛ فلهذا قال جمهور العلماء: إن ذلك التأخير منسوخ بهذه الآية، فلم يجوزوا تأخير الصلاة حال القتال، بل أوجبوا عليه الصلاة في الوقت حال القتال، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه.
وعن أحمد رواية أخري أنه يخير حال القتال بين الصلاة وبين التأخير، ومذهب أبي حنيفة يشتغل بالقتال ويصلي بعد الوقت، وأما تأخير الصلاة لغير الجهاد كصناعة أو زراعة أو صيد أو عمل من الأعمال ونحو ذلك فلا يُجَوِّزه أحد من العلماء، بل قد قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } 16، قال طائفة من السلف هم الذين يؤخرونها عن وقتها. وقال بعضهم: هم الذين لا يؤدونها على الوجه المأمور به، وإن صلاها في الوقت فتأخيرها عن الوقت حرام باتفاق العلماء، فإن العلماء متفقون على أن تأخير صلاة الليل إلى النهار وتأخير صلاة النهار إلى الليل بمنزلة تأخير صيام شهر رمضان إلى شوال.
فمن قال: أصلى الظهر والعصر بالليل، فهو باتفاق العلماء بمنزلة من قال: أفطر شهر رمضان وأصوم شوال، وإنما يعذر بالتأخير النائم والناسي. كما قال النبي ﷺ: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك).
فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لجنابة ولا حدث ولا نجاسة ولا غير ذلك، بل يصلي في الوقت بحسب حاله، فإن كان محدثًا وقد عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله، تيمم وصلى. وكذلك الجنب يتيمم ويصلي إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله لمرض أو لبرد. وكذلك العريان يصلي في الوقت عريانًا، ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت في ثيابه. وكذلك إذا كان عليه نجاسة لا يقدر أن يزيلها فيصلي في الوقت بحسب حاله. وهكذا المريض يصلي على حسب حاله في الوقت، كما قال النبي ﷺ لعمران بن حصين: (صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فالمريض باتفاق العلماء يصلي في الوقت قاعدًا أو على جنب، إذا كان القيام يزيد في مرضه، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائمًا.
وهذا كله لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، كما أن صيام شهر رمضان واجب في وقته، ليس لأحد أن يؤخره عن وقته، ولكن يجوز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، باتفاق المسلمين.
وكذلك يجوز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر عند كثير من العلماء للسفر والمرض، ونحو ذلك من الأعذار.
وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل، وتأخير صلاة الليل إلى النهار، فلا يجوز لمرض ولا لسفر، ولا لشغل من الأشغال، ولا لصناعة باتفاق العلماء. بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجمع بين صلاتين من غير عذر من الكبائر. لكن المسافر يصلي ركعتين ليس عليه أن يصلي أربعًا. بل الركعتان تجزئ المسافر في سفر القصر، باتفاق العلماء.
ومن قال: إنه يجب على كل مسافر أن يصلي أربعًا، فهو بمنزلة من قال: إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان، وكلاهما ضلال، مخالف لإجماع المسلمين، يستتاب قائله. فإن تاب، وإلا قتل. والمسلمون متفقون على أن المسافر إذا صلى الرباعية ركعتين، والفجر ركعتين والمغرب ثلاثًا، وأفطر شهر رمضان وقضاه أجزأه ذلك.
وأما من صام في السفر شهر رمضان، أو صلى أربعًا، ففيه نزاع مشهور بين العلماء: منهم من قال لا يجزئه ذلك، فالمريض له أن يؤخر الصوم باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين، والمسافر له أن يؤخر الصيام باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين.
وهذا مما يبين أن المحافظة على الصلاة في وقتها أوكد من الصوم في وقته قال تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } 17، قال طائفة من السلف: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارًا.
وقال النبي ﷺ: (سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة)، رواه مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: (كيف بك إذا كان عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، وينسؤون الصلاة عن وقتها؟) قلت: فماذا تأمرني؟ قال: (صَلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة). وعن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال: (سيكون عليكم أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها)، وقال رجل: أصلى معهم؟ قال: (نعم إن شئت واجعلوها تطوعًا) رواه أحمد وأبو داود، ورواه عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: (كيف بكم إذا كان عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟) قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك يارسول الله؟ قال: (صل الصلاة لوقتها، واجعل صلاتك معهم نافلة).
ولهذا اتفق العلماء على أن الرجل إذا كان عريانًا مثل أن تنكسر بهم السفينة أو تسلبه القطاع ثيابه فإنه يصلي في الوقت عريانًا، والمسافر إذا عدم الماء يصلي بالتيمم في الوقت باتفاق العلماء، وإن كان يجد الماء بعد الوقت، وكذلك الجنب المسافر إذا عدم الماء تيمم وصلى، ولا إعادة عليه باتفاق الأئمة الأربعة، وغيرهم. وكذلك إذا كان البرد شديدًا فخاف إن اغتسل أن يمرض فإنه يتيمم ويصلي في الوقت، ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باغتسال. وقد قال النبي ﷺ: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير).
وكل ما يباح بالماء يباح بالتيمم، فإذا تيمم لصلاة فريضة قرأ القرآن داخل الصلاة وخارجها، وإن كان جنبًا. ومن امتنع عن الصلاة بالتيمم، فإنه من جنس اليهود والنصاري، فإن التيمم لأمة محمد ﷺ خاصة، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي). وفي لفظ: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره).
وقد تنازع العلماء هل يتيمم قبل الوقت؟ وهل يتيمم لكل صلاة أو يبطل بخروج الوقت؟ أو يصلي ما شاء كما يصلي بالماء ولا ينقضه إلا ما ينقض الوضوء أو القدرة على استعمال الماء؟ وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره، فإن النبي ﷺ قال: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك، فإن ذلك خير) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وإذا كان عليه نجاسة وليس عنده ما يزيلها به، صلى في الوقت وعليه النجاسة، كما صلى عمر بن الخطاب وجرحه يثعب دما، ولم يؤخر الصلاة حتى خرج الوقت.
ومن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا، فقيل: يصلي عريانًا. وقيل: يصلي فيه ويعيد. وقيل: يصلي فيه ولا يعيد، وهذا أصح أقوال العلماء، فإن الله لم يأمر العبد أن يصلي الفرض مرتين، إلا إذا لم يفعل الواجب الذي يقدر عليه في المرة الأولي، مثل أن يصلي بلا طمأنينة، فعليه أن يعيد الصلاة، كما أمر النبي ﷺ من صلى ولم يطمئن أن يعيد الصلاة. وقال: (ارجع فصل فإنك لم تصل).
وكذلك من نسي الطهارة وصلى بلا وضوء فعليه أن يعيد، كما أمر النبي ﷺ من توضأ وترك لمعة في قدمه لم يمسها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة.
فأما من فعل ما أمر به بحسب قدرته فقد قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } 18، وقال النبي ﷺ: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). ومن كان مستيقظًا في الوقت والماء بعيد منه لا يدركه إلا بعد الوقت، فإنه يصلي في الوقت بالتيمم باتفاق العلماء.
وكذلك إذا كان البرد شديدًا، ويضره الماء البارد، ولا يمكنه الذهاب إلى الحمام، أو تسخين الماء حتى يخرج الوقت، فإنه يصلي في الوقت بالتيمم. والمرأة والرجل في ذلك سواء، فإذا كانا جنبين ولم يمكنهما الاغتسال حتى يخرج الوقت، فإنهما يصليان في الوقت بالتيمم.
والمرأة الحائض إذا انقطع دمها في الوقت، ولم يمكنها الاغتسال إلا بعد خروج الوقت، تيممت وصلت في الوقت. ومن ظن أن الصلاة بعد خروج الوقت بالماء خير من الصلاة في الوقت بالتيمم فهو ضال جاهل.
وإذا استيقظ آخر وقت الفجر، فإذا اغتسل طلعت الشمس، فجمهور العلماء هنا يقولون: يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وأحد القولين في مذهب مالك. وقال في القول الآخر: بل يتيمم أيضًا هنا ويصلي قبل طلوع الشمس كما تقدم في تلك المسائل؛ لأن الصلاة في الوقت بالتيمم خير من الصلاة بعده بالغسل. والصحيح قول الجمهور؛ لأن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، كما قال النبي ﷺ: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها)، فالوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، وما قبل ذلك لم يكن وقتًا في حقه.
وإذا كان كذلك، فإذا استيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الاغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها، فقد صلى الصلاة في وقتها ولم يفوتها، بخلاف من استيقظ في أول الوقت فإن الوقت في حقه قبل طلوع الشمس، فليس له أن يفوت الصلاة. وكذلك من نسي صلاة وذكرها فإنه حينئذ يغتسل ويصلي في أي وقت كان، وهذا هو الوقت في حقه، فإذا لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، كما استيقظ أصحاب النبي ﷺ لما ناموا عن الصلاة عام خيبر، فإنه يصلي بالطهارة الكاملة. وإن أخرها إلى حين الزوال، فإذا قدر أنه كان جنبًا، فإنه يدخل الحمام ويغتسل وإن أخرها إلى قريب الزوال، ولا يصلي هنا بالتيمم، ويستحب له أن ينتقل عن المكان الذي نام فيه، كما انتقل النبي ﷺ وأصحابه عن المكان الذي ناموا فيه، وقال: (هذا مكان حضرنا فيه الشيطان). وقد نص على ذلك أحمد وغيره، وإن صلى فيه جازت صلاته.
فإن قيل: هذا يسمي قضاء أو أداء؟
قيل: الفرق بين اللفظين هو فرق اصطلاحي؛ لا أصل له في كلام الله ورسوله، فإن الله تعالى سمي فعل العبادة في وقتها قضاء، كما قال في الجمعة: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } 19، وقال تعالى: { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ } 20 مع أن هذين يفعلان في الوقت. والقضاء في لغة العرب: هو إكمال الشيء وإتمامه، كما قال تعالى: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } 21، أي أكملهن وأتمهن. فمن فعل العبادة كاملة، فقد قضاها، وإن فعلها في وقتها.
وقد اتفق العلماء فيما أعلم على أنه لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء. ثم تبين أنه صلى بعد خروج الوقت صحت صلاته، ولو اعتقد خروجه فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته.
وكل من فعل العبادة في الوقت الذي أمر به أجزأته صلاته، سواء نواها أداء أو قضاء، والجمعة تصح سواء نواها أداء أو قضاء إذا أراد القضاء المذكور في القرآن، والنائم والناسي إذا صليا وقت الذكر والانتباه فقد صليا في الوقت الذي أمرا بالصلاة فيه، وإن كانا قد صليا بعد خروج الوقت المشروع لغيرهما. فمن سمي ذلك قضاء باعتبار هذا المعني، وكان في لغته أن القضاء فعل العبادة بعد خروج الوقت المقدر شرعًا للعموم، فهذه التسمية لا تضر ولا تنفع.
وبالجملة، فليس لأحد قط شغل يسقط عنه فعل الصلاة في وقتها، بحيث يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار، بل لابد من فعلها في الوقت، لكن يصلي بحسب حاله فما قدر عليه من فرائضها فعله، وما عجز عنه سقط عنه، ولكن يجوز الجمع للعذر بين صلاتي النهار وبين صلاتي الليل، عند أكثر العلماء: فيجوز الجمع للمسافر إذا جد به السير عند مالك والشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه، ولا يجوز في الرواية الأخري عنه وهو قول أبي حنيفة.
وفعل الصلاة في وقتها أولي من الجمع إذا لم يكن عليه حرج، بخلاف القصر فإن صلاة ركعتين أفضل من صلاة أربع، عند جماهير العلماء. فلو صلى المسافر أربعًا فهل تجزئه صلاته؟ على قولين. والنبي ﷺ كان في جميع أسفاره يصلي ركعتين، ولم يصل في السفر أربعًا قط، ولا أبو بكر، ولا عمر.
سئل عن العمل الذي لله بالنهار لا يقبله بالليل والعمل الذي بالليل لا يقبله بالنهار
وسئل عن العمل الذي لله بالنهار لا يقبله بالليل، والعمل الذي بالليل لا يقبله بالنهار.
فأجاب:
وأما عمل النهار الذي لا يقبله الله بالليل، وعمل الليل الذي لا يقبله الله بالنهار: فهما صلاة الظهر والعصر، لا يحل للإنسان أن يؤخرهما إلى الليل؛ بل قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتِرَ أهله وماله). وفي صحيح البخاري عنه أنه قال: (من فاتته صلاة العصر حبط عمله).
فأما من نام عن صلاة أو نسيها، فقد قال ﷺ: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها).
وأما من فوتها متعمدًا فقد أتي كبيرة من أعظم الكبائر، وعليه القضاء عند جمهور العلماء، وعند بعضهم لا يصح فعلها قضاء أصلا، ومع القضاء عليه لا تبرأ ذمته من جميع الواجب، ولا يقبلها الله منه بحيث يرتفع عنه العقاب، ويستوجب الثواب، بل يخفف عنه العذاب بما فعله من القضاء، ويبقي عليه إثم التفويت، وهو من الذنوب التي تحتاج إلى مسقط آخر، بمنزلة من عليه حقان: فعل أحدهما، وترك الآخر. قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } 22، وتأخيرها عن وقتها من السهو عنها باتفاق العلماء.
وقال تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } 23، قال غير واحد من السلف: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، فقد أخبر الله سبحانه أن الويل لمن أضاعها وإن صلاها، ومن كان له الويل لم يكن قد يقبل عمله، وإن كان له ذنوب أخر. فإذا لم يكن ممتثلا للأمر في نفس العمل لم يتقبل ذلك العمل. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لعمر: واعلم أن لله حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة، والله أعلم.
سئل عن تارك الصلاة من غير عذر
وسئل رحمه الله عن تارك الصلاة من غير عذر، هل هو مسلم في تلك الحال؟
فأجاب:
أما تارك الصلاة: فهذا إن لم يكن معتقدًا لوجوبها، فهو كافر بالنص والإجماع، لكن إذا أسلم ولم يعلم أن الله أوجب عليه الصلاة، أو وجوب بعض أركانها: مثل أن يصلي بلا وضوء، فلا يعلم أن الله أوجب عليه الوضوء، أو يصلي مع الجنابة، فلا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة، فهذا ليس بكافر، إذا لم يعلم.
لكن إذا علم الوجوب: هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد ومالك وغيرهما. قيل: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي، وكثير من أصحاب أحمد. وقيل: لا يجب عليه القضاء، وهذا هو الظاهر.
وعن أحمد في هذا الأصل روايتان منصوصتان فيمن صلى في معاطن الإبل، ولم يكن علم بالنهي، ثم علم، هل يعيد؟ على روايتين. ومن صلى ولم يتوضأ من لحوم الإبل، ولم يكن علم بالنهي، ثم علم. هل يعيد؟ على روايتين منصوصتين.
وقيل: عليه الإعادة إذا ترك الصلاة جاهلا بوجوبها في دار الإسلام دون دار الحرب، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة. والصائم إذا فعل ما يفطر به جاهلا بتحريم ذلك: فهل عليه الإعادة؟ على قولين في مذهب أحمد. وكذلك من فعل محظورًا في الحج جاهلا.
وأصل هذا: أن حكم الخطاب، هل يثبت في حق المكلف قبل أن يبلغه؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يثبت. وقيل: لا يثبت. وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ. والأظهر أنه لا يجب قضاء شيء من ذلك، ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلاغ، لقوله تعالى: { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } 24، وقوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } 25، ولقوله: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } 26، ومثل هذا في القرآن متعدد، بَيَّن سبحانه أنه لا يعاقب أحدًا حتى يبلغه ما جاء به الرسول.
ومن علم أن محمدًا رسول الله فآمن بذلك، ولم يعلم كثيرًا مما جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ، فإنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلاغ أولى وأحرى. وهذه سنة رسول الله ﷺ المستفيضة عنه في أمثال ذلك.
فإنه قد ثبت في الصحاح أن طائفة من أصحابه ظنوا أن قوله تعالى: { الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } 27 هو الحبل الأبيض من الحبل الأسود، فكان أحدهم يربط في رجله حبلا، ثم يأكل حتى يتبين هذا من هذا فبين النبي ﷺ: أن المراد بياض النهار، وسواد الليل، ولم يأمرهم بالإعادة.
وكذلك عمر بن الخطاب وعمار أجنبا، فلم يصل عمر حتى أدرك الماء، وظن عمار أن التراب يصل إلى حيث يصل الماء فتمرغ كما تمرغ الدابة ولم يأمر واحدًا منهم بالقضاء، وكذلك أبو ذر بقي مدة جنبًا لم يصل، ولم يأمره بالقضاء، بل أمره بالتيمم في المستقبل.
وكذلك المستحاضة قالت: إني أُسْتَحَاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصوم، فأمرها بالصلاة زمن دم الاستحاضة، ولم يأمرها بالقضاء.
ولما حرم الكلام في الصلاة تكلم معاوية بن الحكم السلمي في الصلاة بعد التحريم جاهلا بالتحريم، فقال له: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين)، ولم يأمره بإعادة الصلاة.
ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر إلى المدينة، كان من كان بعيدًا عنه مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة يصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي بإعادة الصلاة.
ولما فرض شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ولم يبلغ الخبر إلى من كان بأرض الحبشة من المسلمين، حتى فات ذلك الشهر، لم يأمرهم بإعادة الصيام.
وكان بعض الأنصار لما ذهبوا إلى النبي ﷺ من المدينة إلى مكة قبل الهجرة قد صلى إلى الكعبة معتقدًا جواز ذلك قبل أن يؤمر باستقبال الكعبة، وكانوا حينئذ يستقبلون الشام، فلما ذكر ذلك للنبي ﷺ، أمره باستقبال الشام، ولم يأمره بإعادة ما كان صلي.
وثبت عنه في الصحيحين أنه سئل وهو بالجِعْرَانة عن رجل أحرم بالعمرة، وعليه جبة، وهو متضمخ بالخلوق، فلما نزل عليه الوحي قال له: (انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجك). وهذا قد فعل محظورًا في الحج، وهو لبس الجبة، ولم يأمره النبي ﷺ على ذلك بدم ولو فعل ذلك مع العلم للزمه دم.
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: (صل فإنك لم تصل) مرتين أو ثلاثًا. فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا، فعلمني ما يجزيني في الصلاة، فعلمه الصلاة المجزية. ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك. مع قوله ما أحسن غير هذا، وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة؛ لأن وقتها باق، فهو مخاطب بها، والتي صلاها لم تبرأ بها الذمة، ووقت الصلاة باق.
ومعلوم أنه لو بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طهرت حائض، أو أفاق مجنون، والوقت باق لزمتهم الصلاة أداء لا قضاء. وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم. فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجوب الطمأنينة في أثناء الوقت فوجبت عليه الطمأنينة حينئذ ولم تجب عليه قبل ذلك؛ فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة تلك الوقت، دون ما قبلها.
وكذلك أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد، ولمن ترك لمعة من قدمه أن يعيد الوضوء والصلاة. وقوله أولا: (صل فإنك لم تصل) تبين أن ما فعله لم يكن صلاة، ولكن لم يعرف أنه كان جاهلا بوجوب الطمأنينة، فلهذا أمره بالإعادة ابتداء، ثم علمه إياها، لما قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا.
فهذه نصوصه ﷺ في محظورات الصلاة والصيام والحج مع الجهل فيمن ترك واجباتها مع الجهل، وأما أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد، فذلك أنه لم يأت بالواجب مع بقاء الوقت. فثبت الوجوب في حقه حين أمره النبي ﷺ لبقاء وقت الوجوب، لم يأمره بذلك مع مضي الوقت.
وأما أمره لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها بالماء بالإعادة، فلأنه كان ناسيًا، فلم يفعل الواجب، كمن نسي الصلاة، وكان الوقت باقيًا، فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون في الوقت وبعده. أعني أنه رأي في رِجْل رَجُل لمعة لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، رواه أبو داود. وقال أحمد بن حنبل: حديث جيد.
وأما قوله: (ويل للأعقاب من النار) ونحوه. فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء ليس في ذلك أمر بإعادة شيء، ومن كان أيضًا يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو عن المشائخ الواصلين، أو عن بعض أتباعهم، أو أن الشيخ يصلي عنهم، أو أن لله عبادًا أسقط عنهم الصلاة، كما يوجد كثير من ذلك في كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد، وأتباع بعض المشائخ والمعرفة، فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة، فإن أقروا بالوجوب، وإلا قوتلوا، وإذا أصروا على جحد الوجوب حتى قتلوا، كانوا من المرتدين، ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء، فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين، وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين للوجوب.
فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام، فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء، كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والأخري يقضي المرتد، كقول الشافعي والأول أظهر.
فإن الذين ارتدوا على عهد رسول الله ﷺ كالحارث بن قيس، وطائفة معه أنزل الله فيهم: { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } الآية 28، والتي بعدها. وكعبد الله بن أبي سرح، والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر، وأنزل فيهم: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } 29. فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبد الله بن أبي سرح عاد إلى الإسلام عام الفتح، وبايعه النبي ﷺ ولم يأمر أحدًا منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا.
وقد ارتد في حياته خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بصنعاء اليمن، ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام، ولم يؤمرا بالإعادة.
وتنبأ مسيلمة الكذاب، واتبعه خلق كثير، قاتلهم الصديق والصحابة بعد موته حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحدًا منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته.
وكان أكثر البوادي قد ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء ما ترك من الصلاة. وقوله تعالى: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } 30، يتناول كل كافر.
وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالا بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور، ولا قضاء عليهم. فهذا حكم من تركها غير معتقد لوجوبها.
وأما من اعتقد وجوبها مع إصراره على الترك، فقد ذكر عليه المفرِّعون من الفقهاء فروعًا:
أحدها هذا، فقيل عند جمهورهم مالك والشافعي وأحمد. وإذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافرًا مرتدًا، أو فاسقًا كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين. حكيا روايتين عن أحمد، وهذه الفروع لم تنقل عن الصحابة، وهي فروع فاسدة، فإن كان مقرًا بالصلاة في الباطن، معتقدًا لوجوبها، يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل، وهو لا يصلي هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم؛ ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام، ولا يعرف أن أحدًا يعتقد وجوبها، ويقال له إن لم تصل وإلا قتلناك، وهو يصر على تركها، مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام.
ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطن مقرًا بوجوبها، ولا ملتزمًا بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة. كقوله ﷺ: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة)، رواه مسلم. وقوله: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).
وقول عبد الله بن شَقِيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فمن كان مصرًا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون قط مسلمًا مقرًا بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل، هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادرًا ولم يفعل قط، علم أن الداعي في حقه لم يوجد. والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحيانًا أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها، وتفويتها أحيانًا.
فأما من كان مصرًا على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك، فهذا لا يكون مسلمًا، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن حديث عبادة عن النبي ﷺ أنه قال: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد في إلىوم والليلة من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له).
فالمحافظ عليها الذي يصليها في مواقيتها، كما أمر الله تعالى والذي ليس يؤخرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه، كما جاء في الحديث.
سئل عمن يؤمر بالصلاة فيمتنع وماذا يجب عليه
وسئل عمن يؤمر بالصلاة فيمتنع، وماذا يجب عليه؟ ومن اعتذر بقوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) هل يكون له عذر في أنه لا يعاقب على ترك الصلاة، أم لا؟ وماذا يجب على الأمراء وولاة الأمور في حق من تحت أيديهم إذا تركوا الصلاة؟ وهل قيامهم في ذلك من أعظم الجهاد وأكبر أبواب البر؟
فأجاب:
الحمد لله، من يمتنع عن الصلاة المفروضة، فإنه يستحق العقوبة الغليظة باتفاق أئمة المسلمين، بل يجب عند جمهور الأمة كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
بل تارك الصلاة شر من السارق والزاني، وشارب الخمر وآكل الحشيشة.
ويجب على كل مطاع أن يأمر من يطيعه بالصلاة، حتى الصغار الذين لم يبلغوا، قال النبي ﷺ: (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).
ومن كان عنده صغير مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره بالصلاة، فإنه يعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير، ويعزر الكبير على ذلك تعزيرًا بليغًا؛ لأنه عصي الله ورسوله، وكذلك من عنده ممإلىك كبار، أو غلمان الخيل والجمال والبُزَاة، أو فرَّاشون أو بابية يغسلون الأبدان والثياب، أو خدم، أو زوجة، أو سرية، أو إماء، فعليه أن يأمر جميع هؤلاء بالصلاة، فإن لم يفعل، كان عاصيًا لله ورسوله، ولم يستحق هذا أن يكون من جند المسلمين، بل من جند التتار. فإن التتار يتكلمون بالشهادتين، ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين.
وكذلك كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة، أو الباطنة المعلومة، فإنه يجب قتالها، فلو قالوا: نشهد ولا نصلى قوتلوا حتى يصلوا، ولو قالوا: نصلى ولا نزكي، قوتلوا حتى يزكوا، ولو قالوا: نزكي ولا نصوم ولا نحج، قوتلوا حتى يصوموا رمضان، ويحجوا البيت. ولو قالوا: نفعل هذا لكن لا ندع الربا، ولا شرب الخمر، ولا الفواحش، ولا نجاهد في سبيل الله، ولا نضرب الجزية على اليهود والنصاري، ونحو ذلك. قوتلوا حتى يفعلوا ذلك. كما قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } 31.
وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } 32 والربا آخر ما حرم الله، وكان أهل الطائف قد أسلموا وصلوا وجاهدوا، فبين الله أنهم إذا لم ينتهوا عن الربا، كانوا ممن حارب الله ورسوله.
وفي الصحيحين أنه لما توفي رسول الله ﷺ وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال النبي ﷺ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) فقال أبو بكر: ألم يقل: (إلا بحقها؟) والله، لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق.
وفي الصحيح أن النبي ﷺ ذكر الخوارج فقال: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة).
فإذا كان الذين يقومون الليل، ويصومون النهار، ويقرؤون القرآن، أمر النبي ﷺ بقتالهم؛ لأنهم فارقوا السنة والجماعة، فكيف بالطوائف الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام، وإنما يعملون بباساق ملوكهم، وأمثال ذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل يأمره الناس بالصلاة ولم يصل فما الذي يجب عليه
وسئل عن رجل يأمره الناس بالصلاة، ولم يصل، فما الذي يجب عليه؟
فأجاب:
إذا لم يصل فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل. والله أعلم.
سئل عمن ترك صلاة واحدة عمدا بنية أنه يفعلها بعد خروج وقتها قضاء
وسئل عمن ترك صلاة واحدة عمدًا بنية أنه يفعلها بعد خروج وقتها قضاء، فهل يكون فعله كبيرة من الكبائر؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم تأخير الصلاة عن غير وقتها الذي يجب فعلها فيه عمدًا من الكبائر، بل قد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر. وقد رواه الترمذي مرفوعًا عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر.
ورفع هذا إلى النبي ﷺ وإن كان فيه نظر. فإن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم، والأثر معروف، وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له، لا منكرين له.
وفى الصحيح عن النبي ﷺ قال: من فاتته صلاة العصر، فقد حبط عمله، وحبوط العمل لا يتوعد به إلا على ما هو من أعظم الكبائر، وكذلك تفويت العصر أعظم من تفويت غيرها، فإنها الصلاة الوسطى المخصوصة بالأمر بالمحافظة عليها، وهى التي فرضت على من كان قبلنا فضيعوها، فمن حافظ عليها، فله الأجر مرتين، وهى التي لما فاتت سليمان فعل بالخيل ما فعل.
وفى الصحيح عن النبي ﷺ أيضًا أنه قال: من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتِرَ أهله وماله. والموتور أهله وماله يبقى مسلوبًا ليس له ما ينتفع به من الأهل والمال، وهو بمنزلة الذي حبط عمله.
وأيضًا، فإن الله تعالى يقول: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } 33، فتوعد بالويل لمن يسهو عن الصلاة حتى يخرج وقتها وإن صلاها بعد ذلك، وكذلك قوله تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } 34، وقد سألوا ابن مسعود عن إضاعتها فقال: هو تأخيرها حتى يخرج وقتها، فقالوا: ما كنا نرى ذلك إلا تركها، فقال: لو تركوها لكانوا كفارًا، وقد كان ابن مسعود يقول عن بعض أمراء الكوفة في زمانه: ما فعل خلفكم؟ لكونهم كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها. وقوله: { وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } يتناول كل من استعمل ما يشتهيه عن المحافظة عليها في وقتها، سواء كان المشتهى من جنس المحرمات، كالمأكول المحرم، والمشروب المحرم، والمنكوح المحرم، والمسموع المحرم أو كان من جنس المباحات لكن الإسراف فيه ينهى عنه، أو غير ذلك، فمن اشتغل عن فعلها في الوقت بلعب أو لهو أو حديث مع أصحابه، أو تنزه في بستانه، أو عمارة عقاره، أو سعى في تجارته، أو غير ذلك، فقد أضاع تلك الصلاة، واتبع ما يشتهيه.
وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } 35، ومن ألهاه ماله وولده عن فعل المكتوبة في وقتها، دخل في ذلك، فيكون خاسرًا. وقال تعالى في ضد هؤلاء: { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ } 36.
فإذا كان سبحانه قد توعد بلقى الغى من يضيع الصلاة عن وقتها ويتبع الشهوات، والمؤخر لها عن وقتها مشتغلا بما يشتهيه هو مضيع لها متبع لشهوته. فدل ذلك على أنه من الكبائر، إذ هذا الوعيد لا يكون إلا على كبيرة، ويؤيد ذلك جعله خاسرًا، والخسران لا يكون بمجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر.
وأيضًا، فلا... أحدًا من صلى بلا طهارة، أو إلى غير القبلة عمدًا، وترك الركوع والسجود أو القراءة أو غير ذلك متعمدًا، أنه قد فعل بذلك كبيرة، بل قد يتورع في كفره إن لم يستحل ذلك، وأما إذا استحله فهو كافر بلا ريب.
ومعلوم أن الوقت للصلاة مقدم على هذه الفروض وغيرها، فإنه لا نزاع بين المسلمين أنه إذا علم المسافر العادم للماء أنه يجده بعد الوقت لم يجز له تأخير الصلاة ليصليها بعد الوقت بوضوء، أو غسل؛ بل ذلك هو الفرض وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا استحله فهو كافر بلا ريب.
ومعلوم أنه إن علم أنه بعد الوقت يمكنه أن يصلى بإتمام الركوع والسجود والقراءة، كان الواجب عليه أن يصلى في الوقت لإمكانه.
وأما قول بعض أصحابنا: إنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناوٍ لجمعها أو مشتغل بشرطها، فهذا لم يقله قبله أحد من الأصحاب، بل ولا أحد من سائر طوائف المسلمين، إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي، فهذا أشك فيه. ولا ريب أنه ليس على عمومه وإطلاقه بإجماع المسلمين، وإنما فيه صورة معروفة، كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلا يستقى، ولا يفرغ إلا بعد الوقت، وإذا أمكن العريان أن يخيط له ثوبًا ولا يفرغ إلا بعد الوقت، ونحو هذه الصور. ومع هذا، فالذي قاله في ذلك خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وخلاف قول جماعة علماء المسلمين من الحنفية والمالكية وغيرهم.
وما أعلم من يوافقه على ذلك إلا بعض أصحاب الشافعي، ومن قال ذلك فهو محجوج بإجماع المسلمين على أن مجرد الاشتغال بالشرط لا يبيح تأخير الصلاة عن وقتها المحدود شرعًا، فإنه لو دخل الوقت وأمكنه أن يطلب الماء وهو لا يجده إلا بعد الوقت، لم يجز له التأخير باتفاق المسلمين، وإن كان مشتغلا بالشرط. وكذلك العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية ليشترى له منها ثوبًا، وهو لا يصل إلا بعد خروج الوقت، لم يجز له التأخير بلا نزاع.
والأمي كذلك إذا أمكنه تعلم الفاتحة وهو لا يتعلمها حتى يخرج الوقت، كان عليه أن يصلى في الوقت، وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد إذا ضاق الوقت صلى بحسب الإمكان، ولم ينتظر وكذلك المستحاضة لو كان دمها ينقطع بعد الوقت، لم يجز لها أن تؤخر الصلاة لتصلي بطهارة بعد الوقت، بل تصلي في الوقت بحسب الإمكان.
وأما حيث جاز الجمع فالوقت واحد، والمؤخرليس بمؤخر عن الوقت الذي يجوز فعلها فيه، بل في أحد القولين أنه لا يحتاج الجمع إلى النية، كما قال أبو بكر. وكذلك القصر، وهو مذهب الجمهور: كأبى حنيفة ومالك.
وكذلك صلاة الخوف تجب في الوقت، مع إمكان أن يؤخرها فلا يستدبر القبلة، ولا يعمل عملا كثيرًا في الصلاة، ولا يتخلف عن الإمام بركعة، ولا يفارق الإمام قبل السلام، ولا يقضى ما سبق به قبل السلام، ونحو ذلك مما يفعل في صلاة الخوف، وليس ذلك إلا لأجل الوقت، وإلا ففعلها بعد الوقت ولو بالليل ممكن على الإكمال.
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة، وأمكنه تأخير الصلاة إلى أن يأتى مصرًا، يعلم فيه القبلة لم يجز له ذلك، وإنما نازع من نازع إذا أمكنه تعلم دلائل القبلة، ولا يتعلمها حتى يخرج الوقت. وهذا النزاع هو القول المحدث الشاذ الذي تقدم ذكره.وأما النزاع المعروف بين الأئمة في مثل ما إذا استيقظ النائم في آخر الوقت، ولم يمكنه أن يصلى قبل الطلوع بوضوء: هل يصلى بتيمم؟ أو يتوضأ ويصلى بعد الطلوع؟ على قولين مشهورين:
الأول: قول مالك، مراعاة للوقت.
الثانى: قول الأكثرين كأحمد والشافعي وأبى حنيفة.
وهذه المسألة هي التي توهم من توهم أن الشرط مقدم على الوقت، وليس كذلك، فإن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ. كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها). فجعل الوقت الذي أوجب الله على العبد فيه هو وقت الذكر والانتباه، وحينئذ، فمن فعلها في هذا الوقت بحسب ما يمكنه من الطهارة الواجبة فقد فعلها في الوقت، وهذا ليس بمفرط ولا مضيع لها. قال النبي ﷺ: (ليس في النوم تفريط؛ إنما التفريط في اليقظة).
بخلاف المتنبه من أول الوقت فإنه مأمور أن يفعلها في ذلك الوقت، بحيث لو أخرها عنه عمدًا كان مضيعًا مفرطًا، فإذا اشتغل عنها بشرطها وكان قد أخرها عن الوقت الذي أمر أن يفعلها فيه، ولولا أنه مأمور بفعلها في ذلك الوقت، لجاز تأخيرها عن الوقت، إذا كان مشتغلا بتحصيل ماء الطهارة، أو ثوب الاستعارة، بالذهاب إلى مكانه ونحو ذلك، وهذا خلاف إجماع المسلمين. بل المستيقظ في آخر الوقت إنما عليه أن يتوضأ كما يتوضأ المستيقظ في الوقت، فلو أخرها لأنه يجد الماء عند الزوال ونحو ذلك، لم يجز له ذلك.
وأيضًا، فقد نص العلماء على أنه إذا جاء وقت الصلاة ولم يصل، فإنه يقتل، وإن قال: أنا أصليها قضاء. كما يقتل إذا قال: أصلى بغير وضوء، أو إلى غير القبلة، وكل فرض من فرائض الصلاة المجمع عليها إذا تركه عمدًا، فإنه يقتل بتركه. كما أنه يقتل بترك الصلاة.
فإن قلنا: يقتل بضيق الثانية والرابعة، فالأمر كذلك، وكذلك إذا قلنا: يقتل بضيق الأولى وهو الصحيح أو الثالثة، فإن ذلك مبنى على أنه: هل يقتل بترك صلاة، أو بثلاث؟ على روايتين.
وإذا قيل بترك صلاة: فهل يشترط وقت التي بعدها، أو يكفى ضيق وقتها؟ على وجهين. وفيها وجه ثالث: وهو الفرق بين صلاتى الجمع وغيرها. ولا يعارض ما ذكرناه أنه يصح بعد الوقت؛ بخلاف بقية الفرائض؛ لأن الوقت إذا فات لم يمكن استدراكه، فلا يمكنه أن يفعلها إلا فائتة، ويبقى إثم التأخير من باب الكبائر التي تمحوها التوبة ونحوها، وأما بقية الفرائض، فيمكن استدراكها بالقضاء.
وأما الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، ونهى النبي ﷺ عن قتالهم، فإن قيل: إنهم كانوا يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت، فلا كلام، وإن قيل وهو الصحيح: إنهم كانوا يفوتونها، فقد أمر النبي ﷺ الأمة بالصلاة في الوقت. وقال: (اجعلوا صلاتكم معهم نافلة). ونهى عن قتالهم، كما نهى عن قتال الأئمة إذا استأثرو وظلموا الناس حقوقهم، واعتدوا عليهم، وإن كان يقع من الكبائر في أثناء ذلك ما يقع.
ومؤخرها عن وقتها فاسق، والأئمة لا يقاتلون بمجرد الفسق، وإن كان الواحد المقدور قد يقتل لبعض أنواع الفسق كالزنا، وغيره فليس كلما جاز فيه القتل، جاز أن يقاتل الأئمة لفعلهم إياه؛ إذ فساد القتال أعظم من فساد كبيرة يرتكبها ولى الأمر.
ولهذا نص من نص من أصحاب أحمد وغيره على أن النافلة تصلي خلف الفساق؛ لأن النبي ﷺ أمر بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها، وهؤلاء الأئمة فساق، وقد أمر بفعلها خَلْفَهم نافلة.
والمقصود أن الفسق بتفويت الصلاة أمر معروف عند الفقهاء.
لكن لو قال قائل: الكبيرة تفويتها دائمًا، فإن ذلك إصرار على الصغيرة.
قيل له: قد تقدم ما يبين أن الوعيد يلحق بتفويت صلاة واحدة.
وأيضًا، فإن الإصرار هو العزم على العود، ومن أتى صغيرة وتاب منها ثم عاد إليها، لم يكن قد أتى كبيرة.
وأيضًا، فمن اشترط المداومة على التفويت، محتاج إلى ضابط، فإن أراد بذلك المداومة على طول عمره، لم يكن المذكورون من هذا الباب، وإن أراد مقدارًا محدودًا طولب بدليل عليه.
وأيضًا، فالقتل بترك واحدة أبلغ من جعل ذلك كبيرة. والله سبحانه أعلم.
سئل عن مسلم تارك للصلاة ويصلي الجمعة
وسئل عن مسلم تارك للصلاة، ويصلي الجمعة. فهل تجب عليه اللعنة؟
فأجاب:
الحمد لله، هذا استوجب العقوبة باتفاق المسلمين، والواجب عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولعن تارك الصلاة على وجه العموم، وأما لعنة المعين فالأولى تركها، لأنه يمكن أن يتوب. والله أعلم.
باب الأذان والإقامة
سئل عن الأذان هل هو فرض أم سنة
وسئل عن الأذان. هل هو فرض أم سنة؟ وهل يستحب الترجيع أم لا؟ وهل التكبير أربع أو اثنتان كمالك؟ وهل الإقامة شفع أو فرد؟ وهل يقول قد قامت الصلاة مرة أو مرتين؟
فأجاب:
الصحيح أن الأذان فرض على الكفاية، فليس لأهل مدينة ولا قرية أن يدعوا الأذان والإقامة، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد وغيره.
وقد أطلق طوائف من العلماء أنه سنة. ثم من هؤلاء من يقول: إنه إذا اتفق أهل بلد على تركه قوتلوا، والنزاع مع هؤلاء قريب من النزاع اللفظي. فإن كثيرًا من العلماء يطلق القول بالسنة على ما يذم تاركه شرعًا، ويعاقب تاركه شرعًا، فالنزاع بين هذا وبين من يقول: إنه واجب، نزاع لفظي، ولهذا نظائر متعددة.
وأما من زعم أنه سنة لا إثم على تاركيه ولا عقوبة، فهذا القول خطأ. فإن الأذان هو شعار دار الإسلام، الذي ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يعلق استحلال أهل الدار بتركه، فكان يصلى الصبح، ثم ينظر فإن سمع مؤذنًا لم يغر، وإلا أغار. وفى السنن لأبي داود والنسائي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن، ولا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل الشاة القاصية. وقد قال تعالى: { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } 37.
وأما الترجيع وتركه، وتثنية التكبير وتربيعه، وتثنية الإقامة وإفرادها، فقد ثبت في صحيح مسلم والسنن حديث أبي مَحْذُورة الذي علمه النبي ﷺ الأذان عام فتح مكة، وكان الأذان فيه وفى ولده بمكة، ثبت أنه علَّمَه الأذان والإقامة، وفيه الترجيع. وروى في حديثه التكبير مرتين كما في صحيح مسلم. وروي أربعًا كما في سنن أبي داود وغيره. وفى حديثه أنه علمه الإقامة شفعًا. وثبت في الصحيح عن أنس بن مالك قال: لما كثر الناس، قال: تذاكروا إن يعلموا وقت الصلاة بشىء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، فأمر بلالا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة. وفى رواية للبخاري: إلا الإقامة. وفى سنن أبي داود وغيره، أن عبد الله بن زيد لما أري الأذان، وأمره النبي ﷺ أن يلقيه على بلال، فألقاه عليه، وفيه التكبير أربعًا، بلا ترجيع.
وإذا كان كذلك، فالصواب مذهب أهل الحديث، ومن وافقهم، وهو تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي ﷺ، لا يكرهون شيئًا من ذلك؛ إذ تنوع صفة الأذان والإقامة، كتنوع صفة القراءات والتشهدات، ونحو ذلك. وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله ﷺ لأمته.
وأما من بلغ به الحال إلى الاختلاف والتفرق حتى يوالي ويعادي ويقاتل على مثل هذا ونحوه مما سوغه الله تعالى، كما يفعله بعض أهل المشرق، فهؤلاء من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا. وكذلك ما يقوله بعض الأئمة ولا أحب تسميته من كراهة بعضهم للترجيع، وظنهم أن أبا مَحْذُورة غلط في نقله، وأنه كرره ليحفظه، ومن كراهة من خالفهم لشفع الإقامة، مع أنهم يختارون أذان أبي محذورة. هؤلاء يختارون إقامته، ويكرهون أذانه، وهؤلاء يختارون أذانه، ويكرهون إقامته. فكلاهما قولان متقابلان. والوسط أنه لا يكره لا هذا ولا هذا.
وإن كان أحمد وغيره من أئمة الحديث يختارون أذان بلال وإقامته؛ لمداومته على ذلك بحضرته، فهذا كما يختار بعض القراءات والتشهدات ونحو ذلك. ومن تمام السنة في مثل هذا: أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا في مكان، وهذا في مكان؛ لأن هجر ما وردت به السنة، وملازمة غيره، قد يفضى إلى أن يجعل السنة بدعة، والمستحب واجبًا ويفضي ذلك إلى التفرق والاختلاف، إذا فعل آخرون الوجه الآخر.
فيجب على المسلم أن يراعي القواعد الكلية، التي فيها الاعتصام بالسنة والجماعة، لاسيما في مثل صلاة الجماعة. وأصح الناس طريقة في ذلك هم علماء الحديث، الذين عرفوا السنة واتبعوها؛ إذ من أئمة الفقه من اعتمد في ذلك على أحاديث ضعيفة، ومنهم من كان عمدته العمل الذي وجده ببلده، وجعل ذلك السنة دون ما خالفه، مع العلم بأن النبي ﷺ قد وسع في ذلك، وكل سنة.
وربما جعل بعضهم أذان بلال وإقامته ما وجده في بلده: إما بالكوفة، وإما بالشام، وإما بالمدينة. وبلال لم يؤذن بعد النبي ﷺ إلا قليلا، وإنما أذن بالمدينة سعد القُرَظِى مؤذن أهل قباء.
والترجيع في الأذان اختيار مالك والشافعي؛ لكن مالك يرى التكبير مرتين، والشافعي يراه أربعا، وتركه اختيار أبي حنيفة. وأما أحمد، فعنده كلاهما سنة وتركه أحب إليه؛ لأنه أذان بلال.
والإقامة يختار إفرادها مالك والشافعي وأحمد، وهو مع ذلك يقول: إن تثنيتها سنة، والثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد يختارون تكرير لفظ الإقامة، دون مالك، والله أعلم.
في صيغة الأذان
وقال شيخ الإسلام:
وأما الأذان الذي هو شعار الإسلام، فقد استعمل فقهاء الحديث كأحمد فيه جميع سنن رسول الله ﷺ، استحسن أذان بلال وإقامته، وأذان أبي مَحْذُورة، وإقامته.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي ﷺ علم أبا محذورة الأذان مرجعًا وفى الإقامة مشفوعة.
وثبت في الصحيحين: أن بلالا أمر أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة. وفى السنن أنه لم يكن يرجع، فرجح أحمد أذان بلال؛ لأنه الذي كان يفعل بحضرة رسول الله ﷺ دائمًا، قبل أذان أبي مَحْذُورة، وبعده إلى أن مات. واستحسن أذان أبي مَحْذُورة ولم يكرهه.
وهذا أصل مستمر له في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها، يستحسن كلما ثبت عن النبي ﷺ من غير كراهة لشيء منه مع علمه بذلك، واختياره للبعض، أو تسويته بين الجميع. كما يجوز القراءة بكل قراءة ثابتة، وإن كان قد اختار بعض القراءة: مثل أنواع الأذان والإقامة، وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي ﷺ كتشهد ابن مسعود، وأبى موسى، وابن عباس، وغيرهم.
وأحبها إليه تشهد ابن مسعود؛ لأسباب متعددة: منها كونه أصحها، وأشهرها. ومنها: كونه محفوظ الألفاظ لم يختلف في حرف منه. ومنها: كون غالبها يوافق ألفاظه، فيقتضي أنه الذي كان النبي ﷺ يأمر به غالبًا.
وكذلك أنواع الاستفتاح، والاستعاذة المأثورة، وأنه اختار بعضها.
وكذلك موضع رفع اليدين في الصلاة، ومحل وضعها بعد الرفع، وصفات التحميد المشروع بعد التسميع، ومنها صفات الصلاة على النبي ﷺ وإن اختار بعضها.
ومنها: أنواع صلاة الخوف، ويجوز كل ما فعله النبي ﷺ من غير كراهة.
ومنها: أنواع تكبيرات العيد، يجوز كل مأثور، وإن استحب بعضه.
ومنها: التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع، والتخميس، والتسبيع، وإن اختار التربيع. وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك، ويكرهون بعضه.
فمنهم من يكره الترجيع في الأذان: كأبي حنيفة، ومنهم من يكره تركه كالشافعي. ومنهم من يكره شفع الإقامة كالشافعي. ومنهم من يكره إفرادها، حتى قد آل الأمر بالاتباع إلى نوع جاهلية، فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك، حمية جاهلية، مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله ﷺ أمر بلالا بإفراد الإقامة وأمر أبا مَحْذُورة بشفعها. وإن الضلالة حق الضلالة أن ينهى عما أمر به النبي ﷺ.
سئل عن المؤذن إذا قال الصلاة خير من النوم هل السنة أن يستدير
وسئل عن المؤذن إذا قال: الصلاة خير من النوم، هل السنة أن يستدير ويلتفت، أم يستقبل القبلة، أم الشرق؟
فأجاب:
ليس هذا سنة عند أحد من العلماء، بل السنة أن يقولها وهو مستقبل القبلة، كغيرها من كلمات الأذان. وكقوله في الإقامة: قد قامت الصلاة، ولم يستثن من ذلك العلماء إلا الحيعلة، فإنه يلتفت بها يمينًا وشمالا، ولا يختص المشرق بالكلمتين، وليس في الأذان والإقامة ما يختص المشرق والمغرب بجنسه. فمن قال: الصلاة خير من النوم كلاهما إلى المشرق أو المغرب، فهو مبتدع خارج عن السنة في الأذان، باتفاق العلماء.
وقد تنازع العلماء: هل يدور في المنارة؟ على قولين مشهورين. فمن دار فقد فعل ما يسوغ فيه الاجتهاد، ولكنه مع ذلك إن دار لقوله: الصلاة خير من النوم لزمه أن يدور مرتين. ولا قائل به، وإن خص المشرق بهما كان أبعد عن السنة، فتعين أن يقولهما مستقبل القبلة. والله أعلم.
متى يؤذن عند الجمع بين الصلاتين
وقال الشيخ رحمه الله:
لما ذهبت على البريد كنا نجمع بين الصلاتين، فكنت أولا أؤذن عند الغروب وأنا راكب، ثم تأملت فوجدت النبي ﷺ لما جمع ليلة جمع لم يؤذنوا للمغرب في طريقهم، بل أخر التأذين حتى نزل فصرت أفعل ذلك؛ لأنه في الجمع صار وقت الثانية وقتًا لهما، والأذان إعلام بوقت الصلاة.
ولهذا قلنا: يؤذن للفائتة، كما أذن بلال لما ناموا عن صلاة الفجر؛ لأنه وقتها، والأذان للوقت الذي تفعل فيه، لا الوقت الذي تجب فيه.
سئل عمن أحرم ودخل في الصلاة نافلة ثم سمع المؤذن فهل يقطع الصلاة ويقول مثل ما قال المؤذن
وسئل عمن أحرم ودخل في الصلاة وكانت نافلة، ثم سمع المؤذن فهل يقطع الصلاة ويقول مثل ما قال المؤذن؟ أو يتم صلاته ويقول مثل ما يقول المؤذن؟
فأجاب:
إذا سمع المؤذن يؤذن وهو في صلاة فإنه يتمها، ولا يقول مثل ما يقول عند جمهور العلماء، وأما إذا كان خارج الصلاة في قراءة أو ذكر أو دعاء، فإنه يقطع ذلك، ويقول مثل ما يقول المؤذن؛ لأن موافقة المؤذن عبادة مؤقتة يفوت وقتها، وهذه الأذكار لا تفوت.
وإذا قطع الموالاة فيها لسبب شرعي كان جائزًا، مثل ما يقطع الموالاة فيها بكلام لما يحتاج إليه من خطاب آدمي، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وكذلك لو قطع الموالاة بسجود تلاوة، ونحو ذلك، بخلاف الصلاة، فإنه لا يقطع موالاتها بسبب آخر، كما لو سمع غيره يقرأ سجدة التلاوة لم يسجد في الصلاة عند جمهور العلماء، ومع هذا، ففى هذا نزاع معروف. والله أعلم.
باب شروط الصلاة
فصل مواقيت الصلاة
قال رحمه الله:
وأما إذا ابتدؤوا الصلاة بالمواقيت، ففقهاء الحديث قد استعملوا في هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبي ﷺ في أوقات الجواز. وأوقات الاختيار.
فوقت الفجر: ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، ووقت الظهر: من الزوال إلى مصير ظل كل شىء مثله سوى فىء الزوال، ووقت العصر: إلى اصفرار الشمس على ظاهر مذهب أحمد ووقت المغرب: إلى مغيب الشفق، ووقت العشاء: إلى منتصف الليل على ظاهر مذهب أحمد.
وهذا بعينه قول رسول الله ﷺ في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو. وروى أيضًا من حديث أبي هريرة رضى الله عنه. وليس عن النبي ﷺ حديث من قوله في المواقيت الخمس أصح منه، وكذلك صح معناه من غير وجه من فعل النبي ﷺ في المدينة، من حديث أبي موسى وبريدة رضي الله عنهما. وجاء مفرقًا في عدة أحاديث، وغالب الفقهاء إنما استعملوا غالب ذلك.
فأهل العراق، المشهور عنهم أن العصر لا يدخل وقتها حتى يصير ظل كل شىء مثليه. وأهل الحجاز مالك وغيره: ليس للمغرب عندهم إلا وقت واحد.
فصل
وكذلك نقول بما جاءت به السنة والآثار من الجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والمرض، كما في حديث المستحاضة، وغير ذلك من الأعذار.
ونقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أن الوقت وقتان: وقت اختيار، وهو خمس مواقيت. ووقت اضطرار، وهو ثلاث مواقيت. ولهذا أمرت الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وغيرهما الحائض إذا طهرت قبل الغروب أن تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر أن تصلي المغرب والعشاء. وأحمد موافق في هذه المسائل لمالك رحمه الله. وزائد عليه بما جاءت به الآثار. والشافعي رحمه الله هو دون مالك في ذلك، وأبو حنيفة أصله في الجمع معروف.
وكذلك أوقات الاستحباب، فإن أهل الحديث يستحبون الصلاة في أول الوقت في الجملة، إلا حيث يكون في التأخير مصلحة راجحة كما جاءت به السنة، فيستحبون تأخير الظهر في الحر مطلقًا، سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين، ويستحبون تأخير العشاء ما لم يشق.
وبكل ذلك جاءت السنن الصحيحة التي لا دافع لها. وكل من الفقهاء يوافقهم في البعض أو الأغلب.
فأبو حنيفة: يستحب التأخير إلا في المغرب، والشافعي: يستحب التقديم مطلقًا حتى في العشاء على أحد القولين وحتى في الحر، إذا كانوا مجتمعين، وحديث أبي ذر الصحيح فيه أمر النبي ﷺ لهم بالإبراد، وكانوا مجتمعين.
فصل قاعدة في أعداد ركعات الصلوات وأوقاتها
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
قاعدة في أعداد ركعات الصلوات وأوقاتها
وما يدخل في ذلك من جمع وقصر
جرت عادة كثير من العلماء المصنفين للعلم أن يذكروا في باب مواقيت الصلاة: أوقاتها وأعدادها وأسماءها، ثم منهم من يذكر القصر والجمع في بابين مفترقين مع صلاة أهل الأعذار كالمريض، والخائف.
ومنهم من يذكر الجمع في المواقيت. وأما القصر فيفرده. فإن سبب القصر هو السفر وحده، فقران صلاة المسافر بصلاة الخائف والمريض مناسب.
وأما الجمع: فأسبابه متعددة؛ لاختصاص السفر به. ونحن نذكر في كل منهما فصلا جامعًا.
أما العدد: فمعلوم أنها خمس صلوات: ثلاث رباعية، وواحدة ثلاثية وواحدة ثنائية، هذا في الحضر. وأما في السفر، فقد سافر رسول الله ﷺ قريبًا من ثلاثين سَفْرة، وكان يصلي ركعتين في أسفاره، ولم ينقل عنه أحد من أهل العلم أنه صلى في السفر الفرض أربعًا قط، حتى في حجة الوداع، وهي آخر أسفاره، كان يصلي بالمسلمين بمنى الصلوات: ركعتين، ركعتين. وهذا من العلم العام المستفيض المتواتر الذي اتفق على نقله عنه جميع أصحابه، ومن أخذ العلم عنهم.
والحديث الذي رواه الدارقطني عن عائشة أن النبي ﷺ كان يقصر في السفر وتُتم ويُفطر، وتَصوم. باطل في الإتمام. وإن كان صحيحًا. في الإفطار، بخلاف النقل المتواتر المستفيض. ولم يذكر هذا بعد قط.
وكيف يكون والنبي ﷺ في أسفاره إنما كان يصلي الفرض إماما، لكن مرة في غزوة تبوك احتبس للطهارة ساعة فقدموا عبد الرحمن بن عوف، وأدرك النبي ﷺ خلفه بعض الصلاة، فلو صلى بهم أربعًا في السفر، لكان هذا من أوكد ما تتوفر هممهم ودواعيهم على نقله؛ لمخالفته سنته المستمرة، وعادته الدائمة كما نقلوا أنه جمع بين الصلاتين أحيانًا. فلما لم ينقل ذلك أحد منهم علم قطعًا أنه لم يفعل ذلك.
ولهذا قال ابن عمر: صلاة السفر ركعتان، من خالف السنة كفر: أي من اعتقد أن صلاة ركعتين ليس بمسنون، ولا مشروع، فقد كفر.
وكذلك قال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم.
وقالت عائشة رضي الله عنها: الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: فما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت، كما تأول عثمان. أخرجاه في الصحيحين .
وقال النبي ﷺ: (إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة). هذا، ولما حج النبي ﷺ حجة الوداع، كان يقصر الصلاة في مقامه بمكة، والمشاعر، مع أنه دخل مكة يوم الأحد، وخرج منها يوم الخميس إلى منى، وعرف يوم الجمعة وأقام بمنى إلى عشية الثلاثاء، وبات بالمحصب ليلة الأربعاء، وطاف للوداع تلك الليلة. وقام أيضًا قبل ذلك في غزوة الفتح بمكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة.
وأما الحديث الذي يروى عن عائشة: أنها اعتمرت مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبى وأمى قصرت وأتممت، وأفطرت وصمت. قال: (أحسنت يا عائشة)! وما عاب علي. رواه النسائي. وروى الدارقطني: خرجت مع النبي ﷺ في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت. وقال: إسناده حسن. فهذا لو صح، لم يكن فيه دليل على أن النبي ﷺ أتم، وإنما فيه إذنه في الإتمام، مع أن هذا الحديث على هذا الوجه ليس بصحيح، بل هو خطأ لوجوه:
أحدها: أن الذي في الصحيحين عن عائشة: أن صلاة السفر ركعتان. وقد ذكر ابن أخيها وهو أعلم الناس بها: أنها إنما أتمت الصلاة في السفر بتأويل تأولته، لا بنص كان معها. فعلم أنه لم يكن معها فيه نص.
الثانى: أن في الحديث: أنها خرجت معتمرة معه في رمضان عمرة رمضان، وكانت صائمة. وهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإن النبي ﷺ لم يعتمر في رمضان قط، وإنما كانت عُمَره كلها في شوال، وإذا كان لم يعتمر في رمضان، ولم يكن في عمره عليه صوم، بطل هذا الحديث.
الثالث: أن النبي ﷺ إنما سافر في رمضان في غزوة بدر، وغزوة الفتح. فأما غزوة بدر، فلم يكن معه فيها أزواجه، ولا كانت عائشة. وأما غزوة الفتح، فقد كان صام فيها في أول سفره، ثم أفطر، خلاف ما في هذا الحديث المفتعل.
الرابع: أن اعتمار عائشة معه فيه نظر.
الخامس: أن عائشة لم تكن بالتي تصوم وتصلى طول سفرها إلى مكة، وتخالف فعله بغير إذنه، بل كانت تستفتيه قبل الفعل، فإن الإقدام على مثل ذلك لا يجوز.
فثبت بهذه السنة المتواترة أن صلاة السفر ركعتان، كما أن صلاة الحضر أربع، فإن عدد الركعات إنما أخذ من فعل النبي ﷺ الذي سنه لأمته، وبطل قول من يقول من أصحاب أحمد والشافعي: إن الأصل أربع، وإنما الركعتان رخصة.
وبنوا على هذا: أن القاصر يحتاج إلى نية القصر في أول الصلاة كما قاله الشافعي، وهو قول الخرقى، والقاضى، وغيرهما، بل الصواب ما قاله جمهور أهل العلم، وهو اختيار أبي بكر وغيره: أن القصر لا يحتاج إلى نية، بل دخول المسافر في صلاته كدخول الحاضر، بل لو نوى المسافر أن يصلي أربعًا لكره له ذلك، وكانت السنة أن يصلي ركعتين، ونصوص الإمام أحمد إنما تدل على هذا القول.
وقد تنازع أهل العلم في التربيع في السفر: هل هو محرم؟ أو مكروه؟ أو ترك الأفضل؟ أو هو أفضل؟ على أربعة أقوال:
فالأول: قول أبى حنيفة، ورواية عن مالك.
والثانى: رواية عنه، وعن أحمد.
والثالث: رواية عن أحمد، وأصح قولى الشافعي.
والرابع: قول له. و"الرابع" خطأ قطعًا، لا ريب فيه. والثالث ضعيف، وإنما المتوجه أن يكون التربيع إما محرم أو مكروه؛ لأن طائفة من الصحابة كانوا يربعون، وكان الآخرون لا ينكرونه عليهم إنكار من فعل المحرم، بل إنكار من فعل المكروه.
وأما قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } 38، فهنا علق القصر بسببين: الضرب في الأرض، والخوف من فتنة الذين كفروا؛ لأن القصر المطلق يتناول قصر عددها، وقصر عملها، وأركانها. مثل الإيماء بالركوع والسجود، فهذا القصر إنما شرع بالسببين كلاهما، كل سبب له قصر. فالسفر يقتضي قصر العدد، والخوف يقتضي قصر الأركان.
ولو قيل: إن القصر المعلق هو قصر الأركان، فإن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، لكان وجيهًا. ولهذا قال: { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } 39.
فقد ظهر بهذا أن القصر لا يسوي بالجمع، فإنه سنة رسول الله ﷺ، وشرعته لأمته، بل الإتمام في السفر أضعف من الجمع في السفر. فإن الجمع قد ثبت عنه أنه كان يفعله في السفر أحيانًا وأما الإتمام فيه، فلم ينقل عنه قط، وكلاهما مختلف فيه بين الأمة، فإنهم مختلفون في جواز الإتمام، وفي جواز الجمع، متفقون على جواز القصر وجواز الإفراد. فلا يشبه بالسنة المتواترة أن النبي ﷺ كان يداوم عليه في أسفاره، وقد اتفقت الأمة عليه، إلى أن ما فعله في سفره مرات متعددة، وقد تنازعت فيه الأمة.
فصل في أن الوقت في كتاب الله وسنة رسول الله نوعان
وأما الوقت: فالأصل في ذلك أن الوقت في كتاب الله وسنة رسول الله نوعان: وقت اختيار ورفاهية، ووقت حاجة وضرورة.
أما الأول، فالأوقات خمسة.
وأما الثانى، فالأوقات ثلاثة، فصلاتا الليل، وصلاتا النهار، وهما اللتان فيهما الجمع والقصر، بخلاف صلاة الفجر فإنه ليس فيها جمع ولا قصر، لكل منهما وقت مختص، وقت الرفاهية والاختيار، والوقت مشترك بينهما عند الحاجة والاضطرار، لكن لا تؤخر صلاة نهار إلى ليل، ولا صلاة ليل إلى نهار.
ولهذا وقع الأمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى صلاة العصر، وقال النبي ﷺ فيها: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله). وقال: (فكأنما وَتِرَ أهله وماله). وقد دل على هذا الأصل أن الله في كتابه ذكر الوقوت تارة ثلاثة، وتارة خمسة.
أما الثلاثة، ففى قوله: { أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ } 40، وفى قوله: { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } 41، وقوله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ . وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } 42، أما الخمس فقد ذكرها أربعة: في قوله: { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } 43، وقوله: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } 44، وقوله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } 45، والسنة هي التي فسرت ذلك وبينته وأحكمته.
وذلك أنه قد ثبت بالنقل المتواتر عن النبي ﷺ: أنه كان يصلي الصلوات الخمس في خمس مواقيت: في حال مقامه بالمدينة، وفى غالب أسفاره حتى أنه في حجة الوداع آخر أسفاره كان يصلي كل صلاة في وقتها ركعتين، وإنما جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين العشائين بمزدلفة ؛ ولهذا قال ابن مسعود: ما رأيت رسول الله ﷺ صلى صلاة لغير وقتها، إلا المغرب ليلة جمع، والفجر بمزدلفة. وإنما قال ذلك لأنه غلس بها تغليسًا شديدًا، وقد بين جابر في حديثه أنه صلاها حين طلع الفجر.
ولهذا اتفق المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة؛ لأن جمع هاتين الصلاتين في حجة الوداع دون غيرهما، مما صلاه بالمسلمين بمنى أو بمكة هو من المنقول نقلا عامًا متواترًا مستفيضًا.
وثبت عنه أنه بين مواقيت الصلاة بفعله لمن سأله عن المواقيت بالمدينة، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى موسى، وحديث بريدة بن الحصيب، وبين له جبريل المواقيت بمكة، كما رواه جابر، وابن عباس. وروى مسلم في صحيحه المواقيت من كلام النبي ﷺ، من حديث عبد الله بن عمر، وهو أحسن أحاديث المواقيت؛ لأنه بيان بكلام النبي ﷺ حيث قال:
(وقت الفجر ما لم تطلع الشمس، ووقت الظهر ما لم يصر ظل كل شىء مثله، ووقت العصر ما لم تصفَرَّ الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط نور الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل). وقد روى نحو ذلك من حديث أبى هريرة مرفوعًا، وفيه نظر. وعلى هذه الأحاديث اعتمد الإمام أحمد لكثرة اطلاعه على السنن. وأما غيره من الأئمة، فبلغه بعض هذه الأحاديث دون بعض، فاتبع ما بلغه، ومن اتبع ما بلغه فقد أحسن، وما على المحسنين من سبيل.
وقال ﷺ في غير حديث: (سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة). فهذا دليل على أنه لا يجوز تأخير الأولى إلى وقت الثانية ولا يجوز الجمع لغير حاجة، فإن الأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار، ولكن غايتهم أن يؤخروا الظهر إلى وقت العصر إلى الاصفرار، أو يؤخروا المغرب إلى مغيب الشفق. وأما العشاء، فلو أخروها إلى نصف الليل لم يكن ذلك مكروهًا. وتأخيرها إلى ما بعد ذلك لم يكن يفعله أحد، ولا هو مما يفعله الأمراء.
وأما الثلاث، فقد ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة من حديث ابن عمر وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل: أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، يجمع في وقت الثانية إذا جد به السير في وقت الأولى، أو إذا كان سائرًا في وقتها. وهذا مما اتفق عليه القائلون بالجمع بين الصلاتين من فقهاء الحديث، وأهل الحجاز. وكذلك ما روى عنه: (أنه كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا) رواه أهل السنن من حديث معاذ. ورواه مسلم في صحيحه عن معاذ: (أن النبي ﷺ جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر. وبين المغرب والعشاء). وإنما تنازعوا فيما إذا كان نازلا في وقت الصلاتين كلاهما، وفيه روايتان عن أحمد:
إحداهما: لا يجمع لعدم السنة، والحاجة، وهو قول مالك، واختيار الخرقي.
الثانية: يجمع، وهو قول الشافعي؛ لحديث روي في ذلك أيضًا رواه أبو داود. وذكر ابن عبد البر أنه لم يرو غيره، وثبت عنه أيضًا بالأحاديث الصحيحة وبالاتفاق: (أنه جمع في حجة الوداع بعرفة بين صلاتي العشي، وبمزدلفة بين صلاتي العشائين)، وثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس: أنه صلى بالمدينة سبعًا، وثمانيا: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وفى صحيح مسلم عنه: جمع رسول الله ﷺ بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. وكذلك قال معاذ بن جبل.
وروى أهل السنن عنه حديثين أو ثلاثة أنه أمر المستحاضة بالجمع بين الصلاتين في حديث حَمْنَة بنت جحش، وغيرها، فهذا الجمع بالمدينة للمطر ولغير مطر. وقد نبه به ابن عباس على الجمع للخوف والمطر. والجمع عند المسير في السفر، يجمع في المقام وفى السفر لرفع الحرج. فعلم بذلك أنه ليس السفر سبب للجمع، كما هو سبب للقصر، فإن قصر العدد دائر مع السفر وجودًا وعدمًا، وأما الجمع فقد جمع في غير سفر، وقد كان في السفر يجمع للمسير، ويجمع في مثل عرفة ومزدلفة، ولا يجمع في سائر مواطن السفر، وأمر المستحاضة بالجمع.
فظهر بذلك أن الجمع هو لرفع الحرج، فإذا كان في التفريق حرج، جاز الجمع، وهو وقت العذر والحاجة. ولهذا قال الصحابة: كعبد الرحمن بن عوف وابن عمر في الحائض إذا طهرت قبل الغروب، صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر، صلت المغرب والعشاء، وقال بذلك أهل الجمع كمالك والشافعي. وأحمد فهذا يوافق قاعدة الجمع في أن الوقت مشترك بين صلاتى الجمع عند الضرورة والمانع. فمن أدرك آخر الوقت المشترك، فقد أدرك الصلاتين كلاهما.
ومن قال من أصحابنا وغيرهم: إن الجمع معلق بسفر القصر وجودًا وعدمًا، حتى منعوا الحجاج الذين بمكة وغيرهم من الجمع بين صلاتى العشى، وصلاتى العشاء، فما أعلم لقولهم حجة تعتمد، بل خلاف السنة المعلومة يقينًا عن النبي ﷺ. فإنا قد علمنا أنه لم يأمر أحدًا من الحجاج معه من أهل مكة أن يؤخروا العصر إلى وقتها المختص، ولا يعجلوا المغرب قبل الوصول إلى مزدلفة، فيصلوها إما بعرفة، وإما قريبًا من المأزمين، هذا مما هو معلوم يقينًا، ولا قال هذا أحمد، بل كلامه ونصوصه تقتضى أنه يجمع بين الصلاتين ويؤخر المغرب جميع أهل الموسم، كما جاءت به السنة، وكما اختاره طوائف من أصحابه كأبي الخطاب في العبادات، وأبي محمد المقدسى وغيرهما.
ثم إما أن يقال: إن الجمع معلق بالسفر مطلقًا، قصيره وطويله إما مطلقًا وإما لأجل المسير، وإما أن يقال: الجمع بمزدلفة لأجل النسك، كما يقوله من يقوله من أصحابنا، وغيرهم. والأول أصوب عندى وأَقِيسه بأصول أحمد، ونصوصه، فإنه قد نص على الجمع في الحضر لشغل، فإذا جد به السير في السفر القصير فهو أولى؛ ولأن الأحكام المعلقة بالسفر تختص بالسفر، كالقصر والفطر والمسح. وأما المتعلقة بالطويل والقصير كالصلاة على الدابة، والمتيمم، وكأكل الميتة، فهذه جاءت للحاجة، وكذلك يجوز في الحضر، والجمع هو من هذا الباب. إنما جاز لعموم الحاجة لا لخصوص السفر؛ ولهذا كان ما تعلق بالسفر إنما هو رخصة قد يستغنى عنها. وأما ما تعلق بالحاجة، فإنه قد يكون ضرورة لابد منها. فالأول كفطر المسافر، والثانى كفطر المريض فهذا هذا. والله أعلم.
ومما يشبه هذه الآية في العموم والجمع وإن اشتبه معناها: قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } 46 فإنه أباح القصر بشرطين الضرب في الأرض، وخوف الكفار.
ولهذا اعتقد كثير من الناس أن القصر مجرد قصر العدد، أشكل عليهم. فمن أهل البدع من قال: لا يجوز قصر الصلاة إلا في حال الخوف، حتى روى الصحابة السنن المتواترة عن النبي ﷺ في القصر في سفر الأمن، وقال ابن عمر: صلاة السفر ركعتان من خالف السنة فقد كفر. فإن من الخوارج من يرد السنة المخالفة لظاهر القرآن، مع علمه بأن الرسول سنها.
وقال حارثة بن وهب: صلينا مع رسول الله ﷺ آمن ما كان ركعتين. وقال عبد الله بن مسعود: صلينا خلف رسول الله ﷺ بمنى ركعتين، وخلف أبى بكر ركعتين، وخلف عمر ركعتين، وقال عمر ليعلى بن أمية لما سأله عن الآية: فقال: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله ﷺ فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته) .
فأخبر النبي ﷺ أن القصر في سفر الأمن صدقة من الله، ولم يقل إنها مخالفة لظاهر القرآن. فنقول: القصر الكامل المطلق هو قصر العدد، وقصر الأركان، فقصر العدد جعل الرباعية ركعتين، وقصر الأركان هو قصر القيام والركوع والسجود كما في صلاة الخوف الشديد، وصلاة الخوف اليسير.
فالسفر سبب قصر العدد، والخوف سبب قصر الأركان، فإذا اجتمع الأمران قصر العدد والأركان وإن انفرد أحد السببين: انفرد قصره فقوله سبحانه : { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ } 47، مطلق في هذا القصر، وهذا القصر، وسنة رسول الله ﷺ تفسر مجمل القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه. وهى مفسرة له لا مخالفة لظاهره.
ونظير هذا أيضًا ما قرئ به في قوله: { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } 48، من أن المسح مطلق يدخل فيه المسح بإسالة، وهو الغسل، والمسح بغير إسالة وهو المسح بلا غسل. فالقرآن أمر بمسح مطلق، والسنة تثبت أن المسح في الرأس بغير إسالة، والمسح على الرجلين بإسالة. فهي مفسرة له، لا مخالفة لظاهره، فينبغي تدبر القرآن، ومعرفة وجوهه، فإن أكثر ما يتوهم الناس أنه قد خولف ظاهره، وليس كذلك، وإنما له دلالات يعرفها من أعطاه الله فهمًا في كتابه، ويستفيد بذلك خمس فوائد.
أحدها: تقرير الأحكام بدلائل القرآن.
والثانى: بيان اتفاق الكتاب والسنة.
والثالث: بيان أن السنة مفسرة له، لا منافية له.
والرابع: بيان المعاني والبيان التي في القرآن.
والخامس: الإجماع موافق للكتاب والسنة. والله أعلم.
سئل عن قوله أفضل الأعمال عند الله الصلاة لوقتها
وسئل عن قوله ﷺ: (أفضل الأعمال عند الله الصلاة لوقتها) فهل هو الأول أو الثانى؟
فأجاب:
الوقت يعم أول الوقت وآخره، والله يقبلها في جميع الوقت، لكن أوله أفضل من آخره، إلا حيث استثناه الشارع كالظهر في شدة الحر، وكالعشاء إذا لم يشق على المأمومين، والله أعلم.
سئل هل يشترط الليل إلى مطلع الشمس
وسئل رحمه الله:
هل يشترط الليل إلى مطلع الشمس؟ وكم أقل ما بين وقت المغرب ودخول العشاء من منازل القمر؟
فأجاب:
أما وقت العشاء فهو مغيب الشفق الأحمر، لكن في البناء يحتاط حتى يغيب الأبيض، فإنه قد تستتر الحمرة بالجدران فإذا غاب البياض تيقن مغيب الأحمر. هذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد.
وأما أبو حنيفة: فالشفق عنده هو البياض، وأهل الحساب يقولون: إن وقتها منزلتان، لكن هذا لا ينضبط، فإن المنازل إنما تعرف بالكواكب، بعضها قريب من المنزلة الحقيقية، وبعضها بعيد من ذلك.
وأيضًا، فوقت العشاء في الطول والقصر يتبع النهار فيكون في الصيف أطول، كما أن وقت الفجر يتبع الليل، فيكون في الشتاء أطول.
ومن زعم أن حصة العشاء بقدر حصة الفجر في الشتاء، وفي الصيف. فقد غلط غلطًا حسيًا باتفاق الناس.
وسبب غلطه أن الأنوار تتبع الأبخرة، ففى الشتاء يكثر البخار بالليل، فيظهر النور فيه أولا، وفي الصيف تقل الأبخرة بالليل، وفي الصيف يتكدر الجو بالنهار بالأبخرة، ويصفو في الشتاء؛ لأن الشمس مزقت البخار، والمطر لبد الغبار.
وأيضًا، فإن النورين تابعان للشمس، هذا يتقدمها، وهذا يتأخر عنها، فيجب أن يكونا تابعين للشمس، فإذا كان في الشتاء طال زمن مغيبها، فيطول زمان الضوء التابع لها.
وأما جعل هذه الحصة بقدر هذه الحصة، وأن الفجر في الصيف أطول، والعشاء في الشتاء أطول، وجعل الفجر تابعًا للنهار يطول في الصيف، ويقصر في الشتاء وجعل الشفق تابعًا لليل يقصر في الصيف ويطول في الشتاء، فهذا قلب الحس والعقل والشرع. ولا يتأخر ظهور السواد عن مغيب الشمس. والله أعلم.
سئل هل التغليس أفضل أم الإسفار
وسئل:هل التغليس أفضل أم الإسفار؟
فأجاب:
الحمد لله، بل التغليس أفضل، إذا لم يكن ثم سبب يقتضى التأخير، فإن الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي ﷺ تبين أنه كان يغلس بصلاة الفجر، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان رسول الله ﷺ يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس. والنبي ﷺ لم يكن في مسجده قناديل، كما في الصحيحين عن أبى بَرْزَةَ الأسلمي: أن النبي ﷺ كان يقرأ في الفجر بما بين الستين آية إلى المائة، وينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه، وهذه القراءة هي نحو نصف جزء أو ثلث جزء، وكان فراغه من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه. وهكذا في الصحيح من غير هذا الوجه أنه كان يغلس بالفجر، وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكان بعده أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فنشأ في دولتهم فقهاء رأوا عادتهم فظنوا أن تأخير الفجر والعصر أفضل من تقديمها، وذلك غلط في السنة.
واحتجوا بما رواه الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال: (أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر)، وقد صححه الترمذي، وهذا الحديث لو كان معارضًا لم يقاومها؛ لأن تلك في الصحيحين، وهى مشهورة مستفيضة، والخبر الواحد إذا خالف المشهور المستفيض كان شاذًا، وقد يكون منسوخًا؛ لأن التغليس هو فِعْلُه حتى مات، وفِعْلُ الخلفاء الراشدين بعده.
وقد تأول الطحاوي من أصحاب أبي حنيفة وغيره كأبى حفص البَرْمَكي من أصحاب أحمد وغيرهما، قوله: (أسفروا بالفجر) على أن المراد: الإسفار بالخروج منها، أي أطيلوا صلاة الفجر حتى تخرجوا منها مسفرين.
وقيل: المراد بالإسفار التبين، أي: صلوها إذا تبين الفجر وانكشف ووضح؛ فإن في الصحيحين عن ابن مسعود قال: ما رأيت رسول الله ﷺ صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة، وصلاة المغرب بجمع، وصلاة الفجر إنما صلاها يومئذ بعد طلوع الفجر. هكذا في صحيح مسلم عن جابر قال: وصلى صلاة الفجر حين برق الفجر. وإنما مراد عبدالله بن مسعود أنه كان يؤخر الفجر عن أول طلوع الفجر حتى يتبين وينكشف ويظهر وذلك اليوم عجلها قبل.
وبهذا تتفق معاني أحاديث النبي ﷺ، وأما إذا أخرها لسبب يقتضي التأخير مثل المتيمم عادته إنما يؤخرها ليصلي آخر الوقت بوضوء، والمنفرد يؤخرها حتى يصلي آخر الوقت في جماعة، أو أن يقدر على الصلاة آخر الوقت قائمًا، وفى أول الوقت لا يقدر إلا قاعدًا، ونحو ذلك مما يكون فيه فضيلة تزيد على الصلاة في أول الوقت، فالتأخير لذلك أفضل. والله أعلم.
سئل عن قوله أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر
وسئل: عن قوله ﷺ: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)؟
فأجاب:
أما قوله ﷺ: (أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر)، فإنه حديث صحيح. لكن قد استفاض عن النبي ﷺ أنه كان يغلس بالفجر، حتى كانت تنصرف نساء المؤمنات متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس. فلهذا فسروا ذلك الحديث بوجهين:
أحدهما: أنه أراد الإسفار بالخروج منها: أي أطيلوا القراءة حتى تخرجوا منها مسفرين، فإن النبي ﷺ كان يقرأ فيها بالستين آية إلى مائة آية، نحو نصف حزب.
والوجه الثانى: أنه أراد أن يتبين الفجر ويظهر، فلا يصلي مع غلبة الظن، فإن النبي ﷺ كان يصلي بعد التبين، إلا يوم مزدلفة فإنه قدمها ذلك اليوم على عادته. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل من أهل القبلة ترك الصلاة مدة سنتين، ثم تاب بعد ذلك، وواظب على أدائها. فهل يجب عليه قضاء ما فاته منها أم لا؟
فأجاب:
أما من ترك الصلاة، أو فرضًا من فرائضها، فإما أن يكون قد ترك ذلك ناسيًا له بعد علمه بوجوبه، وإما أن يكون جاهلا بوجوبه، وإما أن يكون لعذر يعتقد معه جواز التأخير، وإما أن يتركه عالمًا عمدًا.
فأما الناسي للصلاة، فعليه أن يصليها إذا ذكرها بسنة رسول الله ﷺ المستفيضة عنه، باتفاق الأئمة. قال ﷺ: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها. لا كفارة لها إلا ذلك) وقد استفاض في الصحيح وغيره: أنه نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في السفر فصلوها بعد ما طلعت الشمس السنة والفريضة بأذان وإقامة .
وكذلك من نسي طهارة الحدث، وصلى ناسيًا: فعليه أن يعيد الصلاة بطهارة بلا نزاع، حتى لو كان الناسي إمامًا كان عليه أن يعيد الصلاة، ولا إعادة على المأمومين إذا لم يعلموا عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد في المنصوص المشهور عنه. كما جرى لعمر وعثمان رضي الله عنهما.
وأما من نسى طهارة الخبث، فإنه لا إعادة عليه في مذهب مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه؛ لأن هذا من باب فعل المنهى عنه، وتلك من باب ترك المأمور به، ومن فعل ما نهى عنه ناسيًا فلا إثم عليه بالكتاب والسنة. كما جاءت به السنة فيمن أكل في رمضان ناسيًا. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. وطرد ذلك فيمن تكلم في الصلاة ناسيًا، ومن تطيب ولبس ناسيًا، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وكذلك من فعل المحلوف عليه ناسيًا كما هو أحد القولين عن الشافعي وأحمد.
وهنا مسائل تنازع العلماء فيها: مثل من نسى الماء في رحله وصلى بالتيمم، وأمثال ذلك ليس هذا موضع تفصيلها.
وأما من ترك الصلاة جاهلا بوجوبها مثل من أسلم في دار الحرب، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال. وجهان في مذهب أحمد:
أحدها: عليه الإعادة مطلقًا. وهو قول الشافعي، وأحد الوجهين في مذهب أحمد.
والثانى: عليه الإعادة إذا تركها بدار الإسلام دون دار الحرب. وهو مذهب أبى حنيفة؛ لأن دار الحرب دار جهل، يعذر فيه، بخلاف دار الإسلام.
والثالث: لا إعادة عليه مطلقًا. وهو الوجه الثانى في مذهب أحمد، وغيره.
وأصل هذين الوجهين: أن حكم الشارع، هل يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له، فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد، وغيره:
أحدها: يثبت مطلقًا.
والثانى: لا يثبت مطلقًا.
والثالث: يثبت حكم الخطاب المبتدأ دون الخطاب الناسخ، كقضية أهل قباء، وكالنزاع المعروف في الوكيل إذا عزل. فهل يثبت حكم العزل في حقه قبل العلم.
وعلى هذا، لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص. مثل أن يأكل لحم الإبل ولا يتوضأ، ثم يبلغه النص، ويتبين له وجوب الوضوء، أو يصلي في أعطان الإبل ثم يبلغه، ويتبين له النص، فهل عليه إعادة ما مضى؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد.
ونظيره أن يمس ذكره ويصلي، ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر.
والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة؛ لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنه قال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } 49.فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين، لم يثبت حكم وجوبه عليه؛ ولهذا لم يأمر النبي ﷺ عمر وعمارًا لما أجنبا فلم يصل عمر، وصلى عمار بالتمرغ أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياما لا يصلي، وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ لهم بالقضاء.
ومن هذا الباب: المستحاضة إذا مكثت مدة لا تصلى لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففى وجوب القضاء عليها قولان:
أحدهما: لا إعادة عليها. كما نقل عن مالك وغيره؛ لأن المستحاضة التي قالت للنبى ﷺ: إنى حضت حيضة شديدة كبيرة منكرة منعتنى الصلاة والصيام، أمرها بما يجب في المستقبل، ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضى .
وقد ثبت عندى بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال بالبوادى وغير البوادى من يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة، بل إذا قيل للمرأة: صلى، تقول: حتى أكبر وأصير عجوزة، ظانة أنه لا يخاطب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة، كالعجوز ونحوها. وفى أتباع الشيوخ طوائف كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم، فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات، سواء قيل: كانوا كفارًا، أو كانوا معذورين بالجهل.
وكذلك من كان منافقًا زنديقًا يظهر الإسلام ويبطن خلافه، وهو لا يصلي، أو يصلي أحيانًا بلا وضوء، أو لا يعتقد وجوب الصلاة، فإنه إذا تاب من نفاقه وصلى، فإنه لا قضاء عليه عند جمهور العلماء. والمرتد الذي كان يعتقد وجوب الصلاة، ثم ارتد عن الإسلام، ثم عاد، لا يجب عليه قضاء ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه فإن المرتدين الذين ارتدوا على عهد النبي ﷺ كعبد الله بن سعد بن أبى سرح، وغيره مكثوا على الكفر مدة ثم أسلموا، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء ما تركوه. وكذلك المرتدون على عهد أبى بكر لم يؤمروا بقضاء صلاة، ولا غيرها.
وأما من كان عالمًا بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها الموقت، فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة، وذهب طائفة منهم ابن حزم وغيره إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء، وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمدًا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عمن عليه صلوات كثيرة فاتته هل يصليها بسننها
وسئل رحمه الله عن رجل عليه صلوات كثيرة فاتته، هل يصليها بسننها؟ أم الفريضة وحدها؟ وهل تقضى في سائر الأوقات من ليل أو نهار؟
فأجاب:
المسارعة إلى قضاء الفوائت الكثيرة أولى من الاشتغال عنها بالنوافل، وأما مع قلة الفوائت فقضاء السنن معها حسن. فإن النبي ﷺ لما نام هو وأصحابه عن الصلاة صلاة الفجر عام حنين، قضوا السنة والفريضة. ولما فاتته الصلاة يوم الخندق قضى الفرائض بلا سنن. والفوائت المفروضة تقضى في جميع الأوقات؛ فإن النبي ﷺ قال: (من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى). والله أعلم.
سئل أيما أفضل صلاة النافلة أم القضاء
وسئل:أيما أفضل صلاة النافلة؟ أم القضاء؟
فأجاب:
إذا كان عليه قضاء واجب، فالاشتغال به أولى من الاشتغال بالنوافل التي تشغل عنه.
سئل عمن صلى ركعتين من فرض الظهر فسلم ثم لم يذكرها إلا في فرض العصر
وسئل شيخ الإسلام: عن رجل صلى ركعتين من فرض الظهر فسلم، ثم لم يذكرها إلا وهو في فرض العصر في ركعتين منها في التحيات. فماذا يصنع؟
فأجاب:
إن كان مأموما، فإنه يتم العصر، ثم يقضى الظهر. وفى إعادة العصر قولان للعلماء، فإن هذه المسألة مبنية على أن صلاة الظهر بطلت بطول الفصل، والشروع في غيرها، فيكون بمنزلة من فاتته الظهر، ومن فاتته الظهر وحضرت جماعة العصر، فإنه يصلي العصر، ثم يصلي الظهر، ثم هل يعيد العصر؟ فيه قولان للصحابة والعلماء.
أحدهما: يعيدها، وهو مذهب أبى حنيفة، ومالك، والمشهور في مذهب أحمد.
والثاني: لا يعيد، وهو قول ابن عباس، ومذهب الشافعي، واختيار جدي. ومتى ذكر الفائتة في أثناء الصلاة كان كما لو ذكر قبل الشروع فيها، ولو لم يذكر الفائتة حتى فرغت الحاضرة، فإن الحاضرة تجزئة عند جمهور العلماء. كأبي حنيفة والشافعي وأحمد. وأما مالك، فغالب ظني أن مذهبه أنها لا تصح. والله أعلم.
سئل عمن فاتته صلاة العصر ثم وجد المغرب قد أقيمت فهل يصلي الفائتة قبل المغرب
وسئل رحمه الله: عن رجل فاتته صلاة العصر: فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت، فهل يصلي الفائتة قبل المغرب أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، بل يصلي المغرب مع الإمام، ثم يصلي العصر باتفاق الأئمة، ولكن هل يعيد المغرب؟ فيه قولان.
أحدهما: يعيد، وهو قول ابن عمر، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه.
والثاني: لا يعيد المغرب، وهو قول ابن عباس، وقول الشافعي، والقول الآخر في مذهب أحمد. والثاني أصح، فإن الله لم يوجب على العبد أن يصلي الصلاة مرتين، إذا اتقى الله ما استطاع. والله أعلم.
سئل عمن دخل الجامع والخطيب يخطب فذكر أن عليه قضاء صلاة
وسئل رحمه الله: عن رجل دخل الجامع والخطيب يخطب، وهو لا يسمع كلام الخطيب، فذكر أن عليه قضاء صلاة فقضاها في ذلك الوقت، فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا ذكر أن عليه فائتة وهو في الخطبة يسمع الخطيب أو لا يسمعه، فله أن يقضيها في ذلك الوقت، إذا أمكنه القضاء، وإدراك الجمعة، بل ذلك واجب عليه عند جمهور العلماء؛ لأن النهي عن الصلاة وقت الخطبة لا يتناول النهي عن الفريضة، والفائتة مفروضة في أصح قولي العلماء، بل لا يتناول تحية المسجد، فإن النبي ﷺ قال: (إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) .
وأيضًا، فإنَّ فِعْلَ الفائتة في وقت النهي ثابت في الصحيح؛ لقوله ﷺ: (من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر).
وقد تنازع العلماء فيما إذا ذكر الفائتة عند قيامه إلى الصلاة، هل يبدأ بالفائتة وإن فاتته الجمعة كما يقوله أبو حنيفة أو يصلي الجمعة ثم يصلي الفائتة كما يقول الشافعي وأحمد وغيرهما؟ ثم هل عليه إعادة الجمعة ظهرًا؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد.
وأصل هذا: أن الترتيب في قضاء الفوائت واجب في الصلوات القليلة، عند الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد، بل يجب عنده في إحدى الروايتين في القليلة والكثيرة. وبينهم نزاع في حد القليل، وكذلك يجب قضاء الفوائت على الفور عندهم، وكذلك عند الشافعي إذا تركها عمدًا في الصحيح عندهم بخلاف الناسي.
واحتج الجمهور بقول النبي ﷺ: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك). وفى لفظ: (فإن ذلك وقتها).
واختلف الموجبون للترتيب، هل يسقط بضيق الوقت؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد. لكن أشهرهما عنه أنه يسقط الترتيب، كقول أبي حنيفة وأصحابه. والأخرى لا يسقط، كقول مالك. وكذلك هل يسقط بالنسيان؟ فيه نزاع نحو هذا.
وإذا كانت المسارعة إلى قضاء الفائتة، وتقديمها على الحاضرة بهذه المزية، كأن فعل ذلك في مثل هذا الوقت هو الواجب، وأما الشافعي فإذا كان يجوز تحية المسجد في هذا الوقت، فالفائتة أولى بالجواز، والله أعلم.
فصل في اللباس في الصلاة
وقال شيخ الإِسلام رَحِمَهُ اللَّه:
فصل في اللباس في الصلاة، وهو أخذ الزينة عند كل مسجد، الذي يسميه الفقهاء: باب ستر العورة في الصلاة. فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن أعين الناظرين وهو العورة، وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله: { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } 50 ثم قال: { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } يعني الباطنة { إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الآية 51.
فقال: يجوز لها في الصلاة أن تبدي الزينة الظاهرة، دون الباطنة. والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين؛ فقال ابن مسعود ومن وافقه: هي الثياب. وقال ابن عباس ومن وافقه: هي في الوجه واليدين، مثل الكحل والخاتم. وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية. فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقول في مذهب أحمد. وقيل: لا يجوز، وهو ظاهر مذهب أحمد، فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك.
وحقيقة الأمر: أن اللّه جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يري الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل اللّه عز وجل آية الحجاب بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } 52، حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش، فأرخي الستر، ومنع النساء أن ينظرن، ولما اصطفي صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها.
فلما أمر اللّه ألا يُسْأَلْن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، والجلباب هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء، وتسميه العامة الإزار. وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها. وقد حكي أبو عبيد وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب: فكن النساء ينتقبن. وفي الصحيح: أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين، فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين.
وعلى هذا فقوله: { أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } 53، يدل على أن لها أن تبدي الزينة الباطنة لمملوكها. وفيه قولان: قيل المراد الإماء، والإماء الكتابيات، كما قاله ابن المسيب، ورجحه أحمد وغيره. وقيل: هو المملوك الرجل، كما قاله ابن عباس وغيره، وهو الرواية الأخري عن أحمد.
فهذا يقتضي جواز نظر العبد إلى مولاته، وقد جاءت بذلك أحاديث، وهذا لأجل الحاجة؛ لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها، أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد والمعامل والخاطب، فإذا جاز نظر أولئك، فنظر العبد أولي، وليس في هذا ما يوجب أن يكون محرما يسافر بها. كغير أولي الإربة؛ فإنهم يجوز لهم النظر، وليسوا محارم يسافرون بها، فليس كل من جاز له النظر جاز له السفر بها، ولا الخلوة بها، بل عبدها ينظر إليها للحاجة، وإن كان لا يخلو بها، ولا يسافر بها فإنه لم يدخل في قوله الله تعالى: (لا تسافر امرأة إلا مع زوج، أو ذي محرم). فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عتق، كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طلق أختها، والمحرم من تحرم عليه على التأبيد؛ ولهذا قال ابن عمر: سفر المرأة مع عبدها ضيعة.
فالآية رخصت في إبداء الزينة لذوي المحارم وغيرهم، وحديث السفر ليس فيه إلا ذوي المحارم، وذكر في الآية نساءهن، أو ما ملكت أيمانهن، وغير أولي الإربة، وهي لا تسافر معهم. وقوله: { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قال: احتراز عن النساء المشركات. فلا تكون المشركة قابلة للمسلمة، ولا تدخل معهن الحمام، لكن قد كن النسوة اليهوديات يدخلن على عائشة وغيرها، فيرين وجهها ويديها، بخلاف الرجال، فيكون هذا في الزينة الظاهرة في حق النساء الذميات، وليس للذميات أن يطلعن على الزينة الباطنة، ويكون الظهور والبطون بحسب ما يجوز لها إظهاره؛ ولهذا كان أقاربها تبدي لهن الباطنة، وللزوج خاصة ليست للأقارب.
وقوله: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } 54، دليل على أنها تغطي العنق، فيكون من الباطن لا الظاهر، ما فيه من القلادة وغيرها.
فصل في ستر العورة
فهذا ستر النساء عن الرجال، وستر الرجال عن الرجال، والنساء عن النساء في العورة الخاصة، كما قال ﷺ: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) وكما قال: (احفظ عورتك إلا عن زوجتك أو ما ملكت يمينك). قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: (إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يراها)، قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: (فاللّه أحق أن يستحيي منه). ونهى أن يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، والمرأة إلى المرأة في ثوب واحد، وقال عن الأولاد: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فنهى عن النظر واللمس لعورة النظير؛ لما في ذلك من القبح والفحش.
وأما الرجال مع النساء، فلأجل شهوة النكاح، فهذان نوعان، وفي الصلاة نوع ثالث. فإن المرأة لو صلت وحدها كانت مأمورة بالاختمار، وفي غير الصلاة يجوز لها كشف رأسها في بيتها، فأخذ الزينة في الصلاة لحق اللّه، فليس لأحد أن يطوف بالبيت عريانا، ولو كان وحده بالليل، ولا يصلي عريانا ولو كان وحده، فعلم أن أخذ الزينة في الصلاة لم يكن ليحتجب عن الناس، فهذا نوع، وهذا نوع.
وحينئذ، فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة، وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال:
فالأول: مثل المنكبين. فإن النبي ﷺ نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء. فهذا لحق الصلاة. ويجوز له كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة، وكذلك المرأة الحرة تختمر في الصلاة، كما قال النبي ﷺ: (لا يقبل اللّه صلاة حائض إلا بخمار) وهي لا تختمر عند زوجها، ولا عند ذوي محارمها، فقد جاز لها إبداء الزينة الباطنة لهؤلاء، ولا يجوز لها في الصلاة أن تكشف رأسها، لهؤلاء ولا لغيرهم.
وعكس ذلك: الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبيل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب. وأما ستر ذلك في الصلاة، فلا يجب باتفاق المسلمين بل يجوز لها إبداؤهما في الصلاة عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو إحدي الروايتين عن أحمد. فكذلك القدم يجوز إبداؤه عند أبي حنيفة، وهو الأقوي. فإن عائشة جعلته من الزينة الظاهرة. قالت: { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } 55، قالت: الفتخ حلق من فضة تكون في أصابع الرجلين. رواه ابن أبي حاتم. فهذا دليل على أن النساء كن يظهرن أقدامهن أولا، كما يظهرن الوجه واليدين، كن يرخين ذيولهن، فهي إذا مشت قد يظهر قدمها، ولم يكن يمشين في خفاف وأحذية، وتغطية هذا في الصلاة فيه حرج عظيم. وأم سلمة قالت: تصلي المرأة في ثوب سابغ، يغطي ظهر قدميها. فهي إذا سجدت قد يبدو باطن القدم.
وبالجملة، قد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خرجت. وحينئذ، فتصلي في بيتها، وإن رؤي وجهها ويداها وقدماها، كما كن يمشين أولا قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن، فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طردًا ولا عكسًا.
وابن مسعود رضي اللّه عنه لما قال: الزينة الظاهرة هي الثياب، لم يقل: إنها كلها عورة حتى ظفرها، بل هذا قول أحمد، يعني أنها تشترط في الصلاة، فإن الفقهاء يسمون ذلك: باب ستر العورة وليس هذا من ألفاظ الرسول، ولا في الكتاب والسنة أن ما يستره المصلي فهو عورة، بل قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } 56، ونهى النبي ﷺ أن يطوف بالبيت عريانا؛ فالصلاة أولي. وسئل عن الصلاة في الثوب الواحد. فقال: (أو لكلكم ثوبان؟). وقال في الثوب الواحد: (إن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به) . ونهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء.
فهذا دليل على أنه يؤمر في الصلاة بستر العورة: الفخذ وغيره، وإن جوزنا للرجل النظر إلى ذلك، فإذا قلنا على أحد القولين وهو إحدي الروايتين عن أحمد: أن العورة هي السوأتان، وأن الفخذ ليست بعورة، فهذا في جواز نظر الرجل إليها، ليس هو في الصلاة والطواف، فلا يجوز أن يصلي الرجل مكشوف الفخذين، سواء قيل هما عورة، أو لا. ولا يطوف عريانا. بل عليه أن يصلي في ثوب واحد، ولابد من ذلك، إن كان ضيقًا اتزر به، وإن كان واسعًا التحف به، كما أنه لو صلى وحده في بيت كان عليه تغطية ذلك باتفاق العلماء.
وأما صلاة الرجل بادي الفخذين، مع القدرة على الإزار، فهذا لا يجوز، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، ومن بني ذلك على الروايتين في العورة، كما فعله طائفة، فقد غلطوا، ولم يقل أحمد ولا غيره: إن المصلي يصلي على هذه الحال. كيف وأحمد يأمره بستر المنكبين فكيف يبيح له كشف الفخذ؟! فهذا هذا.
وقد اختلف في وجوب ستر العورة، إذا كان الرجل خاليًا، ولم يختلف في أنه في الصلاة لا بد من اللباس، لا تجوز الصلاة عريانا مع قدرته على اللباس، باتفاق العلماء؛ ولهذا جوز أحمد وغيره للعراة أن يصلوا قعودًا، ويكون إمامهم وسطهم، بخلاف خارج الصلاة، وهذه الحرمة لا لأجل النظر. وقد قال النبي ﷺ في حديث بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده لما قال: قلت يارسول اللّه، فإذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: (فاللّه أحق أن يستحيي منه من الناس). فإذا كان هذا خارج الصلاة، فهو في الصلاة أحق أن يستحيي منه فتؤخذ الزينة لمناجاته سبحانه.
ولهذا قال ابن عمر لغلامه نافع لما رآه يصلي حاسرًا: أرأيت لو خرجت إلى الناس كنت تخرج هكذا؟ قال: لا. قال: فاللّه أحق من يُتَجَمَّل له. وفي الحديث الصحيح لما قيل له ﷺ: الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنا. فقال: (إن اللّه جميل يحب الجمال).
وهذا كما أمر المصلي بالطهارة والنظافة والطيب، فقد أمر النبي ﷺ أن تتخذ المساجد في البيوت، وتنظف، وتطيب. وعلى هذا، فيستتر في الصلاة أبلغ مما يستتر الرجل من الرجل، والمرأة من المرأة. ولهذا أمرت المرأة أن تختمر في الصلاة، وأما وجهها ويداها وقدماها، فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب، لم تنه عن إبدائه للنساء، ولا لذوي المحارم.
فعلم أنه ليس من جنس عورة الرجل مع الرجل، والمرأة مع المرأة، التي نهى عنها؛ لأجل الفحش، وقبح كشف العورة؛ بل هذا من مقدمات الفاحشة، فكان النهى عن إبدائها نهيًا عن مقدمات الفاحشة كما قال في الآية: { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ } 57، وقال في آية الحجاب: { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } 58، فنهى عن هذا سدًا للذريعة لا أنه عورة مطلقة لا في الصلاة ولا غيرها، فهذا هذا.
وأمر المرأة في الصلاة بتغطية يديها بعيد جدًا، واليدان يسجدان كما يسجد الوجه، والنساء على عهد النبي ﷺ إنما كان لهن قمص، وكن يصنعن الصنائع، والقمص عليهن، فتبدي المرأة يديها إذا عجنت وطحنت، وخبزت، ولو كان ستر اليدين في الصلاة واجبًا لبينه النبي ﷺ. وكذلك القدمان. وإنما أمر بالخمار فقط مع القميص، فكن يصلين بقمصهن وخمرهن. وأما الثوب التي كانت المرأة ترخيه وسألت عن ذلك النبي ﷺ، فقال: (شبرًا) فقلن: إذن تبدو سوقهن، فقال: (ذراع لا يزدن عليه). وقول عمر بن أبي ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا ** وعلى الغانيات جر الذيول
فهذا كان إذا خرجن من البيوت؛ ولهذا سئل عن المرأة تجر ذيلها على المكان القذر، فقال: (يطهره ما بعده) . وأما في نفس البيت، فلم تكن تلبس ذلك. كما أن الخفاف اتخذها النساء بعد ذلك لستر السوق إذا خرجن، وهن لا يلبسنها في البيوت؛ ولهذا قلن: إذن تبدو سوقهن. فكان المقصود تغطية الساق؛ لأن الثوب إذا كان فوق الكعبين بدا الساق عند المشي.
وقد روي: (اعروا النساء يَلْزَمن الحِجَال) يعني: إذا لم يكن لها ما تلبسه في الخروج لزمت البيت، وكن نساء المسلمين يصلين في بيوتهن. وقد قال النبي ﷺ: (لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه، وبيوتهن خير لهن) ولم يؤمرن مع القمص إلا بالخمر، لم تؤمر بسراويل؛ لأن القميص يغني عنه. ولم تؤمر بما يغطي رجليها لا خف ولا جورب، ولا بما يغطي يديها لا بقفازين ولا غير ذلك. فدل على أنه لا يجب عليها في الصلاة ستر ذلك، إذا لم يكن عندها رجال أجانب. وقد روي: أن الملائكة لا تنظر إلى الزينة الباطنة فإذا وضعت خمارها وقميصها لم ينظر إليها وروي في ذلك حديث عن خديجة.
فهذا القدر للقميص، والخمار هو المأمور به لحق الصلاة، كما يؤمر الرجل إذا صلى في ثوب واسع أن يلتحف به، فيغطي عورته ومنكبيه، فالمنكبان في حقه كالرأس في حق المرأة، لأنه يصلي في قميص أو ما يقوم مقام القميص. وهو في الإحرام لا يلبس على بدنه ما يقدر له كالقميص والجبة، كما أن المرأة لا تنتقب ولا تلبس القفازين. وأما رأسه فلا يخمره، ووجه المرأة فيه قولان في مذهب أحمد، وغيره قيل: إنه كرأس الرجل، فلا يغطي. وقيل: إنه كيديه فلا تغطي بالنقاب والبرقع ونحو ذلك، مما صنع على قدره، وهذا هو الصحيح؛ فإن النبي ﷺ لم ينه إلا عن القفازين والنقاب.
وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال، من غير وضع ما يجافيها عن الوجه، فعلم أن وجهها كيدي الرجل، ويديها، وذلك أن المرأة كلها عورة كما تقدم، فلها أن تغطي وجهها ويديها، لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل ويلبس الإزار. واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عن الصلاة في النعل ونحوه
وَسُئِلَ عن الصلاة في النعل ونحوه؟
فأجاب:
أما الصلاة في النعل ونحوه، مثل الجمجم، والمداس والزربول، وغير ذلك: فلا يكره، بل هو مستحب؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يصلي في نعليه. وفي السنن عنه أنه قال: (إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم). فأمر بالصلاة في النعال مخالفة لليهود.
وإذا علمت طهارتها لم تكره الصلاة فيها باتفاق المسلمين، وأما إذا تيقن نجاستها، فلا يصلي فيها حتى تطهر.
لكن الصحيح أنه إذا دلك النعل بالأرض طهر بذلك، كما جاءت به السنة، سواء كانت النجاسة عذرة، أو غير عذرة. فإن أسفل النعل محل تكرر ملاقاة النجاسة له، فهو بمنزلة السبيلين، فلما كان إزالته عنها بالحجارة ثابتًا بالسنة المتواترة، فكذلك هذا.
وإذا شك في نجاسة أسفل الخف لم تكره الصلاة فيه، ولو تيقن بعد الصلاة أنه كان نجسًا فلا إعادة عليه في الصحيح، وكذلك غيره كالبدن والثياب والأرض.
سئل عن لبس القباء في الصلاة
وَسُئِلَ عن لبس القَبَاء في الصلاة، إذا أراد أن يدخل يديه في أكمامه، هل يكره أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، لا بأس بذلك، فإن الفقهاء ذكروا جواز ذلك، وليس هو مثل السدل المكروه؛ لما فيه من مشابهة اليهود، فإن هذه اللبسة ليست من ملابس اليهود. واللّه أعلم.
سئل عن الفراء من جلود الوحوش
وَسُئِلَ عن الفراء من جلود الوحوش، هل تجوز الصلاة فيها؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما جِلْدُ الأرنب فتجوز الصلاة فيه بلا ريب. وأما الثعلب ففيه نزاع، والأظهر جواز الصلاة فيه، وجِلْدُ الضبع وكذلك كل جِلْدٍ غير جلود السباع التي نهى النبي ﷺ عن لبسها .
سئل عن المرأة إذا ظهر شيء من شعرها في الصلاة
وَسُئِلَ عن المرأة إذا ظهر شيء من شعرها في الصلاة هل تبطل صلاتها أم لا؟
فأجاب:
إذا انكشف شيء يسير من شعرها وبدنها لم يكن عليها الإعادة، عند أكثر العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد.
وإن انكشف شيء كثير، أعادت الصلاة في الوقت، عند عامة العلماء الأئمة الأربعة، وغيرهم واللّه أعلم.
سئل عن المرأة إذا صلت وظاهر قدمها مكشوف
وَسُئِلَ عن المرأة إذا صلت وظاهر قدمها مكشوف هل تصح صلاتها؟
فأجاب:
هذا فيه نزاع بين العلماء، ومذهب أبي حنيفة صلاتها جائزة، وهو أحد القولين.
فصل في محبة الجمال
وَقَال رَحمَه اللّه:
فصل في محبة الجمال
ثبت في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال ذرة عن إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبر)، وفي رواية: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فقال رجل: يارسول اللّه، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، فقال: (إن اللّه جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس).
فقوله: (إن اللّه جميل يحب الجمال) قد أدرج فيه حسن الثياب التي هي المسؤول عنها، فعلم أن اللّه يحب الجميل من الناس، ويدخل في عمومه بطريق الفحوي الجميل من كل شيء. وهذا كقوله في الحديث الذي رواه الترمذي: (إن اللّه نظيف يحب النظافة).
وقد ثبت عنه في الصحيح (إن اللّه طيب لا يقبل إلا طيبًا) وهذا مما يستدل به على استحباب التجمل في الجمع، والأعياد، كما في الصحيحين: أن عمر بن الخطاب رأي حلة تباع في السوق فقال: يارسول اللّه، لو اشتريت هذه تلبسها؟ فقال: (إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة). وهذا يوافقه في حسن الثياب ما في السنن عن أبي الأحْوَص الجُشَمِي، قال: رآني النبي ﷺ وعلى أطمار، فقال: (هل لك من مال)؟ قلت: نعم، قال: (من أي المال)؟ قلت: من كل ما آتاني اللّه، من الإبل والشاء، قال: (فلتر نعمة اللّه عليك، وكرامته عليك).
وفيها عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول اللّه ﷺ: (إن اللّه يحب أن يري أثر نعمته على عبده) لكن هذا لظهور نعمة اللّه، وما في ذلك من شكره، وأنه يحب أن يشكر، وذلك لمحبة الجمال. وهذا الحديث قد ضل قوم بما تأولوه، رأوه معارضًا....
وكل مصنوع الرب جميل؛ لقول اللّه تعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } 59 فيحب كل شيء، وقد يستدلون بقول بعض المشائخ: المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوي مراد المحبوب، والمخلوقات كلها مرادة له. وهؤلاء يصرح أحدهم بإطلاق الجمال في كل شيء، وأقل ما يصيب هؤلاء أنهم يتركون الغيرة للّه، والنهى عن المنكر والبغض في اللّه، والجهاد في سبيله، وإقامة حدوده، وهم في ذلك متناقضون، إذ لا يتمكنون من الرضا بكل موجود. فإن المنكرات هي أمور مضرة لهم ولغيرهم، فيبقي أحدهم مع طبعه وذوقه وينسلخون عن دين اللّه، وربما دخل أحدهم في الاتحاد والحلول المطلق، وفيهم من يخص الحلول والاتحاد ببعض المخلوقات، كالمسيح، أو على أو غيرهما، أو المشائخ والملوك والمرْدَان.
فيقولون بحلوله في الصور الجميلة، ويعبدونها، ومنهم من لا يري ذلك، بل يتدين بحب الصور الجميلة من النساء الأجانب، والمردان، وغير ذلك، ويري هذا من الجمال الذي يحبه اللّه، فحيبه هو، ويلبس المحبة الطبيعية المحرمة بالمحبة الدينية، ويجعل ما حرمه اللّه مما يقرب إليه { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } 60.
والآخرون قالوا: قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: (إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وقد قال تعالى عن المنافقين: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } 61، وقال تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } 62، والأثاث: المال من اللباس ونحوه. والرئي: المنظر. فأخبر أن الذين أهلكهم قبلهم كانوا أحسن صورًا، وأحسن أثاثًا، وأموالا، ليبين أن ذلك لا ينفع عنده ولا يعبأ به. وقال النبي ﷺ: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوي). وفي السنن عنه أنه قال: (البذاذة من الإيمان).
وأيضًا، فقد حرم علينا من لباس الحرير والذهب، وآنية الذهب والفضة، ما هو من أعظم الجمال في الدنيا، وحرم اللّه الفخر والخيلاء، واللباس الذي فيه الفخر والخيلاء، كإطالة الثياب، حتى ثبت في الصحيح عنه أنه قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة). ومثل ذلك ما في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول اللّه ﷺ قال: (لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا). وفي الصحيح عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: (بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء، خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة).
وقال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ } 63، فأخبر أن لباس التقوي خير من ذلك. وقال تعالى: { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } 64، وقال تعالى في حق قارون: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } 65. قالوا: بثياب الأرجوان. ولهذا ثبت عن عبد اللّه بن عمرو قال: رأي رسول اللّه ﷺ على ثوبين معصفرين، فقال: (إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسهما). قلت: أغسلهما، قال: (أحرقهما).
ولهذا كره العلماء الأحمر المشبع حمرة، كما جاء النهى عن الميثَرَة الحمراء. وقال عمر بن الخطاب: دعوا هذه البراقات للنساء. والآثار في هذا ونحوه كثيرة. وقال تعالى: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } إلى قوله: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } 66، وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عن جرير بن عبد اللّه قال: سألت رسول اللّه ﷺ عن نظرة الفجأة، فقال: (اصرف بصرك) . وفي السنن أنه قال لعلي: (ياعلي، لا تُتْبِع النظرةَ النظرةَ، فإنما لك الأولي، وليست لك الآخرة).
وقد قال تعالى: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } 67، وقال: { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } 68، وقال: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء } إلى قوله: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } 69، وقد قال تعالى مع ذمه لما ذمه من هذه الزينة : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } 70.
فنقول: اعلم أن ما يصفه النبي ﷺ من محبته للأجناس المحبوبة، وما يبغضه من ذلك، هو مثل ما يأمر به من الأفعال، وينهى عنه من ذلك، فإن الحب والبغض هما أصل الأمر والنهي، وذلك نظير ما يعده على الأعمال الحسنة من الثواب، ويتوعد به على الأعمال السيئة من العقاب، فأمره ونهيه ووعده ووعيده وحبه وبغضه وثوابه وعقابه كل ذلك من....
وقد بسطنا الكلام على ما يتعلق بهذه القاعدة في غير موضع لتعلقها بأصول الدين وفروعه، فإن من أكبر شعبها مسألة الأسماء والأحكام في فساق أهل الملة. وهل يجتمع في حق الشخص الواحد الثواب والعقاب، كما يقوله أهل السنة والجماعة، أم لا يجتمع ذلك؟ كما يقوله جمهور الخوارج والمعتزلة. وهل يكون الشيء الواحد محبوبًا من وجه، مبغوضًا من وجه، محمودًا من وجه، مذمومًا من وجه؟ وقد تنازع في ذلك أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين، وغيرهم. والتعارض بين النصوص، إنما هو لتعارض المقتضي للحمد والذم من الصفات القائمة بذلك؛ ولهذا كان هذا الجنس موجبًا للفرقة والفتنة.
فأول مسألة فرقت بين الأمة مسألة الفاسق المِلِّي، فأدرجته الخوارج في نصوص الوعيد، فخلدوه في النار، لكن لم يحكموا بكفره، فلو كان شيء خيرًا محضًا لم يوجب فرقة، ولو كان شرًا محضًا لم يخف أمره، لكن لاجتماع الأمرين فيه أوجب الفتنة.
وكذلك مسألة القدر التي هي من جملة فروع هذا الأصل فإنه اجتمع في الأفعال الواقعة التي نهى اللّه عنها: أنها مرادة له لكونها من الموجودات، وأنها غير محبوبة له بل ممقوتة مبغوضة. فأثبتوا وجود الكائنات بدون مشيئته؛ ولهذا لما قال غَيْلان القدري لربيعة بن أبي عبد الرحمن: ياربيعة، نشدتك اللّه، أتري اللّه يحب أن يعصي؟ فقال له ربيعة: أفتري اللّه يعصي قسرًا؟ فكأنه ألقمه حجرًا. يقول له: نزهته عن محبة المعاصي، فسلبته الإرادة والقدرة، وجعلته مقهورًا مقسورًا.
وقال من عارض القدرية: بل كل ما أراده فقد أحبه ورضيه، ولزمهم أن يكون الكفر والفسوق والعصيان محبوبًا للّه مرضيًا.
وقالوا أيضًا: يأمر بما لا يريد، وكل ما أمر به من الحسنات فإنه لم يرده، وربما قالوا: ولم يحبه ولم يرضه، إلا إذا وجد. قالوا: ولكن أمر به وطلبه.
فقيل لهم: هل يكون طلب وإرادة واستدعاء بلا إرادة ولا محبة ولا رضي؟ هذا جمع بين النقيضين، فتحيروا. فأولئك سلبوا الرب خلقه وقدرته وإرادته العامة، وهؤلاء سلبوه محبته ورضاه وإرادته الدينية وما تضمنه أمره ونهيه من ذلك. فكما أن الأولين لم يثبتوا أن الشخص الواحد يكون مثابًا معاقبًا، بل إما مثابًا وإما معاقبًا، فهؤلاء لم يثبتوا أن الفعل الواحد يكون مرادًا من وجه دون وجه، مرادًا غير محبوب، بل إما مراد محبوب، وإما غير مراد ولا محبوب.
وكما تفرقوا في صفات الخالق، تفرقوا في صفات المخلوق، فأولئك لم يثبتوا له إلا قدرة واحدة تكون قبل الفعل، وهؤلاء لم يثبتوا له إلا قدرة واحدة تكون مع الفعل. أولئك نفوا القدرة الكونية التي بها يكون الفعل، وهؤلاء نفوا القدرة الدينية التي بها يأمر اللّه العبد وينهاه، وهذا من أصول تفرقهم في مسألة تكليف ما لا يطاق
وانقسموا إلى قدرية مجوسية، تثبت الأمر والنهي، وتنفي القضاء والقدر. وإلي قدرية مشركية شر منهم تثبت القضاء والقدر، وتكذب بالأمر والنهي، أو ببعض ذلك. وإلي قدرية إبليسية تصدق بالأمر، لكن تري ذلك تناقضًا مخالفًا للحق والحكمة، وهذا شأن عامة ما تتعارض فيه الأسباب والدلائل.
تجد فريقًا يقولون بهذا دون هذا، وفريقًا بالعكس، أو الأمرين، فاعتقدوا تناقضهما، فصاروا متحيرين، معرضين عن التصديق بهما جميعًا، ومتناقضين مع هذا تارة، ومع هذا تارة. وهذا تجده في مسائل الكلام والاعتقادات، ومسائل الإرادة والعبادات؛ كمسألة السماع الصوتي، ومسألة الكلام، ومسائل الصفات، وكلام اللّه تعالى وغير ذلك من المسائل.
وأصل هذا كله هو العدل بالتسوية بين المتماثلين. فإن اللّه يقول: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } 71. وقد بسطنا القول في ذلك، وبينا أن العدل جماع الدين والحق والخير كله في غير موضع. والعدل الحقيقي قد يكون متعذرًا أو متعسرًا، إما علمه، وإما العمل به؛ لكون التماثل من كل وجه غير متمكن، أو غير معلوم، فيكون الواجب في مثل ذلك ما كان أشبه بالعدل، وأقرب إليه، وهي الطريقة المثلي؛ ولهذا قال سبحانه : { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } 72.
سئل عن المتنزه عن الأقمشة الثمينة
وَسُئلَ عن المتنزه عن الأقمشة الثمينة مثل الحرير والكتان المتغالي في تحسينه وما ناسبها: هل في ترك ذلك أجر أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أما ما حرمه اللّه ورسوله كالحرير، فإنه يثاب على تركه، كما يعاقب على فعله. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (من يلبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة). وقال عن الحرير والذهب: (هذا حرام على ذكور أمتي حل لإناثها) .
وأما المباحات: فيثاب على ترك فضولها، وهو ما لا يحتاج إليه لمصلحة دينه، كما أن الإسراف في المباحات منهى عنه، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } 73، وقال تعالى عن أصحاب النار: { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } 74، وقال تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا } 75، وقال تعالى: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } 76.
والإسراف في المباحات هو مجاوزة الحد، وهو من العدوان المحرم، وترك فضولها هو من الزهد المباح. وأما الامتناع من فعل المباحات مطلقًا كالذي يمتنع من أكل اللحم، وأكل الخبز، أو شرب الماء، أو لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب، فهذا جاهل ضال من جنس زهاد النصاري. قال اللّه تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } 77، نزلت هذه الآية بسبب أن جماعة من الصحابة كانوا قد عزموا على ترك أكل الطيبات، كاللحم ونحوه، وترك النكاح.
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ قال: (ما بال رجال يقول أحدهم: أمَّا أنا فأصوم ولا أفطر، ويقول الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، ويقول الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم. لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وفي صحيح البخاري أن النبي ﷺ رأي رجلا قائمًا في الشمس. فقال: (ماهذا؟) قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي ﷺ: (مروه أن يستظل، وأن يتكلم، وأن يجلس، ويتم صومه). وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } 78
فأمر بالأكل من الطيبات، والشكر له، والطيب هو ما ينفع الإنسان. وحرم الخبائث، وهو ما يضره، وأمر بشكره، وهو العمل بطاعته بفعل المأمور، وترك المحذور. وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (إن اللّه ليرضي على العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها). وقال تعالى: { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } 79، فمن أكل من الطيبات ولم يشكر، ولم يعمل صالحًا، كان معاقبًا على ما تركه من الواجبات، ولم تحل له الطيبات.
فإنه إنما أحلها لمن يستعين بها على طاعته، لا لمن يستعين بها على معصيته، كما قال تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } 80، وقال الخليل: { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } 81.
ولهذا لا يجوز أن يعان الإنسان بالمباحات على المعاصي، مثل من يعطي الخبز واللحم لمن يشرب عليه الخمر، ويستعين به على الفواحش.
ومن حرم الطيبات التي أحلها اللّه من الطعام واللباس والنكاح وغير ذلك، واعتقد أن ترك ذلك مطلقًا هو أفضل من فعله لمن يستعين به على طاعة اللّه، كان معتديا معاقبا على تحريمه ما أحل اللّه ورسوله، وعلى تعبده للّه تعالى بالرهبانية، ورغبته عن سنة رسول اللّه ﷺ، وعلى ما فرط فيه من الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.
وكذلك من أسرف في بعض العبادات: كسرد الصوم، ومداومة قيام الليل، حتى يضعفه ذلك عن بعض الواجبات، كان مستحقا للعقاب كما قال النبي ﷺ لعبد اللّه بن عمرو: (إن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه).
فأصل الدين، فعل الواجبات، وترك المحرمات. فما تقرب العبد إلى اللّه بأفضل من أداء ما افترض عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلى اللّه بالنوافل حتى يحبه. فالنوافل المستحبة التي لا تمنع الواجبات: مما يرفع اللّه بها الدرجات، وترك فضول المباحات، وهو ما لا يحتاج إليها لفعل واجب ولا مستحب مع الإيثار بها مما يثيب اللّه فاعله عليه، ومن تركها لمجرد البخل، لا للتقرب إلى اللّه لم يكن محمودًا.
ومن امتنع عن نوع من الأنواع التي أباحها اللّه على وجه التقرب بتركها، فهو مخطئ ضال، ومن تناول ما أباحه اللّه من الطعام واللباس مظهرًا لنعمة اللّه، مستعينا على طاعة اللّه، كان مثابا على ذلك، وقوله تعالى: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } 82 أي: عن شكر النعيم، فيطالب العبد بأداء شكر نعمة اللّه على النعيم، فإن اللّه سبحانه لا يعاقب على ما أباح، وإنما يعاقب على ترك مأمور، وفعل محذور.
وهذه القواعد الجامعة تبين المسائل المذكورة وغيرها.
وأما الحرير: فهو حرام على الرجال، إلا في مواضع مستثناة، فمن لبس ما حرم اللّه ورسوله فهو آثم.
وأما الكتان والقطن ونحوهما فمن تركه مع الحاجة فهو جاهل ضال، ومن أسرف فيه فهو مذموم. ومن تجمل بلبسه إظهارًا لنعمة اللّه عليه، فهو مشكور على ذلك، فإن النبي ﷺ قال: (إن اللّه إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يري أثر نعمه عليه)، وقال: (إن اللّه جميل يحب الجمال). ومن ترك لبس الرفيع من الثياب تواضعا للّه لا بخلا، ولا التزاما للترك مطلقا فإن اللّه يثيبه على ذلك، ويكسوه من حلل الكرامة.
وتكره الشهرة من الثياب، وهو المترفع الخارج عن العادة. والمتخفض الخارج عن العادة؛ فإن السلف كانوا يكرهون الشهرتين، المترفع والمتخفض، وفي الحديث: (من لبس ثوب شهرة ألبسه اللّه ثوب مذلة). وخيار الأمور أوساطها.
والفعل الواحد في الظاهر يثاب الإنسان على فعله مع النية الصالحة ويعاقب على فعله مع النية الفاسدة، فمن حج ماشيا لقوته على المشي، وآثر بالنفقة كان مأجورًا أجرين: أجر المشي، وأجر الإيثار. ومن حج ماشيا؛ بخلا بالمال، إضرارًا بنفسه، كان آثما إثمين: إثم البخل، وإثم الإضرار. ومن حج راكبا؛ لضعفه عن المشي، وللاستعانة بذلك على راحته، ليتقوي بذلك على العبادة، كان مأجورًا أجرين. ومن حج راكبا يظلم الجمال، والحمال، كان آثما إثمين.
وكذلك اللباس: فمن ترك جميل الثياب؛ بخلا بالمال، لم يكن له أجر. ومن تركه متعبدًا بتحريم المباحات، كان آثما. ومن لبس جميل الثياب إظهارًا لنعمة اللّه، واستعانة على طاعة اللّه، كان مأجورًا. ومن لبسه فخرًا وخيلاء، كان آثما. فإن اللّه لا يحب كل مختال فخور.
ولهذا حرم إطالة الثوب بهذه النية، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ قال: (من جر إزاره خيلاء لم ينظر اللّه يوم القيامة إليه)، فقال أبو بكر: يارسول اللّه، إن طرف إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال: (يا أبا بكر، إنك لست ممن يفعله خيلا). وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (بينما رجل يجر إزاره خيلاء، إذ خسف اللّه به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).
فهذه المسائل ونحوها، تتنوع بتنوع علمهم واعتقادهم. والعبد مأمور أن يقول في كل صلاة: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } 83. واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عن الحرير المحض
وَسُئِلَ عن الحرير المحض: هل يجوز للخياط خياطته للرجال؟ وهل أجرته حرام؟ وهل ينكر عليه لذلك؟ وهل تباح الخياطة بخيوط الحرير في غير الحرير؟ وهل تجوز خياطته للنساء؟
فأجاب:
الحمد للّه، لا يجوز خياطة الحرير لمن يلبس لباسًا محرمًا مثل لبس الرجل للحرير المصمت في غير حال الحرب، ولغير التداوي، فإن هذا من الإعانة على الإثم والعدوان. وكذلك صنعة آنية الذهب والفضة، على أصح القولين عند جماهير العلماء. وكذلك صنعة آلات الملاهي، ومثل تصوير الحيوان، وتصوير الأوثان، والصلبان، وأمثال ذلك مما يكون فيه تصوير الشيء على صورة يحرم استعماله فيها.
وكذلك صنعة الخمر، وأما أمكنة المعاصي والكفر ونحو ذلك، والعوض المأخوذ على هذا العمل المحرم خبيث، ويجب إنكار ذلك. وأما خياطته لمن يلبسه لبسًا جائزًا، فهو مباح: كخياطته للنساء، وإن كان الرجل يمسه عند الخياطة، فإن هذا ليس من المحرم، ومثل ذلك صناعة الذهب والفضة لمن يستعمله استعمالا مباحا.
ويجوز استعمال خيوط الحرير في لباس الرجال، وكذلك يباح العلم والسجاف، ونحو ذلك مما جاءت به السنة بالرخصة فيه، وهو ما كان موضع إصبعين، أو ثلاثة، أو أربعة، وقد كان للنبي ﷺ جُبَّة مكفوفة بحرير.
سئل عن خياط خاط للنصارى سير حرير فيه صليب ذهب
وسئل رَحمه اللّه تعالى عن خياط خاط للنصارى سير حرير فيه صليب ذهب. فهل عليه إثم في خياطته؟ وهل تكون أجرته حلالا أم لا؟
فأجاب:
نعم، إذا أعان الرجل على معصية اللّه كان آثمًا؛ لأنه أعان على الإثم والعدوان؛ ولهذا لعن النبي ﷺ الخمر وعاصرها، ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومشتريها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها .
وأكثر هؤلاء كالعاصر والحامل والساقي إنما هم يعاونون على شربها؛ ولهذا ينهى عن بيع السلاح لمن يقاتل به قتالا محرما: كقتال المسلمين، والقتال في الفتنة، فإذا كان هذا في الإعانة على المعاصي، فكيف بالإعانة على الكفر، وشعائر الكفر.
والصليب لا يجوز عمله بأجرة، ولا غير أجرة، ولا بيعه صليبًا، كما لا يجوز بيع الأصنام، ولا عملها، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (إن اللّه حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام).وثبت عنه أنه لعن المصورين . وأنه كان لا يري في البيت صورة إلا قَضَبه . فصانع الصليب ملعون لعنه اللّه ورسوله.
ومن أخذ عوضًا عن عين محرمة، أو نفع استوفاه، مثل أجرة حمال الخمر، وأجرة صانع الصليب، وأجرة البغي، ونحو ذلك فليتصدق بها، وليتب من ذلك العمل المحرم، وتكون صدقته بالعوض كفارة لما فعله، فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه عوض خبيث، ولا يعاد إلى صاحبه؛ لأنه قد استوفي العوض، ويتصدق به. كما نص على ذلك من نص من العلماء. كما نص عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر، ونص عليه أصحاب مالك، وغيرهم.
سئل عمن يتجر في الأقباع
وَسُئِلَ عمن يتجر في الأقباع: هل يجوز له بيع القُبْع المرعزي وشراؤه؟ والاكتساء منه؟ وما يجري مجراه من الحرير الصامت؟ أو يحرم عليه لكون القُبْع لبس الرجال دون النساء؟ وهل يجوز بيعه للجند والصبيان إذا كانوا دون البلوغ؟ أو لليهود والنصاري، أم لا؟ إلى غير ذلك من المسائل.
فأجاب:
أما أقباع الحرير، فيحرم لبسها على الرجال؛ ولأنها حرير، ولبس الحرير حرام على الرجال، بسنة رسول اللّه ﷺ وإجماع العلماء . وإن كان مبطنا بقطن أو كتان.
وأما على النساء؛ فلأن الأقباع من لباس الرجال، وقد لعن النبي ﷺ المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء .
وأما لباس الحرير للصبيان الذين لم يبلغوا: ففيه قولان مشهوران للعلماء، لكن أظهرهما أنه لا يجوز، فإن ما حرم على الرجل فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير، فإنه يأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، ويضربه عليها إذا بلغ عشرًا، فكيف يحل له أن يلبسه المحرمات.
وقد رأي عمر بن الخطاب على صبي للزبير ثوبًا من حرير فمزقه، وقال: لا تلبسوهم الحرير. وكذلك ابن مسعود مزق ثوب حرير كان على ابنه. وما حرم لبسه لم تحل صنعته ولا بيعه لمن يلبسه من أهل التحريم.
ولا فرق في ذلك بين الجند وغيرهم، فلا يحل للرجل أن يكتسب بأن يخيط الحرير لمن يحرم عليه لبسه، فإن ذلك إعانة على الإثم والعدوان، وهو مثل الإعانة على الفواحش ونحوها. وكذلك لا يباع الحرير لرجل يلبسه من أهل التحريم، وأما بيع الحرير للنساء فيجوز. وكذلك إذا بيع لكافر، فإن عمر بن الخطاب أرسل بحرير أعطاه إياه النبي ﷺ إلى رجل مشرك.
سئل عن طرح القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه
وَسُئِلَ: هل طرح القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه في أكمامه مكروه؟
فأجاب:
لا بأس بذلك، باتفاق الفقهاء، وقد ذكروا جواز ذلك، وليس هذا من السدل المكروه؛ لأن هذه اللبسة ليست لبسة اليهود.
سئل عن طول السراويل إذا تعدى عن الكعب
وَسُئِلَ عن طول السراويل إذا تعدي عن الكعب، هل يجوز؟
فأجاب:
طول القميص والسراويل وسائر اللباس، إذا تعدي ليس له أن يجعل ذلك أسفل من الكعبين، كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ، وقال: (الإسبال في السراويل والإزار والقميص). يعني نهى عن الإسبال.
سئل عن لبس الكوفية للنساء
وَسئل رَحمه اللّه عن لبس الكوفية للنساء: ما حكمها إذا كانت بالدائر والفرق؟ وفي لبسهن الفراجي؟ وما الضابط في التشبه بالرجال في الملبوس؟ هل هو بالنسبة إلى ما كان على عهد رسول اللّه ﷺ، أو كل زمان بحسبه؟
فأجاب:
الحمد للّه، الكوفية التي بالفرق والدائر من غير أن تستر الشعر المسدول، هي من لباس الصبيان، والمرأة اللابسة لذلك متشبهة بهم. وهذا النوع قد يكون أول من فعله من النساء قصدت التشبه بالمردان، كما يقصد بعض البغايا أن تضفر شعرها ضفيرًا واحدًا مسدولا بين الكتفين، وأن ترخي لها السوالف، وأن تعتم، لتشبه المردان في العمامة، والعذار والشعر. ثم قد تفعل الحرة بعض ذلك، لا تقصد هذا، لكن هي في ذلك متشبهة بالرجال.
وقد استفاضت السنن عن النبي ﷺ في الصحاح وغيرها، بلعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء، وفي رواية: أنه لعن المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وأمر بنفي المخنثين. وقد نص على نفيهم الشافعي وأحمد، وغيرهما. وقالوا: جاءت سنة رسول اللّه ﷺ بالنفي في حد الزنا، وبنفي المخنثين.
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: (صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها. ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد اللّه).
وفي السنن أنه مر بباب أم سلمة وهي تعتصب فقال: (يا أم سلمة! لَيَّةً لا ليَّتيْن). وقد فسر قوله: (كاسيات عاريات) بأن تكتسي ما لا يسترها، فهي كاسية، وهي في الحقيقة عارية، مثل من تكتسي الثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها، مثل عجيزتها وساعدها، ونحو ذلك. وإنما كسوة المرأة ما يسترها، فلا يبدي جسمها، ولا حجم أعضائها لكونه كثيفًا واسعًا.
ومن هنا، يظهر الضابط في نهيه ﷺ عن تشبه الرجال بالنساء، وعن تشبه النساء بالرجال، وأن الأصل في ذلك ليس هو راجعًا إلى مجرد ما يختاره الرجال والنساء ويشتهونه، ويعتادونه، فإنه لو كان كذلك، لكان إذا اصطلح قوم على أن يلبس الرجال الخمر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان، وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة، ونحو ذلك أن يكون هذا سائغًا. وهذا خلاف النص والإجماع. فإن اللّه تعالى قال للنساء: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الآية 84، وقال: { قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } الآية 85، وقال: { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } 86.
فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم، لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب ولا أن يضربن بالخمر على الجيوب، ولم يحرم عليهن التبرج تبرج الجاهلية الأولي؛ لأن ذلك كان عادة لأولئك، وليس الضابط في ذلك لباسًا معينًا من جهة نص النبي ﷺ، أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده، بحيث يقال: إن ذلك هو الواجب، وغيره يحرم.
فإن النساء على عهده كن يلبسن ثيابا طويلات الذيل، بحيث ينجر خلف المرأة إذا خرجت، والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين؛ ولهذا لما نهي النبي ﷺ الرجال عن إسبال الإزار، وقيل له: فالنساء؟ قال: (يرخين شبرًا)، قيل له: إذن تنكشف سوقهن، قال: (ذراعا لا يزدن عليه). قال الترمذي: حديث صحيح.
حتي إنه لأجل ذلك روي أنه رخص للمرأة إذا جرت ذيلها على مكان قذر ثم مرت به على مكان طيب، أنه يطهر بذلك، وذلك قول طائفة من أهل العلم في مذهب أحمد وغيره، جعل المجرور بمنزلة النعل الذي يكثر ملاقاته النجاسة، فيطهر بالجامد، كما يطهر السبيلان بالجامد لما تكرر ملاقاتهما النجاسة.
ثم إن هذا ليس معينًا للستر، فلو لبست المرأة سراويل، أو خفًا واسعًا صلبًا كالموق، وتدلي فوقه الجلباب بحيث لا يظهر حجم القدم، لكان هذا محصلا للمقصود، بخلاف الخف اللين الذي يبدي حجم القدم؛ فإن هذا من لباس الرجال. وكذلك المرأة لو لبست جبة وفروة لحاجتها إلى ذلك إلى دفع البرد، لم تنه عن ذلك.
فلو قال قائل: لم يكن النساء يلبسن الفراء، قلنا: فإن ذلك يتعلق بالحاجة، فالبلاد الباردة يحتاج فيها إلى غلظ الكسوة، وكونها مدفئة، وإن لم يحتج إلى ذلك في البلاد الحارة، فالفارق بين لباس الرجال والنساء، يعود إلى ما يصلح للرجال، وما يصلح للنساء. وهو ما يناسب ما يؤمر به الرجال، وما تؤمر به النساء. فالنساء مأمورات بالاستتار والاحتجاب، دون التبرج والظهور؛ ولهذا لم يشرع لها رفع الصوت في الأذان ولا التلبية، ولا الصعود إلى الصفا والمروة، ولا التجرد في الإحرام، كما يتجرد الرجل.
فإن الرجل مأمور أن يكشف رأسه، وألا يلبس الثياب المعتادة وهي التي تصنع على قدر أعضائه فلا يلبس القميص، ولا السراويل ولا البرنس، ولا الخف، لكن لما كان محتاجًا إلى ما يستر العورة، ويمشي فيه، رخص له في آخر الأمر إذا لم يجد إزارًا أن يلبس سراويل، وإذا لم يجد نعلين أن يلبس خفين. وجعل ذلك بدلا للحاجة العامة، بخلاف ما يحتاج إليه حاجة خاصة لمرض أو برد، فإن عليه الفدية إذا لبسه؛ ولهذا طرد أبو حنيفة هذا القياس، وخالفه الأكثرون؛ للحديث الصحيح، ولأجل الفرق بين هذا وهذا.
وأما المرأة، فإنها لم تنه عن شيء من اللباس؛ لأنها مأمورة بالاستتار والاحتجاب، فلا يشرع لها ضد ذلك، لكن منعت أن تنتقب، وأن تلبس القفازين؛ لأن ذلك لباس مصنوع على قدر العضو، ولا حاجة بها إليه.
وقد تنازع الفقهاء هل وجهها كرأس الرجل، أو كيديه، على قولين في مذهب أحمد وغيره. فمن جعل وجهها كرأسه، أمرها إذا سدلت الثوب من فوق رأسها أن تجافيه عن الوجه. كما يجافي عن الرأس ما يظلل به.
ومن جعله كاليدين وهو الصحيح قال: هي لم تنه عن ستر الوجه، وإنما نهيت عن الانتقاب. كما نهيت عن القفازين، وذلك كما نهي الرجل عن القميص، والسراويل، ونحو ذلك. ففي معناه البرقع وما صنع لستر الوجه. فأما تغطية الوجه بما يسدل من فوق الرأس، فهو مثل تغطيته عند النوم بالملحفة، ونحوها. ومثل تغطية اليدين بالكمين، وهي لم تنه عن ذلك.
فلو أراد الرجال أن ينتقبوا ويتبرقعوا ويدعوا النساء باديات الوجوه، لمنعوا من ذلك.
وكذلك المرأة أمرت أن تجتمع في الصلاة، ولا تجافي بين أعضائها، وأمرت أن تغطي رأسها، فلا يقبل اللّه صلاة حائض إلا بخمار، ولو كانت في جوف بيت لا يراها أحد من الأجانب، فدل ذلك على أنها مأمورة من جهة الشرع بستر لا يؤمر به الرجل حقًا للّه عليها، وإن لم يرها بشر. وقد قال تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } 87، وقال النبي ﷺ: (لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه، وبيوتهن خير لهن). وقال: (صلاة إحداكن في مخدعها، أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي). وهذا كله لما في ذلك من الاستتار والاحتجاب.
ومعلوم أن المساكن من جنس الملابس، كلاهما جعل في الأصل للوقاية، ودفع الضرر. كما جعل الأكل والشرب لجلب المنفعة، فاللباس يتقي الإنسان به الحر والبرد، ويتقي به سلاح العدو، وكذلك المساكن يتقي بها الحر والبرد، ويتقي بها العدو. وقال تعالى: { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } 88، فذكر في هذا الموضع ما يحتاجون إليه لدفع ما قد يؤذيهم.
وذكر في أول السورة ما يضطرون إليه لدفع ما يضرهم، فقال: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } 89، فذكر ما يستدفئون به، ويدفعون به البرد؛ لأن البرد يهلكهم، والحر يؤذيهم؛ ولهذا قال بعض العرب: البرد بؤس، والحر أذي؛ ولهذا السبب لم يذكر في الآية الأخري وقاية البرد، فإن ذلك تقدم في أول السورة، وهو ذكر في أثناء السورة ما أتم به النعمة، وذكر في أول السورة أصول النعم ؛ولهذا قال: { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } .
والمقصود هنا أن مقصود الثياب تشبه مقصود المساكن، والنساء مأمورات في هذا بما يسترهن ويحجبهن. فإذا اختلف لباس الرجال والنساء مما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب، كان للنساء، وكان ضده للرجال.
وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان:
أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء.
والثاني: احتجاب النساء. فلو كان مقصوده مجرد الفرق، لحصل ذلك بأي وجه حصل به الاختلاف. وقد تقدم فساد ذلك، بل أبلغ من ذلك أن المقصود باللباس إظهار الفرق بين المسلم والذمي، ليترتب على كل منهما من الأحكام الظاهرة ما يناسبه.
ومعلوم أن هذا يحصل بأي لباس، اصطلحت الطائفتان على التميز به. ومع هذا، فقد روعي في ذلك ما هو أخص من الفرق، فإن لباس الأبيض لما كان أفضل من غيره كما قال ﷺ: (عليكم بالبياض فليلبسه أحياؤكم. وكفنوا فيه موتاكم) لم يكن من السنة أن يجعل لباس أهل الذمة الأبيض، ولباس أهل الإسلام المصبوغ كالعسلي والأدكن، ونحو ذلك، بل الأمر بالعكس.
وكذلك في الشعور وغيرها: فكيف الأمر في لباس الرجال والنساء وليس المقصود به مجرد الفرق، بل لابد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار؟!
وكذلك أيضًا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن، دون الفرق بينهن وبين الرجال، بل الفرق أيضًا مقصود، حتى لو قدر أن الصنفين اشتركوا فيما يستر ويحجب، بحيث يشتبه لباس الصنفين لنهوا عن ذلك.
واللّه تعالى قد بين هذا المقصود أيضًا بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } 90، فجعل كونهن يعرفن باللباس الفارق أمر مقصود.
ولهذا جاءت صيغة النهي بلفظ التشبه، بقوله ﷺ: (لعن اللّه المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء). وقال: (لعن اللّه المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء). فعلق الحكم باسم التشبه. ويكون كل صنف يتصف بصفة الآخر.
وقد بسطنا هذه القاعدة في اقتضاء الصراط المستقيم، لمخالفة أصحاب الجحيم وبينا أن المشابهة في الأمور الظاهرة تورث تناسبًا وتشابهًا في الأخلاق، والأعمال، ولهذا نهينا عن مشابهة الكفار، ومشابهة الأعاجم، ومشابهة الأعراب، ونهي كل من الرجال والنساء عن مشابهة الصنف الآخر، كما في الحديث المرفوع: (من تشبه بقوم فهو منهم)، (وليس منا من تشبه بغيرنا). والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه، حتى يفضي الأمر به إلى التخنث المحض، والتمكين من نفسه كأنه امرأة.
ولما كان الغناء مقدمة ذلك، وكان من عمل النساء، كانوا يسمون الرجال المغنين مخانيث. والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم، حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشاركة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجل، وتطلب أن تعلو على الرجال، كما تعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفر المشروع للنساء وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة.
وإذا تبين أنه لابد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يتميز به الرجال عن النساء، وأن يكون لباس النساء فيه من الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك ظهر أصل هذا الباب وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال، نهيت عنه المرأة، وإذا كان ساترًا كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء، والنهي عن مثل هذا بتغير العادات. وأما ما كان الفرق عائدًا إلى نفس الستر، فهذا يؤمر به النساء بما كان أستر، ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك، فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر، والمشابهة، نهي عنه من الوجهين. واللّه أعلم.
سئل عن لبس النساء هذه العمائم التي على رؤوسهن
وَسُئِلَ عن لبس النساء هذه العمائم التي على رؤوسهن. هل هي حرام أو مكروه؟ وما العمائم التي تستحب للنساء؟ وهل يجوز لهن لبس الخف؟
فأجاب:
الحمد للّه وحده، هذه العمائم التي تلبسها النساء حرام، بلا ريب، ففي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها. ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد اللّه).
وأيضا، فقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: (لعن اللّه المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء). وفي لفظ: (لعن اللّه المتخنثين من الرجال والمترجلات من النساء). وفي سنن أبي داود أنه ﷺ رأي أم سلمة تعتصب فقال: (يا أم سلمة، لَيَّةً، لا لَيتين).
وما كان من لباس الرجال مثل العمامة والخف والقباء الذي للرجال، والثياب التي تبدي مقاطع خلقها، والثوب الرقيق الذي لا يستر البشرة، وغير ذلك، فإن المرأة تنهي عنه، وعلي وليها كأبيها وزوجها أن ينهاها عن ذلك. واللّه أعلم.
سئل هل يجوز للنساء لبس العصائب الكبار التي يتشبهن بلبسها بالرجال
وَسُئِلَ: هل يجوز للنساء لبس العصائب الكبار التي يتشبهن بلبسها بالرجال أم لا؟ وهل ورد في تحريم ذلك نص خاص، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما لبس النساء العصائب الكبار، فهو حرام. فقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (صنفان من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن كأمثال أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها. ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد اللّه). وفي السنن أن النبي ﷺ قال لأم سلمة وهي تعتصب: (يا أم سلمة، لية لا ليتين). وفي الصحيح أنه قال: (لعن اللّه المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء).
والنصوص عامة وخاصة بتحريم ذلك، وقد أخبر النبي ﷺ بأن هؤلاء من أهل النار. وأخبر بهم قبل أن يكونوا. واللّه أعلم.
سئل عما إذا صلى في موضع نجس
وَسُئِل: عما إذا صلى في موضع نجس؟
فأجاب:
إذا صلى وبعض بدنه في موضع نجس، لم يمكنه الصلاة إلا فيه، فهو معذور، وتصح صلاته.
وأما إن أمكنه الصلاة في موضع طاهر، فليس له أن يصلي في الموضع النجس.
سئل هل تكره الصلاة في أي موضع من الأرض
وَسُئِلَ: هل تكره الصلاة في أي موضع من الأرض؟
فأجاب:
نعم، ينهى عن الصلاة في مواطن، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سئل عن الصلاة في أعطان الإبل، فقال: (لا تصلوا فيها). وسئل عن الصلاة في مبارك الغنم فقال: (صلوا فيها). وفي السنن أنه قال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: (لعن اللّه اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا.
وفي الصحيح عنه أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). وفي السنن: أنه نهي عن الصلاة بأرض الخسف. وفي سنن ابن ماجه وغيره: أنه نهي عن الصلاة في سبع مواطن: المقبرة، والمجزرة، والمزبلة، وقارعة الطريق، والحمام، وظهر البيت الحرام. وهذه المواضع غير ظهر بيت اللّه الحرام قد يعللها بعض الفقهاء بأنه مظنة النجاسة. وبعضهم يجعل النهي تعبدًا.
والصحيح أن عللها مختلفة. تارة تكون العلة مشابهة أهل الشرك كالصلاة عند القبور، وتارة لكونها مأوي للشياطين كأعطان الإبل، وتارة لغير ذلك. واللّه أعلم.
سئل عن الحمام إذا اضطر المسلم للصلاة فيها
وَسُئِلَ عن الحمام إذا اضطر المسلم للصلاة فيها، وخاف فوات الوقت هل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
إذا لم يمكنه أن يغتسل ويخرج ويصلي حتى يخرج الوقت، فإنه يغتسل، ويصلي بالحمام، فإن الصلاة في الأماكن المنهي عنها في الوقت أولي من الصلاة بعد الوقت في غيرها؛ ولهذا لو حبس في الحش صلى فيه، وفي الإعادة نزاع. والصحيح أنه لا إعادة عليه؛ ولهذا يصلي في الوقت عريانا، إذا لم يمكنه إلا كذلك. وأما إن أمكنه الاغتسال والخروج للصلاة خارج الحمام في الوقت، لم يجز له الصلاة في الحمام، وكذلك لو أمكنه الاغتسال في بيته، فإنه لا يصلي في الحمام إلا لحاجة. واللّه أعلم.
سئل عن الصلاة في الحمام
وَسئل رَحمه اللّه عن الصلاة في الحمام؟
فأجاب:
في سنن أبي داود وغيره عن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه قال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). وقد صححه الحفاظ. وأما إن ضاق الوقت، فهل يصلي في الحمام أو يفوت الصلاة حتى يخرج فيصلي خارجها؟ على قولين في مذهب أحمد، وغيره. فلا يصلح أن يصلي في الحمام.
وينبغي لمن أصابته جنابة، إن احتاج إلى الحمام أن يغتسل في أول الوقت، ويخرج يصلي، ثم إن أحب أن يتم اغتساله بالسدر ونحوه، عاد إلى الحمام، وجمهور العلماء على أن الصلاة فيها منهي عنها؛ إما نهي تحريم، أو لا تصح كالمشهور من مذهب أحمد، وغيره. وإما نهي تنزيه كمذهب الشافعي، وغيره.
سئل هل له أن يصلي في الحمام إذا خاف خروج الوقت
وَسُئِلَ: هل له أن يصلي في الحمام. إذا خاف خروج الوقت أم لا؟
فأجاب:
أما إذا ذهب إلى الحمام ليغتسل ويخرج ويصلي خارج الحمام في الوقت، فلم يمكنه إلا أن يصلي في الحمام، أو تفوت الصلاة، فالصلاة في الحمام خير من تفويت الصلاة، فإن الصلاة في الحمام كالصلاة في الحش، والمواضع النجسة، ونحو ذلك.
ومن كان في موضع نجس، ولم يمكنه أن يخرج منه حتى يفوت الوقت، فإنه يصلي فيه، ولا يفوت الوقت؛ لأن مراعاة الوقت مقدمة على مراعاة جميع الواجبات. وأما إن كان يعلم أنه إذا ذهب إلى الحمام لم يمكنه الخروج حتى يخرج الوقت، فقد تقدمت هذه المسألة، والأظهر أنه يصلي بالتيمم، فإن الصلاة بالتيمم خير من الصلاة في الأماكن التي نهي عنها، وعن الصلاة بعد خروج الوقت.
سئل هل له أن يصلي في الحمام إذا خاف خروج الوقت
وَسئل رَحمه اللّه: هل الصلاة في البِيَع والكنائس جائزة مع وجود الصور أم لا؟ وهل يقال: إنها بيوت اللّه أم لا؟
فأجاب:
ليست بيوت اللّه، وإنما بيوت اللّه المساجد، بل هي بيوت يكفر فيها باللّه، وإن كان قد يذكر فيها، فالبيوت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار.
وأما الصلاة فيها، ففيها ثلاثة أقوال للعلماء في مذهب أحمد وغيره: المنع مطلقًا، وهو قول مالك. والإذن مطلقًا وهو قول بعض أصحاب أحمد. والثالث: وهو الصحيح المأثور عن عمر بن الخطاب وغيره، وهو منصوص عن أحمد وغيره أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها، لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة؛ ولأن النبي ﷺ لم يدخل الكعبة حتى مُحِي ما فيها من الصور، وكذلك قال عمر: إنا كنا لا ندخل كنائسهم والصور فيها.
وهي بمنزلة المسجد المبني على القبر، ففي الصحيحين أنه ذكر للنبي ﷺ كنيسة بأرض الحبشة. وما فيها من الحسن والتصاوير، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة). وأما إذا لم يكن فيها صور فقد صلى الصحابة في الكنيسة. واللّه أعلم.
سئل عمن يبسط سجادة في الجامع ويصلي عليها
وَسئل: عمن يبسط سجادة في الجامع، ويصلي عليها: هل ما فعله بدعة أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أما الصلاة على السجادة بحيث يتحري المصلي ذلك، فلم تكن هذه سنة السلف من المهاجرين والأنصار، ومَنْ بعدهم من التابعين لهم بإحسان على عهد رسول اللّه ﷺ، بل كانوا يصلون في مسجده على الأرض، لا يتخذ أحدهم سجادة يختص بالصلاة عليها. وقد روي أن عبد الرحمن بن مهدي لما قدم المدينة بسط سجادة فأمر مالك بحبسه، فقيل له: إنه عبد الرحمن بن مهدي فقال: أما علمت أن بسط السجادة في مسجدنا بدعة.
وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري في حديث اعتكاف النبي ﷺ قال: اعتكفنا مع رسول اللّه ﷺ. . فذكر الحديث، وفيه قال: (من اعتكف فليرجع إلى معتكفه فإني رأيت هذه الليلة ورأيتني أسجد في ماء وطين). وفي آخره: فلقد رأيت يعني صبيحة إحدي وعشرين على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين. فهذا بين أن سجوده كان على الطين. وكان مسجده مسقوفا بجريد النخل ينزل منه المطر، فكان مسجده من جنس الأرض.
وربما وضعوا فيه الحصي كما في سنن أبي داود عن عبد اللّه بن الحارث قال: سألت ابن عمر رضي اللّه عنهما عن الحصي الذي كان في المسجد، فقال: مطرنا ذات ليلة، فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصي في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضي رسول اللّه ﷺ. قال: (ما أحسن هذا؟).
وفي سنن أبي داود أيضًا عن أبي بدر شجاع بن الوليد عن شريك عن أبي حُصَين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال أبو بدر: أراه قد رفعه إلى النبي ﷺ قال: (إن الحصاة تناشد الذي يخرجها من المسجد)، ولهذا في السنن والمسند عن أبي ذر قال: قال رسول اللّه ﷺ: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصي فإن الرحمة تواجهه). وفي لفظ في مسند أحمد قال: سألت النبي ﷺ عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصي، فقال: (واحدة أو دع). وفي المسند أيضًا عن جابر قال: قال رسول اللّه ﷺ: (لأن يمسك أحدكم يده عن الحصي خير له من مائة ناقة كلها سود الحدق، فإن غلب أحدكم الشيطان فليمسح واحدة). وهذا كما في الصحيحين عن مُعَيْقِيب أن النبي ﷺ قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال: (إن كنت فاعلا، فواحدة).
فهذا بَيَّن أنهم كانوا يسجدون على التراب والحصي، فكان أحدهم يسوي بيده موضع سجوده، فكره لهم النبيﷺ ذلك العبث، ورخص في المرة الواحدة للحاجة، وإن تركها كان أحسن.
وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: كنا نصلي مع رسول اللّه ﷺ في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه، فسجد عليه. أخرجه أصحاب الصحاح كالبخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم. وفي هذا الحديث بيان أن أحدهم إنما كان يتقي شدة الحر بأن يبسط ثوبه المتصل، كإزاره وردائه وقميصه، فيسجد عليه.
وهذا بَيَّن أنهم لم يكونوا يصلون على سجادات، بل ولا على حائل؛ ولهذا كان النبي ﷺ وأصحابه. يصلون تارة في نعالهم، وتارة حفاة، كما في سنن أبي داود والمسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ: أنه صلى فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف. قال: (لم خلعتم؟). قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. قال: (فإن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا أتي أحدكم المسجد فليقلب نعليه، فإن رأي خبثا، فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما).
ففي هذا بيان أن صلاتهم في نعالهم، وأن ذلك كان يفعل في المسجد إذ لم يكن يوطأ بهما على مفارش، وأنه إذا رأي بنعليه أذي، فإنه يمسحهما بالأرض، ويصلي فيهما، ولا يحتاج إلى غسلهما، ولا إلى نزعهما وقت الصلاة، ووضع قدميه عليهما، كما يفعله كثير من الناس.
وبهذا كله جاءت السنة، ففي الصحيحين والمسند عن أبي سلمة سعيد بن يزيد قال: سألت أنسا: أكان النبي ﷺ يصلي في نعليه؟ قال: نعم.
وفي سنن أبي داود عن شداد بن أوس قال: قال رسول اللّه ﷺ: (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم). فقد أمرنا بمخالفة ذلك، إذ هم ينزعون الخفاف والنعال عند الصلاة، ويأتمون فيما يذكر عنهم بموسي عليه السلام حيث قيل له وقت المناجاة: { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } 91. فنهينا عن التشبه بهم، وأمرنا أن نصلي في خفافنا ونعالنا، وإن كان بهما أذي، مسحناهما بالأرض؛ لما تقدم.
ولما روي أبو داود أيضًا عن أبي هريرة، أن رسول اللّه ﷺ قال: (إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذي، فإن التراب لهما طهور). وفي لفظ قال: (إذا وطئ الأذي بخفيه، فطهورهما التراب). وعن عائشة رضي اللّه عنها عن رسول اللّه ﷺ بمعناه، وقد قيل: حديث عائشة حديث حسن.
وأما حديث أبي هريرة، فلفظه الثاني من رواية محمد بن عَجْلان، وقد خرج له البخاري في الشواهد، ومسلم في المتابعات، ووثقه غير واحد. واللفظ الأول لم يسم راويه، لكن تعدده مع عدم التهمة، وعدم الشذوذ يقتضي أنه حسن أيضًا وهذا أصح قولي العلماء، ومع دلالة السنة عليه هو مقتضي الاعتبار. فإن هذا محل تتكرر ملاقاته للنجاسة، فأجزأ الإزالة عنه بالجامد كالمخرجين، فإنه يجزئ فيهما الاستجمار بالأحجار كما تواترت به السنة مع القدرة على الماء، وقد أجمع المسلمون على جواز الاستجمار.
يبين ذلك أن النبي ﷺ وأصحابه كانوا يصلون تارة في نعالهم، وتارة حفاة، كما في السنن لأبي داود وابن ماجه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول اللّه ﷺ حافيًا، ومنتعلا. والحجة في الانتعال ظاهرة.
وأما في الاحتفاء، ففي سنن أبي داود والنسائي عن عبد اللّه بن السائب قال: رأيت رسول اللّه ﷺ يصلي يوم الفتح، ووضع نعليه عن يساره. وكذلك في سنن أبي داود حديث أبي سعيد المتقدم قال: بينما رسول اللّه ﷺ يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه، ووضعهما عن يساره. وتمام الحديث يدل على أنه كان في المسجد كما تقدم. وكذلك حديث ابن السائب، فإن أصله قد رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عبد اللّه بن السائب قال: صلى بنا رسول اللّه ﷺ الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسي وهارون، أو ذكر موسي وعيسي، أخذت رسول اللّه سعلة فركع وعبد اللّه بن السائب حاضر لذلك، فهذا كان في المسجد الحرام، وقد وضع نعليه في المسجد مع العلم بأن الناس يصلون ويطوفون بذلك الموضع، فلو كان الاحتراز من نجاسة أسفل النعل مستحبًا، لكان النبي ﷺ أحق الناس بفعل المستحب الذي فيه صيانة المسجد.
وأيضًا، ففي سنن أبي داود عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة عن رسول اللّه ﷺ قال: (إذا صلى أحدكم فخلع نعليه، فلا يؤذ بهما أحدًا، وليجعلهما بين رجليه، أو ليصل فيهما)، وفيه أيضًا عن يوسف بن ماهك، عن أبي هريرة أن رسول اللّه ﷺ قال: (إذا صلى أحدكم، فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره، تكون عن يمين غيره إلا ألا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه). وهذا الحديث قد قيل: في إسناده لين، لكنه هو والحديث الأول قد اتفقا على أن يجعلهما بين رجليه. ولو كان الاحتراز من ظن نجاستهما مشروعا، لم يكن كذلك.
وأيضًا، ففي الأول: الصلاة فيهما. وفي الثاني: وضعهما عن يساره إذا لم يكن هناك مصل. وما ذكر من كراهة وضعهما عن يمينه أو عن يمين غيره، لم يكن للاحتراز من النجاسة، لكن من جهة الأدب. كما كره البصاق عن يمينه.
وفي صحيح مسلم عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللّه ﷺ شدة حر الرمضاء في جباهنا. وأكفنا فلم يشكنا. وقد ظن طائفة أن هذه الزيادة في مسلم، وليس كذلك. وسبب هذه الشكوي أنهم كانوا يسجدون على الأرض فتسخن جباههم وأكفهم، وطلبوا منه أن يؤخر الصلاة زيادة على ما كان يؤخرها، ويبرد بها فلم يفعل، وقد ظن بعض الفقهاء أنهم طلبوا منه أن يسجدوا على ما يقيهم من الحر من عمامة ونحوها فلم يفعل. وجعلوا ذلك حجة في وجوب مباشرة المصلي بالجبهة. وهذه حجة ضعيفة لوجهين:
أحدهما: أنه تقدم حديث أنس المتفق على صحته: (وأنهم كانوا إذا لم يستطع أحدهم أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه وسجد عليه) والسجود على ما يتصل بالإنسان من كمه وذيله وطرف إزاره وردائه، فيه النزاع المشهور. وقال هشام عن الحسن البصري: كان أصحاب رسول اللّه ﷺ يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على عمامته، رواه البيهقي. وقد استشهد بذلك البخاري في باب السجود على الثوب من شدة الحر، فقال: وقال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة، ويداه في كمه. وروي حديث أنس المتقدم قال: كنا نصلي مع النبي ﷺ فيضع أحدنا الثوب من شدة الحر في مكان السجود.
وأما ما يروي عن عبادة بن الصامت أنه كان إذا قام إلى الصلاة حسر العمامة عن جبهته. وعن نافع: أن ابن عمر كان إذا سجد وعليه العمامة يرفعها حتى يضع جبهته بالأرض رواه البيهقي. وروي أيضًا عن على رضي اللّه عنه قال: إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن جبهته، فلا ريب أن هذا هو السنة عند الاختيار. وقد تقدم حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين: وأنه رأي أثر الماء والطين على أنف النبي ﷺ وأرنبته.
وفي لفظ قال: فصلي بنا رسول اللّه ﷺ حتى رأيت أثر الماء والطين على جبهة رسول اللّه ﷺ وأرنبته تصديق رؤياه. وقد رواه البخاري بهذا اللفظ. وقال الحميدي: يحتج بهذا الحديث ألا تمسح الجبهة في الصلاة، بل تمسح بعد الصلاة؛ لأن النبي ﷺ رؤي الماء في أرنبته وجبهته بعد ما صلي.
قلت: كره العلماء كأحمد وغيره مسح الجبهة في الصلاة من التراب. ونحوه الذي يعلق بها في السجود، وتنازعوا في مسحه بعد الصلاة على قولين، هما روايتان عن أحمد. كالقولين اللذين هما روايتان عن أحمد في مسح ماء الوضوء بالمنديل، وفي إزالة خلوف فم الصائم بعد الزوال بالسواك، ونحو ذلك مما هو من أثر العبادة. وعن أبي حُمَيْد السَّاعِدي: أن النبي ﷺ كان إذا سجد مكن جبهته بالأرض، ويجافي يديه عن جنبيه، ووضع يديه حذو منكبيه رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن وائل بن حَجَر قال: رأيت رسول اللّه ﷺ يسجد على الأرض واضعًا جبهته وأنفه في سجوده، رواه أحمد.
فالأحاديث والآثار تدل على أنهم في حال الاختيار كانوا يباشرون الأرض بالجباه، وعند الحاجة كالحر ونحوه يتقون بما يتصل بهم من طرف ثوب وعمامة وقلنسوة؛ ولهذا كان أعدل الأقوال في هذه المسألة أنه يرخص في ذلك عند الحاجة، ويكره السجود على العمامة ونحوها عند عدم الحاجة، وفي المسألة نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه.
الوجه الثاني: أنه لو كان مطلوبهم منه السجود على الحائل، لأذن لهم في اتخاذ ما يسجدون عليه منفصلا عنهم، فقد ثبت عنه أنه كان يصلي على الخمرة، فقالت ميمونة: كان رسول اللّه يصلي على الخُمرَة أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم، وأهل السنن الثلاثة: أبو داود والنسائي وابن ماجه، ورواه أحمد في المسند، ورواه الترمذي من حديث ابن عباس. ولفظ أبي داود: كان يصلي وأنا حذاءه، وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد، وكان يصلي على الخُمْرة. وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة والمسند عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه ﷺ: (ناوليني الخمرة من المسجد)، فقلت: يارسول اللّه، إني حائض، فقال: (إن حيضتك ليست في يدك).
وعن ميمونة قالت: كان رسول اللّه ﷺ يتكئ على إحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض. رواه أحمد، والنسائي ولفظه: (فتبسطها وهي حائض). فهذا صلاته على الخمرة وهي نسج ينسج من خوص، كان يسجد عليه.
وأيضًا، في الصحيحين عن أنس بن مالك: أن جدته مليكة دعت رسول اللّه ﷺ لطعام صنعته فأكل منه ثم قال: (قوموا فلأصل لكم)، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام رسول اللّه ﷺ، فصففت أنا واليتيم من ورائه، والعجوز من ورائنا، فصلي لنا رسول اللّه ﷺ ركعتين، ثم انصرف.
وفي البخاري وسنن أبي داود عن أنس بن مالك قال: قال رجل من الأنصار: يارسول اللّه، إني رجل ضخم وكان ضخما لا أستطيع أن أصلي معك، وصنع له طعامًا ودعاه إلى بيته، وقال: صل حتى أراك كيف تصلي فأقتدي بك، فنضحوا له طرف حصير لهم، فقام فصلي ركعتين، قيل لأنس: أكان يصلي الضحى؟ فقال: لم أره صلى إلا يومئذ. وفي سنن أبي داود عن أنس بن مالك: أن رسول اللّه ﷺ كان يزور أم سليم، فتدركه الصلاة أحيانًا، فيصلي على بساط لها، وهو حصير تنضحه بالماء. ولمسلم عن أبي سعيد الخدري: أنه دخل على رسول اللّه ﷺ قال: فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه. وفي الصحيحين عن أبي سلمة عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول اللّه ﷺ ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
وعن عروة عن عائشة: أن رسول اللّه ﷺ كان يصلي وهي معترضة فيما بينه وبين القبلة، على فراش أهله، اعتراض الجنازة. وفي لفظ عن عراك عن عروة أن النبي ﷺ كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه. وهذه الألفاظ كلها للبخاري، استدلوا بها في باب الصلاة على الفرش، وذكر اللفظ الأخير مرسلا؛ لأنه في معني التفسير للمسند أن عروة إنما سمع من عائشة، وهو أعلم بما سمع منها.
ولا نزاع بين أهل العلم في جواز الصلاة والسجود على المفارش إذا كانت من جنس الأرض، كالخُمْرَة والحصير ونحوه، وإنما تنازعوا في كراهة ذلك على ما ليس من جنس الأرض، كالأنطاع المبسوطة من جلود الأنعام، وكالبسط والزرابي المصبوغة من الصوف، وأكثر أهل العلم يرخصون في ذلك أيضًا وهو مذهب أهل الحديث كالشافعي وأحمد، ومذهب أهل الكوفة كأبي حنيفة وغيرهم. وقد استدلوا على جواز ذلك أيضًا بحديث عائشة، فإن الفراش لم يكن من جنس الأرض، وإنما كان من أدم أو صوف.
وعن المغيرة بن شعبة قال: كان النبي ﷺ يصلي على الحصير، وعلي الفروة المدبوغة. رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي عون محمد بن عبد اللّه بن سعيد الثقفي عن أبيه عن المغيرة. قال أبو حاتم الرازي: عبد اللّه بن سعيد مجهول. وعن ابن عباس: أن النبي ﷺ صلى على بساط. رواه أحمد وابن ماجه. وفي تاريخ البخاري عن أبي الدرداء قال: ما أبالي لو صليت على خمر.
وإذا ثبت جواز الصلاة على ما يفرش بالسنة والإجماع علم أن النبي ﷺ لم يمنعهم أن يتخذوا شيئًا يسجدون عليه يتقون به الحر، ولكن طلبوا منه تأخير الصلاة زيادة على ما كان يؤخرها فلم يجبهم، وكان منهم من يتقي الحر إما بشيء منفصل عنه، وإما بما يتصل به من طرف ثوبه.
فإن قيل: ففي حديث الخُمْرَة حجة لمن يتخذ السجادة، كما قد احتج بذلك بعضهم.
قيل: الجواب عن ذلك من وجوه:
أحدها: أن النبي ﷺ لم يكن يصلي على الخُمْرَة دائمًا، بل أحيانًا، كأنه كان إذا اشتد الحر يتقي بها الحر، ونحو ذلك. بدليل ما قد تقدم من حديث أبي سعيد أنه رأي أثر الماء والطين في جبهته وأنفه، فلم يكن في هذا حجة لمن يتخذ السجادة يصلي عليها دائمًا.
والثاني: قد ذكروا أنها كانت لموضع سجوده، لم تكن بمنزلة السجادة التي تسع جميع بدنه، كأنه كان يتقي بها الحر، هكذا قال أهل الغريب. قالوا: الخمرة كالحصير الصغير، تعمل من سعف النخل، وتنسج بالسيور والخيوط، وهي قدر ما يوضع عليه الوجه والأنف، فإذا كبرت عن ذلك، فهي حصير؛ سميت بذلك لسترها الوجه والكعبين من حر الأرض وبردها. وقيل: لأنها تخمر وجه المصلي، أي: تستره. وقيل: لأن خيوطها مستورة بسعفها. وقد قال بعضهم في حديث ابن عباس: جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة بين يدي رسول اللّه ﷺ على الخمرة التي كان قاعدًا عليها فاحترقت منها مثل موضع درهم. قال: وهذا ظاهر في إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها. لكن هذا الحديث لا تعلم صحته، والقعود عليها لا يدل على أنها طويلة بقدر ما يصلي عليها، فلا يعارض ذلك ما ذكروه.
الثالث: أن الخمرة لم تكن لأجل اتقاء النجاسة، أو الاحتراز منها كما يعلل بذلك من يصلي على السجادة، ويقول: إنه انما يفعل ذلك للاحتراز من نجاسة المسجد، أو نجاسة حصر المسجد وفرشه؛ لكثرة دوس العامة عليه، فإنه قد ثبت أنه كان يصلي في نعليه، وأنه صلى بأصحابه في نعليه، وهم في نعالهم، وأنه أمر بالصلاة في النعال لمخالفة اليهود، وأنه أمر إذا كان بها أذي أن تدلك بالتراب، ويصلي بها. ومعلوم أن النعال تصيب الأرض، وقد صرح في الحديث بأنه يصلي فيها بعد ذلك الدلك، وإن أصابها أذي.
فمن تكون هذه شريعته وسنته، كيف يستحب أن يجعل بينه وبين الأرض حائلا لأجل النجاسة؟ فإن المراتب أربع:
أما الغلاة من الموسوسين، فإنهم لا يصلون على الأرض، ولا على ما يفرش للعامة على الأرض، لكن على سجادة ونحوها. وهؤلاء كيف يصلون في نعالهم، وذلك أبعد من الصلاة على الأرض؟ فإن النعال قد لاقت الطريق التي مشوا فيها، واحتمل أن تلقي النجاسة، بل قد يقوي ذلك في بعض المواضع، فإذا كانوا لا يصلون على الأرض مباشرين لها بأقدامهم، مع أن ذلك الموقف الأصل فيه الطهارة، ولا يلاقونه إلا وقت الصلاة، فكيف بالنعال التي تكررت ملاقاتها للطرقات، التي تمشي فيها البهائم والآدميون، وهي مظنة النجاسة؟ ولهذا هؤلاء إذا صلوا على جنازة وضعوا أقدامهم على ظاهر النعال؛ لئلا يكونوا حاملين للنجاسة، ولا مباشرين لها. ومنهم من يتورع عن ذلك، فإن في الصلاة على ما في أسفله نجاسة خلافا معروفا، فيفرش لأحدهم مفروش على الأرض. وهذه المرتبة أبعد المراتب عن السنة.
الثانية: أن يصلي على الحصير ونحوها دون الأرض وما يلاقيها.
الثالثة: أن يصلي على الأرض، ولا يصلي في النعل الذي تكرر ملاقاتها للطرقات، فإن طهارة ما يتحري الأرض قد يكون طاهرًا، واحتمال تنجيسه بعيد، بخلاف أسفل النعل.
الرابعة: أن يصلي في النعلين، وإذا وجد فيهما أذي دلكهما بالتراب كما أمر بذلك النبي ﷺ، فهذه المرتبة هي التي جاءت بها السنة. فعلم أن من كانت سنته هي هذه المرتبة الرابعة، امتنع أن يستحب أن يجعل بينه وبين الأرض حائلًا من سجادة وغيرها؛ لأجل الاحتراز من النجاسة. فلا يجوز حمل حديث الخمرة على أنه وضعها لاتقاء النجاسة فبطل استدلالهم بها على ذلك. وأما إذا كانت لاتقاء الحر، فهذا يستعمل إذا احتيج إليه لذلك، وإذا استغني عنه لم يفعل.
الرابع: أن الخُمْرَة لم يأمر النبي ﷺ بها الصحابة، ولم يكن كل منهم يتخذ له خُمْرَة، بل كانوا يسجدون على التراب والحصى كما تقدم. ولو كان ذلك مستحبا أو سنة، لفعلوه، ولأمرهم به، فعلم أنه كان رخصة لأجل الحاجة إلى ما يدفع الأذى عن المصلى. وهم كانوا يدفعون الأذى بثيابهم ونحوها. ومن المعلوم أن الصحابة في عهده وبعده أفضل منا. وأتبع للسنة، وأطوع لأمره. فلو كان المقصود بذلك ما يقصده متخذو السجادات، لكان الصحابة يفعلون ذلك.
الوجه الخامس: أن المسجد لم يكن مفروشًا، بل كان ترابًا، وحصى. وقد صلى النبي ﷺ على الحصير، وفراش امرأته، ونحو ذلك، ولم يصل هناك لا على خُمْرَة، ولا سجادة ولا غيرها.
فإن قيل: ففي حديث ميمونة وعائشة ما يقتضى أنه كان يصلي على الخمرة في بيته، فإنه قال: ( ناوليني الخمرة من المسجد) . وأيضًا، ففي حديث ميمونة المتقدم ما يشعر بذلك.
قيل: من اتخذ السجادة ليفرشها على حصر المسجد، لم يكن له في هذا الفعل حجة في السنة، بل كانت البدعة في ذلك منكرة من وجوه:
أحدها: أن هؤلاء يتقى أحدهم أن يصلي على الأرض حذرًا أن تكون نجسة، مع أن الصلاة على الأرض سنة ثابتة بالنقل المتواتر، فقد قال ﷺ: (جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا. فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره). ولا يشرع اتقاء الصلاة عليها لأجل هذا. بل قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله ﷺ ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك. أو كما قال. وفي سنن أبي داود: تبول، وتقبل، وتدبر، ولم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك. وهذا الحديث احتج به من رأى أن النجاسة إذا أصابت الأرض فإنها تطهر بالشمس والريح، ونحو ذلك، كما هو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة.
واحتجوا أيضًا بأن النبي ﷺ أمر بدلك النعل النجس بالأرض وجعل التراب لها طهورًا، فإذا كان طهورًا في إزالة النجاسة عن غيره، فلأن يكون طهورًا في إزالة النجاسة عن نفسه بطريق الأولى. وهذا القول قد يقول به من لا يقول: إن النجاسة تطهر بالاستحالة. فإن أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد تطهر بذلك، مع قول هؤلاء إن النجاسة لا تطهر بالاستحالة.
وأما من قال: إن النجاسة تطهر بالاستحالة كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد القولين في مذهب مالك، وهو مذهب أبي حنيفة، وأهل الظاهر، وغيرهم فالأمر على قول هؤلاء أظهر. فإنهم يقولون: إن الروث النجس إذا صار رمادًا ونحوه، فهو طاهر، وما يقع في الملاحة من دم وميتة ونحوهما إذا صار ملحًا، فهو طاهر.
وقد اتفقوا جميعهم أن الخمر إذا استحالت بفعل الله سبحانه فصارت خلا طهرت. وثبت ذلك عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، فسائر الأعيان إذا انقلبت، يقيسونها على الخمر المنقلبة. ومن فرق بينهما يعتذر بأن الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة؛ لأن العصير كان طاهرًا. فلما استحال خمرًا نجس، فإذا استحال خلا طهر.
وهذا قول ضعيف. فإن جميع النجاسات إنما نجست أيضًا بالاستحالة. فإن الطعام والشراب يتناوله الحيوان طاهرًا في حال الحياة ثم يموت فينجس، وكذلك الخنزير والكلب والسباع أيضًا عند من يقول بنجاستها إنما خلقت من الماء والتراب الطاهرين.
وأيضًا، فإن هذا الخل والملح ونحوهما أعيان طيبة طاهرة، داخلة في قوله تعالى: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } 92. فللمحرم المنجس لها أن يقول: إنه حرمها، لكونها داخلة في المنصوص، أو لكونها في معنى الداخلة فيه، فكلا الأمرين منتف، فإن النص لا يتناولها، ومعنى النص الذي هو الخبث منتف فيها، ولكن كان أصلها نجسًا، وهذا لا يضر، فإن الله يخرج الطيب من الخبيث، ويخرج الخبيث من الطيب. ولا ريب أن هذا القول أقوى في الحجة نصًا وقياسًا.
وعلى ما تقدم ذكره ينبنى طهارة المقابر. فإن القائلين بنجاسة المقبرة العتيقة. يقولون: إنه خالط التراب صديد الموتى ونحوه، واستحال عن ذلك، فينجسونه. وأما على قول الاستحالة وغيره من الأقوال، فلا يكون التراب نجسًا، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من أن مسجد رسول الله ﷺ كان حائطًا لبنى النجار، وكان فيه قبور المشركين، وخرب، ونخل، فأمر النبي ﷺ بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطعت، وبالخرب فسويت، وجعل قبلة للمسجد.. فهذا كان مقبرة للمشركين. ثم إن النبي ﷺ لما أمر بنبشهم، لم يأمر بنقل التراب، الذي لاقاهم، وغيره من تراب المقبرة، ولا أمر بالاحتراز من العذرة. وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، لكن الغرض التنبيه على أن ما عليه أكثر أهل الوسواس من توقى الأرض وتنجيسها باطل بالنص. وإن كان بعضه فيه نزاع، وبعضه باطل بالإجماع، أو غيره من الأدلة الشرعية.
الوجه الثانى: أن هؤلاء يفترش أحدهم السجادة على مصليات المسلمين من الحصر والبسط، ونحو ذلك، مما يفرش في المساجد، فيزدادون بدعة على بدعتهم. وهذا الأمر لم يفعله أحد من السلف، ولم ينقل عن النبي ﷺ ما يكون شبهة لهم، فضلا عن أن يكون دليلا، بل يعللون أن هذه الحصر يطؤها عامة الناس، ولعل أحدهم أن يكون قد رأى أو سمع أنه في بعض الأوقات بال صبي، أو غيره على بعض حصر المسجد، أو رأى عليه شيئًا من ذرق الحمام، أو غيره، فيصير ذلك حجة في الوسواس.
وقد علم بالتواتر أن المسجد الحرام مازال يطأ عليه المسلمون على عهد رسول الله ﷺ وعهد خلفائه، وهناك من الحمام ما ليس بغيره، ويمر بالمطاف من الخلق ما لا يمر بمسجد من المساجد، فتكون هذه الشبهة التي ذكرتموها أقوى. ثم إنه لم يكن النبي ﷺ وخلفاؤه وأصحابه يصلي هناك على حائل، ولا يستحب ذلك، فلو كان هذا مستحبًا كما زعمه هؤلاء، لم يكن النبي ﷺ وخلفاؤه وأصحابه متفقين على ترك المستحب الأفضل. ويكون هؤلاء أطوع لله وأحسن عملا من النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه، فإن هذا خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع.
وأيضًا، فقد كانوا يطؤون مسجد رسول الله ﷺ بنعالهم وخفافهم، ويصلون فيه مع قيام هذا الاحتمال، ولم يستحب لهم هذا الاحتراز الذي ابتدعه هؤلاء، فعلم خطؤهم في ذلك. وقد يفرقون بينهما بأن يقولوا: الأرض تطهر بالشمس والريح والاستحالة. دون الحصير. فيقال: هذا إذا كان حقًا فإنما هو من النجاسة المخففة. وذلك يظهر بالوجه الثالث:
وهو أن النجاسة لا يستحب البحث عما لم يظهر منها، ولا الاحتراز عما ليس عليه دليل ظاهر؛ لاحتمال وجوده. فإن كان قد قال طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: إنه يستحب الاحتراز عن المشكوك فيه مطلقًا، فهو قول ضعيف. وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر هو وصاحب له بمكان، فسقط على صاحبه ماء من ميزاب، فنادى صاحبه: يا صاحب الميزاب أماؤك طاهر أم نجس؟ فقال له عمر: ياصاحب الميزاب، لا تخبره، فإن هذا ليس عليه فنهى عمر عن إخباره؛ لأنه تكلف من السؤال ما لم يؤمر به. وهذا قد ينبني على أصل:
وهو أن النجاسة إنما يثبت حكمها مع العلم، فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة لم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره، وأحمد في أقوى الروايتين، وسواء كان علمها ثم نسيها، أو جهلها ابتداء، لما تقدم من أن النبي ﷺ صلى في نعليه ثم خلعهما في أثناء الصلاة، لما أخبره جبريل أن بهما أذى، ومضى في صلاته، ولم يستأنفها، مع كون ذلك موجودًا في أول الصلاة، لكن لم يعلم به، فتكلفه للخلع في أثنائها، مع أنه لولا الحاجة، لكان عبثًا أو مكروهًا.... يدل على أنه مأمور به من اجتناب النجاسة مع العلم، ومظنة تدل على العفو عنها في حال عدم العلم بها.
وقد روى أبو داود أيضًا عن أم جَحْدَر العامرية، أنها سألت عائشة عن دم الحيض يصيب الثوب، فقالت: كنت مع رسول الله ﷺ وعلينا شعارنا، وقد ألقينا فوقه كساء، فلما أصبح رسول الله ﷺ، أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة ثم جلس، فقال رجل: يا رسول الله، هذه لمعة من دم، فقبض رسول الله ﷺ ما يليها، فبعث بها إليَّ مَصْرُورَة في يد غلام، فقال: (اغسلي هذا، وأجفيها، وأرسلي بها إليَّ)، فدعوت بقصعتي فغسلتها، ثم أجففتها فأعدتها إليه، فجاء رسول الله ﷺ نصف النهار وهي عليه.
وفي هذا الحديث لم يأمر المأمومين بالإعادة، ولا ذكر لهم أنه يعيد، وأن عليه الإعادة، ولا ذكرت ذلك عائشة، وظاهر هذا أنه لم يعد. ولأن النجاسة من باب المنهي عنه في الصلاة، وباب المنهي عنه معفو فيه عن المخطئ والناسي. كما قال في دعاء الرسول والمؤمنين: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } 93، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: أن الله استجاب هذا الدعاء.
ولأن الأدلة الشرعية دلت على أن الكلام ونحوه من مبطلات الصلاة يعفى فيها عن الناسي والجاهل، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. وقد دل على ذلك حديث ذى اليدين ونحوه، وحديث معاوية بن الحكم السلمي لما شمت العاطس في الصلاة، وحديث ابن مسعود المتفق عليه في التشهد لما كانوا يقولون أولا: السلام على الله قبل عباده، فنهاهم عن ذلك، وقال: إن الله هو السلام، وأمرهم بالتشهد المشهور، ولم يأمرهم بالإعادة، وكذلك حديث الأعرابى الذي قال في دعائه: اللهم ارحمني وارحم محمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، وأمثال ذلك.
فهذا ونحوه مما يبين أن الأمور المنهي عنها في الصلاة وغيرها يعفى فيها عن الناسي والمخطئ، ونحوهما من هذا الباب.
وإذا كان كذلك، فإذا لم يكن عالمًا بالنجاسة صحت صلاته باطنا وظاهرًا، فلا حاجة به حينئذ عن السؤال عن أشياء إن أبديت ساءته، قد عفا الله عنها. وهؤلاء قد يبلغ الحال بأحدهم إلى أن يكره الصلاة إلا على سجادة، بل قد جعل الصلاة على غيرها محرمًا، فيمتنع منه امتناعه من المحرم. وهذا فيه مشابهة لأهل الكتاب الذين كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم، فإن الذي لا يصلي إلا على ما يصنع للصلاة من المفارش، شبيه بالذي لا يصلي إلا فيما يصنع للصلاة من الأماكن.
وأيضًا، فقد يجعلون ذلك من شعائر أهل الدين، فيعدون ترك ذلك في قلة الدين، ومن قلة الاعتناء بأمر الصلاة، فيجعلون ما ابتدعوه من الهدي الذي ما أنزل به من سلطان أكمل من هدى محمد ﷺ، وأصحابه. وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على منكبه، وإظهار المسابح في يده، وجعله من شعار الدين والصلاة. وقد علم بالنقل المتواتر، أن النبي ﷺ وأصحابه لم يكن هذا شعارهم، وكانوا يسبحون ويعقدون على أصابعهم، كما جاء في الحديث: (اعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات، مستنطقات) وربما عقد أحدهم التسبيح بحصى أو نوى. والتسبيح بالمسابح من الناس من كرهه، ومنهم من رخص فيه، لكن لم يقل أحد: إن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع، وغيرها، وإذا كان هذا مستحبًا يظهر فقصد إظهار ذلك والتميز به على الناس مذموم، فإنه إن لم يكن رياء فهو تشبه بأهل الرياء، إذ كثير ممن يصنع هذا يظهر منه الرياء ولو كان رياء بأمر مشروع لكانت إحدى المصيبتين، لكنه رياء ليس مشروعًا. وقد قال تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } 94. قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
وهذا الذي قاله الفضيل متفق عليه بين المسلمين، فإنه لابد له في العمل أن يكون مشروعًا مأمورًا به، وهو العمل الصالح. ولابد أن يقصد به وجه الله. كما قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } 95. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم اجعل عملى كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا. ومنه قوله تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } 96، وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } 97.
وفى صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه غيري، فإني منه بريء، وهو كله للذي أشرك به). وفي السنن عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل بدعة ضلالة). وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد). وفي لفظ: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد). وفي صحيح مسلم عن جابر، أن رسول الله ﷺ كان يقول في خطبته: (إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).
وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة، أو غيرها، قبل ذهابهم إلى المسجد، فهذا منهى عنه باتفاق المسلمين، بل محرم. وهل تصح صلاته على ذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان. ومن صلى في بقعة من المسجد مع منع غيره أن يصلي فيها، فهل هو كالصلاة في الأرض المغصوبة؟ على وجهين. وفي الصلاة في الأرض المغصوبة قولان للعلماء. وهذا مستند من كره الصلاة في المقاصير التي يمنع الصلاة فيها عموم الناس.
والمشروع في المسجد أن الناس يتمون الصف الأول، كما قال النبي ﷺ: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟) قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يتمون الصف الأول، فالأول، ويتراصون في الصف). وفي الصحيحين عنه أنه قال: (لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه).
والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش وتأخر هو، فقد خالف الشريعة من وجهين: من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم. ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد، ومنعه السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيه، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى الناس إذا حضروا. وفي الحديث: (الذي يتخطى رقاب الناس، يتخذ جسرًا إلى جهنم) وقال النبي ﷺ للرجل: (اجلس فقد آذيت).
ثم إذا فرش هذا فهل لمن سبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويصلي موضعه؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه.
والثاني: وهو الصحيح أن لغيره رفعه، والصلاة مكانه؛ لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك الصف المقدم، وهو مأمور بذلك أيضًا. وهو لا يتمكن من فعل هذا المأمور واستيفاء هذا الحق إلا برفع ذلك المفروش. وما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به.
وأيضًا، فذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب، وذلك منكر، وقد قال النبي ﷺ: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع، فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان). لكن ينبغي أن يراعى في ذلك ألا يؤول إلى منكر أعظم منه. والله تعالى أعلم، والحمد لله وحده.
سئل عن الحديث أن النبي صلى على سجادة
وسئل رحمه الله عن الحديث: (أن النبي ﷺ صلى على سجادة)، فقد أورد شخص عن عبد الله بن عمر عن عائشة عن النبي ﷺ: أنه توضأ وقال: (يا عائشة، ائتيني بالخمرة فأتت به. فصلى عليه).
فأجاب:
لفظ الحديث: (أنه طلب الخمرة) والخمرة: شيء يصنع من الخوص، فسجد عليه يتقي به حر الأرض، وأذاها. فإن حديث الخمرة صحيح. وأما اتخاذها كبيرة يصلي عليها يتقي بها النجاسة ونحوها، فلم يكن النبي ﷺ يتخذ سجادة يصلي عليها، ولا الصحابة، بل كانوا يصلون حفاة ومنتعلين، ويصلون على التراب والحصير، وغير ذلك، من غير حائل.
وقد ثبت عنه في الصحيحين: أنه كان يصلي في نعليه، وقال: (إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم) وصلى مرة في نعليه وأصحابه في نعالهم فخلعهما في الصلاة، فخلعوا، فقال: (ما لكم خلعتم نعالكم؟) قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. قال: (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذى، فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور).
فإذا كان النبي ﷺ وأصحابه يصلون في نعالهم، ولا يخلعونها، بل يطؤون بها على الأرض، ويصلون فيها، فكيف يظن أنه كان يتخذ سجادة يفرشها على حصير، أو غيره، ثم يصلي عليها؟ فهذا لم يكن أحد يفعله من الصحابة. وينقل عن مالك أنه لما قدم بعض العلماء، وفرش في مسجد النبي ﷺ شيئًا من ذلك أمر بحبسه. وقال: أما علمت أن هذا في مسجدنا بدعة؟! والله أعلم.
سئل عمن تحجر موضعا من المسجد بسجادة
وسئل أيضًا رحمه الله عمن تَحَجَّر موضعًا من المسجد، بسجادة أو بساط أو غير ذلك. هل هو حرام؟ وإذا صلى إنسان على شيء من ذلك بغير إذن مالكه هل يكره أم لا؟
فأجاب:
ليس لأحد أن يتَحَجَّر من المسجد شيئًا لا سجادة يفرشها قبل حضوره، ولا بساطا، ولا غير ذلك. وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها. في أصح قولي العلماء. والله أعلم.
سئل عن دخول النصراني أو اليهودي في المسجد بإذن المسلم
وسئل عن دخول النصراني أو اليهودي في المسجد بإذن المسلم، أو بغير إذنه أو يتخذه طريقًا. فهل يجوز؟
فأجاب:
ليس للمسلم أن يتخذ المسجد طريقًا، فكيف إذا اتخذه الكافر طريقًا؟ فإن هذا يمنع بلا ريب.
وأما إذا كان دخله ذمي لمصلحة، فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: لا يجوز. وهو مذهب مالك؛ لأن ذلك هو الذي استقر عليه عمل الصحابة.
والثاني: يجوز. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وفي اشتراط إذن المسلم وجهان، في مذهب أحمد، وغيره.
سئل هل تصح الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر
وسئل:هل تصح الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر، والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا؟ وهل يمهد القبر، أو يعمل عليه حاجز أو حائط؟
فأجاب:
الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر؛ لأن النبي ﷺ قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).
وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد. فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر: إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديدًا.
وإن كان المسجد بني بعد القبر: فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلي فيه فرض، ولا نفل، فإنه منهي عنه.
سئل عن جماعة نازلين في الجامع مقيمين ليلا ونهارا وأكلهم وشربهم ونومهم فيه
وسئل عن جماعة نازلين في الجامع مقيمين ليلا ونهارًا وأكلهم وشربهم ونومهم وقماشهم وأثاثهم، الجميع في الجامع، ويمنعون من ينزل عندهم من غير جنسهم، وحكروا الجامع، ثم إن جماعة دخلوا بعض المقاصير يقرؤون القرآن احتسابًا، فمنعهم بعض المجاورين وقال هذا موضعنا. فهل يجوز ذلك؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، ليس لأحد من الناس أن يختص بشيء من المسجد بحيث يمنع غيره منه دائمًا، بل قد نهى النبي ﷺ عن إيطان كإيطان البعير.
قال العلماء: معناه أن يتخذ الرجل مكانًا من المسجد لا يصلي إلا فيه، فإذا كان ليس له ملازمة مكان بعينه للصلاة، كيف بمن يتحجر بقعة دائمًا. هذا لو كان إنما يفعل فيها ما يبنى له المسجد من الصلاة والذكر ونحو ذلك، فكيف إذا اتخذ المسجد بمنزلة البيوت فيه أكله وشربه ونومه وسائر أحواله التي تشتمل على ما لم تبن المساجد له دائمًا؟ فإن هذا يمنع باتفاق المسلمين، فإنما وقعت الرخصة في بعض ذلك لذوى الحاجة، مثل ما كان أهل الصفة؛ كان الرجل يأتى مهاجرًا إلى المدينة، وليس له مكان يأوى إليه، فيقيم بالصفة إلى أن يتيسر له أهل أو مكان يأوى إليه. ثم ينتقل. ومثل المسكينة التي كانت تأوى إلى المسجد، وكانت تَقَمُّه. ومثل ما كان ابن عمر يبيت في المسجد، وهو عزب؛ لأنه لم يكن له بيت يأوي إليه حتى تزوج.
ومن هذا الباب علي بن أبي طالب، لما تقاول هو وفاطمة ذهب إلى المسجد فنام فيه. فيجب الفرق بين الأمر اليسير، وذوى الحاجات، وبين ما يصير عادة ويكثر، وما يكون لغير ذوي الحاجات؛ ولهذا قال ابن عباس: لا تتخذوا المسجد مبيتًا ومقيلا. هذا، ولم يفعل فيه إلا النوم، فكيف ما ذكر من الأمور؟! والعلماء قد تنازعوا في المعتكف هل ينبغي له أن يأكل في المسجد، أو في بيته، مع أنه مأمور بملازمة المسجد، وألا يخرج منه إلا لحاجة؟ والأئمة كرهوا اتخاذ المقاصير في المسجد، لما أحدثها بعض الملوك؛ لأجل الصلاة خاصة، وأولئك إنما كانوا يصلون فيها خاصة.
فأما اتخاذها للسكنى والمبيت وحفظ القماش والمتاع فيها، فما علمت مسلمًا ترخص في ذلك. فإن هذا يجعل المسجد بمنزلة الفنادق التي فيها مساكن مُتَحَجَّرة، والمسجد لابد أن يكون مشتركًا بين المسلمين، لا يختص أحد بشيء منه، إلا بمقدار لبثه للعمل المشروع فيه، فمن سبق إلى بقعة من المسجد لصلاة أو قراءة أو ذكر أو تعلم عِلْم أو اعتكاف ونحو ذلك، فهو أحق به حتى يقضى ذلك العمل، ليس لأحد إقامته منه، فإن النبي ﷺ نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ولكن يوسع ويفسح. وإذا انتقض وضوؤه ثم عاد فهو أحق بمكانه، فإن النبي ﷺ سَنَّ ذلك، قال: (إذا قام الرجل عن مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به).
وأما أن يختص بالمقام والسكنى فيه، كما يختص الناس بمساكنهم، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. وأبلغ ما يكون من المقام في المسجد مقام المعتكف، كما كان النبي ﷺ يعتكف في المسجد، وكان يحتجر له حصيرًا فيعتكف فيه، وكان يعتكف في قبة، وكذلك كان الناس يعتكفون في المساجد، ويضربون لهم فيه القباب فهذا مدة الاعتكاف خاصة. والاعتكاف عبادة شرعية، وليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لما لابد منه، والمشروع له ألا يشتغل إلا بقربة إلى الله، والذي يتخذه سكنًا ليس معتكفًا بل يشتمل على فعل المحظور، وعلى المنع من المشروع، فإن من كان بهذه الحال، منع الناس من أن يفعلوا في تلك البقعة ما بنى له المسجد من صلاة وقراءة وذكر، كما في الاستفتاء أن بعضهم يمنع من يقرأ القرآن في تلك البقعة، كغيره من القراء، والذي فعله هذا الظالم منكر من وجوه:
أحدها: اتخاذ المسجد مبيتًا ومقيلا وسكنًا، كبيوت الخانات، والفنادق.
والثاني: منعه من يقرأ القرآن حيث يشرع.
والثالث: منع بعض الناس دون بعض، فإن احتج بأن أولئك يقرؤون لأجل الوقف الموقوف عليهم، وهذا ليس من أهل الوقف، كان هذا العذر أقبح من المنع؛ لأن من يقرأ القرآن محتسبًا، أولى بالمعاونة ممن يقرأه لأجل الوقف، وليس للواقف أن يغير دين الله، وليس بمجرد وقفه يصير لأهل الوقف في المسجد حق لم يكن لهم قبل ذلك؛ ولهذا لو أراد الواقف أن يحتجر بقعة من المسجد لأجل وقفه بحيث يمنع غيره منها، لم يكن له ذلك. ولو عين بقعة من المسجد لما أمر به من قراءة أو تعليم ونحو ذلك لم تتعين تلك البقعة، كما لا تتعين فى النذر. فإن الإنسان لو نذر أن يصلي ويعتكف في بقعة من المسجد لم تتعين تلك البقعة، وكان له أن يصلي ويعتكف في سائر بقاع المسجد عند عامة أهل العلم، لكن هل عليه كفارة يمين؟ على وجهين في مذهب أحمد.
وأما الأئمة الثلاثة، فلا يوجبون عليه كفارة وهذا لأنه لا يجب بالنذر إلا ما كان طاعة بدون النذر، وإلا فالنذر لا يجعل ما ليس بعبادة عبادة، والناذر ليس عليه أن يوقف إلا ما كان طاعة لله، كما قال النبي ﷺ: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
ولهذا لو نذر حرامًا أو مكروهًا أو مباحًا مستوى الطرفين، لم يكن عليه الوفاء به.
وفى الكفارة قولان أوجبها في المشهور أحمد، ولم يوجبها الثلاثة.
وكذلك شرط الواقف والبائع وغيرهما.
كما قال النبي ﷺ: (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق). وهذا كله لأنه ليس لأحد أن يغير شريعته التي بعث بها رسوله، ولا يبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا يغير أحكام المساجد عن حكمها الذي شرع الله ورسوله. والله أعلم.
سئل عن النوم في المسجد والكلام والمشي بالنعال في أماكن الصلاة
وسئل رحمه الله عن النوم في المسجد، والكلام والمشي بالنعال في أماكن الصلاة، هل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
أما النوم أحيانًا للمحتاج مثل الغريب والفقير الذي لا مسكن له فجائز. وأما اتخاذه مبيتًا ومقيلا فينهون عنه.
وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريمًا. وكذلك المكروه. ويكره فيه فضول المباح.
وأما المشي بالنعال فجائز، كما كان الصحابة يمشون بنعالهم في مسجد النبي ﷺ. لكن ينبغى للرجل إذا أتى المسجد أن يفعل ما أمره به رسول الله ﷺ فينظر في نعليه، فإن كان بهما أذى، فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور. والله أعلم.
سئل عن السواك وتسريح اللحية في المسجد
وسئل عن السواك وتسريح اللحية في المسجد: هل هو جائز أم لا؟
فأجاب:
أما السواك في المسجد فما علمت أحدًا من العلماء كرهه، بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون في المسجد، ويجوز أن يبصق الرجل في ثيابه في المسجد، ويمتخط في ثيابه، باتفاق الأئمة وبسنة رسول الله ﷺ الثابتة عنه، بل يجوز التوضؤ في المسجد بلا كراهة عند جمهور العلماء. فإذا جاز الوضوء فيه مع أن الوضوء يكون فيه السواك، وتجوز الصلاة فيه، والصلاة يستاك عندها فكيف يكره السواك؟! وإذا جاز البصاق والامتخاط فيه، فكيف يكره السواك.
وأما التسريح: فإنما كرهه بعض الناس بناء على أن شَعْر الإنسان المنفصل نجس، ويمنع أن يكون في المسجد شيء نجس، أو بناء على أنه كالقذاة. وجمهور العلماء على أن شَعْر الإنسان المنفصل عنه طاهر. كمذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في ظاهر مذهبه، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وهو الصحيح. فإن النبي ﷺ حلق رأسه، وأعطى نصفه لأبى طلحة، ونصفه قَسَمَه بين الناس.
وباب الطهارة والنجاسة يشارك النبي ﷺ فيه أمته، بل الأصل أنه أسوة لهم في جميع الأحكام، إلا ما قام فيه دليل يوجب اختصاصه به.
وأيضًا، الصحيح الذي عليه الجمهور أن شعور الميتة طاهرة، بل في أحد قولي العلماء وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين أن جميع الشعور طاهرة حتى شعر الخنزير، وعلى القولين إذا سرح شعره وجمع الشعر فلم يترك في المسجد فلا بأس بذلك.
وأما ترك شعره في المسجد، فهذا يكره، وإن لم يكن نجسًا، فإن المسجد يصان حتى عن القذاة، التي تقع في العين. والله أعلم.
سئل عن الضحايا هل يجوز ذبحها في المسجد
وسئل رحمه الله عن الضحايا: هل يجوز ذبحها في المسجد؟ وهل تغسل الموتى، وتدفن الأجنة فيها؟ وهل يجوز تغيير وقفها من غير منفعة تعود عليها؟ وهل يجوز الاستنجاء في المسجد، والغسل؟ وإذا لم يجز، فما جزاء من يفعله، ولا يأتمر بأمر الله ولا ينتهى عما نهى عنه وإن أفتاه عالم سبه؟ وهل يجب على ولى الأمر زجره ومنعه، وإعادة الوقف إلى ما كان عليه؟
فأجاب:
لا يجوز أن يذبح في المسجد: لا ضحايا ولا غيرها، كيف والمجزرة المعدة للذبح قد كره الصلاة فيها، إما كراهية تحريم، وإما كراهية تنزيه؟! فكيف يجعل المسجد مشابهًا للمجزرة، وفي ذلك من تلويث الدم للمسجد ما يجب تنزيهه؟!
وكذلك لا يجوز أن يدفن في المسجد ميت: لا صغير، ولا كبير ولا جنين، ولا غيره. فإن المساجد لا يجوز تشبيهها بالمقابر.
وأما تغيير الوقف لغير مصلحة، فلا يجوز، ولا يجوز الاستنجاء فيها.
وأما الوضوء ففي كراهته في المسجد نزاع بين العلماء، والأرجح أنه لا يكره. إلا أن يحصل معه امتخاط أو بصاق في المسجد، فإن البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها، فكيف بالمخاط.
ومن لم يأتمر بما أمره الله به، وينته عما نهى الله عنه بل يرد على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإنه يعاقب العقوبة الشرعية التي توجب له ولأمثاله أداء الواجبات، وترك المحرمات.
ولا تغسل الموتى في المسجد، وإذا أحدث في المسجد ما يضر بالمصلين أزيل ما يضرهم، وعمل بما يصلحهم، إما إعادته إلى الصفة الأولى، أو أصلح. والله أعلم.
سئل عمن يعلم الصبيان في المسجد هل يجوز له البيات في المسجد
وسئل عمن يعلم الصبيان في المسجد: هل يجوز له البيات في المسجد؟
فأجاب:
الحمد لله، يصان المسجد عما يؤذيه، ويؤذي المصلين فيه، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصره، ونحو ذلك. لا سيما إن كان وقت الصلاة، فإن ذلك من عظيم المنكرات.
وأما المبيت فيه: فإن كان لحاجة كالغريب الذي لا أهل له، والغريب الفقير الذي لا بيت له، ونحو ذلك، إذا كان يبيت فيه بقدر الحاجة، ثم ينتقل فلا بأس، وأما من اتخذه مبيتًا ومقيلا، فلا يجوز ذلك.
سئل عن مسجد يقرأ فيه القرآن على بابه أناس يكثرون الكلام ويقع التشويش على القراء
وسئل رحمه الله عن مسجد يقرأ فيه القرآن والتلقين بكرة وعشية، ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام، ويقع التشويش على القراء، فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس لأحد أن يؤذى أهل المسجد: أهل الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء، ونحو ذلك مما بنيت المساجد له، فليس لأحد أن يفعل في المسجد، ولا على بابه أو قريبًا منه ما يشوش على هؤلاء. بل قد خرج النبي ﷺ على أصحابه وهم يصلون، ويجهرون بالقراءة. فقال: (أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة). فإذا كان قد نهى المصلى أن يجهر على المصلى، فكيف بغيره؟! ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد، أو فعل ما يفضى إلى ذلك، منع من ذلك. والله أعلم.
سئل عن السؤال في الجامع هل هو حلال أم حرام
وسئل عن السؤال في الجامع: هل هو حلال أم حرام؟ أو مكروه؟ وأن تركه أوجب من فعله؟
فأجاب:
الحمد لله، أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد، إلا لضرورة، فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحدًا بتخطيه رقاب الناس، ولا غير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه، ويذكر من حاله، ولم يجهر جهرًا يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون عِلْمًا يشغلهم به، ونحو ذلك جاز. والله أعلم.
فصل في استقبال القبلة
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل في استقبال القبلة وأنه لا نزاع بين العلماء في الواجب من ذلك وأن النزاع بين القائلين بالجهة والعين لا حقيقة له، قال الله تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } إلى قوله: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } 98 وشطره: نحوه، وتلقاؤه، كما قال:
أقيمي أم زنباع أقيمي ** صدور العيش شَطْر بني تميم
وقال: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } 99 والوجهة هي الجهة، كما في عدة، وزنة. أصلها: وعْدَة، ووزْنَة. فالقبلة هي التي تستقبل، والوجهة هي التي يوليها.
وهو سبحانه أمره بأن يولى وجهه شطر المسجد الحرام، والمسجد الحرام هو الحرم كله، كما في قوله: { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } 100 وليس ذلك مختصًا بالكعبة، وهذا يحقق الأثر المروي: (الكعبة قبلة المسجد، والمسجد قبلة مكة، ومكة قبلة الحرم، والحرم قبلة الأرض) وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه صلى في قبلى الكعبة ركعتين، وقال: (هذه القبلة). وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا، أو غربوا). فنهى عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وأمر باستقبالها في الصلاة، فالقبلة التي نهى عن استقبالها واستدبارها بالغائط والبول هي القبلة التي أمر المصلى باستقبالها في الصلاة.
وقال ﷺ: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) قال الترمذي: حديث صحيح. وهكذا قال غير واحد من الصحابة مثل: عمر، وعثمان، وعلى بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم. ولا يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك نزاع، وهكذا نص عليه أئمة المذاهب المتبوعة، وكلامهم في ذلك معروف. وقد حكى متأخرو الفقهاء في ذلك قولين في مذهب أحمد وغيره.
وقد تأملت نصوص أحمد في هذا الباب فوجدتها متفقة لا اختلاف فيها، وكذلك يذكر الاختلاف في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وهو عند التحقيق ليس بخلاف، بل من قال: يجتهد أن يصلي إلى عين الكعبة، أو فرضه استقبال عين الكعبة بحسب اجتهاده فقد أصاب. ومن قال: يجتهد أن يصلي إلى جهة الكعبة أو فرضه استقبال القبلة فقد أصاب. وذلك أنهم متفقون على أن من شاهد الكعبة فإنه يصلي إليها. ومتفقون على أنه كلما قرب المصلون إليها كان صفهم أقصر من البعيدين عنها. وهذا شأن كل ما يستقبل.
فالصف القريب منها لا يزيد طوله على قدر الكعبة، ولو زاد لكان الزائد مصليًا إلى غير الكعبة. والصف الذي خلفه يكون أطول منه وهلم جرا. فإذا كانت الصفوف تحت سقائف المسجد، كانت منحنية بقدر ما يستقبلون الكعبة وهم يصلون إليها، وإلى جهتها أيضًا. فإذا بعد الناس عنها كانوا مصلين إلى جهتها، وهم مصلون إليها أيضًا. ولو كان الصف طويلا يزيد طوله على قدر الكعبة، صحت صلاتهم باتفاق المسلمين، وإن كان الصف مستقيمًا حيث لم يشاهدوها. ومن المعلوم أنه لو سار من الصفوف على خط مستقيم إليها، لكان ما يزيد على قدرها خارجًا عن مسافتها.
فمن توهم أن الفرض أن يقصد المصلي الصلاة في مكان لو سار على خط مستقيم وصل إلى عين الكعبة فقد أخطأ. ومن فسر وجوب الصلاة إلى العين بهذا وأوجب هذا فقد أخطأ، وإن كان هذا قد قاله قائل من المجتهدين فهذا القول خطأ خالف نص الكتاب والسنة وإجماع السلف، بل وإجماع الأمة. فإن الأمة متفقة على صحة صلاة الصف المستطيل الذي يزيد طوله على سمت الكعبة بأضعاف مضاعفة وإن كان الصف مستقيمًا لا انحناء فيه ولا تقوس.
فإن قيل: مع البعد لا يحتاج إلى الانحناء والتقوس كما يحتاج إليه في القرب، كما أن الناس إذا استقبلوا الهلال أو الشمس أو جبلا من الجبال فإنهم يستقبلونه مع كثرتهم وتفرقهم، ولو كان قريبًا لم يستقبلوه إلا مع القلة والاجتماع، قيل: لا ريب أنه ليس الانحناء والتقوس في البعد بقدر الانحناء والتقوس في القرب، بل كلما زاد البعد قل الانحناء، وكلما قرب كثر الانحناء، حتى يكون أعظم الناس انحناء وتقوسًا الصف الذي يلى الكعبة، ولكن مع هذا فلابد من التقوس والانحناء في البعد إذا كان المقصود أن يكون بينه وبينها خط مستقيم، بحيث لو مشى إليه لوصل إليها؛ لكن يكون التقوس شيئًا يسيرًا جدًا، كما قيل: إنه إذا قدر الصف ميلا وهو مثلا في الشام كان الانحناء من كل واحد بقدر شعيرة، فإن هذا ذكره بعض من نص وجوب استقبال العين، وقال: إن مثل هذا التقوس اليسير يعفى عنه.
فيقال له: فهذا معنى قولنا: إن الواجب استقبال الجهة، وهو العفو عن وجوب تحري مثل هذا التقوس والانحناء، فصار النزاع لفظيًا لا حقيقة له. فالمقصود أن من صلى إلى جهتها فهو مصَلٍّ إلى عينها، وإن كان ليس عليه أن يتحرى مثل هذا. ولا يقال لمن صلى كذلك: إنه مخطئ في الباطن معفو عنه، بل هذا مستقبل القبلة باطنًا وظاهرًا وهذا هو الذي أمر به؛ ولهذا لما بنى أصحاب رسول الله ﷺ مساجد الأمصار كان في بعضها ما لو خرج منه خط مستقيم إلى الكعبة لكان منحرفًا، وكانت صلاة المسلمين فيه جائزة باتفاق المسلمين.
وبهذا يظهر حقيقة قول من قال: إن من قرب منها أو من مسجد النبي ﷺ لا تكون إلا على خط مستقيم؛ لأنه لا يقر على خطأ. فيقال: هؤلاء اعتقدوا أن مثل هذه القبلة تكون خطأ وإنما تكون خطأ لو كان الفرض أن يتحرى استقبال خط مستقيم بين وسط أنفه وبينها، وليس الأمر كذلك، بل قد تقدم نصوص الكتاب والسنة بخلاف ذلك.
ونظير هذا قول بعضهم: إذا وقف الناس يوم العاشر خطأ، أجزأهم. فالصواب أن ذلك هو يوم عرفة باطنا وظاهرا، ولا خطأ في ذلك، بل يوم عرفة هو اليوم الذي يعرف فيه الناس، والهلال إنما يكون هلالا إذا استهله الناس، وإذا طلع ولم يستهلوه فليس بهلال، مع أن النزاع في الهلال مشهور: هل هو اسم لما يطلع وإن لم يستهل به، أو لما يستهل به؟ وفيه قولان معروفان في مذهب أحمد وغيره، بخلاف النزاع في استقبال الكعبة.
ويدل على ذلك أنه لو قيل بأن على الإنسان أن يتحرى أن يكون بين وسط أنفه وجبهته وبينها خط مستقيم، قيل فلابد من طريق يعلم بها ذلك فإن اللّه لم يوجب شيئا إلا وقد نصب على العلم به دليلا، ومعلوم أن طريق العلم بذلك لا يعرفه إلا خاصة الناس مع اختلافهم فيه، ومع كثرة الخطأ في ذلك. ووجوب استقبال القبلة عام لجميع المسلمين، فلا يكون العلم الواجب خفيا لا يعلم إلا بطريق طويلة صعبة مخوفة، مع تعذر العلم بذلك أو تعسره في أغلب الأحوال.
ولهذا، كان الذين سلكوا هذه الطريق يتكلمون بلا علم مع اختلافهم في ذلك، والدليل المشهور لهم الجدي والقطب، فمنهم من يقول: القطب هو الجدي، وهو كوكب خفى. وهذا خطأ من ثلاثة أوجه: فإن القطب ليس هو الجدي، والجدي ليس بكوكب خفى؛ بل كوكب نيِّر، والقطب ليس أيضًا كوكبًا. ومنهم من يقول: الجدي هو كوكب خفى، وهو خطأ. وجمهورهم يقولون: القطب كوكب خفى، ويحكون قولين في القطب هل يدور أو لا يدور؟ وهذا تخليط. فإن القطب الذي هو مركز الحركة لا يتغير عن موضعه، كما أن قطب الرحى لا يتغير عن موضعه. ولكن هناك كوكب صغير خفى قريب منه.
وهذا إذا سمي قطبًا كان تسميته باعتبار كونه أقرب الكواكب إلى القطب، وهذا يدور، فالكواكب تدور بلا ريب، ومدار الحركة الذي هو قطبها لا يدور بلا ريب، فحكاية قولين في ذلك، كلام من لم يميز بين هذا وهذا، والدليل الظاهر هو الجدي. والاستدلال به على العين إنما يكون في بعض الأوقات، لا في جميعها، فإن القطب إذا كانت الشمس في وسط السماء عند تناهي قصر الظلال، يكون القطب محاذيًا للركن الشامي من البيت الذي يكون عن يمين المستقبل للباب، فمن كان بلده محاذيًا لهذا القطب كأهل حران ونحوهم كانت صلاتهم إلى الركن؛ ولهذا يقال أعدل القبل قبلتهم.
ومن كان بلده غربي هؤلاء كأهل الشام فإنهم يميلون إلى جهة المشرق قليلا بقدر بعدهم عن هذا الخط، فكلما بعدوا ازدادوا في الانحراف، ومن كان شرقي هؤلاء كأهل العراق كانت قبلته بالعكس؛ ولهذا كان أهل تلك البلاد يجعلون القطب وما قرب منه خلف أقفائهم، وأهل الشام يميلون قليلا، فيجعلون ما بين الأذن اليسرى ونقرة القفا أو خلف الأذن اليسرى بحسب قرب البلد وبعده عن هؤلاء، وأهل العراق يجعلون ذلك خلف الأذن اليمنى، ومعلوم أن النبي ﷺ والصحابة لم يأمروا أحدًا بمراعاة القطب، ولا ما قرب منه، ولا الجدي، ولا بنات نعش، ولا غير ذلك.
ولهذا أنكر الإمام أحمد على من أمر بمراعاة ذلك وأمر ألا تعتبر القبلة بالجدي، وقال: ليس في الحديث ذكر الجدي، ولكن ما بين المشرق والمغرب قبلة، وهو كما قال. فإنه لو كان تحديد القبلة بذلك واجبًا أو مستحبًا، لكان الصحابة أعلم بذلك، وإليه أسبق، ولكان النبي ﷺ بَيَّن ذلك. فإنه لم يدع من الدين شيئًا إلا بينه، فكيف وقد صرح بأن ما بين المشرق والمغرب قبلة، ونهى عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول؟ ومعلوم باتفاق المسلمين أن المنهى عنه من ذلك ليس هو أن يكون بين المتخلى وبين الكعبة خط مستقيم، بل المنهى عنه أعم من ذلك، وهو أمر باستقبال القبلة في حال، كما نهى عن استقبالها في حال. وإن كان النهى قد يتناول ما لا يتناوله الأمر. لكن هذا يوافق قوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة).
وأيضًا، فإن تعليق الدين بذلك يفضى إلى تنازع الأمة واختلافها في دينها، واللّه قد نهى عن التفرق والاختلاف. فإن جماهير الناس لا يعلمون ذلك تحديدًا. وإنما هم فيه مقلدون لمن قرب ذلك. فالتحديد في هذا متعذر أو متعسر. ومثل هذا لا ترد به الشريعة، والذين يَدَّعُون الحساب ومعرفة ذلك تجد أكثرهم يتكلمون في ذلك بما هو خطأ، وبما إذا طولبوا بدليله رجعوا إلى مقدمات غير معلومة، وأخبار من لا يوثق بخبره. والذين ذكروا بعض ذلك من الفقهاء هم تلقوه عن هؤلاء، ولم يحكموه، فصار مرجع أتباع هؤلاء وهؤلاء إلى تقليد يتضمن خطأ في كثير من المواضيع، ثم يدعى هذا أن هذه القبلة التي عينها هي الصواب دون ما عينه الآخر، ويدعى الآخر ضد ذلك، حتى يصير الناس أحزابًا وفرقًا، وكل ذلك مما نهى اللّه عنه ورسوله.
وسبب ذلك أنهم أدخلوا في دينهم ما ليس منه، وشرعوا من الدين ما لم يأذن به اللّه، فاختلفوا في تلك البداعة التي شرعوها؛ لأنها لا ضابط لها، كما يختلف الذين يريدون أن يعلموا طلوع الهلال بالحساب، أو طلوع الفجر بالحساب، وهو أمر لا يقوم عليه دليل حسابى مطرد، بل ذلك متناقض مختلف، فهؤلاء أعرضوا عن الدين الواسع والأدلة الشرعية فدخلوا في أنواع من الجهل والبدع، مع دعواهم العلم والحذق، كذلك يفعل اللّه بمن خرج عن المشروع إلى البدع، وتنطع في الدين.
وقد ثبت في الصحيح صحيح مسلم عن الأحنف بن قيس، عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ أنه قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثًا، ورواه أيضا أحمد وأبو داود وأيضا، فإن اللّه قال: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } 101، وقال: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } 102، أي: مستقبلها. وقال النبي ﷺ: (هذه القبلة). والقبلة ما يستقبل. وقال: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، ذلك المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا ).
وأجمع المسلمون على أنه يجب على المصلى استقبال القبلة في الجملة. فالمأمور به الاستقبال للقبلة، وتولية الوجه شطر المسجد الحرام، فينظر هل الاستقبال وتولية الوجه من شرطه أن يكون وسط وجهه مستقبلا لها كوسط الأنف وما يحاذيه من الجبهة والذقن ونحو ذلك؟ أو يكون الشخص مستقبلا لما يستقبله إذا وجه إليه وجهه وإن لم يحاذه بوسط وجهه؟ فهذا أصل المسألة.
ومعلوم أن الناس قد سن لهم أن يستقبلوا الخطيب بوجوههم ونهوا عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وأمثال ذلك مما لم يشترط فيه أن يكون الاستقبال بوسط الوجه والبدن، بل لو كان منحرفا انحرافا يسيرًا لم يقدح ذلك في الاستقبال.
والاسم إن كان له حد في الشرع رجع إليه، وإلا رجع إلى حده في اللغة والعرف، والاستقبال هنا دل عليه الشرع واللغة والعرف. وأما الشارع فقال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) ومعلوم أن من كان بالمدينة والشام ونحوهما إذا جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه فهو مستقبل للكعبة ببدنه، بحيث يمكن أن يخرج من وجهه خط مستقيم إلى الكعبة، ومن صدره وبطنه، لكن قد لا يكون ذلك الخط من وسط وجهه وصدره. فعلم أن الاستقبال بالوجه أعم من أن يختص بوسطه فقط. واللّه أعلم.
سئل عن النية ومحل ذلك القلب أم اللسان
وَسُئِلَ عن النية في الطهارة والصلاة والصيام والحج وغير ذلك، فهل محل ذلك القلب أم اللسان؟ وهل يجب أن نجهر بالنية أو يستحب ذلك؟ أو قال أحد من المسلمين: إن لم يفعل ذلك بطلت صلاته، أو غيرها؟ أو قال: إن صلاة الجاهر أفضل من صلاة الخافت. إمامًا كان أو مأمومًا أو منفردًا؟ وهل التلفظ بها واجب أم لا؟ أو قال أحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم من أئمة المسلمين: إن لم يتلفظ بالنية بطلت صلاته؟ وإذا كانت غير واجبة، فهل يستحب التلفظ بها؟ وما السنة التي كان عليها رسول اللّه ﷺ والخلفاء الراشدون؟ وإذا أصر على الجهر بها معتقدًا أن ذلك مشروع، فهل هو مبتدع مخالف لشريعة الإسلام أم لا؟ وهل يستحق التعزير على ذلك إذا لم ينته؟ وابسطوا لنا الجواب.
فأجاب:
الحمد للّه، محل النية القلب دون اللسان، باتفاق أئمة المسلمين في جميع العبادات: الصلاة والطهارة والزكاة والحج والصيام والعتق والجهاد، وغير ذلك. ولو تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه كان الاعتبار بما نوى بقلبه، لا باللفظ، ولو تكلم بلسانه ولم تحصل النية في قلبه لم يجزئ ذلك باتفاق أئمة المسلمين.
فإن النية هي من جنس القصد؛ ولهذا تقول العرب: نواك اللّه بخير، أى: قصدك بخير. وقول النبي ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله، فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) مراده ﷺ بالنية: النية التي في القلب؛ دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين: الأئمة الأربعة، وغيرهم.
وسبب الحديث يدل على ذلك، فإن سببه أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة؛ ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، فسمى مهاجر أم قيس. فخطب النبي ﷺ على المنبر، وذكر هذا الحديث. وهذا كان نيته في قلبه.
والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب باتفاق المسلمين، بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشريعة، إذا فعل ذلك معتقدًا أنه من الشرع فهو جاهل ضال، يستحق التعزير، وإلا العقوبة على ذلك، إذا أصر على ذلك بعد تعريفه والبيان له، لا سيما إذا آذى من إلى جانبه برفع صوته، أو كرر ذلك مرة بعد مرة، فإنه يستحق التعزير البليغ على ذلك، ولم يقل أحد من المسلمين: إن صلاة الجاهر بالنية أفضل من صلاة الخافت بها، سواء كان إماما أو مأمومًا، أو منفردًا.
وأما التلفظ بها سرًا فلا يجب أيضًا عند الأئمة الأربعة، وسائر أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: إن التلفظ بالنية واجب، لا في طهارة ولا في صلاة، ولا صيام، ولا حج.
ولا يجب على المصلى أن يقول بلسانه: أصلي الصبح، ولا أصلي الظهر، ولا العصر، ولا إماما ولا مأمومًا، ولا يقول بلسانه: فرضًا ولا نفلا، ولا غير ذلك، بل يكفي أن تكون نيته في قلبه، واللّه يعلم ما في القلوب.
وكذلك نية الغسل من الجنابة والوضوء، يكفي فيه نية القلب.
وكذلك نية الصيام في رمضان، لا يجب على أحد أن يقول: أنا صائم غدًا، باتفاق الأئمة، بل يكفيه نية قلبه.
والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد أن يفعله فلابد أن ينويه، فإذا علم المسلم أن غدًا من رمضان وهو ممن يصوم رمضان فلابد أن ينوي الصيام، فإذا علم أن غدًا العيد لم ينو الصيام تلك الليلة.
وكذلك الصلاة: فإذا علم أن الصلاة القائمة صلاة الفجر، أو الظهر وهو يعلم أنه يريد أن يصلي صلاة الفجر، أو الظهر فإنه إنما ينوي تلك الصلاة، لا يمكنه أن يعلم أنها الفجر، وينوي الظهر.
وكذلك إذا علم أنه يصلي إماما أو مأمومًا، فإنه لابد أن ينوي ذلك، والنية تتبع العلم والاعتقاد اتباعا ضروريًا، إذا كان يعلم ما يريد أن يفعله، فلابد أن ينويه. فإذا كان يعلم أنه يريد أن يصلي الظهر وقد علم أن تلك الصلاة صلاة الظهر امتنع أن يقصد غيرها، ولو اعتقد أن الوقت قد خرج أجزأته صلاته، باتفاق الأئمة.
ولو اعتقد أنه خرج فنوى الصلاة بعد الوقت، فتبين أنها في الوقت، أجزأته الصلاة باتفاق الأئمة.
وإذا كان قصده أن يصلي على الجنازة أي جنازة كانت فظنها رجلا، وكانت امرأة، صحت صلاته بخلاف ما نوى. وإذا كان مقصوده ألا يصلي إلا على ما يعتقده فلانًا، وصلى على من يعتقد أنه فلان، فتبين غيره، فإنه هنا لم يقصد الصلاة على ذلك الحاضر.
والمقصود هنا أن التلفظ بالنية لا يجب عند أحد من الأئمة، ولكن بعض المتأخرين خرج وجهًا في مذهب الشافعي بوجوب ذلك، وغلطه جماهير أصحاب الشافعي، وكان غلطه أن الشافعي قال: لابد من النطق في أولها، فظن هذا الغالط أن الشافعي أراد النطق بالنية، فغلطه أصحاب الشافعي جميعهم، وقالوا: إنما أراد النطق بالتكبير، لا بالنية. ولكن التلفظ بها هل هو مستحب، أم لا؟ هذا فيه قولان معروفان للفقهاء.
منهم من استحب التلفظ بها، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبى حنيفة والشافعي وأحمد، وقالوا: التلفظ بها أوكد، واستحبوا التلفظ بها في الصلاة والصيام والحج، وغير ذلك.
ومنهم من لم يستحب التلفظ بها، كما قال ذلك من قاله من أصحاب مالك، وأحمد، وغيرهما وهذا هو المنصوص عن مالك، وأحمد، سئل: تقول قبل التكبير شيئًا؟ قال: لا.
وهذا هو الصواب فإن النبي ﷺ لم يكن يقول قبل التكبير شيئًا، ولم يكن يتلفظ بالنية، لا في الطهارة، ولا في الصلاة، ولا في الصيام، ولا في الحج، ولا غيرها من العبادات، ولا خلفاؤه، ولا أمر أحدًا أن يتلفظ بالنية، بل قال لمن علمه الصلاة: ( كبر) كما في الصحيح عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول الله ﷺ يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد للّه رب العالمين ولم يتلفظ قبل التكبير بنية، ولا غيرها، ولا علم ذلك أحدًا من المسلمين. ولو كان ذلك مستحبًا، لفعله النبي ﷺ ولعظمه المسلمون.
وكذلك في الحج إنما كان يستفتح الإحرام بالتلبية، وشرع للمسلمين أن يلبوا في أول الحج، وقال ﷺ لضُبَاعَة بنت الزبير: (حجي واشترطي، فقولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني) فأمرها أن تشترط بعد التلبية.
ولم يشرع لأحد أن يقول قبل التلبية شيئًا. لا يقول: اللهم إني أريد العمرة والحج، ولا الحج والعمرة، ولا يقول: فيسره لي وتقبله مني، ولا يقول: نويتهما جميعًا، ولا يقول: أحرمت للّّه، ولا غير ذلك من العبادات كلها. ولا يقول قبل التلبية شيئًا، بل جعل التلبية في الحج كالتكبير في الصلاة.
وكان هو وأصحابه يقولون: فلان أهل بالحج، أهل بالعمرة، أو أهل بهما جميعًا. كما يقال: كبر للصلاة، والإهلال رفع الصوت بالتلبية، وكان يقول في تلبيته: (لبيك حجًا وعمرة) ينوي ما يريد أن يفعله بعد التلبية؛ لا قبلها.
وجميع ما أحدثه الناس من التلفظ بالنية قبل التكبير، وقبل التلبية، وفي الطهارة، وسائر العبادات فهي من البدع التي لم يشرعها رسول اللّه ﷺ. وكل ما يحدث في العبادات المشروعة من الزيادات التي لم يشرعها رسول اللّه ﷺ فهي بدعة، بل كان ﷺ يداوم في العبادات على تركها، ففعلها والمداومة عليها بدعة وضلالة من وجهين:
من حيث اعتقاد المعتقد أن ذلك مشروع مستحب، أي يكون فعله خير من تركه، مع أن النبي ﷺ لم يكن يفعله البتة، فيبقى حقيقة هذا القول، إنما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله رسول اللّه ﷺ.
وقد سأل رجل مالك بن أنس عن الإحرام قبل الميقات، فقال: أخاف عليك الفتنة، فقال له السائل: أي فتنة في ذلك؟ وإنما زيادة أميال في طاعة اللّه - عز وجل. قال: وأي فتنة أعظم من أن تظن في نفسك أنك خصصت بفضل لم يفعله رسول اللّه ﷺ .
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال: (من رغب عن سنتي فليس مني) فأي من ظن أن سنة أفضل من سنتي، فرغب عما سنيته معتقدًا أن ما رغب فيه أفضل مما رغب عنه فليس مني؛ لأن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يخطب بذلك يوم الجمعة.
فمن قال: إن هدي غير محمد ﷺ أفضل من هدي محمد، فهو مفتون، بل ضال. قال اللّه تعالى إجلالًا له وتثبيت حجته على الناس كافة: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 103 أي: وجيع.
وهو ﷺ قد أمر المسلمين باتباعه، وأن يعتقدوا وجوب ما أوجبه، واستحباب ما أحبه. وأنه لا أفضل من ذلك. فمن لم يعتقد هذا، فقد عصى أمره، وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (هلك المتنطعون)، قالها ثلاثًا. أي المشددون في غير موضع التشديد، وقال أبى بن كعب، وابن مسعود: اقتصاد في سنةٍ خير من اجتهاد في بدعة.
ولا يحتج محتج بجمع التراويح، ويقول: (نعمت البدعة هذه) فإنها بدعة في اللغة؛ لكونهم فعلوا ما لم يكونوا يفعلونه في حياة رسول اللّه ﷺ مثل هذه، وهي سنة من الشريعة. وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ومصر الأمصار كالكوفة والبصرة، وجمع القرآن في مصحف واحد، وفرض الديوان، وغير ذلك. فقيام رمضان سنه رسول اللّه ﷺ لأمته، وصلى بهم جماعة عدة ليال، وكانوا على عهد رسول اللّه ﷺ يصلون جماعة وفرادى، لكن لم يداوم على جماعة واحدة لئلا يفترض عليهم، فلما مات ﷺ استقرت الشريعة.
فلما كان عمر رضي اللّه عنه جمعهم على إمام واحد، والذي جمعهم أبي بن كعب، جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر هو من الخلفاء الراشدين حيث يقول ﷺ: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) يعني الأضراس؛ لأنه أعظم في القوة.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أنه قال: (صلاة السفر ركعتان، فمن خالف السنة كفر) فأي من اعتقد أن الركعتين في السفر لا تجزئ المسافر كفر.
والوجه الثاني: من حيث المداومة على خلاف ما داوم عليه رسول اللّه ﷺ في العبادات، فإن هذا بدعة باتفاق الأئمة، وإن ظن الظان أن في زيادته خيرًا كما أحدثه بعض المتقدمين من الأذان والإقامة في العيدين، فنهوا عن ذلك، وكرهه أئمة المسلمين، كما لو صلى عقيب السعي ركعتين قياسًا على ركعتي الطواف. وقد استحب ذلك بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي. واستحب بعض المتأخرين من أصحاب أحمد في الحاج إذا دخل المسجد الحرام أن يستفتح بتحية المسجد، فخالفوا الأئمة والسنة، وإنما السنة أن يستفتح المحرم بالطواف، كما فعل النبي ﷺ لما دخل المسجد ؛ بخلاف المقيم الذي يريد الصلاة فيه دون الطواف، فهذا إذا صلى تحية المسجد فحسن.
وفي الجملة، فإن النبي ﷺ قد أكمل اللّه له ولأمته الدين، وأتم به ﷺ عليهم النعمة، فمن جعل عملا واجبًا مما لم يوجبه اللّه ورسوله، أو لم يكرهه اللّه ورسوله، فهو غالط.
فجماع أئمة الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه اللّه ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه اللّه ورسوله، ومن خرج عن هذا وهذا فقد دخل في حرب من اللّه، فمن شرع من الدين ما لم يأذن به اللّه، وحرم ما لم يحرم اللّه ورسوله، فهو من دين أهل الجاهلية، المخالفين لرسوله، الذين ذمهم اللّه في سورة الأنعام، والأعراف وغيرهما من السور، حيث شرعوا من الدين ما لم يأذن به اللّه. فحرموا ما لم يحرمه اللّه، وأحلوا ما حرمه اللّه، فذمهم اللّه وعابهم على ذلك.
فلهذا كان دين المؤمنين باللّه ورسوله، أن الأحكام الخمسة: الإيجاب، والاستحباب، والتحليل، والكراهية، والتحريم، لا يؤخذ إلا عن رسول اللّه ﷺ؛ فلا واجب إلا ما أوجبه اللّه ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله اللّه ورسوله.
فمن ذلك ما اتفق عليه أئمة الدين، ومنه ما تنازعوا فيه، فردوه إلى اللّه ورسوله، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } 104
فمن تكلم بجهل، وبما يخالف الأئمة، فإنه ينهي عن ذلك، ويؤدب على الإصرار، كما يفعل بأمثاله من الجهال، ولا يقتدي في خلاف الشريعة بأحد من أئمة الضلالة، وإن كان مشهورًا عنه العلم. كما قال بعض السلف: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك. واللّه أعلم. والحمد للّه.
سئل عمن يخرج من بيته ناويا الطهارة
وَسُئِلَ عمن يخرج من بيته ناويًا الطهارة، أو الصلاة. هل يحتاج إلى تجديد نية غير هذه عند فعل الطهارة أو الصلاة أو لا؟ وهل التلفظ بالنية سنة أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، سئل الإمام أحمد عن رجل يخرج من بيته للصلاة، هل ينوي حين الصلاة؟ فقال: قد نوى حين خرج؛ ولهذا قال أكابر أصحابه كالخرقي وغيره يجزئه تقديم النية على التكبير من حين يدخل وقت الصلاة، وإذا كان مستحضرًا للنية إلى حين الصلاة أجزأ ذلك، باتفاق العلماء. فإن النية لا يجب التلفظ بها باتفاق العلماء.
ومعلوم في العادة أن من كبر في الصلاة لابد أن يقصد الصلاة، وإذا علم أنه يصلي الظهر نوى الظهر، فمتى علم ما يريد فعله نواه بالضرورة، ولكن إذا لم يعلم أو نسي شذت عنه النية، وهذا نادر. والتلفظ بالنية، في استحبابه قولان في مذهب أحمد وغيره. والمنصوص عنه أنه لا يستحب التلفظ بالنية. قال أبو داود: قلت لأحمد: يقول المصلي قبل التكبير شيئًا؟ قال: لا.
سئل هل يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير
وَسُئِلَ: هل يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير؟ والمسؤول أن يوضح لنا كيفية مقارنتها للتكبير، كما ذكر الشافعي أنه لا تصح الصلاة إلا بمقارنتها التكبير. وهذا يعسر؟
فأجاب:
أما مقارنتها التكبير، فللعلماء فيه قولان مشهوران:
أحدهما: لا يجب . . . .
والمقارنة المشروطة: قد تفسر بوقوع التكبير عقيب النية، وهذا ممكن لا صعوبة فيه، بل عامة الناس إنما يصلون هكذا، وهذا أمر ضروري، لو كلفوا تركه لعجزوا عنه.
وقد تفسر بانبساط آخر النية على آخر التكبير، بحيث يكون أولها مع أوله، وآخرها مع آخره. وهذا لا يصح؛ لأنه يقتضي عزوب كمال النية في أول الصلاة، وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة.
وقد تفسر بحضور جميع النية مع جميع آخر التكبير، وهذا تنازعوا في إمكانه.
فمن العلماء من قال: إن هذا غير ممكن، ولا مقدور للبشر عليه، فضلا عن وجوبه، ولو قيل بإمكانه، فهو متعسر، في سقط بالحرج.
وأيضًا، فمما يبطل هذا والذي قبله، أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره، في كون قلبه مشغولا بمعنى التكبير، لا بما يشغله عن ذلك من استحضار النية؛ ولأن النية من الشروط، والشروط تتقدم العبادات، ويستمر حكمها إلى آخرها، كالطهارة. واللّه أعلم.
سئل عن النية هل تفتقر إلى نطق باللسان
وَسُئِلَ عن النية في الدخول في العبادات من الصلاة، وغيرها. هل تفتقر إلى نطق اللسان، مثل قول القائل: نويت أصوم، نويت أصلي، هل هو واجب أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، نية الطهارة من وضوء أو غسل أو تيمم، والصلاة والصيام والحج والزكاة والكفارات، وغير ذلك من العبادات لا تفتقر إلى نطق اللسان، باتفاق أئمة الإسلام. بل النية محلها القلب دون اللسان باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غلطًا بخلاف ما نوى في قلبه، كان الاعتبار بما نوي، لا بما لفظ، ولم يذكر أحد في ذلك خلافا، إلا أن بعض متأخري أصحاب الشافعي رحمه اللّه خرج وجهًا في ذلك، وغَلَّطه فيه أئمة أصحابه.
وكان سبب غلطه أن الشافعي قال: إن الصلاة لابد من النطق في أولها. وأراد الشافعي بذلك: التكبير الواجب في أولها، فظن هذا الغالط أن الشافعي أراد النطق بالنية، فغلطه أصحاب الشافعي جميعهم.
ولكن تنازع العلماء: هل يستحب التلفظ بالنية سرًا أم لا؟ هذا فيه قولان معروفان للفقهاء.
فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: يستحب التلفظ بها؛ لكونه أوكد. وقالت طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما: لا يستحب التلفظ بها؛ لأن ذلك بدعة لم تنقل عن رسول اللّه ﷺ، ولا عن أصحابه، ولا أمر النبي ﷺ أحدًا من أمته أن يتلفظ بالنية، ولا عَلَّم ذلك أحدًا من المسلمين، ولو كان هذا مشهورًا مشروعا، لم يهمله النبي ﷺ وأصحابه، مع أن الأمة مبتلاة به كل يوم وليلة.
وهذا القول أصح الأقوال، بل التلفظ بالنية نقص في العقل والدين؛ أما في الدين؛ فلأنه بدعة. وأما في العقل؛ فلأنه بمنزلة من يريد يأكل طعامًا في قول: نويت بوضع يدي في هذا الإناء أني أريد آخذ منه لقمة فأضعها في فمي فأمضغها ثم أبلعها لأشبع، مثل القائل الذي يقول: نويت أصلي فريضة هذه الصلاة المفروضة على حاضر الوقت، أربع ركعات في جماعة، أداء للّه تعالي. فهذا كله حمق وجهل؛ وذلك أن النية بليغ العلم، فمتي علم العبد ما يفعله كان قد نواه ضرورة، فلا يتصور مع وجود العلم بالعقل أن يفعل بلا نية؛ ولا يمكن مع عدم العلم أن تحصل نية.
وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع، بل من اعتاد ذلك، فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديبًا بمنعه عن ذلك التعبد بالبدع، وإيذاء الناس برفع صوته؛ لأنه قد جاء الحديث: (أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهرن بعضكم على بعض بالقراءة) فكيف حال من يشوش على الناس بكلامه بغير قراءة؟ بل يقول: نويت أصلي، أصلي فريضة كذا وكذا، في وقت كذا وكذا، من الأفعال التي لم يشرعها رسول اللّه ﷺ.
سئل عمن يجهر بالنية وقوله أنها بدعة حسنة
وَسئل رَحمه اللّه عن رجل قيل له: لا يجوز الجهر بالنية في الصلاة ولا أمر به النبي ﷺ. فقال: صحيح أنه ما فعله النبي ﷺ، ولا أمر به، لكن ما نهي عنه، ولا تبطل صلاة من جهر بها. ثم إنه قال: لنا بدعة حسنة، وبدعة سيئة، واحتج بالتراويح أن رسول اللّه ﷺ ما جمعها، ولا نهي عنها. وأن عمر الذي جمع الناس عليها، وأمر بها. فهل هو كما قال؟ وهل تسمي سنن الخلفاء الراشدين بدعة؟ وهل يقاس على سننهم ما سنه غيرهم فهل لها أصل في ما يقوله، ويفعله؟ وقوله: ولا تبطل صلاة من جهر بالنية في الصلاة، وغيرها. فهل يأثم المنكر عليه أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، الجهر بالنية في الصلاة من البدع السيئة، ليس من البدع الحسنة، وهذا متفق عليه بين المسلمين، لم يقل أحد منهم: إن الجهر بالنية مستحب، ولا هو بدعة حسنة، فمن قال ذلك، فقد خالف سنة الرسول ﷺ، وإجماع الأئمة الأربعة، وغيرهم. وقائل هذا يستتاب، فإن تاب، وإلا عوقب بما يستحقه.
وإنما تنازع الناس في نفس التلفظ بها سرًا. هل يستحب أم لا؟ على قولين. والصواب أنه لا يستحب التلفظ بها، فإن النبي ﷺ وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بها لا سرًا ولا جهرًا، والعبادات التي شرعها النبي ﷺ لأمته ليس لأحد تغييرها، ولا إحداث بدعة في ها.
وليس لأحد أن يقول: إن مثل هذا من البدع الحسنة، مثل ما أحدث بعض الناس الأذان في العيدين، والذي أحدثه مروان بن الحكم، فأنكر الصحابة والتابعون لهم بإحسان ذلك. هذا، وإن كان الأذان ذكر اللّه؛ لأنه ليس من السنة. وكذلك لما أحدث الناس اجتماعا راتبًا غير الشرعي: مثل الاجتماع على صلاة معينة، أول رجب أو أول ليلة جمعة فيه، وليلة النصف من شعبان، فأنكر ذلك علماء المسلمين.
ولو أحدث ناس صلاة سادسة يجتمعون عليها غير الصلوات الخمس، لأنكر ذلك عليهم المسلمون، وأخذوا على أيديهم.
وأما قيام رمضان، فإن رسول اللّه ﷺ سنه لأمته، وصلى بهم جماعة عدة ليال، وكانوا على عهده يصلون جماعة، وفرادي، لكن لم يداوموا على جماعة واحدة؛ لئلا تفرض عليهم. فلما مات النبي ﷺ استقرت الشريعة، فلما كان عمر رضي اللّه عنه جمعهم على إمام واحد، وهو أبي بن كعب، الذي جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه .
وعمر رضي اللّه عنه هو من الخلفاء الراشدين حيث يقول ﷺ: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي. عضوا عليها بالنواجذ) يعني الأضراس؛ لأنها أعظم في القوة.
وهذا الذي فعله هو سنة، لكنه قال: نعمت البدعة هذه، فإنها بدعة في اللغة؛ لكونهم فعلوا ما لم يكونوا يفعلونه في حياة رسول اللّه ﷺ، يعني من الاجتماع على مثل هذه، وهي سنة من الشريعة.
وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وهي الحجاز واليمن واليمامة، وكل البلاد الذي لم يبلغه ملك فارس والروم من جزيرة العرب، ومصر الأمصار: كالكوفة والبصرة، وجمع القرآن في مصحف واحد، وفرض الديوان، والأذان الأول يوم الجمعة، واستنابة من يصلي بالناس يوم العيد خارج المصر، ونحو ذلك مما سنه الخلفاء الراشدون؛ لأنهم سنوه بأمر اللّه ورسوله، فهو سنة. وإن كان في اللغة يسمي بدعة.
وأما الجهر بالنية، وتكريرها، فبدعة سيئة ليست مستحبة باتفاق المسلمين؛ لأنها لم يكن يفعلها رسول اللّه ﷺ ولا خلفاؤه الراشدون.
سئل عن رجل إذا صلى يشوش على الصفوف التي حواليه بالجهر بالنية
وَسُئِلَ عن رجل إذا صلى يشوش على الصفوف التي حواليه بالجهر بالنية وأنكروا عليه مرة ولم يرجع، وقال له إنسان: هذا الذي تفعله ما هو من دين اللّه، وأنت مخالف فيه السنة. فقال: هذا دين اللّه الذي بعث به رسله، ويجب على كل مسلم أن يفعل هذا، وكذلك تلاوة القرآن يجهر بها خلف الإمام. فهل هكذا كان يفعل رسول اللّه ﷺ، أو أحد من الصحابة، أو أحد من الأئمة الأربعة، أو من علماء المسلمين؟ فإذا كان لم يكن رسول اللّه ﷺ وأصحابه والعلماء يعملون هذا في الصلاة، فماذا يجب على من ينسب هذا إليهم وهو يعمله؟ فهل يحل للمسلم أن يعينه بكلمة واحدة إذا عمل هذا ونسبه إلى أنه من الدين، ويقول للمنكرين عليه: كل يعمل في دينه ما يشتهي وإنكاركم على جهل؟ وهل هم مصيبون في ذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، الجهر بلفظ النية ليس مشروعا عند أحد من علماء المسلمين، ولا فعله رسول اللّه ﷺ، ولا فعله أحد من خلفائه وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها، ومن ادعي أن ذلك دين اللّه، وأنه واجب، فإنه يجب تعريفه الشريعة، واستتابته من هذا القول، فإن أصر على ذلك قتل، بل النية الواجبة في العبادات كالوضوء والغسل والصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك محلها القلب باتفاق أئمة المسلمين.
والنية هي القصد والإرادة، والقصد والإرادة محلهما القلب دون اللسان باتفاق العقلاء. فلو نوى بقلبه صحت نيته عند الأئمة الأربعة، وسائر أئمة المسلمين من الأولين والآخرين، وليس في ذلك خلاف عند من يقتدي به، ويفتي بقوله، ولكن بعض المتأخرين من أتباع الأئمة زعم أن اللفظ بالنية واجب، ولم يقل: إن الجهر بها واجب. ومع هذا، فهذا القول خطأ صريح مخالف لإجماع المسلمين، ولِمَا عُلِمَ بالاضطرار من دين الإسلام عند من يعلم سنة رسول اللّه ﷺ، وسنة خلفائه، وكيف كان يصلي الصحابة والتابعون. فإن كل من يعلم ذلك يعلم أنهم لم يكونوا يتلفظون بالنية، ولا أمرهم النبي ﷺ بذلك، ولا علمه لأحد من الصحابة، بل قد ثبت في الصحيحين وغيرهما، أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن). وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم). وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها: أن النبي ﷺ كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد للّه رب العالمين. وقد ثبت بالنقل المتواتر وإجماع المسلمين أن النبي ﷺ والصحابة كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير.
ولم ينقل مسلم لا عن النبي ﷺ، ولا عن أحد من الصحابة أنه قد تلفظ قبل التكبير بلفظ النية، لا سرًا ولا جهرًا، ولا أنه أمر بذلك. ومن المعلوم أن الهمم والدواعي متوفرة على نقل ذلك، لو كان ذلك، وأنه يمتنع على أهل التواتر عادة وشرعا كتمان نقل ذلك، فإذا لم ينقله أحد علم قطعًا أنه لم يكن.
ولهذا يتنازع الفقهاء المتأخرون في اللفظ بالنية: هل هو مستحب مع النية التي في القلب؟ فاستحبه طائفة من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. قالوا: لأنه أوكد، وأتم تحقيقًا للنية، ولم يستحبه طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما، وهو المنصوص عن أحمد وغيره، بل رأوا أنه بدعة مكروهة.
قالوا: لو أنه كان مستحبًا لفعله رسول اللّه ﷺ، أو لأمر به، فإنه ﷺ قد بين كل ما يقرب إلى اللّه، لا سيما الصلاة التي لا تؤخذ صفتها إلا عنه، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
قال هؤلاء: فزيادة هذا وأمثاله في صفة الصلاة بمنزلة سائر الزيادات المحدثة في العبادات، كمن زاد في العيدين الأذان والإقامة، ومن زاد في السعي صلاة ركعتين على المروة، وأمثال ذلك.
قالوا: وأيضًا، فإن التلفظ بالنية فاسد في العقل. فإن قول القائل: أنوي أن أفعل كذا وكذا، بمنزلة قوله: أنوي آكل هذا الطعام لأشبع، وأنوي ألبس هذا الثوب لأستتر، وأمثال ذلك من النيات الموجودة في القلب التي يستقبح النطق بها، وقد قال اللّه تعالى: { أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } 105 وقال طائفة من السلف في قوله: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } 106، قالوا: لم يقولوه بألسنتهم، وإنما علمه اللّه من قلوبهم، فأخبر به عنهم.
وبالجملة، فلابد من النية في القلب بلا نزاع. وأما التلفظ بها سرًا فهل يكره أو يستحب؟ فيه نزاع بين المتأخرين.
وأما الجهر بها، فهو مكروه منهي عنه، غير مشروع باتفاق المسلمين، وكذلك تكريرها أشد وأشد.
وسواء في ذلك الإمام والمأموم والمنفرد، فكل هؤلاء لا يشرع لأحد منهم أن يجهر بلفظ النية، ولا يكررها باتفاق المسلمين، بل ينهون عن ذلك، بل جهر المنفرد بالقراءة إذا كان فيه أذي لغيره لم يشرع، كما خرج النبي ﷺ على أصحابه وهم يصلون فقال: (أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة).
وأما المأموم، فالسنة له المخافتة باتفاق المسلمين، لكن إذا جهر أحيانًا بشيء من الذكر، فلا بأس، كالإمام إذا أسمعهم أحيانًا الآية في صلاة السر، فقد ثبت في الصحيح عن أبي قتادة: أنه أخبر عن النبي ﷺ أنه كان في صلاة الظهر والعصر يسمعهم الآية أحيانًا. وثبت في الصحيح أن من الصحابة المأمومين، من جهر بدعاء حين افتتاح الصلاة، وعند رفع رأسه من الركوع، ولم ينكر النبي ﷺ ذلك. ومن أصر على فعل شيء من البدع وتحسينها، فإنه ينبغي أن يعزر تعزيرًا يردعه، وأمثاله عن مثل ذلك.
ومن نسب إلى رسول اللّه ﷺ الباطل خطأ، فإنه يعَرَّف، فإن لم ينته، عوقب. ولا يحل لأحد أن يتكلم في الدين بلا علم ولا يعين من تكلم في الدين بلا علم، أو أدخل في الدين ما ليس منه.
وأما قول القائل: كل يعمل في دينه الذي يشتهي، فهي كلمة عظيمة يجب أن يستتاب منها، وإلا عوقب، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه اللّه ورسوله، دون ما يشتهيه ويهواه، قال اللّه تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ } 107، وقال تعالى: { وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ } 108، { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } 109، وقال: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } 110، وقال تعالى: { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } 111، وقال تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } 112.
وقد روي عنه ﷺ أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به). قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } 113، وقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } 114وقال تعالى: { المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ } 115، وقال تعالى: { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } 116، وأمثال هذا في القرآن كثير.
فتبين أن على العبد أن يتبع الحق الذي بعث اللّه به رسوله، ولا يجعل دينه تبعًا لهواه. واللّه أعلم.
سئل عن رجلين تنازعا في النية
وَسُئِلَ عن رجلين تنازعا في النية فقال أحدهما: لا تدخل الصلاة إلا بالنية، واستدل على ذلك بقوله ﷺ: (لكل امرئ ما نوي) وقال الآخر: تجوز بلا نية، أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد للّه، الصلاة لا تجوز إلا بنية، لكن محل النية القلب باتفاق المسلمين. وهي القصد والإرادة. فإن نوى بقلبه خلاف ما نطق بلسانه، كان الاعتبار بما قصد بقلبه. وتنازع العلماء هل يستحب أن يتكلم بما نواه؟ على قولين. واتفقوا على أنه لا يستحب الجهر بالنية، ولا تكرير التكلم بها، بل ذلك منهي عنه باتفاق الأئمة، ولو لم يتكلم بالنية، صحت صلاته عند الأئمة الأربعة، وغيرهم. ولم يخالف إلا بعض شذوذ المتأخرين.
سئل قوله نية المرء أبلغ من عمله
وسئل رحمه اللّه عن قوله ﷺ: ( نية المرء أبلغ من عمله ) .
فأجاب:
هذا الكلام قاله غير واحد، وبعضهم يذكره مرفوعا، وبيانه من وجوه:
أحدها: أن النية المجردة من العمل، يثاب عليها، والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه. فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص للّه، لم يقبل منه ذلك. وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي ﷺ أنه قال: (من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة).
الثاني: أن من نوى الخير، وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله، كان له أجر عامل. كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم). قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة، حبسهم العذر). وقد صحح الترمذي حديث أبي كَبْشَة الأنماري، عن النبي ﷺ: أنه ذكر أربعة رجال: (رجل آتاه اللّه مالًا وعلمًا، فهو يعمل فيه بطاعة اللّه. ورجل آتاه اللّه علمًا ولم يؤته مالًا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان. قال: فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه اللّه مالًا ولم يؤته علمًا، فهو يعمل فيه بمعصية اللّه. ورجل لم يؤته اللّه مالًا ولا علمًا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان. قال: فهما في الوزر سواء).
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء). وفي الصحيحين عنه أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم)، وشواهد هذا كثيرة.
الثالث: أن القلب ملك البدن، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك، بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود.
الرابع: أن توبة العاجز عن المعصية تصح عند أهل السنة، كتوبة المجبوب عن الزنا، وكتوبة المقطوع اللسان عن القذف، وغيره. وأصل التوبة عزم القلب، وهذا حاصل مع العجز.
الخامس: أن النية لا يدخلها فساد، بخلاف الأعمال الظاهرة. فإن النية أصلها حب اللّه ورسوله، وإرادة وجهه، وهذا هو بنفسه محبوب للّه ورسوله، مرضي للّه ورسوله. والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة، وما لم تسلم منها، لم تكن مقبولة؛ ولهذا كانت أعمال القلب المجردة أفضل من أعمال البدن المجردة. كما قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه، وتفصيل هذا يطول.
واللّه أعلم.
سئل عن رجل حنفي صلى في جماعة وأسر نيته
وَسئل رَحمه اللّه عن رجل حنفي صلى في جماعة، وأسر نيته، ثم رفع يديه في كل تكبيرة، فأنكر عليه فقيه الجماعة، وقال له: هذا لا يجوز في مذهبك وأنت مبتدع فيه، وأنت مذبذب، لا بإمامك اقتديت، ولا بمذهبك اهتديت. فهل ما فعله نقص في صلاته ومخالفة للسنة ولإمامه أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما الذي أنكر عليه إسراره بالنية، فهو جاهل؛ فإن الجهر بالنية لا يجب ولا يستحب، لا في مذهب أبي حنيفة، ولا أحد من أئمة المسلمين، بل كلهم متفقون على أنه لا يشرع الجهر بالنية، ومن جهر بالنية فهو مخطئ، مخالف للسنة باتفاق أئمة الدين، بل مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسائر أئمة المسلمين أنه إذا نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه بالنية لا سرًا ولا جهرًا كانت صحيحة، ولا يجب التكلم بالنية: لا عند أبي حنيفة، ولا عند أحد من الأئمة، حتى أن بعض متأخري أصحاب الشافعي لما ذكر وجها مخرجا أن اللفظ بالنية واجب، غَلَّطَه بقية أصحابه، وقالوا: إنما أوجب الشافعي النطق في أول الصلاة بالتكبير، لا بالنية.
وأما أبو حنيفة وأصحابه، فلم يتنازعوا في أن النطق بالنية لا يجب، وكذلك مالك وأصحابه، وأحمد وأصحابه، بل تنازع العلماء: هل يستحب التلفظ بالنية سرًا؟ على قولين:
فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: يستحب التلفظ بالنية، لا الجهر بها، ولا يجب التلفظ، ولا الجهر.
وقال طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم: بل لا يستحب التلفظ بالنية، لا سرًا ولا جهرًا، كما لا يجب باتفاق الأئمة؛ لأن النبي ﷺ وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بالنية، لا سرًا ولا جهرًا، وهذا القول هو الصواب الذي جاءت به السنة.
وأما رفع اليدين في كل تكبيرة حتى في السجود، فليست هي السنة التي كان النبي ﷺ يفعلها، ولكن الأمة متفقة على أنه يرفع اليدين مع تكبيرة الافتتاح.
وأما رفعهما عند الركوع، والاعتدال من الركوع، فلم يعرفه أكثر فقهاء الكوفة. كإبراهيم النَّخَعي، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم. وأما أكثر فقهاء الأمصار، وعلماء الآثار، فإنهم عرفوا ذلك لما إنه استفاضت به السنة عن النبي ﷺ كالأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، وهو إحدى الروايتين عن مالك.
فإنه قد ثبت في الصحيحين، من حديث ابن عمر وغيره: أن النبي ﷺ كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود، ولا كذلك بين السجدتين، وثبت هذا عن النبي ﷺ في الصحيح من حديث مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر، وأبي حُمَيْد السَّاعدي: في عشرة من أصحاب النبي ﷺ أحدهم أبو قتادة وهو معروف من حديث علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وعدد كثير من الصحابة عن النبي ﷺ. وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رأى من يصلي ولا يرفع يديه في الصلاة، حصبه. وقال عقبة بن عامر: له بكل إشارة عشر حسنات.
والكوفيون حجتهم أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم يكن يرفع يديه. وهم معذورون قبل أن تبلغهم السنة الصحيحة. فإن عبد الله بن مسعود هو الفقيه الذي بعثه عمر ابن الخطاب ليعلم أهل الكوفة السنة. لكن قد حفظ الرفع عن النبي ﷺ كثير من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. وابن مسعود لم يصرح بأن النبي ﷺ لم يرفع إلا أول مرة، لكنهم رأوه يصلي ولا يرفع، إلا أول مرة. والإنسان قد ينسي، وقد يذهل، وقد خفي على ابن مسعود التطبيق في الصلاة، فكان يصلي، وإذا ركع طبق بين يديه، كما كانوا يفعلون أول الإسلام. ثم إن التطبيق نسخ بعد ذلك، وأمروا بالركب، وهذا لم يحفظه ابن مسعود. فإن الرفع المتنازع فيه ليس من نواقض الصلاة، بل يجوز أن يصلي بلا رفع وإذا رفع كان أفضل وأحسن.
وإذا كان الرجل متبعًا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ورأي في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوي فاتبعه، كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه، ولا عدالته بلا نزاع، بل هذا أولي بالحق، وأحب إلى الله ورسوله ﷺ ممن يتعصب لواحد معين، غير النبي ﷺ، كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويري أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه، دون قول الإمام الذي خالفه.
فمن فعل هذا، كان جاهلًا ضالًا، بل قد يكون كافرًا. فإنه متي اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر، فإنه يجب أن يستتاب. فإن تاب، وإلا قتل. بل غاية ما يقال: إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدًا لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو.
وأما أن يقول قائل: إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان، فهذا لا يقوله مسلم.
ومن كان مواليًا للأئمة، محبًا لهم، يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة، فهو محسن في ذلك. بل هذا أحسن حالا من غيره. ولا يقال لمثل هذا: مذبذب على وجه الذم. وإنما المذبذب المذموم الذي لا يكون مع المؤمنين، ولا مع الكفار، بل يأتي المؤمنين بوجه، ويأتي الكافرين بوجه، كما قال تعالى في حق المنافقين: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ } . إلى قوله: { وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } 117، وقال النبي ﷺ:(مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تعير إلى هؤلاء مرة، وإلي هؤلاء مرة).
فهؤلاء المنافقون المذبذبون، هم الذين ذمهم الله ورسوله ﷺ، وقال في حقهم: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } 118، وقال تعالى في حقهم: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } 119، فهؤلاء المنافقون الذين يتولون اليهود الذين غضب الله عليهم، ما هم من اليهود، ولا هم منا، مثل من أظهر الإسلام من اليهود والنصاري والتتر، وغيرهم، وقلبه مع طائفته. فلا هو مؤمن محض، ولا هو كافر ظاهرا وباطنًا، فهؤلاء هم المذبذبون الذين ذمهم الله ورسوله، وأوجب على عباده أن يكونوا مؤمنين، لا كفارًا، ولا منافقين، بل يحبون للَّه، ويبغضون للَّه، ويعطون للَّه، ويمنعون للَّه.
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إلى قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } 120، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ } الآية، 121، وقال تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } 122، وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } 123.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر). وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) وشيك بين أصابعه. وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه). وفي الصحيحين أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه). وقال: (والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالاجتماع والائتلاف، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } إلى قوله: { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إلى قوله: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } 124، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة.
ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين، فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة. وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما. فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله ﷺ. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه، ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم.
ثم غاية المتعصب لواحد منهم، أن يكون جاهلا بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلا ظالمًا، و الله يأمر بالعلم والعدل، وينهي عن الجهل والظلم. قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } إلى آخر السورة 125.
وهذا أبو يوسف ومحمد، أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظمان لإمامهما. لا يقال فيهما مذبذبان، بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب. فإن الإنسان لايزال يطلب العلم والإيمان. فإذا تبين له من العلم ما كان خافيًا عليه، اتبعه. وليس هذا مذبذبا، بل هذا مهتد زاده الله هدي. وقد قال تعالى: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } 126.
فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ، فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له. وعلي المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ. فإن النبي ﷺ قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وسواء رفع يديه أو لم يرفع يديه، لا يقدح ذلك في صلاتهم، ولا يبطلها، لا عند أبي حنيفة ولا الشافعي ولا مالك ولا أحمد. ولو رفع الإمام دون المأموم، أو المأموم دون الإمام، لم يقدح ذلك في صلاة واحد منهما. ولو رفع الرجل في بعض الأوقات دون بعض لم يقدح ذلك في صلاته. وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارا يوجب اتباعه، وينهي عن غيره مما جاءت به السنة، بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع مثل الأذان والإقامة. فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه أمر بلالا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة. وثبت عنه في الصحيحين: أنه علم أبا محذورة الإقامة شفعًا شفعًا، كالأذان. فمن شفع الإقامة فقد أحسن ومن أفردها، فقد أحسن. ومن أوجب هذا دون هذا، فهو مخطئ ضال. ومن والي من يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك فهو مخطئ ضال.
وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين. والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين. والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا. وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا. وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهي الله ورسوله عنه.
وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل، المتبعين الظن، وما تهوي الأنفس، المتبعين لأهوائهم بغير هدي من الله، مستحقون للذم والعقاب. وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه. فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية، فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع. وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب والسنة إلا ما شاء الله، بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة، أو آراء فاسدة أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقًا، وقد تكون كذبا. وإن كانت صدقًا، فليس صاحبها معصومًا يتمسكون بنقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، ويدعون النقل المصدق عن القائل المعصوم وهو ما نقله الثقات الأثبات من أهل العلم ودونوه في الكتب الصحاح، عن النبي ﷺ.
فإن الناقلين لذلك، مصدقون باتفاق أئمة الدين، والمنقول عنه معصوم لا ينطق عن الهوي، إن هو إلا وحي يوحي، قد أوجب الله تعالى على جميع الخلق طاعته واتباعه. قال تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } 127، وقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 128.
و الله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، والهدي والنية. و الله أعلم. والحمد للَّه وحده.
سئل عن إمام شافعي يقول الله أكبر يكرر التكبير مرات عديدة والناس وقوف خلفه
وَسُئِلَ عن إمام شافعي يقول: الله أكبر، يكرر التكبير مرات عديدة والناس وقوف خلفه.
فأجاب:
الحمد للَّه، تكرير اللفظ بالنية، والتكبير، والجهر بلفظ النية أيضًا منهي عنه عند الشافعي، وسائر أئمة الإسلام، وفاعل ذلك مسيء. وإن اعتقد ذلك دينًا، فقد خرج عن إجماع المسلمين، ويجب نهيه عن ذلك. وإن عزل عن الإمامة إذا لم ينته، كان له وجه. فإن في سنن أبي داود: أن النبي ﷺ أمر بعزل إمام لأجل بزاقه في القبلة. فإن الإمام عليه أن يصلي، كما كان النبي ﷺ يصلي، ليس له أن يقتصر على ما يقتصر عليه المنفرد بل ينهي عن التطويل والتقصير، فكيف إذا أصر على ما ينهي عنه الإمام والمأموم والمنفرد. و الله أعلم.
سئل عن رجل إذا صلى بالليل ينوي ويقول أصلي نصيب الليل
وَسُئِلَ عن رجل إذا صلى بالليل ينوي، ويقول أصلي نصيب الليل.
فأجاب:
هذه العبارة أصلي نصيب الليل لم تنقل عن سلف الأمة، وأئمتها. والمشروع أن ينوي الصلاة للَّه، سواء كانت بالليل أو النهار، وليس عليه أن يتلفظ بالنية. فإن تلفظ بها، وقال: أصلي للَّه صلاة الليل، أو أصلي قيام الليل، ونحو ذلك، جاز. ولم يستحب ذلك، بل الاقتداء بالسنة أولى. و الله أعلم.
سئل عن رجل أدرك مع الجماعة ركعة فلما سلم الإمام قام ليتم صلاته فجاء آخر فصلي معه
وَسُئِلَ عن رجل أدرك مع الجماعة ركعة، فلما سلم الإمام قام ليتم صلاته فجاء آخر فصلي معه، فهل يجوز الاقتداء بهذا المأموم؟
فأجاب:
أما الأول، ففي صلاته قولان في مذهب أحمد وغيره، لكن الصحيح أن مثل هذا جائز، وهو قول أكثر العلماء، إذا كان الإمام قد نوي الإمامة، والمؤتم قد نوي الائتمام. فإن نوى المأموم الائتمام ولم ينو الإمام الإمامة، ففيه قولان:
أحدهما: تصح كقول الشافعي، ومالك وغيرهما، وهو رواية عن أحمد.
والثاني: لا تصح، وهو المشهور عن أحمد. وذلك أن ذلك الرجل كان مؤتمًا في أول الصلاة، وصار منفردًا بعد سلام الإمام. فإذا ائتم به ذلك الرجل، صار المنفرد إمامًا، كما صار النبي ﷺ إمامًا بابن عباس، بعد أن كان منفردًا. وهذا يصح في النفل كما جاء في هذا الحديث، كما هو منصوص عن أحمد وغيره من الأئمة. وإن كان قد ذُكِرَ في مذهبه قول بأنه لا يجوز. وأما في الفرض، فنزاع مشهور، والصحيح جواز ذلك في الفرض والنفل. فإن الإمام التزم بالإمامة أكثر مما كان يلزمه في حال الانفراد، فليس بمصير المنفرد إمامًا محذورًا أصلا، بخلاف الأول. و الله أعلم.
باب صفة الصلاة
سئل عن رجل مشى إلى صلاة الجمعة مستعجلا
سئل رحمه الله عن رجل مشي إلى صلاة الجمعة مستعجلا، فأنكر ذلك عليه بعض الناس، وقال: امش على رسلك. فرد ذلك الرجل وقال: قد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } 129 فما الصواب؟
فأجاب:
ليس المراد بالسعي المأمور به العَدْو. فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال(إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) وروي: (فاقضوا). ولكن قال الأئمة: السعي في كتاب الله هو العمل والفعل، كما قال تعالى: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } 130، وقال تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } 131، وقال تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا } 132، وقال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا } 133، وقال عن فرعون: { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى } 134، وقد قرأ عمر بن الخطاب:(فامضوا إلى ذكر الله) فالسعي المأمور به إلى الجمعة هو المضي إليها، والذهاب إليها.
ولفظ السعي في الأصل اسم جنس، ومن شأن أهل العرف، إذا كان الاسم عامًا لنوعين، فإنهم يفردون أحد نوعيه باسم، ويبقي الاسم العام مختصًا بالنوع الآخر، كما في لفظ: ذوي الأرحام، فإنه يعم جميع الأقارب: من يرث بفرض وتعصيب، ومن لا فرض له ولا تعصيب. فلما مُيِّز ذو الفرض والعصبة، صار في عرف الفقهاء ذوو الأرحام مختصًا بمن لا فرض له ولا تعصيب.
وكذلك لفظ الجائز يعم ما وجب ولزم من الأفعال والعقود، وما لم يلزم. فلما خص بعض الأعمال بالوجوب وبعض العقود باللزوم، بقي اسم الجائز في عرفهم مختصًا بالنوع الآخر.
وكذلك اسم الخمر هو عام لكل شراب، لكن لما أفرد ما يصنع من غير العنب باسم النبيذ، صار اسم الخمر في العرف مختصًا بعصير العنب، حتى ظن طائفة من العلماء أن اسم الخمر في الكتاب والسنة مختص بذلك. وقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بعمومه، ونظائر هذا كثيرة.
وبسبب هذا الاشتراك الحادث، غلط كثير من الناس في فهم الخطاب بلفظ السعي من هذا الباب. فإنه في الأصل عام في كل ذهاب ومضي، وهو السعي المأمور به في القرآن. وقد يخص أحد النوعين باسم المشي، فيبقي لفظ السعي مختصًا بالنوع الآخر، وهذا هو السعي الذي نهي عنه النبي ﷺ حيث قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون). وقد روي أن عمر كان يقرأ: (فامضوا) ويقول: لو قرأتها فاسعوا لعدوت حتى يكون كذا وهذا إن صح عنه فيكون قد اعتقد أن لفظ السعي هو الخاص.
ومما يشبه هذا: السعي بين الصفا والمروة، فإنه إنما يهرول في بطن الوادي بين الميلين. ثم لفظ السعي يخص بهذا. وقد يجعل لفظ السعي عامًا لجميع الطواف بين الصفا والمروة، لكن هذا كأنه باعتبار أن بعضه سعي خاص. و الله أعلم.
وَسُئِلَ عن أقوام يبتدرون السواري قبل الناس، وقبل تكميل الصفوف ويتخذون لهم مواضع دون الصف، فهل يجوز التأخر عن الصف الأول؟
فأجاب:
قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟) قالوا: يا رسول الله، كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف). وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه). وثبت عنه في الصحيح: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها). وأمثال ذلك من السنن، التي ينبغي فيها للمصلين أن يتموا الصف الأول، ثم الثاني.
فمن جاء أول الناس، وصف في غير الأول، فقد خالف الشريعة، وإذا ضم إلى ذلك إساءة الصلاة، أو فضول الكلام، أو مكروهه، أو محرمه، ونحو ذلك مما يصان المسجد عنه فقد ترك تعظيم الشرائع، وخرج عن الحدود المشروعة من طاعة الله. وإن لم يعتقد نقص ما فعله، ويلتزم اتباع أمر الله، استحق العقوبة البليغة التي تحمله وأمثاله على أداء ما أمر الله به، وترك ما نهي الله عنه. و الله أعلم.
سئل عن المصلين إذا لم يسووا صفوفهم
وَسُئِلَ عن المصلين إذا لم يسووا صفوفهم، بل كل إنسان يصلي منفردًا؟ وهل تجوز صلاتهم هكذا في الأسواق، أم لا؟
فأجاب:
ليس لأحد أن يصلي منفردًا خلف الصف، بل على الناس أن يصلوا مصطفين. وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (لا صلاة لفذ خلف الصف). ولا يصح لهم أن يصلوا في السوق حتى تتصل الصفوف، بل عليهم أن يقاربوا الصفوف، ويسدوا الأول فالأول.
والله أعلم.
وسئل أيما أفضل في صلاة الجهر ترك الجهر بالبسملة أو الجهر به
وَسُئِلَ شيخُ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله: عما يشتبه على الطالب للعبادة من جهة الأفضلية مما اختلف فيه الأئمة من المسائل التي أذكرها وهي: أيما أفضل في صلاة الجهر: ترك الجهر بالبسملة، أو الجهر بها؟ وأيما أفضل: المداومة على القنوت في صلاة الفجر، أم تركه، أم فعله أحيانا بحسب المصلحة؟ وكذلك في الوتر؟ وأيما أفضل: طول الصلاة ومناسبة أبعاضها في الكمية والكيفية، أو تخفيفها بحسب ما اعتادوه في هذه الأزمنة؟ وأيما أفضل مع قصر الصلاة في السفر: مداومة الجمع، أم فعله أحيانا بحسب الحاجة؟ وهل قيام الليل كله بدعة أم سنة، أم قيام بعضه أفضل من قيامه كله؟ وكذلك سرد الصوم أفضل، أم صوم بعض الأيام وإفطار بعضها؟ وفي المواصلة أيضا؟ وهل لبس الخشن وأكله دائما أفضل، أم لا؟ وأيما أفضل: فعل السنن الرواتب في السفر، أم تركها؟ أم فعل البعض دون البعض. وكذلك التطوع بالنوافل في السفر؟ وأيما أفضل: الصوم في السفر أم الفطر؟ وإذا لم يجد ماء أو تعذر عليه استعماله لمرض، أو يخاف منه الضرر من شدة البرد، وأمثال ذلك، فهل يتيمم أم لا؟ وهل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر أم لا؟ وأيما أفضل في إغماء هلال رمضان: الصوم أم الفطر؟ أم يخير بينهما؟ أم يستحب فعل أحدهما؟ وهل ما واظب عليه النبي ﷺ في جميع أفعاله وأحواله وأقواله وحركاته وسكناته، وفي شأنه كله من العبادات والعادات، هل المواظبة على ذلك كله سنة في حق كل واحد من الأمة، أم يختلف بحسب اختلاف المراتب والراتبين؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد للَّه، هذه المسائل التي يقع فيها النزاع مما يتعلق بصفات العبادات أربعة أقسام:
منها: ما ثبت عن النبي ﷺ أنه سن كل واحد من الأمرين، واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك. لكن قد يتنازعون في الأفضل. وهو بمنزلة القراءات الثابتة عن النبي ﷺ التي اتفق الناس على جواز القراءة بأي قراءة شاء منها، كالقراءة المشهورة بين المسلمين، فهذه يقرأ المسلم بما شاء منها، وإن اختار بعضها لسبب من الأسباب.
ومن هذا الباب الاستفتاحات المنقولة عن النبي ﷺ أنه كان يقولها في قيام الليل، وأنواع الأدعية التي كان يدعو بها في صلاته في آخر التشهد. فهذه الأنواع الثابتة عن النبي ﷺ كلها سائغة باتفاق المسلمين، لكن ما أمر به من ذلك أفضل لنا مما فعله ولم يأمر به.
وقد ثبت في الصحيح أنه قال: (إذا قعد أحدكم في التشهد فليستعذ باللَّه من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال). فالدعاء بهذا أفضل من الدعاء بقوله: (اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت). وهذا أيضًا قد صح عن النبي ﷺ أنه كان يقوله في آخر صلاته، لكن الأول أمر به.
وما تنازع العلماء في وجوبه، فهو أوكد مما لم يأمر به ولم يتنازع العلماء في وجوبه. وكذلك الدعاء الذي كان يكرره كثيرًا كقوله: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } 135، أوكد مما ليس كذلك.
القسم الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلا من الأمرين كانت عبادته صحيحة، ولا إثم عليه، لكن يتنازعون في الأفضل، وفيما كان النبي ﷺ يفعله. ومسألة القنوت في الفجر والوتر، والجهر بالبسملة، وصفة الاستعاذة ونحوها، من هذا الباب. فإنهم متفقون على أن من جهر بالبسملة، صحت صلاته. ومن خافت، صحت صلاته. وعلي أن من قنت في الفجر، صحت صلاته. ومن لم يقنت فيها، صحت صلاته. وكذلك القنوت في الوتر. وإنما تنازعوا في وجوب قراءة البسملة، وجمهورهم على أن قراءتها لا تجب. وتنازعوا أيضًا في استحباب قراءتها. وجمهورهم على أن قراءتها مستحبة.
وتنازعوا فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه، مثل أن يترك قراءة البسملة والمأموم يعتقد وجوبها. أو يمس ذكره ولا يتوضأ، والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك. أو يصلي في جلود الميتة المدبوغة، والمأموم يرى أن الدباغ لا يطهر. أو يحتجم ولا يتوضأ والمأموم يرى الوضوء من الحجامة. والصحيح المقطوع به أن صلاة المأموم صحيحة خلف إمامه، وإن كان إمامه مخطئا في نفس الأمر؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا، فلكم ولهم. وإن أخطؤوا، فلكم وعليهم) .
وكذلك إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر، قنت معه. سواء قنت قبل الركوع، أو بعده. وإن كان لا يقنت معه.
ولو كان الإمام يرى استحباب شيء، والمأمومون لا يستحبونه، فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف، كان قد أحسن. مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة، كالمغرب. كقول من قاله من أهل العراق.
والثاني: أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها، كقول من قال ذلك من أهل الحجاز.
والثالث: أن الأمرين جائزان، كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو الصحيح. وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله. فلو كان الإمام يرى الفصل، فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب، فوافقهم على ذلك تأليفًا لقلوبهم، كان قد أحسن، كما قال النبي ﷺ لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين، بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه) فترك الأفضل عنده؛ لئلا ينفر الناس.
وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة، فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم، كان قد أحسن، وإنما تنازعوا في الأفضل، فهو بحسب ما اعتقدوه من السنة.
وطائفة من أهل العراق اعتقدت أن النبي ﷺ لم يقنت إلا شهرًا، ثم تركه على وجه النسخ له، فاعتقدوا أن القنوت في المكتوبات منسوخ. وطائفة من أهل الحجاز اعتقدوا أن النبي ﷺ مازال يقنت حتى فارق الدنيا. ثم منهم من اعتقد أنه كان يقنت قبل الركوع، ومنهم من كان يعتقد أنه كان يقنت بعد الركوع. والصواب هو القول الثالث الذي عليه جمهور أهل الحديث. وكثير من أئمة أهل الحجاز، وهو الذي ثبت في الصحيحين وغيرهما؛ أنه ﷺ قنت شهرًا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم ترك هذا القنوت، ثم إنه بعد ذلك بمدة بعد خيبر، وبعد إسلام أبي هريرة قنت، وكان يقول في قنوته: (اللهم، أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف). فلو كان قد نسخ القنوت، لم يقنت هذه المرة الثانية. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قنت في المغرب، وفي العشاء الآخرة.
وفي السنن أنه كان يقنت في الصلوات الخمس.وأكثر قنوته كان في الفجر، ولم يكن يداوم على القنوت لا في الفجر ولا غيرها، بل قد ثبت في الصحيحين عن أنس أنه قال: لم يقنت بعد الركوع إلا شهرًا، فالحديث الذي رواه الحاكم وغيره من حديث الربيع بن أنس عن أنس أنه قال: مازال يقنت حتى فارق الدنيا، إنما قاله في سياقه القنوت قبل الركوع. وهذا الحديث لو عارض الحديث الصحيح لم يلتفت إليه، فإن الربيع بن أنس ليس من رجال الصحيح، فكيف وهو لم يعارضه، وإنما معناه أنه كان يطيل القيام في الفجر دائما، قبل الركوع.
وأما أنه كان يدعو في الفجر دائمًا قبل الركوع أو بعده بدعاء يسمع منه أو لا يسمع، فهذا باطل قطعًا. وكل من تأمل الأحاديث الصحيحة، علم هذا بالضرورة، وعلم أن هذا لو كان واقعًا، لنقله الصحابة والتابعون، ولما أهملوا قنوته الراتب المشروع لنا، مع أنهم نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه، وإنما يشرع نظيره. فإن دعاءه لأولئك المعينين، وعلي أولئك المعينين، ليس بمشروع باتفاق المسلمين، بل إنما يشرع نظيره. فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين، ويدعو على الكفار في الفجر، وفي غيرها من الصلوات، وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصاري بدعائه الذي فيه: اللهم العن كفرة أهل الكتاب ... إلى آخره.
وكذلك على رضي الله عنه لما حارب قوما، قنت يدعو عليهم. وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سمي من يدعو لهم من المؤمنين، ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنًا.
وأما قنوت الوتر، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا يستحب بحال؛ لأنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه قنت في الوتر. وقيل: بل يستحب في جميع السنة، كما ينقل عن ابن مسعود وغيره؛ ولأن في السنن أن النبي ﷺ علم الحسن بن على رضي الله عنهما دعاء يدعو به في قنوت الوتر. وقيل: بل يقنت في النصف الأخير من رمضان. كما كان أبي ابن كعب يفعل.
وحقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة، من شاء فعله، ومن شاء تركه. كما يخير الرجل أن يوتر بثلاث، أو خمس، أو سبع، وكما يخير إذا أوتر بثلاث، إن شاء فصل، وإن شاء وصل.
وكذلك يخير في دعاء القنوت إن شاء فعله، وإن شاء تركه. وإذا صلى بهم قيام رمضان فإن قنت في جميع الشهر، فقد أحسن. وإن قنت في النصف الأخير، فقد أحسن. وإن لم يقنت بحال فقد أحسن.
كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي ﷺ فيه عددًا معينًا، بل كان هو ﷺ لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات. فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب، كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث. وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث، وهذا كله سائغ. فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه، فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها. كما كان النبي ﷺ يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه، فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين. فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين. وإن قام بأربعين وغيرها، جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، كأحمد وغيره.
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي ﷺ لا يزاد فيه ولا ينقص منه، فقد أخطأ، فإذا كانت هذه السعة في نفس عدد القيام، فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه، كل ذلك سائغ حسن. وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة، وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها.
وكانت صلاة رسول الله ﷺ معتدلة. إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود. هكذا كان يفعل في المكتوبات، وقيام الليل، وصلاة الكسوف، وغير ذلك.
وقد تنازع الناس: هل الأفضل طول القيام؟ أم كثرة الركوع والسجود؟ أو كلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال:
أصحها أن كليهما سواء. فإن القيام اختص بالقراءة، وهي أفضل من الذكر والدعاء، والسجود نفسه أفضل من القيام، فينبغي أنه إذا طول القيام، أن يطيل الركوع والسجود، وهذا هو طول القنوت الذي أجاب به النبي ﷺ لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ فقال: (طول القنوت). فإن القنوت هو إدامة العبادة، سواء كان في حال القيام، أو الركوع، أو السجود، كما قال تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا } 136 فسماه قانتا في حال سجوده، كما سماه قانتًا في حال قيامه.
وأما البسملة: فلا ريب أنه كان في الصحابة من يجهر بها وفيهم من كان لا يجهر بها، بل يقرؤها سرًا، أو لا يقرؤها. والذين كانوا يجهرون بها، أكثرهم كان يجهر بها تارة، ويخافت بها أخري؛ وهذا لأن الذكر قد تكون السنة المخافتة به، ويجهر به لمصلحة راجحة مثل تعليم المأمومين، فإنه قد ثبت في الصحيح أن ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة، ليعلمهم أنها سنة.
وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاث أقوال:
قيل: لا تستحب بحال، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك.
وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة. كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي، وأحمد.
وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة، وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة، جاز. وهذا هو الصواب.
وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقول: الله أكبر، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك يجهر بذلك مرات كثيرة. واتفق العلماء على أن الجهر بذلك ليس بسنة راتبة، لكن جهر به للتعليم؛ ولذلك نقل عن بعض الصحابة أنه كان يجهر أحيانًا بالتعوذ، فإذا كان من الصحابة من جهر بالاستفتاح والاستعاذة مع إقرار الصحابة له على ذلك، فالجهر بالبسملة أولي أن يكون كذلك وأن يشرع الجهر بها أحيانا لمصلحة راجحة.
لكن لا نزاع بين أهل العلم بالحديث أن النبي ﷺ لم يجهر بالاستفتاح، ولا بالاستعاذة، بل قد ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قال له: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟ قال: (أقول: اللهم بَعِّد بيني وبين خطاياي، كما بعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) .
وفي السنن عنه أنه كان يستعيذ في الصلاة قبل القراءة، والجهر بالبسملة أقوى من الجهر بالاستعاذة؛ لأنها آية من كتاب الله تعالى وقد تنازع العلماء في وجوبها. وإن كانوا قد تنازعوا في وجوب الاستفتاح، والاستعاذة. وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره. لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة.
والقائلون بوجوبها من العلماء، أفضل وأكثر، لكن لم يثبت عن النبي ﷺ أنه كان يجهر بها، وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر، والأحاديث الصريحة بالجهر كلها ضعيفة بل موضوعة. ولهذا لما صنف الدارقطني مصنفًا في ذلك، قيل له: هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي ﷺ فلا، وأما عن الصحابة، فمنه صحيح، ومنه ضعيف.
ولو كان النبي ﷺ يجهر بها دائمًا، لكان الصحابة ينقلون ذلك، ولكان الخلفاء يعلمون ذلك، ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك بعد انقضاء عصر الخلفاء، ولما كان الخلفاء الراشدون ثم خلفاء بني أمية وبني العباس كلهم متفقين على ترك الجهر، ولما كان أهل المدينة وهم أعلم أهل المدائن بسنته ينكرون قراءتها بالكلية سرًا، وجهرًا، والأحاديث الصحيحة تدل على أنها آية من كتاب الله، وليست من الفاتحة، ولا غيرها.
وقد تنازع العلماء: هل هي آية، أو بعض آية من كل سورة؟ أو ليست من القرآن إلا في سورة النمل؟ أو هي آية من كتاب الله حيث كتبت في المصاحف، وليست من السور؟ على ثلاثة أقوال. والقول الثالث: هو أوسط الأقوال، وبه تجتمع الأدلة. فإن كتابة الصحابة لها في المصاحف دليل على أنها من كتاب الله. وكونهم فصلوها عن السورة التي بعدها دليل على أنها ليست منها. وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: (نزلت على آنفا سورة فقرأ: { بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } إلى آخرها). وثبت في الصحيح (أنه أول ما جاء الملك بالوحي قال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 137، فهذا أول ما نزل، ولم ينزل قبل ذلك (بسم اللّه الرحمن الرحيم). وثبت عنه في السنن أنه قال: (سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } . وهي ثلاثون آية بدون البسملة.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (يقول اللّه تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، قال اللّه: حمدني عبدي. فإذا قال: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ، قال اللّه: أثني على عبدي. فإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، قال اللّه: مجدني عبدي. فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال: هذه الاية بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ، قال اللّه: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل) .
فهذا الحديث صحيح صريح في أنها ليست من الفاتحة، ولم يعارضه حديث صحيح صريح. وأجود ما يري في هذا الباب من الحديث إنما يدل على أنه يقرأ بها في أول الفاتحة، لا يدل على أنها منها. ولهذا كان القراء منهم من يقرأ بها في أول السورة، ومنهم من لا يقرأ بها. فدل على أن كلا الأمرين سائغ، لكن من قرأ بها، كان قد أتي بالأفضل. وكذلك من كرر قراءتها في أول كل سورة كان أحسن ممن ترك قراءتها؛ لأنه قرأ ما كتبته الصحابة في المصاحف. فلو قدر أنهم كتبوها على وجه التبرك، لكان ينبغي أن تقرأ على وجه التبرك، وإلا فكيف يكتبون في المصحف ما لا يشرع قراءته، وهم قد جردوا المصحف عما ليس من القرآن، حتى أنهم لم يكتبوا التأمين، ولا أسماء السور ولا التخميس، والتعشير، ولا غير ذلك. مع أن السنة للمصلي أن يقول عقب الفاتحة: آمين، فكيف يكتبون ما لا يشرع أن يقوله، وهم لم يكتبوا ما يشرع أن يقوله المصلي من غير القرآن؟ فإذا جمع بين الأدلة الشرعية، دلت على أنها من كتاب اللّه، وليست من السورة.
والحديث الصحيح عن أنس ليس فيه نفي قراءة النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ { بٌسًمٌ بلَّهٌ برَّحًمّنٌ برَّحٌيمٌ } أو: فلم يكونوا يجهرون (ببسم اللّه الرحمن الرحيم) ورواية من روي:فلم يكونوا يذكرون (بسم اللّه الرحمن الرحيم) في أول قراءة ولا آخرها إنما تدل على نفي الجهر، لأن أنسًا لم ينف إلا ما علم، وهو لا يعلم ما كان يقوله النبي ﷺ سرًا. ولا يمكن أن يقال: إن النبي ﷺ لم يكن يسكت، بل يصل التكبير بالقراءة. فإنه قد ثبت في الصحيحين أن أبا هريرة قال له: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟.
ومن تأول حديث أنس على نفي قراءتها سرًا، فهو مقابل لقول من قال: مراد أنس أنهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور، وهذا أيضًا ضعيف. فإن هذا من العلم العام الذي ما زال الناس يفعلونه، وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الأمراء الذين صلى خلفهم أنس يقرؤون الفاتحة قبل السورة، ولم ينازع في ذلك أحد ولا سئل عن ذلك أحد لا أنس ولا غيره. ولا يحتاج أن يروي أنس هذا عن النبي ﷺ وصاحبيه، ومن روي عن أنس أنه شك هل كان النبي ﷺ يقرأ البسملة أو لا يقرؤها، فروايته توافق الروايات الصحيحة؛ لأن أنسًا لم يكن يعلم هل قرأها سرًا أم لا، وإنما نفى الجهر.
ومن هذا الباب الذي اتفق العلماء على أنه يجوز فيه الأمران: فعل الرواتب في السفر، فإنه من شاء فعلها، ومن شاء تركها، باتفاق الأئمة. والصلاة التي يجوز فعلها وتركها، قد يكون فعلها أحيانًا أفضل لحاجة الإنسان إليها، وقد يكون تركها أفضل إذا كان مشتغلًا عن النافلة بما هو أفضل منها، لكن النبي ﷺ في السفر لم يكن يصلي من الرواتب إلا ركعتي الفجر والوتر، ولما نام عن الفجر صلى السنة والفريضة بعدما طلعت الشمس، وكان يصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، وهذا كله ثابت في الصحيح.
فأما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، فلم ينقل أحد عنه أنه فعل ذلك في السفر.
وقد تنازع العلماء في السنن الرواتب مع الفريضة. فمنهم من لم يوقت في ذلك شيئًا. ومنهم من وقت أشياء بأحاديث ضعيفة، بل أحاديث يعلم أهل العلم بالحديث أنها موضوعة، كمن يوقت ستًا قبل الظهر، وأربعًا بعدها، وأربعا قبل العصر، وأربعًا قبل العشاء، وأربعًا بعدها ونحو ذلك.
والصواب في هذا الباب القول بما ثبت في الأحاديث الصحيحة دون ما عارضها، وقد ثبت في الصحيح ثلاثة أحاديث: حديث ابن عمر قال:( حفظت عن رسول اللّه ﷺ ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)، وحديث عائشة كان رسول اللّه ﷺ يصلي قبل الظهر أربعًا وهو في الصحيح أيضًا وسائره في صحيح مسلم، كحديث ابن عمر، وهكذا في الصحيح وفي رواية صححها الترمذي صلي قبل الظهر ركعتين.
وحديث أم حبيبة عن النبي ﷺ أنه قال: (من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة، بنى اللّه له بيتًا في الجنة) . وقد جاء في السنن تفسيرها: (أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر) فهذا الحديث الصحيح فيه أنه رغب بقوله في: ثنتي عشرة ركعة.
وفي الحديثين الصحيحين أنه كان يصلي مع المكتوبة إما عشر ركعات، وإما اثنتي عشرة ركعة. وكان يقوم من الليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة . فكان مجموع صلاة الفريضة والنافلة في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة، كان يوتر صلاة النهار بالمغرب، ويوتر صلاة الليل بوتر الليل. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، وقال: في الثالثة لمن شاء) كراهية أن يتخذها الناس سنة.
وثبت في الصحيح أن أصحابه كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها ركعتين، وهو يراهم ولا ينهاهم). فإذا كان التطوع بين أذاني المغرب مشروعا، فلأن يكون مشروعا بين أذاني العصر والعشاء بطريق الأولى؛ لأن السنة تعجيل المغرب باتفاق الأئمة. فدل ذلك على أن الصلاة قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء: من التطوع المشروع، وليس هو من السنن الراتبة التي قدرها بقوله، ولا داوم عليها بفعله.
ومن ظن أنه كان له سنة يصليها قبل العصر قضاها بعد العصر، فقد غلط، وإنما كانت تلك ركعتي الظهر لما فاتته قضاها بعد العصر، وما يفعل بعد الظهر فهو قبل العصر، ولم يقض بعد العصر إلا الركعتين بعد الظهر.
والتطوع المشروع كالصلاة بين الأذانين، وكالصلاة وقت الضحى، ونحو ذلك، هو كسائر التطوعات من الذكر والقراءة والدعاء مما قد يكون مستحبًا لمن لا يشتغل عنه بما هو أفضل منه، ولا يكون مستحبًا لمن اشتغل عنه بما هو أفضل منه. والمداومة على القليل أفضل من كثير لا يداوم عليه؛ ولهذا كان عمل رسول اللّه ﷺ ديمة.
واستحب الأئمة أن يكون للرجل عدد من الركعات يقوم بها من الليل لا يتركها، فإن نشط أطالها، وإن كسل خففها، وإذا نام عنها صلى بدلها من النهار، كما كان النبي ﷺ إذا نام عن صلاة الليل صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة، وقال: (من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل) .
ومن هذا الباب صلاة الضحى فإن النبي ﷺ لم يكن يداوم عليها باتفاق أهل العلم بسنته. ومن زعم من الفقهاء أن ركعتي الضحى كانتا واجبتين عليه، فقد غلط. والحديث الذي يذكرونه: (ثلاث هن علي فريضة، ولكم تطوع: الوتر، والفجر، وركعتا الضحى) حديث موضوع بل ثبت في حديث صحيح لا معارض له أن النبي ﷺ كان يصلي وقت الضحى لسبب عارض لا لأجل الوقت: مثل أن ينام من الليل، فيصلي من النهار. اثنتي عشرة ركعة، ومثل أن يقدم من سفر وقت الضحى، فيدخل المسجد فيصلي فيه.
ومثل ما صلى لما فتح مكة ثماني ركعات، وهذه الصلاة كانوا يسمونها صلاة الفتح، وكان من الأمراء من يصليها إذا فتح مصرًا. فإن النبي ﷺ إنما صلاها لما فتح مكة. ولو كان سببها مجرد الوقت كقيام الليل، لم يختص بفتح مكة. ولهذا كان من الصحابة من لا يصلي الضحى، لكن قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) . وفي رواية لمسلم: (وركعتي الضحى كل يوم) .
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول اللّه ﷺ: (يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة. فكل تسبيحة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهي عن المنكر صدقة. ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) . وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خرج النبي ﷺ على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: (صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى) . وهذه الأحاديث الصحيحة وأمثالها، تبين أن الصلاة وقت الضحى حسنة محبوبة.
بقي أن يقال: فهل الأفضل المداومة عليها كما في حديث أبي هريرة أو الأفضل ترك المداومة اقتداء بالنبي ﷺ؟ هذا مما تنازعوا فيه. والأشبه أن يقال: من كان مداومًا على قيام الليل، أغناه عن المداومة على صلاة الضحى، كما كان النبي ﷺ يفعل، ومن كان ينام عن قيام الليل، فصلاة الضحى بدل عن قيام الليل.
وفي حديث أبي هريرة أنه أوصاه أن يوتر قبل أن ينام. وهذا إنما يوصى به من لم يكن عادته قيام الليل، وإلا فمن كانت عادته قيام الليل، وهو يستيقظ غالبًا من الليل، فالوتر آخر الليل أفضل له، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: (من خشي ألا يستيقظ آخر الليل فليوتر أوله. ومن طمع أن يستيقظ آخره فليوتر آخره. فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل) وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ فقال: (قيام الليل) .
فصل ما قد ثبت عن النبي فيه
والقسم الثالث: ما قد ثبت عن النبي ﷺ فيه أنه سن الأمرين، لكن بعض أهل العلم حرم أحد النوعين، أو كرهه؛ لكونه لم يبلغه، أو تأول الحديث تأويلا ضعيفًا. والصواب في مثل هذا أن كل ما سنه رسول اللّه ﷺ لأمته، فهو مسنون، لا ينهى عن شيء منه، وإن كان بعضه أفضل من ذلك.
فمن ذلك أنواع التشهدات: فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ تشهد ابن مسعود، وثبت عنه في صحيح مسلم تشهد أبي موسى، وألفاظه قريبة من ألفاظه. وثبت عنه في صحيح مسلم تشهد ابن عباس.
وفي السنن تشهد ابن عمر، وعائشة، وجابر. وثبت في الموطأ وغيره أن عمر بن الخطاب علم المسلمين تشهدًا على منبر النبي ﷺ، ولم يكن عمر ليعلمهم تشهدًا يقرونه عليه إلا وهو مشروع، فلهذا كان الصواب عند الأئمة المحققين أن التشهد بكل من هذه جائز، لا كراهة فيه. ومن قال: إن الإتيان بألفاظ تشهد ابن مسعود واجب كما قاله بعض أصحاب أحمد، فقد أخطأ.
ومن ذلك الأذان والإقامة: فإنه قد ثبت في الصحيح عن أنس أن بلالًا أُمِرَ أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وثبت في الصحيح أنه علم أبا محذورة الأذان والإقامة، فرجَّع في الأذان، وثنّى الإقامة. وفي بعض طرقه أنه كبر في أوله أربعًا، كما في السنن. وفي بعضها أنه كبر مرتين، كما في صحيح مسلم. وفي السنن أن أذان بلال الذي رواه عبد اللّه بن زيد ليس فيه ترجيع للأذان، ولا تثنية للإقامة، فكل واحد من أذان بلال وأبي محذورة سنة، فسواء رجع المؤذن في الأذان، أو لم يرجع، وسواء أفرد الإقامة، أو ثناها، فقد أحسن، واتبع السنة.
ومن قال: إن الترجيع واجب، لابد منه، أو أنه مكروه منهي عنه، فكلاهما مخطئ، وكذلك من قال: إن إفراد الإقامة مكروه، أو تثنيتها مكروه، فقد أخطأ. وأما اختيار أحدهما فهذا من مسائل الاجتهاد، كاختيار بعض القراءات على بعض، واختيار بعض التشهدات على بعض.
ومن هذا الباب أنواع صلاة الخوف التي صلاها رسول اللّه ﷺ، وكذلك أنواع الاستسقاء. فإنه استسقي مرة في مسجده بلا صلاة الاستسقاء، ومرة خرج إلى الصحراء فصلي بهم ركعتين، وكانوا يستسقون بالدعاء بلا صلاة، كما فعل ذلك خلفاؤه، فكل ذلك حسن جائز.
ومن هذا الباب الصوم والفطر للمسافر في رمضان: فإن الأئمة الأربعة اتفقوا على جواز الأمرين، وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا الفطر، وأنه لو صام لم يجزئه. وزعموا أن الإذن لهم في الصوم في السفر منسوخ بقوله: (ليس من البر الصيام في السفر) والصحيح ما عليه الأئمة. وليس في هذا الحديث ما ينافي إذنه لهم في الصيام في السفر. فإنه نفي أن يكون من البر، ولم ينف أن يكون جائزًا مباحا. والفرض يسقط بفعل النوع الجائز المباح إذا أتي بالمأمور به.
والمراد به كونه في السفر ليس من البر، كما لو صام وعَطَّشَ نفسه بأكل المالح، أو صام وأضحي للشمس، فإنه يقال: ليس من البر الصيام في الشمس. ولهذا قال سفيان بن عُيَينة: معناه:ليس من صام بأبر ممن لم يصم.
ففي هذا ما دل على أن الفطر أفضل. فإنه آخر الأمرين من النبي ﷺ. فإنه صام أولا في السفر؛ ثم أفطر فيه. ومن كان يظن أن الصوم في السفر نقص في الدين، هذا مبتدع ضال وإذا صام على هذا الوجه معتقدًا وجوب الصوم عليه، وتحريم الفطر، فقد أمر طائفة من السلف والخلف بالإعادة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن حمزة بن عمرو سأله فقال: إنني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: (إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس) . فإذا فعل الرجل في السفر أيسر الأمرين عليه من تعجيل الصوم أو تأخيره، فقد أحسن. فإن اللّه يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر. أما إذا كان الصوم في السفر أشق عليه من تأخيره، فالتأخير أفضل، فإن في المسند عن النبي ﷺ أنه قال:(إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته) وأخرجه بعضهم إما ابن خزيمة، وإما غيره في صحيحه. وهذه الصحاح مرتبتها دون مرتبة صحيحي البخاري ومسلم.
وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون منظر الهلال غيم، أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان، فكان في الصحابة من يصومه احتياطًا، وكان منهم من يفطر، ولم نعلم أحدًا منهم أوجب صومه، بل الذين صاموه إنما صاموه على طريق التحري والاحتياط، والآثار المنقولة عنهم صريحة في ذلك، كما نقل عن عمر، وعلي، ومعاوية، وعبد اللّه بن عمر، وعائشة، وغيرهم.
والعلماء متنازعون فيه على أقوال: منهم من نهى عن صومه نهي تحريم أو تنزيه، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك والشافعي وأحمد. ومنهم من يوجبه كما يقول ذلك طائفة من أصحاب أحمد. ومنهم من يشرع فيه الأمرين بمنزلة الإمساك إذا غم مطلع الفجر، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو المنصوص عن أحمد، فإنه كان يصومه على طريق الاحتياط اتباعًا لابن عمر وغيره، لا على طريق الإيجاب، كسائر ما يشك في وجوبه، فإنه يستحب فعله احتياطًا من غير وجوب.
وإذا صامه الرجل بنية معلقة بأن ينوي إن كان من رمضان أجزأه وإلا فلا، فتبين أنه من رمضان أجزأه ذلك عند أكثر العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأصح الروايتين عن أحمد وغيره. فإن النية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فِعْلَه، نواه بغير اختياره، وأما إذا لم يعلم الشيء فيمتنع أن يقصده. فلا يتصور أن يقصد صوم رمضان جزما من لم يعلم أنه من رمضان.
وقد يدخل في هذا الباب القصر في السفر، والجمع بين الصلاتين. والذي مضت به سنة رسول الله ﷺ أنه كان يقصر في السفر، فلا يصلي الرباعية في السفر إلا ركعتين، وكذلك الشيخان بعده أبو بكر ثم عمر.
وما كان يجمع في السفر بين الصلاتين إلا أحيانًا عند الحاجة، لم يكن جمعه كقصره، بل القصر سنة راتبة، والجمع رخصة عارضة.فمن نقل عن النبي ﷺ أنه ربّع في السفر الظهر أو العصر أو العشاء، فهذا غلط. فإن هذا لم ينقله عنه أحد لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف. ولكن روي بعض الناس حديثًا عن عائشة أنها قالت: كان رسول اللّه ﷺ في السفر يقصر، وتتم، ويفطر، وتصوم فسألته عن ذلك، فقال: (أحسنت يا عائشة) فتوهم بعض العلماء أنه هو كان الذي يقصر في السفر ويتم، وهذا لم يروه أحد. ونفس الحديث المروي في فعلها باطل، ولم تكن عائشة ولا أحد غيرها ممن كان مع النبي ﷺ يصلي إلا كصلاته، ولم يصل معه أحد أربعا قط لا بعرفة ولا بمزدلفة ولا غيرهما، لا من أهل مكة ولا من غيرهم، بل جميع المسلمين كانوا يصلون معه ركعتين، وكان يقيم بمنى أيام الموسم يصلي بالناس ركعتين، وكذلك بعده أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان بن عفان في أول خلافته، ثم صلى بعد ذلك أربعًا لأمور رآها تقتضي ذلك، فاختلف الناس عليه، فمنهم من وافقه، ومنهم من خالفه.
ولم يجمع النبي ﷺ في حجة الوداع إلا بعرفة وبمزدلفة خاصة. لكنه كان إذا جد به السير في غير ذلك من أسفاره، أخر المغرب إلى بعد العشاء، ثم صلاهما جميعًا، ثم أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما جميعًا .ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن القصر في السفر يجوز، سواء نوي القصر أو لم ينوه. وكذلك الجمع حيث يجوز له سواء نواه مع الصلاة الأولى، أو لم ينوه، فإن الصحابة لما صلوا خلف النبي ﷺ بعرفة الظهر ركعتين، ثم العصر ركعتين، لم يأمرهم عند افتتاح صلاة الظهر بأن ينووا الجمع، ولا كانوا يعلمون أنه يجمع؛ لأنه لم يفعل ذلك في غير سفرته تلك، ولا أمر أحدًا خلفه لا من أهل مكة، ولا غيرهم أن ينفرد عنه، لا بتربيع الصلاتين، ولا بتأخير صلاة العصر، بل صلوها معه.
وقد اتفق العلماء على جواز القصر في السفر، واتفقوا أنه الأفضل إلا قولًا شاذًا لبعضهم. واتفقوا أن فعل كل صلاة في وقتها في السفر أفضل إذا لم يكن هناك سبب يوجب الجمع، إلا قولًا شاذًا لبعضهم.
والقصر سببه السفر خاصة، لا يجوز في غير السفر. وأما الجمع فسببه الحاجة والعذر. فإذا احتاج إليه، جمع في السفر القصير، والطويل. وكذلك الجمع للمطر ونحوه، وللمرض ونحوه، ولغير ذلك من الأسباب، فإن المقصود به رفع الحرج عن الأمة، ولم يرد عن النبي ﷺ أنه جمع في السفر وهو نازل إلا في حديث واحد. ولهذا تنازع المجوزون للجمع. كمالك والشافعي وأحمد: هل يجوز الجمع للمسافر النازل؟ فمنع منه مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وجوزه الشافعي وأحمد في الرواية الأخري، ومنع أبو حنيفة الجمع إلا بعرفة ومزدلفة.
ومن هذا الباب التمتع والإفراد والقران في الحج. فإن مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة جواز الأمور الثلاثة.
وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا التمتع، وهو قول ابن عباس ومن وافقه من أهل الحديث والشيعة. وكان طائفة من بني أمية ومن اتبعهم ينهون عن المتعة، ويعاقبون من تمتع.
وقد تنازع العلماء في حج النبي ﷺ: هل تمتع فيه، أو أفرد أو قرن، وتنازعوا أي الثلاثة أفضل؟ فطائفة من أصحاب أحمد تظن أنه تمتع تمتعًا حل فيه من إحرامه. وطائفة أخرى تظن أنه أحرم بالعمرة، ولم يحرم بالحج حتى طاف وسعي للعمرة. وطائفة من أصحاب مالك والشافعي، تظن أنه أفرد الحج واعتمر عقيب ذلك. وطائفة من أصحاب أبي حنيفة تظن أنه قرن قرانًا طاف فيه طوافين، وسعي فيه سعيين. وطائفة تظن أنه أحرم مطلقًا. وكل ذلك خطأ لم تروه الصحابة رضوان اللّه عليهم بل عامة روايات الصحابة متفقة، ومن نسبهم إلى الاختلاف في ذلك فلعدم فهمه أحكامهم. فإن الصحابة نقلوا أن النبي ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج، هكذا الذي نقله عامة الصحابة. ونقل غير واحد من هؤلاء وغيرهم، أنه قرن بين العمرة والحج، وأنه أهل بهما جميعًا، كما نقلوا أنه اعتمر مع حجته، مع اتفاقهم على أنه لم يعتمر بعد الحج، بل لم يعتمر معه من أصحابه بعد الحج إلا عائشة؛ لأجل حيضتها.
ولفظ المتمتع في الكتاب والسنة وكلام الصحابة اسم لمن جمع بين العمرة والحج في أشهر الحج، سواء أحرم بهما جميعًا، أو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، أو أحرم بالحج بعد تحلله من العمرة، وهذا هو التمتع الخاص في عرف المتأخرين، وأحرم بالحج بعد قضاء العمرة قبل التحلل منها لكونه ساق الهدي، أو مع كونه لم يسقه، وهذا قد يسمونه متمتعًا التمتع الخاص، وقارنًا. وقد يقولون: لا يدخل في التمتع الخاص، بل هو قارن.
وما ذكرته من أن القران يسمونه تمتعًا، جاء مصرحا به في أحاديث صحيحة. وهؤلاء الذين نقلوا أنه تمتع نقل بعضهم أنه أفرد الحج، فإنه أفرد أعمال الحج، ولم يحل من إحرامه لأجل سوقه الهدي، فهو لم يتمتع متعة حل فيها من إحرامه، فلهذا صار كالمفرد من هذا الوجه.
وأما الأفضل لمن قدم في أشهر الحج ولم يسق الهدي، فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل له كما أمر النبي ﷺ أصحابه في حجة الوداع. فإنه أمر كل من لم يسق الهدي بالتمتع. ومن ساق الهدي، فالقِرَان له أفضل، كما فعل النبي ﷺ. ومن اعتمر في سفرة، وحج في سفرة. أو اعتمر قبل أشهر الحج، وأقام حتى يحج، فهذا الإفراد له أفضل من التمتع والقران، باتفاق الأئمة الأربعة.
وأما القسم الرابع: فهو مما تنازع العلماء فيه: فأوجب أحدهم شيئًا أو استحبه وحرمه الآخر، والسنة لا تدل إلا على أحد القولين لم تسوغهما جميعا، فهذا هو أشكل الأقسام الأربعة. وأما الثلاثة المتقدمة، فالسنة قد سوغت الأمرين.
وهذا مثل تنازعهم في قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر. فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال. قيل: ليس له أن يقرأ حال جهر الإمام إذا كان يسمع، لا بالفاتحة، ولا غيرها، وهذا قول الجمهور من السلف والخلف، وهذا مذهب مالك وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم، وأحد قولي الشافعي. وقيل: بل يجوز الأمران، والقراءة أفضل. ويروي هذا عن الأوزاعي، وأهل الشام، والليث بن سعد، وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم. وقيل: بل القراءة واجبة، وهو القول الآخر للشافعي.
وقول الجمهور هو الصحيح، فإن اللّه سبحانه قال: { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } 138،
قال أحمد: أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا. وإذا قرأ فأنصتوا. وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا. فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم، فتلك بتلك) الحديث إلى آخره. وروي هذا اللفظ من حديث أبي هريرة أيضًا، وذكر مسلم أنه ثابت: فقد أمر اللّه ورسوله بالإنصات للإمام إذا قرأ، وجعل النبي ﷺ ذلك من جملة الائتمام به. فمن لم ينصت له، لم يكن قد ائتم به. ومعلوم أن الإمام يجهر لأجل المأموم، ولهذا يؤمن المأموم على دعائه. فإذا لم يستمع لقراءته، ضاع جهره. ومصلحة متابعة الإمام مقدمة على مصلحة ما يؤمر به المنفرد. ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في وتر من صلاته فعل كما يفعل، فيتشهد عقيب الوتر، ويسجد بعد التكبير إذا وجده ساجدًا، كل ذلك لأجل المتابعة، فكيف لا يستمع لقراءته! مع أنه بالاستماع يحصل له مصلحة القراءة؟ فإن المستمع له مثل أجر القارئ.
ومما يبين هذا اتفاقهم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على الفاتحة إذا جهر، فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له، لكانت قراءته لنفسه أفضل من استماعه للإمام، وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ، لم يحتج إلى قراءته، فلا يكون فيها منفعة، بل فيها مضرة شغلته عن الاستماع المأمور به، وقد تنازعوا إذا لم يسمع الإمام لكون الصلاة صلاة مخافتة، أو لبعد المأموم، أو طرشه، أو نحو ذلك، هل الأولى له أن يقرأ أو يسكت؟ والصحيح أن الأولى له أن يقرأ في هذه المواضع؛ لأنه لا يستمع قراءة يحصل له بها مقصود القراءة، فإذا قرأ لنفسه، حصل له أجر القراءة وإلا بقي ساكتًا لا قارئا ولا مستمعًا، ومن سكت غير مستمع ولا قارئ في الصلاة، لم يكن مأمورًا بذلك، ولا محمودًا، بل جميع أفعال الصلاة لابد فيها من ذكر اللّه تعالى: كالقراءة، والتسبيح، والدعاء، أو الاستماع للذكر.
وإذا قيل: بأن الإمام يحمل عنه فرض القراءة، فقراءته لنفسه أكمل له، وأنفع له، وأصلح لقلبه، وأرفع له عند ربه، والإنصات لا يؤمر به إلا حال الجهر، فأما حال المخافتة، فليس فيه صوت مسموع، حتى ينصت له .
ومن هذا الباب: فعل الصلاة التي لها سبب، مثل تحية المسجد بعد الفجر، والعصر. فمن العلماء من يستحب ذلك، ومنهم من يكرهه كراهة تحريم أو تنزيه. والسنة إما أن تستحبه، وإما أن تكرهه. والصحيح قول من استحب ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، اختارها طائفة من أصحابه. فإن أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات مثل قوله: (لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) عموم مخصوص، خص منها صلاة الجنائز باتفاق المسلمين، وخص منها قضاء الفوائت بقوله:( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح) .
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قضي ركعتي الظهر بعد العصر، وقال للرجلين اللذين رآهما، لم يصليا بعد الفجر في مسجد الخيف: (إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)، وقد قال: (يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى فيه أية ساعة شاء من ليل أو نهار) . فهذا المنصوص يبين أن ذلك العموم خرجت منه صورة.
أما قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فهو أمر عام لم يخص منه صورة، فلا يجوز تخصيصه بعموم مخصوص، بل العموم المحفوظ أولى من العموم المخصوص.
وأيضًا، فإن الصلاة والإمام على المنبر، أشد من الصلاة بعد الفجر والعصر، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فلما أمر بالركعتين في وقت هذا النهي، فكذلك في وقت ذلك النهي، وأولي. ولأن أحاديث النهي في بعضها: (لا تتحروا بصلاتكم)، فنهى عن التحري للصلاة ذلك الوقت. ولأن من العلماء من قال: إن النهي فيها نهي تنزيه لا تحريم.
ومن السلف من جوز التطوع بعد العصر مطلقًا، واحتجوا بحديث عائشة؛ لأن النهي عن الصلاة إنما كان سدًا للذريعة إلى التشبه بالكفار وما كان منهيا عنه للذريعة، فإنه يفعل لأجل المصلحة الراجحة. كالصلاة التي لها سبب تفوت بفوات السبب، فإن لم تفعل فيه، وإلا فاتت المصلحة. والتطوع المطلق لا يحتاج إلى فعله وقت النهي، فإن الإنسان لا يستغرق الليل والنهار بالصلاة، فلم يكن في النهي تفويت مصلحة، وفي فعله فيه مفسدة، بخلاف التطوع الذي له سبب يفوت: كسجدة التلاوة، وصلاة الكسوف، ثم إنه إذا جاز ركعتا الطواف مع إمكان تأخير الطواف، فما يفوت أولي أن يجوز.
وطائفة من أصحابنا يجوزون قضاء السنن الرواتب دون غيرها، لكون النبي ﷺ قضي ركعتي الظهر، وروي عنه أنه رخص في قضاء ركعتي الفجر، فيقال: إذا جاز قضاء السنة الراتبة مع إمكان تأخيرها، فما يفوت كالكسوف وسجود التلاوة وتحية المسجد أولي أن يجوز، بل قد ثبت بالحديث الصحيح قضاء الفريضة في هذا الوقت، مع أنه قد يستحب تأخير قضائها، كما أخر النبي ﷺ قضاء الفجر لما نام عنها في غزوة خيبر. وقال: (إن هذا واد حضرنا فيه الشيطان) فإذا جاز فعل ما يمكن تأخيره، فما لا يمكن ولا يستحب تأخيره أولي. وبسط هذه المسائل لا يمكن في هذا الجواب.
فصل في الأفضل في قيام الليل وصيام النهار
وأما قيام الليل وصيام النهار فالأفضل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه فعله. وقال: (أفضل القيام قيام داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وأفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى) وقد ثبت في الصحاح أن عبد اللّه بن عمرو قال: لأصومن النهار، ولأقومن الليل، ولأقرأن القرآن كل يوم. فقال له النبي ﷺ: (لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين أي غارت ونفهت له النفس أي سئمت ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام، فذلك صيامك الدهر) يعني الحسنة بعشر أمثالها. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك. فما زال يزايده، حتى قال: (صم يوما وأفطر يوما) قال: اني أطيق أفضل من ذلك، قال: (لا أفضل من ذلك) وقال له: في القراءة (اقرأ القرآن في كل شهر)، فما زال يزايده حتى قال: (اقرأ في سبع) وذكر له أن أفضل القيام قيام داود، وقال له: (إن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه) فبين له ﷺ أن المداومة على هذا العمل تغير البدن والنفس وتمنع من فعل ما هو آجر من ذلك من القيام لحق النفس والأهل والزوج.
وأفضل الجهاد والعمل الصالح، ما كان أطوع للرب، وأنفع للعبد. فإذا كان يضره ويمنعه مما هو أنفع منه، لم يكن ذلك صالحًا، وقد ثبت في الصحيح أن رجالًا قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال ﷺ: ( ما بال رجال يقول أحدهم كيت وكيت، لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فبين ﷺ أن مثل هذا الزهد الفاسد، والعبادة الفاسدة ليست من سنته، فمن رغب فيها عن سنته فرآها خيرًا من سنته، فليس منه.
وقد قال أبي بن كعب: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليا فاقشعر جلده من خشية اللّه، إلا تحاتّت عنه خطاياه، كما يتحاتّ الورق اليابس عن الشجر، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليا، ففاضت عيناه من خشية اللّه، إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم. وكذلك قال عبد اللّه بن مسعود: اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة.
وقد تنازع العلماء في سرد الصوم إذا أفطر يومي العيدين، وأيام منى. فاستحب ذلك طائفة من الفقهاء والعباد، فرأوه أفضل من صوم يوم، وفطر يوم. وطائفة أخرى لم يروه أفضل، بل جعلوه سائغًا بلا كراهة، وجعلوا صوم شطر الدهر أفضل منه، وحملوا ما ورد في ترك صوم الدهر على من صام أيام النهى. والقول الثالث: وهو الصواب قول من جعل ذلك تركًا للأولى، أو كره ذلك. فإن الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ كنهيه لعبد اللّه بن عمرو عن ذلك، وقوله: (من صام الدهر فلا صام، ولا أفطر) وغيرها صريحة في أن هذا ليس بمشروع.
ومن حمل ذلك على أن المراد صوم الأيام الخمسة، فقد غلط، فإن صوم الدهر لا يراد به صوم خمسة أيام فقط، وتلك الخمسة صومها محرم. ولو أفطر غيرها فلم ينه عنها لكون ذلك صومًا للدهر، ولا يجوز أن ينهي عن صوم أكثر من ثلاثمائة يوم، والمراد خمسة، بل مثال هذا مثال من قال: ائتني بكل من في الجامع، وأراد به خمسة منهم. وأيضًا، فإنه علل ذلك بأنك إذا فعلت ذلك: هجمت له العين، ونفهت له النفس، وهذا إنما يكون في سرد الصوم، لا في صوم الخمسة.
وأيضًا، فإن في الصحيح أن سائلا سأله عن صوم الدهر، فقال: (من صام الدهر فلا صام ولا أفطر) . قال: فمن يصوم يومين ويفطر يوما، فقال: (ومن يطيق ذلك؟!) قال: فمن يصوم يومًا، ويفطر يومين، فقال: (وددت أني طُوِّقت ذلك)، فقال: فمن يصوم يومًا ويفطر يومًا، فقال: ذلك أفضل الصوم) فسألوه عن صوم الدهر، ثم عن صوم ثلثيه، ثم عن صوم ثلثه، ثم عن صوم شطره.
وأما قوله: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر)، وقوله: (من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال، فكأنما صام الدهر. الحسنة بعشر أمثالها) ونحو ذلك، فمراده أن من فعل هذا يحصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر، من غير حصول المفسدة، فإذا صام ثلاثة أيام من كل شهر، حصل له أجر صوم الدهر بدون شهر رمضان. وإذا صام رمضان وستًا من شوال، حصل بالمجموع أجر صوم الدهر، وكان القياس أن يكون استغراق الزمان بالصوم عبادة، لولا ما في ذلك من المعارض الراجح، وقد بين النبي ﷺ الراجح، وهو إضاعة ما هو أولي من الصوم، وحصول المفسدة راجحة فيكون قد فوت مصلحة راجحة واجبة أو مستحبة، مع حصول مفسدة راجحة على مصلحة الصوم.
وقد بين ﷺ حكمة النهي، فقال: (من صام الدهر فلا صام ولا أفطر) فإنه يصير الصيام له عادة، كصيام الليل، فلا ينتفع بهذا الصوم، ولا يكون صام، ولا هو أيضًا أفطر.
ومن نقل عن الصحابة أنه سرد الصوم، فقد ذهب إلى أحد هذه الأقوال. وكذلك من نقل عنه أنه كان يقوم جميع الليل دائمًا، أو أنه يصلي الصبح بوضوء العشاء الآخرة، كذا كذا سنة، مع أن كثيرًا من المنقول من ذلك ضعيف. وقال عبد اللّه بن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد، وهم كانوا خيرًا منكم. قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنهم كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة.
فأما سرد الصوم بعض العام، فهذا قد كان النبي ﷺ يفعله، قد كان يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر. ويفطر حتى يقول القائل:لا يصوم.
وكذلك قيام بعض الليالي جميعها. كالعشر الأخير من رمضان، أو قيام غيرها أحيانًا، فهذا مما جاءت به السنن. وقد كان الصحابة يفعلونه، فثبت في الصحيح: أن النبي ﷺ كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله كله.
وفي السنن أنه قام بآية ليلة حتى أصبح: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } 139، ولكن غالب قيامه كان جوف الليل، وكان يصلي بمن حضر عنده، كما صلى ليلة بابن عباس، وليلة بابن مسعود، وليلة بحذيفة بن اليمان، وقد كان أحيانًا يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران، ويركع نحوًا من قيامه، يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم) ويرفع نحوًا من ركوعه، يقول: (لربي الحمد، لربي الحمد) ويسجد نحوًا من قيامه يقول: (سبحان ربي الأعلي، سبحان ربي الأعلي) ويجلس نحوًا من سجوده يقول: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) ويسجد.
وأما الوصال في الصيام، فقد ثبت أنه نهي عنه أصحابه، ولم يرخص لهم إلا في الوصال إلى السحر، وأخبر أنه ليس كأحدهم. وقد كان طائفة من المجتهدين في العبادة يواصلون، منهم من يبقي شهرًا لا يأكل ولا يشرب، ومنهم من يبقي شهرين وأكثر وأقل. ولكن كثير من هؤلاء ندم على ما فعل، وظهر ذلك في بعضهم. فإن رسول اللّه ﷺ أعلم الخلق بطريق اللّه، وأنصح الخلق لعباد اللّه، وأفضل الخلق، وأطوعهم له، وأتبعهم لسنته.
والأحوال التي تحصل عن أعمال فيها مخالفة السنة، أحوال غير محمودة وإن كان فيها مكاشفات، وفيها تأثيرات فمن كان خبيرًا بهذا الباب، علم أن الأحوال الحاصلة عن عبادات غير مشروعة كالأموال المكسوبة بطريق غير شرعي، والملك الحاصل بطريق غير شرعي. فإن لم يتدارك اللّه عبده بتوبة، يتبع بها الطريق الشرعية، وإلا كانت تلك الأمور سببًا لضرر يحصل له، ثم قد يكون مجتهدًا مخطئًا مغفورًا له خطؤه. وقد يكون مذنبًا ذنبا مغفورًا لحسنات ماحية، وقد يكون مبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يعاقب بسلب تلك الأحوال، وإذا أصر على ترك ما أمر به من السنة، وفعل ما نهى عنه، فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات، حتى قد يصير فاسقا أو داعيا إلى بدعة. وإن أصر على الكبائر، فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان. فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير، حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة، كما وقع هذا لغير واحد ممن كان لهم أحوال من المكاشفات والتأثيرات، وقد عرفنا من هذا ما ليس هذا موضع ذكره.
فالسنة مثال سفينة نوح: من ركبها، نجا. ومن تخلف عنها، غرق. قال الزهري: كان من مضي من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة وعامة من تجد له حالا من مكاشفة أو تأثير، أعان به الكفار أو الفجار أو استعمله في غير ذلك من معصية، فإنما ذاك نتيجة عبادات غير شرعية، كمن اكتسب أموالًا محرمة فلا يكاد ينفقها إلا في معصية اللّه.
والبدع نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات. وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني.
فالمنتسبون إلى العلم والنظر وما يتبع ذلك يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة من القسم الأول.والمنتسبون إلى العبادة والنظر والإرادة وما يتبع ذلك، يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة من القسم الثاني.وقد أمرنا اللّه أن نقول في كل صلاة: { \ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } 140 آمين.
وصح عن النبي ﷺ أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم، والنصاري ضالون) قال سفيان بن عُيَيْنَة: كانوا يقولون: من فسد من العلماء، ففيه شبه من اليهود. ومن فسد من العُبٌاد، ففيه شبه من النصاري. وكان السلف يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فعل ما يجب عليه، وترك ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقع في الضلال.
وأهل الإرادة إن لم يقترن بإرادتهم طلب العلم الواجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقعوا في الضلال والبغي، ولو اعتصم رجل بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب، كان غاويا. وإذا اعتصم بالعبادة الشرعية من غير علم بالواجب كان ضالا. والضلال سمة النصاري، والبغي سمة اليهود، مع أن كلا من الأمتين فيها الضلال والبغي. ولهذا تجد من انحرف عن الشريعة في الأمر والنهي من أهل الإرادة والعبادة والسلوك والطريق، ينتهون إلى الفناء الذي لا يميزون فيه بين المأمور والمحظور، فيكونون فيه متبعين أهواءهم.
وإنما الفناء الشرعي أن يفني بعبادة اللّه عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وهذا هو إخلاص الدين للّه وعبادته وحده لا شريك له، وهو دين الإسلام الذي أرسل اللّه به الرسل، وأنزل به الكتب.
وتجد أيضا من انحرف عن الشريعة من الجبر والنفي والإثبات من أهل العلم والنظر والكلام والبحث، ينتهي أمرهم إلى الشك والحيرة، كما ينتهي الأولون إلى الشطح والطامات، فهؤلاء لا يصدقون بالحق، وأولئك يصدقون بالباطل، وإنما يتحقق الدين بتصديق الرسول في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر باطنا وظاهرًا، من المعارف والأحوال القلبية، وفي الأقوال والأعمال الظاهرة.
ومن عَظَّمَ مطلق السهر والجوع، وأمر بهما مطلقًا، فهو مخطئ، بل المحمود السهر الشرعي، والجوع الشرعي، فالسهر الشرعي كما تقدم من صلاة أو ذكر أو قراءة أو كتابة علم أو نظر فيه أو درسه أو غير ذلك من العبادات. والأفضل يتنوع بتنوع الناس، فبعض العلماء يقول: كتابة الحديث أفضل من صلاة النافلة، وبعض الشيوخ يقول: ركعتان أصليهما بالليل حيث لا يراني أحد أفضل من كتابة مائة حديث، وآخر من الأئمة يقول: بل الأفضل فعل هذا وهذا، والأفضل يتنوع بتنوع أحوال الناس، فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل، ثم يكون تارة مرجوحًا أو منهيًا عنه. كالصلاة. فإنها أفضل من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، ثم الصلاة في أوقات النهي كما بعد الفجر والعصر ووقت الخطبة منهي عنها. والاشتغال حينئذٍ إما بقراءة أو ذكر أو دعاء أو استماع أفضل من ذلك.
وكذلك قراءة القرآن أفضل من الذكر، ثم الذكر في الركوع والسجود هو المشروع. دون قراءة القرآن، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة هو المشروع دون القراءة والذكر، وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل، فيكون أفضل في حقه، كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد.
ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة، ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة، ومنهم من يكون اجتهاده في الدعاء لكمال ضرورته أفضل له من ذكر هو فيه غافل. والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له، وتارة هذا أفضل له. ومعرفة حال كل شخص شخصًا، وبيان الأفضل له، لا يمكن ذكره في كتاب، بل لابد من هداية يهدي اللّه بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق اللّه عبد إلا صنع له.
وفي الصحيح: أن النبي ﷺ كان إذا قام من الليل يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) .
فصل هدي الرسول في مأكله ومشربه وملبسه
وأما الأكل واللباس، فخير الهدي هدي محمدﷺ. وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه، ولا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، فكان إن حضر خبز ولحم، أكله. وإن حضر فاكهة وخبز ولحم، أكله. وإن حضر تمر وحده أو خبز وحده، أكله. وإن حضر حلو أو عسل طَعِمَه أيضًا وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان يأكل القِثَّاء بالرطب. فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول: لا آكل لونين، ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة.
وكان أحيانا يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، ولا يأكلون إلا التمر والماء. وأحيانا، يربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان لا يعيب طعامًا، فإن اشتهاه أكله، وإلا تركه. وأكل على مائدته لحم ضب فامتنع من أكله، وقال: (إنه ليس بحرام، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه) .
وكذلك اللباس، كان يلبس القميص والعمامة، ويلبس الإزار والرداء ويلبس الجبة
والفَرُوج، وكان يلبس من القطن والصوف، وغير ذلك. لبس في السفر جبة صوف، وكان يلبس مما يجلب من اليمن وغيرها، وغالب ذلك مصنوع من القطن، وكانوا يلبسون من قباطي مصر، وهي منسوجة من الكتان. فسنته في ذلك تقتضي أن يلبس الرجل ويطعم مما يسره الله ببلده، من الطعام واللباس. وهذا يتنوع بتنوع الأمصار.
وقد كان اجتمع طائفة من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه، وعلي الامتناع من تزوج النساء، فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } 141،
وفي الصحيحين عنه أنه بلغه أن رجالا قال أحدهم: أما أنا، فأصوم لا أفطر. وقال الآخر: أما أنا، فأقوم لا أنام. وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء. وقال الآخر: أما أنا، فلا آكل اللحم. فقال: (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } 142 فأمر بأكل الطيبات، والشكر ﷺ، فمن حرم الطيبات كان معتديا، ومن لم يشكر كان مفرطًا مضيعًا لحق الله. وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها). وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (الطاعم الشاكر، بمنزلة الصائم الصابر) .
فهذه الطريقة التي كان عليها رسول الله ﷺ هي أعدل الطرق وأقومها. والانحراف عنها إلى وجهين:
قوم يسرفون في تناول الشهوات، مع إعراضهم عن القيام بالواجبات، وقد قال تعالى: { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } 143، وقال تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } 144.
وقوم يحرمون الطيبات، ويبتدعون رهبانية، لم يشرعها الله تعالى ولا رهبانية في الإسلام. وقد قال تعالى: { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } 145،
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } 146.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } ، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } 147. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأني يستجاب لذلك. وكل حلال طيب، وكل طيب حلال. فإن الله أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، لكن جهة طيبه، كونه نافعًا لذيذًا.
و الله حرم علينا كل ما يضرنا، وأباح لنا كل ما ينفعنا، بخلاف أهل الكتاب فإنه بظلم منهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم، فحرم عليهم طيبات عقوبة لهم، ومحمد ﷺ لم يحرم علينا شيئًا من الطيبات، والناس تتنوع أحوالهم في الطعام واللباس والجوع والشبع، والشخص الواحد يتنوع حاله، ولكن خير الأعمال ما كان ﷺ أطوع، ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين، وقد يكون أشدهما. فليس كل شديد فاضلا، ولا كل يسير مفضولا، بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد، فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة، لا لمجرد تعذيب النفس. كالجهاد الذي قال فيه تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } 148.
والحج هو الجهاد الصغير؛ ولهذا قال النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها في العمرة: (أجرك على قدر نَصَبِك) وقال تعالى في الجهاد: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } 149.
وأما مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة، فليس هذا مشروعًا لنا، بل أمرنا الله بما ينفعنا، ونهانا عما يضرنا. وقد قال ﷺ في الحديث الصحيح: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)، وقال: (هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا) وروي عنه أنه قال: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة) .
فالإنسان إذا أصابه في الجهاد والحج أو غير ذلك حر أو برد أو جوع، ونحو ذلك. فهو مما يحمد عليه، قال الله تعالى: { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } 150.
وكذلك قال ﷺ: (الكفارات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) .
وأما مجرد بروز الإنسان للحر والبرد بلا منفعة شرعية، واحتفاؤه وكشف رأسه، ونحو ذلك مما يظن بعض الناس أنه من مجاهدة النفس، فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للإنسان، وطاعة ﷺ، فلا خير فيه. بل قد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ رأي رجلا قائمًا في الشمس، فقال: (ما هذا؟) قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال: (مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه) .
ولهذا نهي عن الصمت الدائم، بل المشروع ما قاله النبي ﷺ قال: (من كان يؤمن ب الله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت). فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خير من التكلم به.
فصل والأفضل للإمام أن يتحرى صلاة رسول الله
والأفضل للإمام أن يتحرى صلاة رسول الله ﷺ التي كان يصليها بأصحابه، بل هذا هو المشروع الذي يأمر به الأئمة، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال لمالك بن الحويْرِث وصاحبه: (إذا حضرت الصلاة، فأذنا وأقيما، وليؤمكما أحدكما، وصلوا كما رأيتموني أصلي).
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقرأ في الفجر بما بين الستين آية إلى مائة آية، وهذا بالتقريب نحو ثلث جزء، إلى نصف جزء، من تجزئة ثلاثين، فكان يقرأ بطوال المفصل، يقرأ بقاف، ويقرأ ألم تنزيل، وتبارك، ويقرأ سورة المؤمنين، ويقرأ الصافات، ونحو ذلك.
وكان يقرأ في الظهر بأقل من ذلك بنحو ثلاثين آية، ويقرأ في العصر بأقل من ذلك، ويقرأ في المغرب بأقل من ذلك، مثل قصار المفصل. وفي العشاء الآخرة بنحو: { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } 151 و { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } 152، ونحوهما.
وكان أحيانًا يطيل الصلاة، ويقرأ بأكثر من ذلك، حتي يقرأ في المغرب بالأعراف ويقرأ فيها بالطور، ويقرأ فيها بالمرسلات.
وأبو بكر الصديق قرأ مرة في الفجر بسورة البقرة، وعمر كان يقرأ في الفجر بسورة هود، وسورة يوسف، ونحوهما. وأحيانًا، يخفف إما لكونه في السفر، أو لغير ذلك. كما قال ﷺ: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي، فأخفف لِمَا أعلم من وَجْدِ أمه به)، حتي روي عنه أنه قرأ في الفجر سورة التكوير وسورة الزلزلة فينبغي للإمام أن يتحرى الاقتداء برسول الله ﷺ.
وإذا كان المأمومون لم يعتادوا لصلاته، وربما نفروا عنها درجهم إليها شيئًا بعد شيء، فلا يبدؤهم بما ينفرهم عنها، بل يتبع السنة بحسب الإمكان، وليس للإمام أن يطيل على القدر المشروع، إلا أن يختاروا ذلك. كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال ﷺ:(من أم الناس فليخفف بهم، فإن منهم السقيم والكبير، وذا الحاجة) أخرجاه في الصحيحين. وقال: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء). وكان يطيل الركوع والسجود، والاعتدالين. كما ثبت عنه في الصحيح: أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقوم حتي يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود يقعد، حتي يقول القائل: قد نسي.
وفي السنن أن أنس بن مالك شبه صلاة عمر بن عبد العزيز بصلاته وكان عمر يسبح في الركوع نحو عشر تسبيحات، وفي السجود نحو عشر تسبيحات. فينبغي للإمام أن يفعل في الغالب ما كان النبي ﷺ يفعله في الغالب. وإذا اقتضت المصلحة أن يطيل أكثر من ذلك، أو يقصر عن ذلك فعل ذلك، كما كان النبي ﷺ أحيانًا يزيد على ذلك، وأحيانًا ينقص عن ذلك.
فصل ورد جديث في الوضوء عند كل حدث
وأما الوضوء عند كل حدث، ففيه حديث بلال المعروف عن بريدة بن حصيب، قال: أصبح رسول الله ﷺ فدعا بلالا فقال: (يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي، فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل عربي، فقلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من قريش. قلت: أنا رجل من قريش، لمن هذا القصر؟ فقالوا: لرجل من أمة محمد، فقلت: أنا محمد، لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فقال بلال: يا رسول الله، ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، و ما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، فرأيت أن ﷺ على ركعتين، فقال رسول الله ﷺ: (عليك بهما). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهذا يقتضي استحباب الوضوء عند كل حدث، ولا يعارض ذلك الحديث الذي في الصحيح عن ابن عباس قال: كنا عند النبي ﷺ، فجاء من الغائط فأتي بطعام، فقيل له: ألا تتوضأ؟ قال: لم أصَلِّ، فأتوضأ) فإن هذا ينفي وجوب الوضوء، وينفي أن يكون مأمورًا بالوضوء لأجل مجرد الأكل، ولم نعلم أحدًا استحب الوضوء للأكل إلا إذا كان جُنَبًا، وتنازع العلماء في غسل اليدين قبل الأكل: هل يكره أو يستحب؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد.
فمن استحب ذلك، احتج بحديث سلمان أنه قال للنبي ﷺ: قرأت في التوراة أن من بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده. ومن كرهه قال: لأن هذا خلاف سنة المسلمين، فإنهم لم يكونوا يتوضَؤون قبل الأكل، وإنما كان هذا من فعل اليهود فيكره التشبه بهم.
وأما حديث سلمان، فقد ضعفه بعضهم، وقد يقال: كان هذا في أول الإسلام لما كان النبي ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء؛ ولهذا كان يسدل شعره موافقة، ثم فرق بعد ذلك، ولهذا صام عاشوراء لما قدم المدينة، ثم إنه قال قبل موته: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) يعني مع العاشر؛ لأجل مخالفة اليهود.
فصل فيما واظب عليه النبي في عبادته وعادته
وأما سؤال السائل عن المواظبة على ما واظب عليه النبي ﷺ في عبادته وعادته هل هي سنة أم تختلف باختلاف أحوال الراتبين؟ فيقال: الذي نحن مأمورون به هو طاعة الله ورسوله، فعلينا أن نطيع رسول الله ﷺ فيما أمرنا به، فإن الله قد ذكر طاعته في أكثر من ثلاثين موضعًا من كتابه، فقال تعالى: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } 153، وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ } 154.
وقد أوجب السعادة لمن أطاعه بقوله: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } 155.
وعلق السعادة والشقاوة بطاعته ومعصيته في قوله: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } 156.
وكان ﷺ يقول في خطبته: (من يطع الله، ورسوله، فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا) وجميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وتقواه وخشيته وإلي طاعتهم، كما قال نوح عليه السلام: { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } 157، وقال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } 158، وقال كل من نوح والنبيين: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } 159.
وطاعة الرسول فيما أمرنا به هو الأصل الذي على كل مسلم أن يعتمده، وهو سبب السعادة، كما أن ترك ذلك سبب الشقاوة وطاعته في أمره أولي بنا من موافقته في فعل لم يأمرنا بموافقته فيه باتفاق المسلمين، ولم يتنازع العلماء أن أمره أوكد من فعله، فإن فعله قد يكون مختصًا به، وقد يكون مستحبًا، وأما أمره لنا فهو من دين الله الذي أمرنا به. ومن أفعاله ما قد علم أنه أمرنا أن نفعل مثله، كقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقوله لما صلى بهم على المنبر: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي ) وقوله لما حج: (خذوا عني مناسككم ) .
وأيضًا، فقد ثبت بالكتاب والسنة أن ما فعله على وجه العادة فهو مباح لنا، إلا أن يقوم دليل على اختصاصه به، كما قال سبحانه وتعالى: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } 160، فأباح له أن يتزوج امرأة دعيه ليرفع الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم، فعلم أن ما فعله كان لنا مباحًا أن نفعله.
ولما خصه ببعض الأحكام قال: { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } 161، فلما أحل له أن ينكح الموهوبة بيّن أن ذلك خالص له من دون المؤمنين، فليس لأحد أن ينكح امرأة بلا مهر غيره ﷺ.
وفي صحيح مسلم: أن رجلا سأل رسول الله ﷺ: أيقبل الصائم؟ فقال له:( سل هذه لأم سلمة ) فأخبرتهم أن رسول الله ﷺ يفعل ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له: (أما و الله إنني لأتقاكم ﷺ، وأخشاكم له) .
فلما أجابه ﷺ بفعله، دل ذلك على أنه يباح للأمة ما أبيح له؛ ولهذا كان جمهور علماء الأمة على أن الله إذا أمره بأمر، أو نهاه عن شيء، كانت أمته أسوة له في ذلك، ما لم يقم دليل على اختصاصه بذلك.
فمن خصائصه: ما كان من خصائص نبوته ورسالته، فهذا ليس لأحد أن يقتدي به فيه، فإنه لا نبي بعده، وهذا مثل كونه يطاع في كل ما يأمر به، وينهي عنه، وإن لم يعلم جهة أمره، حتي يقتل كل من أمر بقتله، وليس هذا لأحد بعده، فولاة الأمور من العلماء والأمراء يطاعون إذا لم يأمروا بخلاف أمره؛ ولهذا جعل الله طاعتهم. في ضمن طاعته. قال الله تعالى: { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } 162. فقال: { وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ؛ لأن أولي الأمر يطاعون طاعة تابعة لطاعته، فلا يطاعون استقلالا، ولا طاعة مطلقة، وأما الرسول، فيطاع طاعة مطلقة مستقلة، فإنه: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } 163، فقال تعالى: { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } . فإذا أمرنا الرسول كان علينا أن نطيعه، وإن لم نعلم جهة أمره وطاعته طاعة الله لا تكون طاعته بمعصية الله قط، بخلاف غيره.
وقد ذكر الناس من خصائصه فيما يجب عليه، ويحرم عليه، ويكرم به، ما ليس هذا موضع تفصيله. وبعض ذلك متفق عليه، وبعضه متنازع فيه. وقد كان ﷺ إمام الأمة، وهو الذي يقضي بينهم، وهو الذي يقسم، وهو الذي يغزو بهم، وهو الذي يقيم الحدود، وهو الذي يستوفي الحقوق، وهو الذي يصلي بهم فالاقتداء به في كل مرتبة بحسب تلك المرتبة، فإمام الصلاة والحج يقتدي به في ذلك، وأمير الغزو يقتدي به في ذلك، والذي يقيم الحدود يقتدي به في ذلك.والذي يقضي أو يفتي يقتدي به في ذلك.
وقد تنازع الناس في أمور فعلها: هل هي من خصائصه أم للأمة فعلها؟ كدخوله في الصلاة إمامًا، بعد أن صلى بالناس غيره، وكتركه الصلاة على الغال والقاتل. وأيضًا، فإذا فعل فعلا لسبب وقد علمنا ذلك السبب أمكننا أن نقتدي به فيه، فأما إذا لم نعلم السبب، أو كان السبب أمرًا اتفاقيًا، فهذا مما يتنازع فيه الناس: مثل نزوله في مكان في سفره. فمن العلماء من يستحب أن ينزل حيث نزل، كما كان ابن عمر يفعل، وهؤلاء يقولون: نفس موافقته في الفعل هو حسن، وإن كان فعله هو اتفاقًا، ونحن فعلناه لقصد التشبه به. ومن العلماء من يقول: إنما تستحب المتابعة إذا فعلناه على الوجه الذي فعله، فأما إذا فعله اتفاقًا لم يشرع لنا أن نقصد ما لم يقصده؛ ولهذا كان أكثر المهاجرين والأنصار لا يفعلون، كما كان ابن عمر يفعل.
وأيضًا، فالاقتداء به، يكون تارة في نوع الفعل، وتارة في جنسه فإنه قد يفعل الفعل لمعني يعم ذلك النوع وغيره، لا لمعنى يخصه، فيكون المشروع هو الأمر العام.
مثال ذلك احتجامه ﷺ. فإن ذلك كان لحاجته إلي إخراج الدم الفاسد، ثم التأسي هل هو مخصوص بالحجامة أو المقصود إخراج الدم على الوجه النافع؟ ومعلوم أن التأسي هو المشروع. فإذا كان البلد حارًا يخرج فيه الدم إلى الجلد، كانت الحجامة هي المصلحة وإن كان البلد باردًا يغور فيه الدم إلى العروق كان إخراجه بالفصد هو المصلحة.
وكذلك إدهانه ﷺ: هل المقصود خصوص الدهن، أو المقصود ترجيل الشعر؟ فإن كان البلد رطبًا وأهله يغتسلون بالماء الحار الذي يغنيهم عن الدهن، والدهن يؤذي شعورهم وجلودهم، يكون المشروع في حقهم ترجيل الشعر بما هو أصلح لهم، ومعلوم أن الثاني هو الأشبه.
وكذلك لما كان يأكل الرطب والتمر وخبز الشعير، ونحو ذلك من قوت بلده، فهل التأسي به أن يقصد خصوص الرطب والتمر والشعير، حتي يفعل ذلك من يكون في بلاد لا ينبت فيها التمر، ولا يقتاتون الشعير، بل يقتاتون البر أو الرز أو غير ذلك، ومعلوم أن الثاني هو المشروع. والدليل على ذلك أن الصحابة لما فتحوا الأمصار كان كل منهم يأكل من قوت بلده، ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها، ولو كان هذا الثاني هو الأفضل في حقهم، لكانوا أولي باختيار الأفضل.
وعلي هذا يبنى نزاع العلماء في صدقة الفطر: إذا لم يكن أهل البلد يقتاتون التمر والشعير، فهل يخرجون من قوتهم كالبر والرز، أو يخرجون من التمر والشعير؛ لأن النبي ﷺ فرض ذلك؟ فإن في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على كل صغير أو كبير ذكر أو أنثى، حر أو عبد، من المسلمين. وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، وأكثر العلماء على أنه يخرج من قوت بلده، وهذا هو الصحيح كما ذكر الله ذلك في الكفارة بقوله: { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } 164.
ومن هذا الباب أن الغالب عليه وعلي أصحابه، أنهم كانوا يأتزرون ويرتدون، فهل الأفضل لكل أحد أن يرتدي ويأتزر ولو مع القميص؟ أو الأفضل أن يلبس مع القميص السراويل من غير حاجة إلى الإزار والرداء؟ هذا أيضًا مما تنازع فيه العلماء، والثاني أظهر وهذا باب واسع.
وهذا النوع ليس مخصوصًا بفعله وفعل أصحابه، بل وبكثير مما أمرهم به ونهاهم عنه، وهذا سمته طائفة من الناس: تنقيح المناط. وهو أن يكون الحكم قد ثبت في عين معينة، وليس مخصوصًا بها، بل الحكم ثابت فيها وفي غيرها، فيحتاج أن يعرف مناط الحكم.
مثال ذلك أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم) فإنه متفق على أن الحكم ليس مختصًا بتلك الفأرة، وذلك السمن، بل الحكم ثابت فيما هو أعم منهما، فبقي المناط الذي علق به الحكم ما هو؟ فطائفة من أهل العلم يزعمون أن الحكم مختص بفأرة وقعت في سمن، فينجسون ما كان كذلك مطلقًا، ولا ينجسون السمن إذا وقع فيه الكلب، والبول والعذرة، ولا ينجسون الزيت ونحوه إذا وقعت فيه الفأرة وهذا القول خطأ قطعًا.
وليس هذا مبنيًا على كون القياس حجة. فإن القياس الذي يكون النزاع فيه هو تخريج المناط، وهو أن يجوز اختصاص مورد النص بالحكم، فإذا جاز اختصاصه، وجاز أن يكون الحكم مشتركًا بين مورد النص وغيره، احتاج معتبر القياس إلى أن يعلم أن المشترك بين الأصل والفرع هو مناط الحكم، كما في قوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الملح بالملح إلا مثلا بمثل) فلما نهى عن التفاضل في مثل هذه الأصناف، أمكن أن يكون النهي لمعنى مشترك، ولمعنى مختص.
ولما سئل عن فأرة وقعت في سمن، فأجاب عن تلك القضية المعينة، ولا خفاء أن الحكم ليس مختصًا بها، وكذلك سائر قضايا الأعيان، كالأعرابي الذي قال له: إني وقعت على أهلي في رمضان، فأمره أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينًا. فإن الحكم ليس مخصوصًا بذلك الأعرابي باتفاق المسلمين. لكن هل أمره بذلك لكونه أفطر، أو جامع في رمضان، أو أفطر فيه بالجماع، أو أفطر بالجنس الأعلي؟ هذا مما تنازع فيه العلماء.
وكذلك لما سأله سائل عمن أحرم بالعمرة وعليه جبة، وهو متضمخ بالخلوق. فقال: (انزع عنك الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجتك). فهل أمره بغسل الخلوق لكونه طيبًا، حتي يؤمر المحرم بغسل كل طيب كان عليه، أو لكونه خلوقًا لرجل؟ وقد نهي أن يتزعفر الرجل، فينهي عن الخلوق للرجل سواء كان محرمًا أو غير محرم.
وكذلك لما عتقت بريرة فخيرها، فاختارت نفسها عند من يقول: إن زوجها كان عبدًا، فإن المسلمين اتفقوا على أن الحكم لا يختص بها، لكن هل التخيير لكونها عتقت تحت عبد فكملت تحت ناقص؟ ولا تخير إذا عتقت تحت الحر؟ أو الحكم لكونها ملكت نفسها فتخير، سواء كان الزوج حرًا أو عبدًا؟ هذا مما تنازعوا فيه. وهذا باب واسع، وهو متناول لكل حكم تعلق بعين معينة، مع العلم بأنه لا يختص بها فيحتاج أن يعرف المناط الذي يتعلق به الحكم، وهذا النوع يسميه بعض الناس قياسًا، وبعضهم لا يسميه قياسًا؛ ولهذا كان أبو حنيفة وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعملون فيها القياس.
والصواب أن هذا ليس من القياس الذي يمكن فيه النزاع، كما أن تحقيق المناط ليس مما يقبل النزاع باتفاق العلماء.
وهذه الأنواع الثلاثة تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط هي جماع الاجتهاد.
فالأول: أن يعمل بالنص والإجماع، فإن الحكم معلق بوصف يحتاج في الحكم على المعين إلى أن يعلم ثبوت ذلك الوصف فيه، كما يعلم أن الله أمرنا بإشهاد ذوي عدل منا، وممن نرضي من الشهداء، ولكن لا يمكن تعيين كل شاهد، فيحتاج أن يعلم في الشهود المعينين هل هم من ذوي العدل المرضيين أم لا؟ وكما أمر الله بعشرة الزوجين بالمعروف، وقال النبي ﷺ: (للنساء رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ولم يمكن تعيين كل زوج فيحتاج أن ينظر في الأعيان ثم من الفقهاء من يقول: إن نفقة الزوجة مقدرة بالشرع، والصواب ما عليه الجمهور أن ذلك مردود إلى العرف كما قال النبي ﷺ لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) .
وكما قال تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } 165 ويبقى النظر في تسليمه إلى هذا التاجر، بجزء من الربح. هل هو من التي هي أحسن أم لا؟ وكذلك قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } 166، يبقى هذا الشخص المعين هل هو من الفقراء المساكين المذكورين في القرآن أم لا؟ وكما حرم الله الخمر والربا عمومًا يبقى الكلام في الشراب المعين: هل هو خمر أم لا؟ وهذا النوع مما اتفق عليه المسلمون، بل العقلاء بأنه لا يمكن أن ينص الشارع على حكم كل شخص، إنما يتكلم بكلام عام، وكان نبينا ﷺ قد أوتي جوامع الكلم.
وأما النوع الثاني: الذي يسمونه تنقيح المناط بأن ينص على حكم أعيان معينة، لكن قد علمنا أن الحكم لا يختص بها، فالصواب في مثل هذا أنه ليس من باب القياس، لاتفاقهم على النص، بل المعين هنا نص على نوعه، ولكنه يحتاج إلى أن يعرف نوعه، ومسألة الفأرة في السمن، فإن الحكم ليس مخصوصًا بتلك الفأرة، وذلك السمن. ولا بفأر المدينة وسمنها، ولكن السائل سأل النبي ﷺ عن فأرة وقعت في سمن، فأجابه، لا أن الجواب يختص به، ولا بسؤاله. كما أجاب غيره ولفظ الفأرة والسمن ليست من كلام النبي ﷺ حتي يكون هو الذي علق الحكم بها، بل من كلام السائل الذي أخبر بما وقع له، كما قال له الأعرابي: إنه وقع على امرأته، ولو وقع على سريته، لكان الأمر كذلك، وكما قال له الآخر: رأيت بياض خلخالها في القمر، فوثبت عليها، ولو وطئها بدون ذلك، كان الحكم كذلك.
فالصواب في هذا ما عليه الأئمة المشهورون: أن الحكم في ذلك معلق بالخبيث الذي حرمه الله، إذا وقع في السمن ونحوه من المائعات؛ لأن الله أباح لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث. فإذا علقنا الحكم بهذا المعني، كنا قد اتبعنا كتاب الله. فإذا وقع الخبيث في الطيب، ألقي الخبيث وما حوله، وأكل الطيب، كما أمر النبي ﷺ.
وليس هذا الجواب موضع بسط مثل هذه المسائل، ولكن نبهنا على هذا لأن الاقتداء بالنبي ﷺ في أفعاله يتعلق بهذا. وحينئذ، هذا مما يتعلق باجتهاد الناس، واستدلالهم وما يؤتيهم الله من الفقه والحكمة والعلم، وأحق الناس بالحق من علق الأحكام بالمعاني، التي علقها بها الشارع.
وهذا موضع تفاوت فيه الناس وتنازعوا: هل يستفاد ذلك من خطاب الشارع أو من المعاني القياسية؟ فقوم زعموا أن أكثر أحكام أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع، بل تحتاج إلى القياس. وقوم زعموا أن جميع أحكامها ثابتة بالنص، وأسرفوا في تعلقهم بالظاهر، حتي أنكروا فحوي الخطاب وتنبيهه. كقوله تعالى: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } 167 وقالوا: إن هذا لا يدل إلا على النهي عن التأفيف، لا يفهم منه النهي عن الضرب والشتم، وأنكروا تنقيح المناط وادعوا في الألفاظ من الظهور ما لا تدل عليه. وقوم يقدمون القياس تارة، لكون دلالة النص غير تامة، أو لكونه خبر الواحد. وأقوام يعارضون بين النص والقياس ويقدمون النص ويتناقضون، ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض، فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة، ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة.
فإن القياس الصحيح حقيقة التسوية بين المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب، وأرسل به الرسل، والرسول لا يأمر بخلاف العدل، ولا يحكم في شيئين متماثلين بحكمين مختلفين، ولا يحرم الشيء ويحل نظيره.
وقد تأملنا عامة المواضع التي قيل: إن القياس فيها عارض النص، وأن حكم النص فيها على خلاف القياس. فوجدنا ما خصه الشارع بحكم عن نظائره، فإنما خصه به لاختصاصه بوصف أوجب اختصاصه بالحكم، كما خص العرايا بجواز بيعها بمثلها خرصًا؛ لتعذر الكيل مع الحاجة إلى البيع، والحاجة توجب الانتقال إلى البدل عند تعذر الأصل.
فالخرص عند الحاجة قام مقام الكيل، كما يقوم التراب مقام الماء، والميتة مقام المذكي عند الحاجة، وكذلك قول من قال: القرض أو الإجارة أو القراض أو المساقاة أو المزارعة ونحو ذلك، على خلاف القياس، إن أراد به أن هذه الأفعال اختصت بصفات أوجبت أن يكون حكمها مخالفا لحكم ما ليس مثلها، فقد صدق. وهذا هو مقتضي القياس، وإن أراد أن الفعلين المتماثلين حكم فيهما بحكمين مختلفين، فهذا خطأ، ينزه عنه من هو دون الأنبياء صلوات الله عليهم.
ولكن هذه الأقيسة المعارضة هي الفاسدة، كقياس الذين قالوا: { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } 168، وقياس الذين قالوا: (أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟) يعنون الميتة، وقال تعالى: { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } 169.
ولعل من رزقه الله فهما، وآتاه من لدنه علمًا، يجد عامة الأحكام التي تعلم بقياس شرعي صحيح يدل عليها الخطاب الشرعي، كما أن غاية ما يدل عليه الخطاب الشرعي هو موافق للعدل الذي هو مطلوب القياس الصحيح.
وإذا كان الأمر كذلك، فالكلام في أعيان أحوال الرجل السالك يحتاج إلى نظر خاص، واستهداء من الله، و الله قد أمر العبد أن يقول في كل صلاة: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } 170.
فعلي العبد أن يجتهد في تحقيق هذا الدعاء؛ ليصير من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
فصل العبادات التي جاءت على وجوه متنوعة
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل العبادات التي جاءت على وجوه متنوعة
قد تقدم القول في مواضع: أن العبادات التي فعلها النبي ﷺ على أنواع يشرع فعلها على جميع تلك الأنواع، لا يكره منها شيء، وذلك مثل أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاح، ومثل الوتر أول الليل وآخره، ومثل الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة، وأنواع القراءات التي أنزل القرآن عليها، والتكبير في العيد، ومثل الترجيع في الأذان وتركه، ومثل إفراد الإقامة وتثنيتها.
وقد بسطنا في جواب مسائل الزرعية وغيرها أن ما اختلف فيه العلماء وأراد الإنسان أن يحتاط فيه فهو نوعان:
أحدهما: ما اتفقوا فيه على جواز الأمرين، ولكن تنازعوا: أيهما أفضل؟
والثاني: ما تنازعوا فيه في جواز أحدهما، وكثير مما تنازعوا فيه قد جاءت السنة فيه بالأمرين، مثل الحج. قيل: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة، بل قيل: ولا تجوز المتعة، وقيل: بل ذلك واجب، والصحيح أن كليهما جائز. فإن النبي ﷺ أمر الصحابة في حجة الوداع بالفسخ، وقد كان خيرهم بين الثلاثة، وقد حج الخلفاء بعده ولم يفسخوا، كما بسط في موضعه. وكذلك الصوم في السفر قيل: لا يجوز، بل يجب الفطر، والصحيح الذي عليه الجمهور جواز الأمرين.
ثم قال كثير منهم: إن الصوم أفضل. والصحيح أن الفطر أفضل إلا لمصلحة راجحة، وما قال أحد: إنه لا يجوز الفطر، كما يظنه بعض الجهال، وهذا مبسوط في مواضع.
والمقصود هنا أن ما جاءت به السنة على وجوه كالأذان، والإقامة وصلاة الخوف، والاستفتاح فالكلام فيه من مقامين:
أحدهما: في جواز تلك الوجوه كلها بلا كراهة، وهذا هو الصواب، وهو مذهب أحمد وغيره في هذا كله. ومن العلماء من قد يكرِّه، أو يحرم بعض تلك الوجوه؛ لظنه أن السنة لم تأت به، أو أنه منسوخ. كما كره طائفة الترجيع في الأذان، وقالوا: إنما قاله لأبي محذورة تلقينًا للإسلام لا تعليما للأذان. والصواب أنه جعله من الأذان وهذا هو الذي فهمه أبو محذورة، وقد عمل بذلك هو وولده والمسلمون يقرونهم على ذلك بمكة وغيرها.
وكره طائفة الأذان بلا ترجيع، وهو غلط أيضًا فإن أذان بلال الثابت ليس فيه ترجيع، وكره طائفة ترجيعها، وكره طائفة صلاة الخوف إلا على حديث ابن عمر، وكره آخرون ما أمر به هؤلاء.
والصواب في هذا كله أن كل ما جاءت به السنة فلا كراهة لشيء منه، بل هو جائز، وهذا مبسوط في مواضع.
والمقصود هنا هو: المقام الثاني. وهو أن ما فعله النبي ﷺ من أنواع متنوعة. وإن قيل: إن بعض تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء بالنبي ﷺ في أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين، وهجر الآخر، وهذا مثل الاستفتاح. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال:قلت: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول:(اللهم بعد بيني وبين خطاياي، كما بعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) ولم يخرج البخاري في الاستفتاح شيئا إلا هذا، وهو أقوي الحجج على الاستفتاح في المكتوبة، فإنه صريح في ذلك بقوله: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة؟ وهذا سؤال عن السكوت، لا عن القول سرًا، ويشهد له حديث سمرة، وحديث أبي بن كعب، أنه كان له سكتتان.
وأيضًا، فللناس في الصلاة أقوال:
أحدها: أنه لا سكوت فيها كقول مالك، ولا يستحب عنده استفتاح، ولا استعاذة، ولا سكوت لقراءة الإمام.
والثاني: أنه ليس فيها إلا سكوت واحد للاستفتاح: كقول أبي حنيفة، لأن هذا الحديث يدل على هذه السكتة.
والثالث: أن فيها سكتتين، كما في حديث السنن. لكن روي فيه أنه يسكت إذا فرغ من القراءة، وهو الصحيح. وروي إذا فرغ من الفاتحة، فقال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: يستحب ثلاث سكتات.
وسكتة الفاتحة جعلها أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد ليقرأ المأموم الفاتحة. والصحيح أنه لا يستحب إلا سكتتان، فليس في الحديث إلا ذلك، وإحدي الروايتين غلط، وإلا كانت ثلاثًا، وهذا هو المنصوص عن أحمد. وأنه لا يستحب إلا سكتتان، والثانية عند الفراغ من القراءة للاستراحة، والفصل بينها وبين الركوع.
وأما السكوت عقيب الفاتحة، فلا يستحبه أحمد، كما لا يستحبه مالك وأبو حنيفة، والجمهور لا يستحبون أن يسكت الإمام ليقرأ المأموم. وذلك أن قراءة المأموم عندهم إذا جهر الإمام ليست بواجبة، ولا مستحبة، بل هي منهي عنها، وهل تبطل الصلاة إذا قرأ مع الإمام؟ فيه وجهان في مذهب أحمد، فهو إذا كان يسمع قراءة الإمام فاستماعه أفضل من قراءته، كاستماعه لما زاد على الفاتحة، فيحصل له مقصود القراءة، والاستماع بدل عن قراءته، فجمعه بين الاستماع والقراءة جمع بين البدل والمبدل؛ ولهذا لم يستحب أحمد وجمهور أصحابه قراءته في سكتات الإمام إلا أن يسكت سكوتًا بليغًا يتسع للاستفتاح والقراءة.
وأما إن ضاق عنهما، فقوله وقول أكثر أصحابه: إن الاستفتاح أولي من القراءة، بل هو في إحدي الروايتين يأمر بالاستفتاح مع جهر الإمام، فإذا كان الإمام ممن يسكت عقيب الفاتحة سكوتًا يتسع للقراءة، فالقراءة فيه أفضل من عدم القراءة، لكن هل يقال: القراءة فيه بالفاتحة أفضل للاختلاف في وجوبها أو بغيرها من القرآن؛ لكونه قد استمعها؟ هذا فيه نزاع. ومقتضى نصوص أحمد وأكثر أصحابه أن القراءة بغيرها أفضل، فإنه لا يستحب أن يقرأ بها مع استماعه قراءتها وعامة السلف الذين كرهوا القراءة خلف الإمام هو فيما إذا جهر. ولم يكن أكثر الأئمة يسكت عقب الفاتحة سكوتًا طويلا. وكان الذي يقرأ حال الجهر قليلا. وهذا منهي عنه بالكتاب والسنة، وعلى النهي عنه جمهور السلف والخلف، وفي بطلان الصلاة بذلك نزاع.
ومن العلماء من يقول: يقرأ حال جهره بالفاتحة. وإن لم يقرأ بها ففي بطلان صلاته أيضا نزاع، فالنزاع من الطرفين، لكن الذين ينهون عن القراءة مع الإمام هم جمهور السلف والخلف، ومعهم الكتاب والسنة الصحيحة، والذين أوجبوها على المأموم في حال الجهر هكذا. فحديثهم قد ضعفه الأئمة، ورواه أبو داود. وقوله في حديث أبي موسي: (وإذا قرأ فأنصتوا) صححه أحمد وإسحاق ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وعلله البخاري بأنه اختلف فيه، وليس ذلك بقادح في صحته. بخلاف ذلك الحديث، فإنه لم يخرج في الصحيح، وضعفه ثابت من وجوه. وإنما هو قول عبادة بن الصامت، بل يفعل في سكوته ما يشرع من الاستفتاح والاستعاذة، ولو لم يسكت الإمام سكوتًا يتسع لذلك، أو لم يدرك سكوته، فهل يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام؟ فيه ثلاث روايات:
إحداها: يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام وإن لم يقرأ؛ لأن مقصود القراءة حصل بالاستماع، وهو لا يسمع استفتاحه واستعاذته إذ كان الإمام يفعل ذلك سرًا.
والثانية: يستفتح ولا يستعيذ؛ لأن الاستعاذة تراد للقراءة، وهو لا يقرأ، وأما الاستفتاح فهو تابع لتكبيرة الافتتاح.
والثالثة: لا يستفتح ولا يستعيذ، وهو أصح، وهو قول أكثر العلماء، كمالك والشافعي، وكذا أبو حنيفة فيما أظن لأنه مأمور بالإنصات والاستماع، فلا يتكلم بغير ذلك؛ ولأنه ممنوع من القراءة، فكذا يمنع من ذلك. وكثير من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم يقول: منعه أولى؛ لأن القراءة واجبة، وقد سقطت بالاستماع؛ لكن مذهب أحمد ليس منعه من القراءة أوكد. فإن القراءة عنده لا تجب على المأموم لا سرًا ولا جهرًا، وإن اختلف في وجوبها على المأموم، فقد اختلف في وجوب الاستفتاح والاستعاذة. وفي مذهبه في ذلك قولان مشهوران.
ومن حجة من يأمر بهما عند الجهر أنهما واجبان لم يجعل عنهما بدل، بخلاف القراءة فإنه جعل منها بدل وهو الاستماع، لكن الصحيح أن ذلك ليس بواجب، والاستعاذة إنما أمر بها من يقرأ، والأمر باستماع قراءة الإمام والإنصات له مذكور في القرآن، وفي السنة الصحيحة، وهو إجماع الأمة فيما زاد على الفاتحة، وهو قول جماهير السلف من الصحابة وغيرهم في الفاتحة وغيرها، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من حذاق أصحابه: كالرازي، وأبي محمد بن عبد السلام، فإن القراءة مع جهر الإمام منكر مخالف للكتاب والسنة، وما كان عليه عامة الصحابة. ولكن طائفة من أصحاب أحمد استحبوا للمأموم القراءة في سكتات الإمام. ومنهم من استحب أن يقرأ بالفاتحة وإن جهر، وهو اختيار جدي. كما استحب ذلك طائفة منهم الأوزاعي وغيره، واستحب بعضهم للإمام أن يسكت عقب الفاتحة ليقرأ من خلفه، وأحمد لم يستحب هذا السكوت، فإنه لا يستحب القراءة إذا جهر الإمام؛ وبسط هذا له موضع آ خر.
والمقصود هنا أن سكوت الاستفتاح ثبت بهذا الحديث الصحيح. ومع هذا، فعامة العلماء من الصحابة ومن بعدهم يستحبون الاستفتاح بغيره كما يستحب جمهورهم الاستفتاح بقوله: (سبحانك اللهم) وقد بينا سبب ذلك في غير هذا الموضع، وهو أن فضل بعض الذكر على بعض هو لأجل ما اختص به الفاضل، لا لأجل إسناده.
والذكر ثلاثة أنواع أفضله ما كان ثناء على الله، ثم ما كان إنشاء من العبد، أو اعترافا بما يجب للَّه عليه، ثم ما كان دعاء من العبد.
فالأول: مثل النصف الأول من الفاتحة، ومثل: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، ومثل التسبيح في الركوع والسجود.
والثاني: مثل قوله: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)، ومثل قوله في الركوع والسجود: (اللهم لك ركعت ولك سجدت) وكما في حديث على الذي رواه مسلم.
والثالث: مثل قوله: (اللهم بَعِّد بيني وبين خطاياي) ومثل دعائه في الركوع والسجود. ولهذا أوجب طائفة من أصحاب أحمد ما كان ثناء، كما أوجبوا الاستفتاح. وحكي في ذلك عن أحمد روايتان، واختار ابن بطة وغيره وجوب ذلك، وهذا لبسطه موضع آخر.
والمقصود هنا أن النوع المفضول مثل الاستفتاح الذي رواه أبو هريرة، ومثل الاستفتاح بوجهت، أو سبحانك اللهم، عند من يفضل الآخر، فِعْلُه أحيانًا أفضل من المداومة على نوع، وهجر نوع، وذلك أن أفضل الهدي هدي محمد ﷺ. كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول في خطبة الجمعة: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ). ولم يكن يداوم على استفتاح واحد قطعًا. فإن حديث أبي هريرة يدل على أنه كان يستفتح بهذا. فإن قيل: كان يداوم عليه، فكانت المداومة عليه أفضل، قلنا: لم يقل هذا أحد من العلماء فيما علمناه فَعُلِم أنه لم يكن يداوم عليه.
وأيضًا، فقد كان عمر يجهر: (بسبحانك اللهم وبحمدك) يعلمها الناس. ولولا أن النبي ﷺ كان يقولها في الفريضة، ما فعل ذلك عمر. وأقره المسلمون. وكما كان بعضهم يجهر بالاستعاذة، وكذلك قيل في جهر جماعة منهم بالبسملة: إنه كان لتعليم الناس قراءتها، كما جهر من جهر منهم بالاستعاذة والاستفتاح، وكما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ ولهذا كان الصواب هو المنصوص عن أحمد أنه يستحب الجهر أحيانا بذلك، فيستحب الجهر بالبسملة أحيانًا ونص قوم على أنه كان يجهر بها إذا صلى بالمدينة، فظن القاضي أن ذلك لأن أهل المدينة شيعة يجهرون بها، وينكرون على من لم يجهر بها؛ لأن القاضي لما حج كان قد ظهر بها التشيع، واستولى عليها وعلى أهل مكة العبيديون المصريون، وقطعوا الحج من العراق مدة وإنما حج القاضي من الشام.
والصواب أن أحمد لم يأمر بالجهر لذلك، بل لأن أهل المدينة على عهده كانوا لايقرؤون بها سرًا ولا جهرًا، كما هو مذهب مالك، فأراد أن يجهر بها كما جهر بها من جهر من الصحابة تعليمًا للسنة، وأنه يستحب قراءتها في الجملة. وقد استحب أحمد أيضًا لمن صلى بقوم لا يقنتون بالوتر، وأرادوا من الإمام ألا يقنت لتأليفهم. فقد استحب ترك الأفضل لتأليفهم، وهذا يوافق تعليل القاضي. فيستحب الجهر بها إذا كان المأمومون يختارون الجهر لتأليفهم، ويستحب أيضا إذا كان فيه إظهار السنة، وهم يتعلمون السنة منه ولا ينكرونه عليه.
وهذا كله يرجع إلى أصل جامع: وهو أن المفضول قد يصير فاضلا لمصلحة راجحة، وإذا كان المحرم كأكل الميتة قد يصير واجبًا للمصلحة الراجحة، ودفع الضرر، فلأن يصير المفضول فاضلا لمصلحة راجحة أولي.
وكذلك يقال في أجناس العبادات كالصلاة: جنسها أفضل من جنس القراءة، والذكر. ثم إنها منهي عنها في أوقات النهي، فالقراءة والذكر والدعاء في ذلك الوقت أفضل من الصلاة، وكذلك الدعاء في مشاعر الحج بعرفة ومزدلفة ومني والصفا والمروة أفضل من القراءة أيضا بالنص والإجماع. فإن النبي ﷺ قال: (إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعًا وساجدًا) وهذا في الصحيح من حديث ابن عباس، ومن حديث على أيضا أنه نهاه عن ذلك، ولو قرأ هل تبطل صلاته؟ فيه وجهان في مذهب أحمد، فالنهي عن الصلاة والقراءة في المشاعر الفضيلة...
فإن الطهارة شرط في الصلاة، ولا يشترط له الطهارة، ولكل مكان عبادة تشرع، وكذلك ترك الصلاة وقت النهي مشروع في كل زمان. وأما الطواف فهل تكره فيه القراءة؟ فيه قولان مشهوران للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، والرخصة مذهب الشافعي، بل هو يستحب فيه القراءة، ولا يستحب الجهر بها، وللأخري مصنف.
وإذا كان هذا من أجناس العبادات التي ثبت فضل بعضها على بعض بالنص والإجماع، فكيف في أنواع الذكر لاسيما فيما فيه نزاع؟! فالأصل بلا ريب هدي النبي ﷺ، وقد ثبت أنه كان يستفتح بهذا الاستفتاح الذي في حديث أبي هريرة، فالأفضل أن يستفتح به أحيانا، ويستفتح بغيره أحيانا.
وأيضًا، فلكل استفتاح حاجة ليست لغيره، فيأخذ المؤمن بحظه من كل ذكر.
وأيضًا، فقد يحتاج الإنسان إلى المفضول، ولا يكفيه الفاضل. كما في: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } 171، فإنها تعدل ثلث القرآن، أي يحصل لصاحبها من الأجر ما يعدل ثواب ثلث القرآن في القدر، لا في الصفة. فإن ما في القرآن من الأمر والنهي والقصص والوعد والوعيد لا يغني عنه { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وليس أجرها من جنس أجرها. وإن كان جنس أجر { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أفضل، فقد يحتاج إلى المفضول حيث لا يغني الفاضل. كما يحتاج الإنسان إلى رجله حيث لا تغني عنها عينه.
وكذلك المخلوقات لكل مخلوق حكمة خلق لأجلها، فكذلك العبادات، فجميع ما شرعه الرسول له حكمة ومقصود ينتفع به مقصوده فلا يهمل ما شرعه من المستحبات. وإن قيل: إن جنس غيره أفضل فهو في زمانه ومكانه أفضل من غيره. والصلوات التي كان يدعو فيها بهذا الاستفتاح، كان دعاؤه فيها بهذا الاستفتاح أفضل من غيره وهو دعاؤه بالطهارة والتنقية من الذنوب والتبعيد عنها من جنس الاستغفار في السحر، وكاستغفاره عقب الصلاة، وقد كان يدعو بمثل هذا الدعاء في آخر قيام الاعتدال بعد التحميد، فكان يفتتح به القيام تارة، ويختم به القيام أيضًا.
وقد روي عنه في الاستفتاح أنواع وعامتها في قيام الليل، كما ذكر ذلك أحمد. ويستحب للمصلي بالليل أن يستفتح بها كلها، وهذا أفضل من أن يداوم على نوع ويهجر غيره، فإن هذا هدي النبي ﷺ، لكن يقال أيضًا: هدي النبي ﷺ هو أفضل، ومن الناس من لا يصلح له الأفضل، بل يكون فعله للمفضول أنفع. كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر، أو بالذكر دون القراءة، أو بالقراءة دون صلاة التطوع، فالعبادة التي ينتفع بها فيحضر لها قلبه ويرغب فيها ويحبها، أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة. كالغذاء الذي يشتهيه الإنسان وهو جائع: هو أنفع له من غذاء لا يشتهيه، أو يأكله وهو غير جائع.
فكذلك يقال هنا: قد تكون مداومته على النوع المفضول أنفع لمحبته وشهود قلبه وفهمه ذلك الذكر. ونحن إذا قلنا: التنوع في هذه الأذكار أفضل، فهو أيضًا تفضيل لجنس التنوع. والمفضول قد يكون أنفع لبعض الناس لمناسبته له، كما قد يكون جنسه في الشرع أفضل في بعض الأمكنة والأزمنة والأحوال، فالمفضول تارة يكون أفضل مطلقًا في حق جميع الناس، كما تقدم. وقد يكون أفضل لبعض الناس؛ لأن انتفاعه به أتم. وهذه حال أكثر الناس قد ينتفعون بالمفضول لمناسبته لأحوالهم الناقصة ما لا ينتفعون بالفاضل الذي لا يصلون إلى أن يكونوا من أهله.
فصل صلاة الخوف
وكذلك صلاة الخوف إذا صلى مرة على وجه، ومرة على وجه، كان أتبع من حفظ وجه وترك آخر، وقد يكون على وجه أفضل في وقت لمناسبة حاله حال ذلك الوقت، وربما كان بعض الذكر والدعاء في بعض الأوقات أفضل. كذلك، فقد يكون في حال يكون الاستغفار أنفع له، وفي حال يكون إقراره للَّه بالتوحيد أفضل له، وفي حال يكون تسبيحه وتحميده وتهليله وتكبيره أفضل له. والذين يستحبون بعض المشروع ويكرهون بعضه، فإن الله سبحانه يقيم طائفة تقول هذا وطائفة تقول هذا، وطائفة تقول هذا، ويتنازعون. فإن بسبب النزاع تظهر كل طائفة من السنة ما قالت به وتركته الأخري، كالمختلفين في البسملة، هل تجب ويجهر بها؟ أم تكره قراءتها سرًا وجهرًا؟ يحتاج أولئك أن يظهروا ما يدل على أنها من القرآن آية مفردة تبعًا للسور، ويحتاج أولئك أن يظهروا ما يدل على أنها ليست من السور، ولا تجب قراءتها، وكلا القولين حق.
وسورة اقرأ هي أول ما نزل من القرآن، وقد احتج بها كل من الطائفتين، وفيها حجة لما معه من الحق، فالذين قالوا: ليست من السور، قالوا: إن جبريل لما أتي النبي ﷺ لم يأمره بقراءتها، بل أمره أن يقرأ: { بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } 172 ولو كانت هي أول السورة لأمره بها، وهذا ثابت في الصحيحين من حديث عائشة. والذين قالوا بقراءتها قالوا: قد قال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } 173، فهذا أمر لكل قارئ أن يقرأ باسم ربه. فإذا قيل: اذبح بسم الله، وكل بسم الله، واركب بسم الله، فمعناه اذكر اسم الله إذا فعلت ذلك فلما قال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } 174 كان أمرًا للقارئ أن يذكر اسم الله، فيقول: بسم الله، وهذا أولي من ذكر اسم ربه عند الذبح والأكل والشرب.
وهنا قد أمر بالاستعاذة أيضا عند القراءة. وهو إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فقد امتثل ما أمر به فذكر اسم ربه إذا قرأ، وإنما لم يذكرها جبريل ابتداء؛ لأنه بعد لم يتعلم شيئًا من القرآن، لكن علمه هذا وأمره فيه بذكر اسم ربه إذا قرأ، فكان بعد هذا إذا قرأ السورة، يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، كما ثبت في صحيح مسلم أنه قال: (قد أنزل علي آنفًا سورة) ثم قرأ: { بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } 175.
ولكن هذه تدل على أنها تبع للقرآن المقصود؛ لما فيها من ذكر الله؛ ولهذا كتبت في المصاحف مفردة عن السورة لم تخلط بها، فهي قرآن مكتوب في المصاحف، لكن أنزل تبعًا لغيره، والمقصود غيره، فلهذا أفردت في الكتابة والتلاوة، ففي الكتابة تكتب مفردة، وفي التلاوة كان النبي ﷺ لا يجهر بها، ولم يجعلها من القرآن المفروض في الحديث الصحيح بقوله: (يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ، قال: أثني على عبدي، فإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، قال: مجدني عبدي...) إلى آخر الحديث.
وهذا قول جمهور العلماء في البسملة أنها آية من القرآن مفردة وليست من السورة، وأنه يقرأ بها في الصلاة سرًا، فلا تخرج من القرآن وتهجر، ولا تشبه بالقرآن المقصود فتجهر، وهي تشبه الاستعاذة من بعض الوجوه، لكن الاستعاذة ليست بقرآن، ولم تكتب في المصاحف وإنما فيه الأمر بالاستعاذة، وهذا قرآن. والفاتحة سبع آيات بالاتفاق. وقد ثبت ذلك بقوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } 176. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (فاتحة الكتاب هي السبع المثاني) .
وقد كان كثير من السلف يقول: البسملة آية منها، ويقرؤها، وكثير من السلف لا يجعلها منها، ويجعل الآية السابعة { أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } كما دل على ذلك حديث أبي هريرة الصحيح، وكلا القولين حق، فهي منها من وجه، وليست منها من وجه، والفاتحة سبع آيات. من وجه تكون البسملة منها، فتكون آية. ومن وجه لا تكون منها فالآية السابعة { أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } ؛ لأن البسملة أنزلت تبعًا للسور.
والمقصود أن يبتدأ القرآن بذكر اسم الله، فهي أنزلت في أول السورة تبعًا لم تنزل في أواخر السور، وكتبت في المصاحف مفردة لكن تبعًا لما بعدها، لا لما قبلها. ولهذا قال النبي ﷺ: (قد أنزلت على آنفًا سورة) وقرأ: { بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ . } 177.
وفي السنن كان النبي ﷺ لا يعلم فصل السورة حتى ينزل عليه { بسم الله الرحمن الرحيم } فمن جهة كونها تابعة للسورة تجعل منها، ومن جهة كون المقصود أن يقرأ بسم الله كما يفعل سائر الأفعال بسم الله. والقرآن المقصود غيرها لم تكن آية من السورة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: (إني لأعلم سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } ) .
والقراء منهم من يفصل بها بين السورتين، ومنهم من لا يفصل؛ لكون القرآن كله كلام الله، فلا يفصلون بها بين السورتين، كمن سمي إذا أكل، ثم أكل أنواعًا من الطعام. ومنهم من يسمي في أول كل سورة، وهذا أحسن لمتابعته لخط المصحف، وهو بمنزلة رفع طعام، ووضع طعام. فالتسمية عنده أفضل.
وكذلك من ذبح شاة بعد شاة فالتسمية على كل شاة أفضل. وأما تلاوتها في أول الفاتحة فهو ابتداء بها للقرآن، ولهذا اختلف كلام أحمد، هل قراءتها في أول الفاتحة واجبة فرض لا تصح الصلاة إلا به؟ على روايتين. وذكر عنه روايتان في الاستعاذة والاستفتاح، فالبسملة أولي بالوجوب، ثم وجوبها قد يبتني على أنها من الفاتحة، وقد يقال بوجوبها وإن لم تكن من الفاتحة، كما يوجب الاستعاذة والاستفتاح؛ ولهذا لا يجعل الجهر بها تبعًا لوجوبها، بل يوجبها ويستحب المخافتة بها، ولو كانت من الفاتحة من كل وجه، لكان الجهر ببعض الفاتحة دون بعض بعيدًا عن الأصول، فإذا جعلت منها من وجه دون وجه، اتفقت الأدلة والأصول، وأعطي كل شيء من ذلك صفة، ولم يقل: إنها من القرآن في أول الفاتحة، ولو كقول من لم يجعلها من القرآن في حال إلا في سورة النمل.
وقد قال طائفة: إنها من القرآن في قراءة دون قراءة، لتواتر هذه القراءات، فيقال: المتواتر هو الأمر الوجودي، وهو ما سمعوه من القرآن من الصحابة، وبلغوه عن الرسول، والقرآن في زمانه لم يكتب، ولا كان ترتيب السور على هذا الوجه أمرًا واجبًا، مأمورًا به من عند الله، بل الأمر مفوض في ذلك إلى اختيار المسلمين؛ ولهذا كان لجماعة من الصحابة لكل منهم اصطلاح في ترتيب سوره غير اصطلاح الآخر. وحينئذ، فيكون الذين لا يقرؤونها، قد أقرأهم الرسول ولم يبسمل، وأولئك أقرأهم وبسمل. فهذا يدل على جواز الأمرين، وإن كان أحدهما أفضل لا يدل على أنها في أحد الحرفين ليست من القرآن، وأنه نهي عن قراءتها، فإن هذا جمع بين النقيضين، كيف يسوغ قراءتها والنهي عن قراءتها؟ بل هذا يدل على جواز الأمرين كالحروف التي ثبتت في قراءة دون قراءة مثل (من تحتها)، ومثل (إن الله هو الغني) فالرسول يجوز إثبات ذلك، ويجوز حذفه، كلاهما جائز في شرعه.
وبهذا يتبين أن من قال من الفقهاء: إنها واجبة على قراءة من أثبتها أو مكروهة على قراءة من لم يثبتها فقد غلط، بل القرآن يدل على جواز الأمرين. ومن قرأ بإحدي القراءات لا يقال: إنه كلما قرأ يجب أن يقرأ بها، ومن ترك ما قرأ به غيره لا يقول: إن قراءة أولئك مكروهة، بل كل ذلك جائز بالاتفاق. وإن رجح كل قوم شيئًا، وبهذا يتبين أن من أنكر كونها من القرآن بالكلية إلا في سورة النمل، وقطع بخطأ من أثبتها بناء على أن القرآنية لا تثبت إلا بالقطع، فهو مخطئ في ذلك، ويقال له: ولا تنفي إلا بالقطع أيضا.
ثم يقال له: من أثبتها يقطع بأنها ثابتة، ويقطع بخطأ من نفاها، بل التحقيق أن كون الشيء قطعيًا أو غير قطعي، أمر إضافي، والقراءات تدل على جواز الأمرين، ولكن القراءة بها أفضل. وهذا قول جمهور العلماء يجوزون هذا، ويرجحون قراءتها، ويخفونها عن غيرها من القرآن؛ لأنها تابعة لغيرها. و الله أعلم. والحمد للَّه رب العالمين. وصلي الله على سيدنا محمد. وآله وصحبه وسلم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قاعدة في صفات العبادات الظاهرة
وَقَالَ شيخ الإِسلام:
قاعدة في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي: مثل الأذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف.
ومثل التمتع، والإفراد، والقِرَان في الحج، ونحو ذلك. فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة، والشعائر أوجب أنواعًا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله، وعباده المؤمنون:
أحدها: جهل كثير من الناس، أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله، والذي سنه رسول الله ﷺ لأمته، والذي أمرهم باتباعه.
الثاني: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، وبغيهم عليهم، تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم، وصلتهم، لعدم موافقتهم له علي الوجه الذي يؤثرونه، حتى يقدمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخرًا عند الله ورسوله، ويتركون من يكون مقدما عند الله ورسوله لذلك.
الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس، حتى يصير كثير منهم مدينًا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة. وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة: كالخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم. وقد قال تعالى في كتابه: { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } 178، وقال في كتابه: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } 179.
الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا، ويعاديه، ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن، واللعن، والهمز، واللمز. وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله.
والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } إلى قوله: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } 180، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه عن السنة التي شرعها رسول الله ﷺ لأمته، ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة التي أمر الله بها ورسوله، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } 181، وقال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } 182، وقال تعالى: { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } 183، وقال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } 184، وقال تعالى: { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } 185، وقال تعالى: { فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } 186، وقال تعالى: { فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } 187، وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } 188، وقال: { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } 189.
وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا، وألا يتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه.
ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي ﷺ في مواطن عامة وخاصة، مثل قوله: (عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة)، وقوله:(فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)، وقوله:(من رأي من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه)، وقوله:(ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟) قالوا: بلي يا رسول الله .قال: (صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين).
وقوله:(من جاءكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان), وقوله: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم)، وقوله: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة ناجية، واثنتان وسبعون في النار)، قيل: ومن الفرقة الناجية؟ قال: (هي الجماعة، يد الله على الجماعة) .
وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة، بل وفي غيرها، هو التفرق والاختلاف. فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها، من ملوكها ومشايخها، وغيرهم من ذلك ما الله به عليم. وإن كان بعض ذلك مغفورًا لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو لغير ذلك، لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره. وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة.
النوع الخامس: هو شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما أهل السنة والجماعة عليه متفقون، بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام، بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون، وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارة. ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخري.
أما الأول، فقد علم الله الذكر الذي أنزله على رسوله، وأمر أزواج نبيه بذكره، حيث يقول: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } 190، حفظه من أن يقع فيه من التحريف ما وقع فيما أنزل قبله. كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، فعصم حروف التنزيل أن يغير، وحفظ تأويله أن يضل فيه أهل الهدي المتمسكون بالسنة والجماعة، وحفظ أيضًا سنة رسول الله ﷺ عما ليس فيها من الكذب عمدًا أو خطأ، بما أقامه من علماء أهل الحديث وحفاظه، الذين فحصوا عنها وعن نقلتها ورواتها، وعلموا من ذلك ما لا يعلم غيرهم، حتى صاروا مجتمعين على ما تلقوه بالقبول منها إجماعًا معصوما من الخطأ؛ لأسباب يطول وصفها في هذا الموضع. وعلموا هم خصوصًا وسائر علماء الأمة، بل وعامتها عموما ما صانوا به الدين عن أن يزاد فيه، أو ينقص منه، مثلما علموا أنه لم يفرض عليهم في اليوم والليلة إلا الصلوات الخمس، وأن مقادير ركعاتها ما بين الثنائي والثلاثي والرباعي، وأنه لم يفرض عليهم من الصوم إلا شهر رمضان، ومن الحج إلا حج البيت العتيق، ومن الزكاة إلا فرائضها المعروفة، إلى نحو ذلك.
وعلموا كذب أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه عن النبي ﷺ؛ لعلمهم بكذب من يزعم من الرافضة أن النبي ﷺ نص على علي بالخلافة نصًا قاطعًا جليًا، وزعم آخرين أنه نص على العباس.
وعلموا أكاذيب الرافضة والناصبة التي يأثرونها في مثل الغزوات التي يروونها عن على وليس لها حقيقة، كما يرويها المكذبون الطرقية مثل أكاذيبهم الزائدة في سيرة عنتر والبطَّال حيث علموا مجموع مغازي رسول الله ﷺ، وأن القتال فيها كان في تسعة مغاز فقط، ولم يكن عدة المسلمين ولا العدو في شيء من مغازي القتال عشرين ألفا.
ومثل الفضائل المروية ليزيد بن معاوية ونحوه، والأحاديث التي يرويها كثير من الكَرَّامية في الإرجاء ونحوه، والأحاديث التي يرويها كثير من النساك في صلوات أيام الأسبوع، وفي صلوات أيام الأشهر الثلاثة، والأحاديث التي يروونها في استماع النبي ﷺ هو وأصحابه، وتواجده، وسقوط البردة عن ردائه، وتمزيقه الثوب، وأخذ جبريل لبعضه، وصعوده به إلى السماء، وقتال أهل الصفة مع الكفار، واستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء، والأحاديث المأثورة في نزول الرب إلى الأرض يوم عرفة، وصبيحة مزدلفة، ورؤية النبي ﷺ له في الأرض بعين رأسه، وأمثال هذه الأحاديث المكذوبة التي يطول وصفها. فإن المكذوب من ذلك لا يحصيه أحد إلا الله تعالي؛ لأن الكذب يحدث شيئًا فشيئًا ليس بمنزلة الصدق الموروث عن النبي ﷺ الذي لا يحدث بعده، وإنما يكون موجودًا في زمنه ﷺ، وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول، وورثة الأنبياء.
وكان من الدلائل على انتفاء هذه الأمور المكذوبة وغيرها وجوه:
أحدها: أن ما توفرت همم الخلق ودواعيهم على نقله وإشاعته يمتنع في العادة كتمانه، فانفراد العدد القليل به يدل على كذبهم، كما يعلم كذب من خرج يوم الجمعة وأخبر بحادثة كبيرة في الجامع مثل سقوط الخطيب وقتله، وإمساك أقوام في المسجد، إذا لم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان. ويعلم كذب من أخبر أن في الطرقات بلادًا عظيمة وأمما كثيرين، ولم يخبر بذلك السيارة، وإنما انفرد به الواحد والاثنان، ويعلم كذب من أخبر بمعادن ذهب وفضة متيسرة لمن أرادها بمكان يعلمه الناس، ولم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان. وأمثال ذلك كثيرة فباعتبار العقل وقياسه وضربه الأمثال، يعلم كذب ما ينقل من الأمور التي مضت سنة الله بظهورها وانتشارها، لو كانت موجودة.
كما يعلم أيضا صدق ما مضت سنة الله في عباده أنهم لا يتواطؤون فيه على الكذب، من الأمور المتواترة، والمنقولات المستفيضة. فإن الله جبل جماهير الأمم على الصدق والبيان، في مثل هذه الأمور، دون الكذب والكتمان، كما جبلهم على الأكل والشرب واللباس، فالنفس بطبعها تختار الصدق، إذا لم يكن لها في الكذب غرض راجح وتختار الأخبار بهذه الأمور العظيمة دون كتمانها.
والناس يستخبر بعضهم بعضًا، ويميلون إلى الاستخبار والاستفهام عما يقع. وكل شخص له من يؤثر أن يصدقه، ويبين له دون أن يكذبه ويكتمه. والكذب والكتمان يقع كثيرًا في بني آدم في قضايا كثيرة لا تنضبط، كما يقع منهم الزنا وقتل النفوس والموت جوعًا وعريًا ونحو ذلك، لكن ليس الغالب على أنسابهم إلا الصحة، وعلي أنفسهم إلا البقاء، فالغرض هنا أن الأمور المتواترة يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكذب، والأخبار الشاذة يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكتمان.
الوجه الثاني: أن دين الأمة يوجب عليهم تبليغ الدين، وإظهاره وبيانه، ويحرم عليهم كتمانه، ويوجب عليهم الصدق، ويحرم عليهم الكذب، فتواطؤهم على كتمان ما يجب بيانه، كتواطئهم على الكذب وكلاهما من أقبح الأمور التي تحرم في دين الأمة، وذلك باعث موجب الصدق والبيان.
الثالث: أنه قد علم من عدل سلف الأمة ودينها وعظيم رغبتها في تبليغ الدين وإظهاره وعظيم مجانبتها للكذب على الرسول ﷺ ما يوجب أعظم العلوم الضرورية، بأنهم لم يكذبوا فيما نقلوه عنه، ولا كتموا ما أمرهم بتبليغه، وهذه العادة الحاجية الخاصة الدينية لهم غير العادة العامة المشتركة بين جنس البشر.
الرابع: أن العلماء الخاصة يعلمون من نصوص رسول الله ﷺ الموجبة عليهم التبليغ، ومن تعظيمهم لأمر الله ورسوله، ومن دين آحادهم مثل الخلفاء، ومثل ابن مسعود، وأبي، ومعاذ، وأبي الدرداء إلى ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو، وغيرهم. يعلمون علما يقينا لا يتخالجه ريب امتناع هؤلاء من كتمان قواعد الدين التي يجب تبليغها إلى العامة، كما يعلمون امتناعهم من الكذب على رسول الله ﷺ.
ويعلم أيضًا أهل الحديث مثل أحوال المشاهير بمعرفة ذلك مثل: الزهري وقتادة ويحيي ابن أبي كثير، ومثل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وغيرهم أمورًا يعلمون معها امتناعهم من الكذب، وامتناعهم عن كتمان تبليغ هذه الأمور العظيمة التي تأبي أحوالهم كتمانها، لو كانت موجودة، ولهم في ذلك أسباب يطول شرحها وليس الغرض هنا تقرير ذلك. وإنما الغرض التنبيه على ما وقع من الشبهة لبعض الناس من أهل الأهواء.
قالوا: هذا الذي ذكرتموه معارض بأمر الأذان والإقامة، فإنه كان يفعل على عهد النبي ﷺ كل يوم خمس مرات، ومع هذا فقد وقع الاختلاف في صفته. وكذلك الجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، وحجة الوداع من أعظم وقائعه، وقد وقع الاختلاف في نقلها، وذكروا نحو هذه الأمور التي وقعت فيها الشبهة والنزاع عند بعض الناس، وجعلوا هذا معارضًا لما تقدم ليسوغوا أن يكون من أمور الدين ما لم ينقل، بل كتم لأهواء وأغراض.
وأما جهة الرأي والتنازع، فإن تنازع العلماء واختلافهم في صفات العبادات، بل وفي غير ذلك من أمور الدين صار شبهة لكثير من أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم، وقالوا: إن دين الله واحد، والحق لا يكون في جهتين: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } 191.
فهذا التفرق والاختلاف، دليل على انتفاء الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة، ويعبرون عنهم بعبارات تارة يسمونهم الجمهور، وتارة يسمونهم الحشوية، وتارة يسمونهم العامة، ثم صار أهل الأهواء لما جعلوا هذا مانعًا من كون الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة، كل ينتحل سبيلا من سبل الشيطان.
فالرافضة تنتحل النقل عن أهل البيت لما لا وجود له. وأصل من وضع ذلك لهم زنادقة، مثل رئيسهم الأول عبد الله بن سبأ، الذي ابتدع لهم الرفض، ووضع لهم أن النبي ﷺ نص على علي بالخلافة، وأنه ظُلِم ومُنِع حقه، وقال: إنه كان معصومًا، وغرض الزنادقة بذلك التوسل إلى هدم الإسلام؛ ولهذا كان الرفض باب الزندقة والإلحاد، فالصابئة المتفلسفة ومن أخذ ببعض أمورهم، أو زاد عليهم من القرامطة والنصيرية والإسماعيلية والحاكمية وغيرهم إنما يدخلون إلى الزندقة والكفر بالكتاب والرسول، وشرائع الإسلام من باب التشيع والرفض، والمعتزلة ونحوهم تنتحل القياس والعقل. وتطعن في كثير مما ينقله أهل السنة والجماعة، ويعللون ذلك بما ذكر من الاختلاف ونحوه. وربما جعل ذلك بعض أرباب الملة من أسباب الطعن فيها، وفي أهلها، فيكون بعض هؤلاء المتعصبين ببعض هذه الأمور الصغار ساعيًا في هدم قواعد الإسلام الكبار.
فصل فيما يزيل الاختلاف والتفرق في هذه المسائل
إذا تبين بعض ما حصل في هذا الاختلاف والتفرق من الفساد، فنحن نذكر طريق زوال ذلك، ونذكر ما هو الواجب في الدين في هذه المنازعات، وذلك ببيان الأصلين اللذين هما السنة والجماعة المدلول عليهما بكتاب الله، فإنه إذا اتبع كتاب الله وما تضمنه من اتباع رسوله، والاعتصام بحبله جميعًا، حصل الهدي والفلاح، وزال الضلال والشقاء.
أما الأصل الأول وهو الجماعة وبدأنا به لأنه أعرف عند عموم الخلق، ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معاني الكتاب والسنة فنقول:
عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات، لا في واجبات ومحرمات، فإن الرجل إذا حج متمتعًا أو مفردًا أو قارنًا كان حجه مجزئًا عند عامة علماء المسلمين، وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك، ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك، فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ما عداها، ومن الناصبة من يحرم المتعة ولا يبيحها بحال.
وكذلك الأذان سواء رَجع فيه أو لم يرجع، فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة، وعامة خلفها. وسواء ربّع التكبير في أوله أو ثناه. وإنما يخالف في ذلك بعض شواذ المتفقهة، كما خالف فيه بعض الشيعة، فأوجب له الحيعلة بحي على خير العمل وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية بأيها أقام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام، إلا ما تنازع فيه شذوذ الناس.
وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة. وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما، أو يكره الآخر، أو يختار ألا يقرأ بها، فالمنازعة بينهم في المستحب، وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عوام العلماء، فإنهم وإن تنازعوا بالجهر والمخافتة في موضعهما، هل هما واجبان أم لا؟ وفيه نزاع معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فهذا في الجهر الطويل بالقدر الكثير، مثل المخافتة بقرآن الفجر، والجهر بقراءة صلاة الظهر.
فأما الجهر بالشيء اليسير، أو المخافتة به، فمما لا ينبغي لأحد أن يبطل الصلاة بذلك. وما أعلم أحدًا قال به. فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه كان في صلاة المخافتة يسمعهم الآية أحيانًا. وفي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي وراء النبي ﷺ، فلما رفع رأسه من الركعة. قال:(سمع الله لمن حمده)، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركا فيه، فلما انصرف قال:(من المتكلم؟) قال: أنا، قال: (رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول) .
ومعلوم أنه لولا جهره بها، لما سمعه النبي ﷺ، ولا الراوي. ومعلوم أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك، وكذلك ثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك). وهذا فعله بين المهاجرين والأنصار. والسنة الراتبة فيه المخافتة، وكذلك كان من الصحابة من يجهر بالاستعاذة. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه جهر بقراءة الفاتحة على الجنازة، وقال: لتعلموا أنها السنة، ولهذا نظائر.
وأيضًا، فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة، كابن الزبير ونحوه، ومنهم من لم يكن يجهر بها كابن مسعود وغيره، وتكلم الصحابة في ذلك، ولم يبطل أحد منهم صلاة أحد في ذلك. وهذا مما لم أعلم فيه نزاعًا، وإن تنازعوا في وجوب قراءتها فتلك مسألة أخرى.
وكذلك القنوت في الفجر إنما النزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته، وسجود السهو لتركه أو فعله، وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة من ترك القنوت، وأنه ليس بواجب، وكذلك من فعله إذ هو تطويل يسير للاعتدال، ودعاء الله في هذا. الأذان، فإذا كان كل واحد من مؤذني رسول الله ﷺ قد أمره النبي ﷺ بأحد النوعين، صار ذلك مثل تعليمه القرآن لعمر بحرف، ولهشام بن حكيم بحرف آخر، وكلاهما قرآن أذن الله أن يقرأ به.
وكذلك الترجيع في الأذان هو ثابت في أذان أبي محذورة، وهو محذوف من أذان بلال الذي رووه في السنن، وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة بها صح الجهر بها عن طائفة من الصحابة، وصحت المخافتة بها عن أكثرهم، وعن بعضهم الأمران جميعًا.
وأما المأثور عن النبي ﷺ، فالذي في الصحاح والسنن، يقتضي أنه لم يكن يجهر بها، كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته، ففي الصحيح حديث أنس وعائشة وأبي هريرة، يدل على ذلك دلالة بينة، لا شبهة فيها، وفي السنن أحاديث أخر: مثل حديث ابن مغفل وغيره، وليس في الصحاح والسنن حديث فيه ذكر جهره بها، والأحاديث المصرحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لم يخرجوا في أمهات الدواوين منها شيئًا، ولكن في الصحاح والسنن أحاديث محتملة.
وقد روي الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس: أن النبي ﷺ كان يجهر بها إذ كان بمكة، وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتي مات. ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، وهذا يناسب الواقع. فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها، وأما أهل المدينة والشام والكوفة، فلم يكونوا يجهرون بها، وكذلك أكثر البصريين، وبعضهم كان يجهر بها؛ ولهذا سألوا أنسًا عن ذلك. ولعل النبي ﷺ كان يجهر بها بعض الأحيان، أو جهرًا خفيفًا إذا كان ذلك محفوظًا، وإذا كان في نفس كتب الحديث أنه فعل هذا مرة، وهذا مرة زالت الشبهة.
وأما القنوت، فأمره بيِّن لا شبهة فيه عند التأمل التام. فإنه قد ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ: أنه قنت في الفجر مرة يدعو على رَعْل وذَكْوَان وعَصِيَّة. ثم تركه ولم يكن تركه نسخًا له؛ لأنه ثبت عنه في الصحاح: أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين: مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين، ويدعو على مُضر، وثبت عنه أنه قنت أيضا في المغرب والعشاء، وسائر الصلوات قنوت استنصار.
فهذا في الجملة منقول ثابت عنه، لكن اعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تركه ترك نسخ، فاعتقد أن القنوت منسوخ، واعتقد بعضهم من المكيين أنه مازال يقنت في الفجر القنوت المتنازع فيه حتي فارق الدنيا. والذي عليه أهل المعرفة بالحديث، أنه قنت لسبب، وتركه لزوال السبب.
فالقنوت من السنن العوارض لا الرواتب؛ لأنه ثبت أنه تركه لما زال العارض، ثم عاد إليه مرة أخرى، ثم تركه لما زال العارض. وثبت في الصحاح أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرًا، هكذا ثبت عن أنس وغيره، ولم ينقل أحد قط عنه أنه قنت القنوت المتنازع فيه، لا قبل الركوع ولا بعده، ولا في كتب الصحاح والسنن شيء من ذلك، بل قد أنكر ذلك الصحابة كابن عمر، وأبي مالك الأشجعي وغيرهما.
ومن المعلوم - قطعًا - أن الرسول ﷺ لو كان كل يوم يقنت قنوتا يجهر به، لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة، فإنهم نقلوا ما كان يقوله في القنوت العارض، وقنوت الوتر، فالقنوت الراتب أولي أن ينقل دعاؤه فيه. فإذا كان الذي نستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر، علم أنه ليس فيه شيء عن النبي ﷺ، وهذا مما يعلم باليقين القطعي، كما يعلم عدم النص على هذا وأمثاله، فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نقل ذلك. فإنه مما يعلم بطلانه قطعًا.
وكذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر، وعلي، وغيرهما هو القنوت العارض، قنوت النوازل، ودعاء عمر فيه، وهو قوله:(اللهم عذِّب كفرة أهل الكتاب) إلخ. يقتضي أنه دعا به عند قتله للنصاري، وكذلك دعاء على عند قتاله لبعض أهل القبلة. والحديث الذي فيه عن أنس: أنه لم يزل يقنت حتي فارق الدنيا مع ضعف في إسناده، وأنه ليس في السنن، إنما فيه القنوت قبل الركوع.
وفي الصحاح عن أنس أنه قال: لم يقنت رسول الله ﷺ بعد الركوع إلا شهرًا والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل إذ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة، فتارة يكون في السجود وتارة يكون في القيام، كما قد بيناه في غير هذا الموضع.
وأما حجة الوداع وإن اشتبهت على كثير من الناس فإنما أتوا من جهة الألفاظ المشتركة حيث سمعوا بعض الصحابة يقول: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج. وهؤلاء أيضًا يقولون: إنه أفرد الحج، ويقول بعضهم: إنه قرن العمرة إلى الحج، ولا خلاف في ذلك. فإنهم لم يختلفوا أن النبي ﷺ لم يحل من إحرامه، وأنه كان قد ساق الهدي ونحره يوم النحر، وأنه لم يعتمر بعد الحجة في ذلك العام، لا هو ولا أحد من أصحابه، إلا عائشة أمر أخاها أن يعمرها من التنعيم أدني الحل وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه فيها أنه لم يطف بالصفا والمروة إلا مرة واحدة، مع طوافه الأول.
فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا، ل أنه أفرد أعمال الحج لم يقرن بها عمل العمرة، كما يتوهم من يقول:إن القارن يطوف طوافين. ويسعي سعيين، ولم يتمتع تمتعًا حل به من إحرامه كما يفعله المتمتع الذي لم يسق الهدي، بل قد أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، ويهلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم . ا. ه .
فصل أنواع الاستفتاح للصلاة
وَقال الشيخ رحمه الله:
فصل
أنواع الاستفتاح للصلاة ثلاثة وهي أنواع الأذكار مطلقًا بعد القرآن أعلاها ما كان ثناء على الله، ويليه ما كان خبرًا من العبد عن عبادة الله، والثالث ما كان دعاء للعبد.
فإن الكلام إما إخبار، وإما إنشاء، وأفضل الأخبار ما كان خبرًا عن الله. والإخبار عن الله أفضل من الخبر عن غيره، ومن الإنشاءات. ولهذا كانت { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن؛ لأنها تتضمن الخبر عن الله، وكانت آية الكرسي أفضل آية في القرآن؛ لأنها خبر عن الله، فما كان من الذكر من جنس هذه السورة، وهذه الآية، فهو أفضل الأنواع. والسؤال للرب هو بعد الذكر المحض، كما في حديث مالك بن الحويرث: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) .
ولهذا كانت الفاتحة نصفين: نصفًا ثناء، ونصفًا دعاء. والنصف الثاني هو المقدم، وهو الذي للَّه عز وجل. وكذلك في حديث الشفاعة الصحيح قال: (فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسَلْ تُعطَه، واشفع تشفع) فبدأ بالحمد للَّه، حتي أذن له في السؤال فسأل .
وفي صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: (من تَعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، والحمد للَّه، وسبحان الله، والله أكبر، اللهم اغفر لي. فإن دعا استجيب دعاؤه، وإن توضأ وصلي قبلت صلاته) وقال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) ولهذا كان التشهد ثناء على الله -عز وجل. وقال في آخره: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) .
والأدعية الشرعية هي بعد التشهد ولم يشرع الدعاء في القعود قبل التشهد بل قُدم الثناء على الدعاء، وفي حديث الذي دعا قبل الثناء قال النبي ﷺ: (عجل هذا). فروي الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبيد قال: سمع رسول الله ﷺ، رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل علي النبي ﷺ، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم عَجِل هذا)، ثم دعاه فقال له - أو لغيره -:(إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي ﷺ، ثم يدعو بعد ذلك بما شاء) .
والذكر المشروع باتفاق المسلمين في الركوع والسجود، والاعتدال. وأما الدعاء في الفرض ففي كراهيته نزاع، وإن كان الصحيح أنه لا يكره ولكن الذكر أفضل، فإن الذكر مأمور به فيهما بقوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } 192، و { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } 193، قال النبي ﷺ: (اجعلوها في ركوعكم)، والثانية: (اجعلوها في سجودكم) .
فأما قوله ﷺ: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم)، ففيه الأمر في الركوع بالتعظيم، وأمره بالدعاء في السجود بيان منه أن الدعاء في السجود أحق بالإجابة من الركوع؛ ولهذا قال: (فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم) كما قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، فهو أمر بأن يكون الدعاء في السجود.
أمر بالصفة لا بالموصوف، أو أمر بالصفة والموصوف، وإن كان التسبيح أفضل، فإنه ليس من شرط المأمور ألا يكون غيره أفضل منه؛ لأن الدعاء هو بحسب مطلوب العبد، لم يذكر دعاء معينًا أمر به كما أمر بالفاتحة، بقوله: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } 194، والدعاء الواجب لا يكون إلا معينًا، وإن كان جنس الدعاء واجبًا، فمعلوم أن الدعاء جائز في نفس الصلاة، وخارج الصلاة. وأكثر الأدعية المنقولة عن النبي ﷺ كانت في آخر الصلاة، كما في الحديث المروي عنه ﷺ أنه ذكر: أن أجوب الدعاء جوف الليل الآخر ودبر الصلاة.
فعلم أن الدعاء دبر الصلاة لاسيما قبل السلام كما كان النبي ﷺ يدعو في الغالب فهو أجوب سائر أحوال الصلاة؛ لأنه دعاء بعد إكمال العبادة.
وأما السجود فإنما ذكره والركوع، لأنه قال: (إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا؛ أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) فلما نهي عن القراءة في هذين الحالين، ذكر ما يكون بدلا مشروعا لمن أراد، فخص الركوع بالتعظيم، والسجود بالدعاء. فجمع الأقسام الثلاثة: القراءة، والذكر، والدعاء.
ومما يبين فضل الذكر على المسألة، ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن :سبحان الله والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ولهذا أمر بالذكر من عجز عن القراءة في الصلاة؛ لأن الاعتدال مشروع فيه التحميد بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين، وهو الذي كان النبي ﷺ يفعله في كل صلاة، وكان أحيانا يدعو بعد التحميد بقوله: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) فأخر السؤال عن الحمد والثناء والمجد، وأمر أيضًا بالحمد بقوله: (فإذا قال:سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد) وما داوم عليه وقدمه وأمر به أفضل مما كان يفعله أحيانا، ويؤخره، ولم يأمر به.
وأيضًا، فنوع الثناء أضافه الرب إلى نفسه، ونوع السؤال أضافه إلى عبده. فقال: (إذا قال العبد: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } قال: أثني على عبدي. وإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال: هذه الآية، بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل، فإذا قال: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } إلى آخر السورة. قال: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل) .
وأيضًا، فجماهير العلماء على إيجاب الثناء، فيوجبون التشهد الأخير، وكذلك التشهد الأول، يجب مع الذكر عند مالك وأحمد، فإذا تركه عمدًا، بطلت صلاته، وتسبيح الركوع والسجود كذلك أيضا عند أحمد وغيره، وكذلك التكبير، تكبير الانتقال، ف مذهب مالك من ترك من ذلك ثلاثًا عمدًا أعاد الصلاة، ومذهب أحمد مشهور عنه مطلقا، وما يذكره أصحاب أحمد في مسائل الخلاف أن إيجاب هذه الأذكار من مفردات أحمد عن الثلاثة فذلك لأن أصحاب مالك يسمون هذه سننا، والسنة عندهم قد تكون واجبة إذا تركها أعاد، وهذه من ذلك، فيظن من يظن أن السنة عندهم لا تكون إلا لما يجوز تركه، وليس كذلك.
وأما الدعاء، فلم يجب منه دعاء مفرد أصلا، بل ما وجب من الفاتحة وجب بعد الثناء وكذلك من أوجب أن يدعو بعد التشهد بالدعاء المأمور به هناك، هو الاستعاذة من عذاب جهنم، والقبر، وفتنة المحيا والممات، والدجال. فإنما أوجبه بعد التشهد الذي هو ثناء، وهو قول طاووس ووجه في مذهب أحمد.
وأيضًا، فالدعاء لم يشرع مجردًا، لم يشرع إلا مع الثناء. وأما الثناء، فقد شرع مجردًا بلا كراهة. فلو اقتصر في الاعتدال على الثناء، وفي الركوع والسجود على التسبيح، كان مشروعا بلا كراهة، ولو اقتصر في ذلك على الدعاء، لم يكن مشروعًا، وفي بطلان الصلاة نزاع.
وأيضًا، فالثناء يتضمن مقصود الدعاء، كما في الحديث: (أفضل الذكر. لا إله إلا الله. وأفضل الدعاء الحمد للَّه) فإن ثناء الداعي على المدعو بما يتضمن حصول مطلوبه، قد يكون أبلغ من ذكر المطلوب كما قيل:
إذا أثني عليك المرء يومًا ** كفاه من تعرضه الثناء
ولهذا يقول في الدعاء المأثور: (أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض). فسأله بأن له الحمد، فعلم بأن الاعتراف بكونه مستحقًا للحمد، هو سبب في حصول المطلوب.
وهذا كقول أيوب عليه السلام: { مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } 195، فقوله: هذا أحسن من قوله: ارحمني. وفي دعاء ليلة القدر الذي روته عائشة: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) .
وفي الصحيحين عن ابن عباس: أن النبي ﷺ كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله الحليم العظيم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع، ورب الأرض رب العرش الكريم) .
ومما يبين فضل الثناء على الدعاء، أن الثناء المشروع يستلزم الإيمان باللَّه، وأما الدعاء فقد لا يستلزمه، إذ الكفار يسألون الله فيعطيهم، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع فإن سؤال الرزق والعافية ونحو ذلك من الأدعية المشروعة، هو مما يدعو به المؤمن والكافر؛ بخلاف الثناء كقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) و(التحيات للَّه والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) فإن هذا لا يثني به إلا المؤمن، وكذلك قوله: (اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد ). لكن قد يكون بعض الثناء يقر به الكفار، كإقرارهم بأن الله خالق السموات والأرض، وأنه يجيب المضطر إذا دعاه، ونحو ذلك.
لكن المشركون لم يكن لهم ثناء مشروع يثنون به على الله. حتي في تلبيتهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكذلك النصارى ثناؤهم فيه الشرك، وأما اليهود فليس في عبادتهم ثناء، اللهم إلا ما يكون مأثورًا عن الأنبياء، وذلك من ثناء أهل الإيمان. وكذلك النصارى، إن كان عندهم شيء من ذلك. وأما ما شرعه من ثنائه، فهو يتضمن الإيمان، والأدلة الدالة على فضل جنس الثناء على جنس الدعاء كثيرة. مثل أمره أن يقال عند سماع المؤذن مثل ما يقول، ثم يصلي على النبي ﷺ ثم يسأل له الوسيلة، ثم يسأل العبد بعد ذلك. فقدم الثناء علي الدعاء، وهكذا بعد التشهد، فإنه قدم فيه الثناء على الله، ثم الدعاء لرسوله، ثم للإنسان. وكذلك هنا مع أني لا أعلم في هذا نزاعًا بين العلماء، ولكن المفضول قد يكون أحيانا أفضل. فإن الصلاة أفضل من قراءة القرآن. والقرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء. والمفضول قد يعرض له حال يكون فيه أفضل لأسباب متعددة، إما مطلقًا كفضيلة القراءة وقت النهي على الصلاة، وإما لحال مخصوص، وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن جنس الثناء أفضل من السؤال. كما قال تعالى: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) وقراءة القرآن أفضل منهما، كما في حديث الترمذي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه قال: (يقول الله عز وجل: من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، قال الترمذي: حسن غريب.
وهذا بين في الاعتبار، لأن السائل غاية مقصوده حصول مطلوبه ومراده، فهو مريد من الله، وإن كان مطلوبه محبوبًا للَّه، مثل أن يطلب منه إعانته على ذكره وشكره، وحسن عبادته، فهو يريد منه هذا الأمر المحبوب للَّه.
وأما المثني، فهو ذاكر لنفس محبوب الحق من أسمائه وصفاته فالمطلوب بهذا معرفة الله ومحبته وعبادته. وهذا مطلوب لنفسه لا لغيره، وهو الغاية التي خلق لها الخلق. كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } 196، والسؤال وسيلة إلى هذا. ولهذا قال في الفاتحة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فقدم قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ؛ لأنه المقصود لنفسه، على قوله: { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ؛ لأنه وسيلة إلى ذلك. والمقاصد مقدمة في القصد والقول على الوسائل، ثم مقصود السائل من الدعاء يحصل لهذا العابد المثني مع اشتغاله بأشرف القسمين.
وأما الداعي، فإذا كان مهتما بما هو محتاج إليه من جلب منفعة ودفع مضرة، كحاجته إلى الرزق والنصر الضروري، كان اشتغاله بهذا نفسه صارفًا له عن غيره. فإذا دعا الله سبحانه فقد يحصل له بالدعاء من معرفة الله. ومحبته، والثناء عليه، والعبودية له، والافتقار إليه ما هو أفضل وأنفع من مطلوبه ذلك. كما قال بعض السلف: يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة كثرت فيها قرع باب سيدك. وقال بعضهم: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فادعوه، فيفتح لي من باب معرفته ما أحب معه ألا يعجل لي قضاءها؛ لئلا ينصرف قلبي عن الدعاء.
والسائل إذا حصل سؤاله برد، فإنه لم يكن مراده إلا سؤاله، وإذا حصل أعرض عن الله، فهذا حال الكفار الذين ذمهم الله في القرآن كقوله: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ } 197، وقال تعالى: { قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } 198، وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } 199.
فقوله سبحانه: { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } ، أي نسي ما كان يدعو الله إليه، وهو الحاجة التي طلبها، فإن دعاءه كان إليها، أي توجهه إليها، وقصده، فهي الغاية التي كان يقصدها. وإذا كانت ما مصدرية، كان تقديره نسي كونه يدعو الله إلى حاجته. كما قال تعالى في الآية الأخري: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ } . لكن على هذا، يبقي الضمير في إليه عائدًا على غير مذكور، بخلاف ما إذا جعلت بمعني الذي فإن التقدير نسي حاجته الذي دعاني إليها من قبل، فنسي دعاءه الله الذي كان سبب الحاجة، وإلي حرف الغاية. كما قال تعالى في الآية الأخري: { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } 200، فقد أخبر تعالى أنه يكشف ما يدعون إليه وهي الشدة التي دعوا إليها.
وأما المؤمن فلابد بعد قضاء حاجته من عبادة الله وإخلاصه له كما أمره، إما قياما بالواجب فقط، فيكون من الأبرار، أو بالواجب والمستحب فيكون من المقربين. ومن ترك بعض ما أمر به بعد قضاء حاجته فهو من أهل الذنوب. وقد يكون ذلك من الشرك الأصغر الذي يبتلي به غالب الخلق. إما شركًا في الربوبية، وإما شركا في الألوهية، كما هو مبسوط في موضعه.
وقد يبتلي في أماكن الجهل وزمانه كثير من الناس بما هو من الشرك الأكبر، وهم لا يعلمون. فالسائل مقصوده سؤاله. وإن حصل له ما هو محبوب الرب من إنابته إليه ومحبته وتوبته. فهذا بالعرض، وقد يدوم. والأغلب أنه لا يدوم إلا أن يكون ذلك المحبوب للرب هو سؤاله، مثل أن يسأل الله التوبة والإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته. فهنا مطلوبه محبوب للرب؛ ولهذا ذم الله من لم يطلب إلا الدنيا في قوله: { مِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } 201.
وأما المثني، فنفس ثنائه محبوب للرب، وحصول مقصود السائل يحصل ضمنًا وتبعًا، فهذا أرفع. لكن هذا إنما يتم لمن يخلص إيمانه فصار يحب الله، ويحب حمده وثناءه وذكره. وذلك أحب إلى قلبه من مطالب السائلين رزقًا ونصرًا.
وأما من كان اهتمامه بهذا أكثر، فهذا يكون انتفاعه بالدعاء أكثر وإن كان جنس الثناء أفضل. كما أن قراءة القرآن أفضل من الذكر والدعاء. وقد يكون بعض الناس لنقص حاله انتفاعه بالذكر والدعاء أكمل. فهو خير له بحسب حاله، لا أفضل في نفس الأمر.
والمقصود هنا بيان ما شرعه الله لعباده مطلقًا عامًا. ولهذا ما كان من أذكار الصلاة من جنس الدعاء، لم يجب عند عامة العلماء.
وأما الثناء كدعاء الاستفتاح وغيره، فاختلفوا في وجوبه. فذهب طائفة من أصحاب أحمد إلى وجوب الذكر الذي هو ثناء كالاستفتاح، وهو اختيار ابن بطة وغيره، وذكر هذا رواية عن أحمد. كما وجب في المشهور عنه التسبيح في الركوع والسجود والتسميع والتحميد وتكبيرة الانتقال، فهذان نوعان ظهر فضل أحدهما على الآخر.
وأما النوع المتوسط بينهما، فهو إخبار الإنسان بعبادة الله تعالي، كقوله: { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } 202، وقوله: { إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 203، وقوله: (لك سجدت ولك عبدت، وبك آمنت، وبك أسلمت) ونحو ذلك. فهذا أفضل من الدعاء، ودون الثناء، فإنه إنشاء وإخبار بما يحبه الله، ويأمر به العبد، فمقصوده محبوب الحق، فهو أفضل مما مقصوده مطلوب العبد، لكن جنس الثناء أفضل منه. كما روى مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فجعل هذا الكلام الذي هو ذكر الله أفضل من جميع الكلام بعد القرآن. وكذلك قال للرجل الذي قال: لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلمني ما يجزيني فعله: (سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر) فجعل ذلك بدلا عن القرآن.
فصل سورة الإخلاص أفضل من سورة الكافرون
وسورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أفضل من { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وتلك أمر بأن يقال: ما هو صفة الرب. وهذه أمر بأن يقال ما هو إنشاء خبر عن توحيد العبد، وكان النبي ﷺ يقدم ذلك الصنف، كقوله في الحديث الصحيح: (اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق وقولك الحق، ووعدك حق، والجنة حق والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت) .
فهذا الذكر تضمن الأنواع الثلاثة. فقدم ما هو خبر عن الله واليوم الآخر ورسوله، ثم ذكر ما هو خبر عن توحيد العبد وإيمانه، ثم ختم بالسؤال. وهذا لأن خبر الإنسان عن نفسه سلوك يشهد فيه نفسه، وتحقيق عبادة الله عز وجل. وأما الثناء المحض، فهو لا يشهد فيه إلا الله عز وجل بأسمائه وصفاته، وما جرد فيه ذكر الله تعالى أفضل مما جرد فيه الخلق أيضًا. ولهذا فضلت سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، وجعلت تعدل ثلث القرآن؛ لأنها صفة الرحمن وذكره محضًا لم تشب بذكر غيره، لكن في ابتداء السلوك لابد من ذكر الإنشاء. ولهذا كان مبتدأ الدخول في الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بخلاف حال العبادة المحضة، فإنه يقول: سبحان الله والحمد للَّه ولا إله إلا الله والله أكبر. فإن الشهادة بها يصير مسلمًا، وهو الأصل والأساس، ولهذا جعلت ركنًا في الخطب في خطب الصلاة وهي التشهد يختم بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وفي الخطب خارج -كخطبة الحاجة. خطبة ابن مسعود، والخطب المشروعة، خطبة الجمعة وغيرها.
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (كل خطبة ليس فيها تشهد، فهي كاليد الجذماء) .
والذين أوجبوا ذكر النبي ﷺ في الخطبة كأصحاب الشافعي وأحمد قال كثير منهم: يجب مع الحمد الصلاة عليه، وقال بعضهم: يجب ذكره، إما بالصلاة، وإما بالتشهد. وهو اختيار جدي أبي البركات.
والصواب أن ذكره بالتشهد هو الواجب، لدلالة هذا الحديث. ولأن الشهادة إيمان به، والصلاة عليه دعاء له، وأين هذا من هذا والتشهد في الصلاة لابد فيه من الشهادة له في الأول والآخر، وأما الصلاة عليه، فشرعت مع الدعاء.
وأما التشهد، فهو مشروع في الخطب والثناء. فتشهد الصلاة ثناء على الحق، شرع فيه التشهد، والخطبة خطاب مع الناس، شرع فيها التشهد، والأذان ذكر الله يقصد به الإعلام بوقت العبادة وفعلها، فشرع فيه التشهد. وأما الصلاة عليه، فإنما جاءت الآثار بأنها تكون مع الدعاء، كحديث الذي قال فيه: (عجل هذا) وأمثاله. فإن الصلاة عليه من جنس الدعاء، وهو أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فيكون الدعاء له مقدما على الدعاء لغيره، كما قدم السلام عليه في التشهد على السلام على غيره، حتي على المصلي نفسه، فهذا مما يبين كمال أسرار الدين فقدم في الخطب الحمد على التشهد، كما قدم في الفاتحة الحمد على التوحيد بقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . فإن في سنن أبي داود وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للَّه، فهو أجذم) فالحمد للَّه له الابتداء.
ولهذا كانت خطب النبي ﷺ يفتتحها بالحمد للَّه، وكذلك الصلاة إنما تفتتح بالحمد. فتفتتح بسورة الحمد عند المسلمين كلهم. إذ هي السنة المتواترة عن النبي ﷺ، وتفتتح بالجهر بكلمة "الحمد" عند المسلمين جمهورهم.
وإذا كانت البسملة مقصودة عند جمهورهم، فهي وسيلة؛ إذ قول القارئ: بسم الله، معناه بسم الله أقرأ. أو أنا قارئ، ولهذا شرعت التسمية في افتتاح الأعمال كلها، فيسمي الله عند الأكل، والشرب، ودخول المنزل، والخروج منه، ودخول المسجد، والخروج منه، وغير ذلك من الأفعال. وهي عند الذبح من شعائر التوحيد فالصلاة والقراءة عمل من الأعمال، فافتتحت بالتسمية.
ولهذا إنما أنزلها الله في أول كل سورة، وهي من القرآن حيث كتبت كما كتبها الصحابة، لكنها آية مفردة في أول السورة، وليست من السورة، وهذا القول أعدل الأقوال الثلاثة، التي للعلماء فيها، فلما كانت تابعة ووسيلة، والحمد مقصود لنفسه، والتسمية لأجله، جهر بالمقصود وأعلن، وأخفي الوسيلة. كما هو قول جمهور العلماء، وعليه تدل الأحاديث الصحيحة. ألا تري أنه باتفاق المسلمين، وهي السنة المتواترة عن النبي ﷺ لايجهر بها في الخطب، بل يفتتح الخطبة بالحمد، وإن لم تكن الخطبة قرآنًا.
ولهذا لم يذكرها النبي ﷺ في الحديث الصحيح حديث قسمة الصلاة بين العبد والرب، وخطبة الجمعة تفتتح بالحمد بالسنة المتواترة، واتفاق العلماء. وأما خطبة الاستسقاء، ففيها ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره.
أحدها: أنها تفتتح بالحمد للَّه كالجمعة.
والثاني: بالتكبير كالعيد.
والثالث: بالاستغفار لأنه أخص بالاستسقاء، وخطبة العيد قد ذكر عبد الله بن عقبة أنها تفتتح بالتكبير، وأخذ بذلك من أخذ به من الفقهاء، لكن لم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه افتتح خطبته بغير الحمد، لا خطبة عيد ولا استسقاء، ولا غير ذلك. وقد قال ﷺ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم).
وقد كان يخطب خطب الحج، وغير خطب الحج، خطبًا عارضة. ولم ينقل أحد عنه أنه افتتح خطبة بغير الحمد، فالذي لابد منه في الخطبة: الحمد للَّه، والتشهد، والحمد يتبعه التسبيح، والتشهد يتبعه التكبير، وهذه هي الباقيات الصالحات. وقال تعالى: { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 204 .
فصل أنواع الاستفتاح للصلاة
إذا تبين هذا الأصل: فأفضل أنواع الاستفتاح ما كان ثناء محضا، مثل: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك) وقوله: (الله أكبر كبيرًا، والحمد للَّه كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا) ولكن ذاك فيه من الثناء ما ليس في هذا، فإنه تضمن ذكر الباقيات الصالحات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن، وتضمن قوله: (تبارك اسمك، وتعالى جدك). وهما من القرآن أيضًا. ولهذا كان أكثر السلف يستفتحون به وكان عمر بن الخطاب يجهر به يعلمه الناس.
وبعده النوع الثاني: وهو الخبر عن عبادة العبد. كقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، إلخ. ) وهو يتضمن الدعاء، وإن استفتح العبد بهذا بعد ذلك، فقد جمع بين الأنواع الثلاثة وهو أفضل الاستفتاحات. كما جاء ذلك في حديث مصرحًا به، وهو اختيار أبي يوسف، وابن هبيرة -الوزير- من أصحاب أحمد، صاحب الإفصاح، وهكذا أستفتح أنا.
وبعده النوع الثالث كقوله: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي. كما باعدت بين المشرق والمغرب.. . إلخ)، وهكذا ذكر الركوع والسجود، والتسبيح فيهما، أفضل من قوله: (لك ركعت، ولك سجدت). وهذا أفضل من الدعاء. والترتيب هنا متفق عليه -فيما أعلم- فإني لم أعلم أحدًا قال: إن الدعاء فيهما أفضل من التسبيح، كما قيل مثل ذلك في الاستفتاح.
فإن قلت: هذا الترتيب عكس الأسانيد، فإنه ليس في الصحيحين حديث عن النبي ﷺ في استفتاح الفريضة إلا هذا الدعاء (اللهم باعد بيني وبين خطاياي). وقوله: (وجهت وجهي) في صحيح مسلم. وحديث (سبحانك اللهم) في السنن. وقد تكلم فيه، وقد روي أن هذا كان في قيام الليل. وكذلك قوله: (وجهت وجهي).
قلت: كون هذا مما بلغنا من طريق أصح من هذا، فهذا ليس في صفة الذكر نفسه فضيلة توجب فضله على الآخر، لكنه طريق لعلمنا به، والفضيلة كانت ثابتة عن النبي ﷺ، وفي زمنه قبل أن يبلغنا الأمر.
وقد ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يجهر بسبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، يعلمه الناس، فلولا أن هذا من السنن المشروعة، لم يفعل هذا عمر، ويقره المسلمون عليه.
وحديث أبي هريرة دليل على أن الاستفتاح لا يختص بسبحانك اللهم، ووجهت وجهي وغيرهما، بل يستفتح بكل ما روي، لكن فضل بعض الأنواع على بعض، يكون بدليل آخر، كما قدمنا.
وأيضًا، فإن قوله: (سبحانك اللهم.. . إلخ) يتضمن الباقيات الصالحات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن، كما في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر).
وأيضًا، ففي صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: (ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده) فهذه الكلمة هي أول ما في الاستفتاح، وهي أفضل الكلام.
وأيضا، فاللَّه قد أمر بالتسبيح بحمده، وعبر بذلك عن الصلاة. بقوله: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } 205، فكان ابتداء الامتثال بهذا الذكر أولي. وقد قال طائفة من المفسرين كالضحاك في تفسير هذه الآية: هو قول المصلي: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، وقد بسطت الكلام على معني هذه الكلمة في غير هذا الموضع، وبينت أنها تشتمل على التنزيه والتحميد والتعظيم بصفات البقاء والإثبات: وأفعاله كلها سبحانه وبحمده.
فصل في التكبير
التكبير مشروع في الأماكن العالية، وحال ارتفاع العبد، وحيث يقصد الإعلان، كالتكبير في الأذان، والتكبير في الأعياد، والتكبير إذا علا شرفا، والتكبير إذا رقي الصفا والمروة، والتكبير إذا ركب الدابة، والتسبيح في الأماكن المنخفضة، وحيث ما نزل العبد، كما في السنن عن جابر قال: (كنا مع النبي ﷺ إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك).
والحمد مفتاح كل أمر ذي بال من مناجات الرب، ومخاطبة العباد بعضهم بعضًا. والشهادة مقرونة بالحمد وبالتكبير، فهي في الأذان، وفي الخطب خاتمة الثناء، فتذكر بعد التكبير. ثم يخاطب الناس بقول المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح. وتذكر في الخطب، ثم يخاطب الناس بقول: أما بعد. وتذكر في التشهد، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه، فالحمد والتوحيد مقدم في خطاب الخلق للخالق، والحمد له الابتداء.
فإن الله لما خلق آدم عليه السلام أول ما أنطقه بالحمد، فإنه عطس، وقال: الحمد للَّه رب العالمين، فقال الله: يرحمك ربك، وكان أول ما نطق به الحمد. وأول ما سمع من الله الرحمة، وبه افتتح الله أم القرآن، والتشهد هو الخاتمة. فأول الفاتحة { الْحَمْدُ للّهِ } وآخر ما للرب { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } .
وكذلك التشهد. والخطب فيها التشهد بعد الفاتحة. فإن يتضمن إلهية الرب، وهو أن يكون الرب هو المعبود، هذا هو الغاية التي ينتهي إليها أعمال العباد، و { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } 206، لكن قدم الحمد؛ لأن الحمد يكون من الله، ويكون من الخلق. وهو باق في الجنة: ف { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } 207 بخلاف العبادة. فإن العبادة إنما تكون في الدنيا بالسجود ونحوه، وتوحيده وذكره باق في الجنة يلهمه أهل الجنة، كما يلهمهم النفس.
وهذه الأذكار هي من جنس الأقوال ليست من العبادات العملية كالسجود والقيام والإحرام، والرب تعالى يحمد نفسه، ولا يعبد نفسه فالحمد أوسع العلوم الإلهية، والحمد يفتح به، ويختم به. فالسنة لمن أكل وشرب أن يحمد الله. وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)، وقال تعالى: { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 208، وقال تعالى: { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 209، وقال: { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 210.
فصل الدعاء المفروض في الصلاة دائما هو سؤال الهداية
وإنما فرض عليه من الدعاء الراتب الذي يتكرر بتكرر الصلوات، بل الركعات فرضها ونفلها هو الدعاء الذي تتضمنه أم القرآن، وهو قوله تعالى: { \اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } 211؛ لأن كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء، وهو هداية الصراط المستقيم، فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلا به، فمن فاته هذا الهدي، فهو إما من المغضوب عليهم، أو من الضالين.
وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله: { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا } 212، وهذه الآية مما يبين به فساد مذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد لا يفتقر في حصول هذا الاهتداء. بل كل عبد عندهم فمعه ما يحصل به الطاعة والمعصية، لا فرق عندهم بين المؤمن والكافر، ولم يخص الله المؤمن عندهم بهدي حصل به الاهتداء، والكلام عليهم مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن كل عبد فهو مفتقر دائمًا إلى حصول هذه الهداية وأما سؤال من يقول: فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدي. وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدي. فكلام من لم يعرف حال الإنسان، وما أمر به؛ فإن الصراط المستقيم حقيقته أن تفعل كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحذور. وهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة، لا يتصور أن يحصل للعبد في وقت واحد، بل كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهدي به في ذلك الوقت.
نعم حصل له هدي مجمل، بأن القرآن حق، ودين الإسلام حق والرسول حق، ونحو ذلك. ولكن هذا الهدي المجمل لا يغنيه إن لم يحصل هدي مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار في كثير منها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى والشهوات أكثر الخلق، لغلبة الشبهات والشهوات على النفوس.
والإنسان خلق ظلومًا جهولًا. فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه، وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى عدل ينافي ظلمه. فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل، وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم. وقد قال الله تعالى لنبيه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا. وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } 213.
فأخبر أنه فعل هذا؛ ليهديه صراطًا مستقيمًا، فإذا كان هذا حاله فكيف بحال غيره.
والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن، والإسلام، وطريق العبودية، فكل هذا حق، فهو موصوف بهذا وبغيره. فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه. فإذا انقطع رزقه مات، والموت لابد منه، فإن كان من أهل الهداية، كان سعيدًا بعد الموت، وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فيكون رحمة في حقه.
وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب، حتى قتل. فإذا كان من أهل الهداية والاستقامة، مات شهيدًا، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه. فتبين أن حاجة العباد إلى الهدي أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر، بل لا نسبة بينهما. فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم.
وأيضًا، فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } 214، وكان من المتوكلين، { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } 215، وكان ممن ينصر الله ورسوله، ومن ينصر الله ينصره الله، وكان من جند الله، وجند الله هم الغالبون. فالهدي التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر.
فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب يحصل به كل منفعة، ويندفع به كل مضرة، فلهذا فرض على العبد. وهذا مما يبين أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها أصلا، وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع. فإذا تعينت الأفعال فهذا أولى.
(والحمد للَّه رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.)
سئل عن استفتاح الصلاة
وَسئل رحمه الله عن استفتاح الصلاة: هل هو واجب أو مستحب؟ وما قول العلماء في ذلك؟
فأجاب:
الاستفتاح عقب التكبير مسنون عند جمهور الأئمة، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد. كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة: مثل حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين. قال: قلت: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: (أقول اللهم باعد بيني...) وذكر الدعاء. فبين أن النبي ﷺ كان يسكت بين التكبير والقراءة سكوتًا يدعو فيه.
وقد جاء في صفته أنواع، وغالبها في قيام الليل، فمن استفتح بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) فقد أحسن، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم أن عمر كان يجهر في الصلاة المكتوبة بذلك، وقد روي ذلك في السنن مرفوعًا إلى النبي ﷺ.
ومن استفتح بقوله: (وجهت وجهي...) إلخ فقد أحسن. فإنه قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ كان يستفتح به، وروي أن ذلك كان في الفرض. وروي أنه في قيام الليل، ومن جمع بينهما، فاستفتح: ب (سبحانك اللهم وبحمدك) إلى آخره. و(وجهت وجهي)، فقد أحسن. وقد روي في ذلك حديث مرفوع.
والأول: اختيار أبي حنيفة وأحمد. والثاني: اختيار الشافعي. والثالث: اختيار طائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومن أصحاب أحمد. وكل ذلك حسن بمنزلة أنواع التشهدات، وبمنزلة القراءات السبع التي يقرأ الإنسان منها بما اختار.
وأما كونه واجبًا، فمذهب الجمهور أنه مستحب، وليس بواجب. وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو المشهور عن أحمد، وفي مذهبه قول آخر يذكره بعضهم رواية عنه أن الاستفتاح واجب. والله أعلم.
سئل عمن يؤم الناس وبعد تكبيرة الإحرام يجهر بالتعوذ ثم يسمي ويقرأ
وَسئل عن رجل يؤم الناس، وبعد تكبيرة الإحرام يجهر بالتعوذ، ثم يسمي ويقرأ، ويفعل ذلك في كل صلاة؟
فأجاب:
إذا فعل ذلك أحيانًا للتعليم ونحوه، فلا بأس بذلك، كما كان عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الاستفتاح مدة، وكما كان ابن عمر وأبو هريرة يجهران بالاستعاذة أحيانًا. وأما المداومة على الجهر بذلك، فبدعة مخالفة لسنة رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين. فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائمًا، بل لم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه جهر بالاستعاذة. والله أعلم.
فصل صفة الصلاة
وَقَال شيخ الإسلام رحمه الله:
فَصْل
فأما صفة الصلاة ومن شعائرها مسألة البسملة، فإن الناس اضطربوا فيها نفيًا وإثباتًا، في كونها آية من القرآن، وفي قراءتها، وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوع جهل وظلم، مع أن الخطب فيها يسير.
وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها، فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنها. إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفترقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدًا، لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة.
فأما كونها آية من القرآن، فقالت طائفة كمالك: ليست من القرآن، إلا في سورة النمل. والتزموا أن الصحابة أودعوا المصحف ما ليس من كلام الله على سبيل التبرك، وحكي طائفة من أصحاب أحمد هذا رواية عنه، وربما اعتقد بعضهم أنه مذهبه.
وقالت طائفة منهم الشافعي: ما كتبوها في المصحف بقلم المصحف مع تجريدهم للمصحف، عما ليس من القرآن إلا وهي من السورة، مع أدلة أخري.
وتوسط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة فقالوا: كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن، للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن، لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة، بل تكون آية مفردة أنزلت في أول كل سورة، كما كتبها الصحابة سطرًا مفصولًا، كما قال ابن عباس: كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل: { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } . فعند هؤلاء هي آية من كتاب الله في أول كل سورة، كتبت فيه. وليست من السور. وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع. ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك، وهو قول عبد الله بن المبارك، وغيره. وهو أوسط الأقوال وأعدلها.
وكذلك الأمر في تلاوتها في الصلاة. طائفة لا تقرؤها لا سرًا ولا جهرًا. كمالك والأوزاعي.
وطائفة تقرؤها جهرًا، كأصحاب ابن جريج والشافعي.
والطائفة الثالثة المتوسطة جماهير فقهاء الحديث، مع فقهاء أهل الرأي يقرؤونها سرًا، كما نقل عن جماهير الصحابة، مع أن أحمد يستعمل ما روي عن الصحابة في هذا الباب، فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة، حتى إنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها، فقال بعض أصحابه؛ لأنهم كانوا ينكرون على من يجهر بها.
ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي ﷺ تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متمًا. وقال: الخلاف شر.
وهذا، وإن كان وجهًا حسنًا، فمقصود أحمد أن أهل المدينة كانوا لا يقرؤونها فيجهر بها ليبين أن قراءتها سنة، كما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على الجنازة، وقال: لتعلموا أنها سنة، وكما جهر عمر بالاستفتاح غير مرة، وكما كان النبي ﷺ يجهر بالآية أحيانًا، في صلاة الظهر والعصر.
ولهذا نقل عن أكثر من روي عنه الجهر بها من الصحابة المخافتة، فكأنهم جهروا لإظاهر أنهم يقرؤونها، كما جهر بعضهم بالاستعاذة أيضًا. والاعتدال في كل شيء، استعمال الآثار على وجهها، فإن كون النبي ﷺ يجهر بها دائمًا وأكثر الصحابة لم ينقلوا ذلك، ولم يفعلوه ممتنع قطعًا. وقد ثبت عن غير واحد منهم نفيه عن النبي ﷺ، ولم يعارض ذلك خبر ثابت إلا وهو محتمل، وكون الجهر بها لا يشرع بحال مع أنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة نسبة للصحابة إلى فعل المكروه، وإقراره، مع أن الجهر في صلاة المخافتة يشرع لعارض، كما تقدم.
وكراهة قراءتها مع ما في قراءتها من الآثار الثابتة عن الصحابة المرفوع بعضها إلى النبي ﷺ، وكون الصحابة كتبتها في المصحف وأنها كانت تنزل مع السورة، فيه ما فيه، مع أنها إذا قرئت في أول كتاب سليمان، فقراءتها في أول كتاب الله في غاية المناسبة، فمتابعة الآثار فيها الاعتدال والائتلاف، والتوسط الذي هو أفضل الأمور.
ثم مقدار الصلاة يختار فيها فقهاء الحديث صلاة النبي ﷺ التي كان يفعلها غالبًا، وهي الصلاة المعتدلة المتقاربة، التي يخفف فيها القيام والقعود، ويطيل فيها الركوع والسجود، ويسوي بين الركوع والسجود، وبيَّن الاعتدال منهما. كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ، مع كون القراءة في الفجر بما بين الستين إلى المائة، وفي الظهر نحو الثلاثين آية، وفي العصر والعشاء على النصف من ذلك، مع أنه قد يخفف عن هذه الصلاة لعارض كما قال النبي ﷺ: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف، لما أعلم من وجد أمه به).
كما أنه قد يطيلها على ذلك لعارض كما قرأ النبي ﷺ في المغرب بطولي الطوليين، وهي الأعراف. ويستحب إطالة الركعة الأولي من كل صلاة على الثانية، ويستحب أن يمد في الأوليين، ويحذف في الأخريين، كما رواه سعد بن أبي وقاص عن النبي ﷺ وعامة فقهاء الحديث على هذا.
ومن الفقهاء من لا يستحب أن يمد الاعتدال عن الركوع والسجود، ومنهم من يراه ركنا خفيفًا، بناءً على أنه يشرع تابعًا لأجل الفصل، لا أنه مقصود. ومنهم من يسوي بين الركعتين الأوليين، ومنهم من يستحب ألا يزيد الإمام في تسبيح الركوع والسجود على ثلاث. إلى أقوال أخر قالوها.
سئل عن حديث نعيم المجمر
وَسئل عن حديث نُعَيْم الْمُجَمِّر قال: كنت وراء أبي هريرة، فقرأ: { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } ، ثم قرأ بأم الكتاب، حتى بلغ { ولا الضالين } . قال: آمين، وقال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر. فلما سلم، قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ وكان المعتمر بن سليمان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب، وبعدها، ويقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس، وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة النبي ﷺ، فهذا حديث ثابت في الجهر بها. ذكر الحاكم أبو عبد الله: أن رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات. فهل يحمل ما قاله أنس وهو: صليت خلف رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم، على عدم السماع؟ وما التحقيق في هذه المسألة والصواب؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما حديث أنس في نفي الجهر فهو صريح لا يحتمل هذا التأويل، فإنه قد رواه مسلم في صحيحه فقال فيه: صليت خلف النبي ﷺ، وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، في أول قراءة، ولا في آخرها، وهذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك، لايجوز بمجرد كونه لم يسمع مع إمكان الجهر بلا سماع.
واللفظ الآخر الذي في صحيح مسلم: صليت خلف النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يجهر، أو قال: يصلي ببسم الله الرحمن الرحيم، فهذا نفي فيه السماع، ولو لم يرو إلا هذا اللفظ لم يجز تأويله، بأن النبي ﷺ كان يقرأ جهرًا، ولا يسمع أنس لوجوه:
أحدها: أن أنسًا إنما روى هذا ليبين لهم ما كان النبي ﷺ يفعله، إذ لا غرض للناس في معرفة كون أنس سمع أو لم يسمع، إلا ليستدلوا بعدم سماعه على عدم المسموع، فلو لم يكن ما ذكره دليلًا على نفي ذلك لم يكن أنس ليروي شيئًا لا فائدة لهم فيه، ولا كانوا يروون مثل هذا الذي لا يفيدهم.
الثاني: أن مثل هذا اللفظ صار دالًا في العرف على عدم ما لم يدرك، فإذا قال: ما سمعنا، أو ما رأينا، لما شأنه أن يسمعه ويراه، كان مقصوده بذلك نفي وجوده، وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك. ومعلوم أنه دليل فيما جرت العادة بإدراكه.
وهذا يظهر بالوجه الثالث وهو: أن أنسًا كان يخدم النبي ﷺ من حين قدم النبي ﷺ المدينة إلى أن مات، وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب، ويصحبه حضرًا وسفرًا وكان حين حج النبي ﷺ تحت ناقته يسيل عليه لعابها أفيمكن مع هذا القرب الخاص، والصحبة الطويلة ألا يسمع النبي ﷺ يجهر بها، مع كونه يجهر بها هذا مما يعلم بالضرورة بطلانه في العادة.
ثم إنه صحب أبا بكر وعمر وعثمان، وتولى لأبي بكر وعمر ولايات، ولا كان يمكن مع طول مدتهم أنهم كانوا يجهرون، وهو لا يسمع ذلك، فتبين أن هذا تحريف لا تأويل. لو لم يرو إلا هذا اللفظ، فيكف والآخر صريح في نفي الذكر بها؟ وهو يفضل هذه الرواية الأخري. وكلا الروايتين ينفي تأويل من تأول قوله: يفتتحون الصلاة ب { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أنه أراد السورة، فإن قوله: يفتتحون ب { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } لا يذكرون { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } في أول قراءة، ولا في آخرها، صريح أنه في قصد الافتتاح بالآية، لا بسورة الفاتحة التي أولها { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } إذ لو كان مقصوده ذلك لتناقض حديثاه.
وأيضًا، فإن افتتاح الصلاة بالفاتحة قبل السورة، هو من العلم الظاهر العام الذي يعرفه الخاص والعام، كما يعلمون أن الركوع قبل السجود وجميع الأئمة غير النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان يفعلون هذا، ليس في نقل مثل هذا فائدة، ولا هذا مما يحتاج فيه إلى نقل أنس، وهم قد سألوه عن ذلك، وليس هذا مما يسأل عنه، وجميع الأئمة من أمراء الأمصار والجيوش، وخلفاء بني أمية، وبني الزبير وغيرهم ممن أدركه أنس كانوا يفتتحون بالفاتحة، ولم يشتبه هذا على أحد، ولا شك. فكيف يظن أن أنسًا قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه. وإنما مثل ذلك مثل أن يقال: فكانوا يصلون الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، أو يقول: فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر، ويخافتون في صلاتي الظهرين، أو يقول: فكانوا يجهرون في الأوليين، دون الأخيرتين.
ومثل حديث أنس حديث عائشة الذي في الصحيح أيضًا: أن النبي ﷺ كان يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين إلى آخره، وقد روي: يفتح القراءة ب { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } 216، وهذا صريح في إرادة الآية، لكن مع هذا، ليس في حديث أنس نفي لقراءتها سرًا؛ لأنه روي: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وهذا إنما نفي هنا الجهر.
وأما اللفظ الآخر لا يذكرون فهو إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتفائه وذلك موجود في الجهر، فإنه إذا لم يسمع مع القرب، علم أنهم لم يجهروا.
وأما كون الإمام لم يقرأها، فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن له بين التكبير والقراءة سكتة يمكن فيها القراءة سرًا؛ ولهذا استدل بحديث أنس على عدم القراءة. من لم ير هناك سكوتًا، كمالك وغيره. لكن قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟ قال: (أقول: كذا وكذا) إلى آخره. وفي السنن من حديث عمران وأبي وغيرهما: أنه كان يسكت قبل القراءة. وفيها أنه كان يستعيذ، وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسًا أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر، وإخباره بافتتاح القراءة بها إنما هو في الجهر، وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر سرًا يسمي سكوتًا، كما في حديث أبي هريرة، فيصلح أن يقال: لم يقرأها، ولم يذكرها، أي جهرًا، فإن لفظ السكوت، ولفظ نفي الذكر والقراءة مدلولهما هنا واحد.
ويؤيد هذا حديث عبد الله بن مغفل. الذي في السنن: أنه سمع ابنه يجهر بها فأنكر عليه، وقال: يا بني، إياك والحدث، وذكر أنه صلى خلف النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يجهرون بها، فهذا مطابق لحديث أنس، وحديث عائشة اللذين في الصحيح.
وأيضًا، فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان النبي ﷺ يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة، لم يكن في العادة ولا في الشرع ترك نقل ذلك، بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقطع بكذبهما؛ إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه، كالتواطؤ على الكذب فيه. ويمثل هذا بكذب دعوي الرافضة في النص على علي في الخلافة، وأمثال ذلك.
وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح، ولم يرو أهل السنن المشهورة كأبي داود والترمذي والنسائي شيئا من ذلك، وإنما يوجد الجهر بها صريحًا في أحاديث موضوعة، يرويها الثعلبي والماوردي، وأمثالهما في التفسير. أو في بعض كتب الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره، بل يحتجون بمثل حديث الحميرا.
وأعجب من ذلك أن من أفاضل الفقهاء من لم يعز في كتابه حديثًا إلى البخاري إلا حديثًا في البسملة، وذلك الحديث ليس في البخاري، ومن هذا مبلغ علمه في الحديث كيف يكون حالهم في هذا الباب، أو يرويها من جمع هذا الباب كالدارقطني، والخطيب، وغيرهما. فإنهم جمعوا ما روي، وإذا سئلوا عن صحتها قالوا: بموجب علمهم. كما قال الدارقطني لما دخل مصر. وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بها فجمعها، فقيل له: هل فيها شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي ﷺ فلا، وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف.
وسئل أبو بكر الخطيب عن مثل ذلك، فذكر حديثين حديث معاوية لما صلى بالمدينة، وقد رواه الشافعي رضي الله عنه قال: حدثنا عبد المجيد، عن ابن جُرَيْج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره أن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بأم القرآن، فقرأ { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } لأم القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } للسورة التي بعد أم القرآن، وكبر حين يهوي ساجدًا.
وقال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني ابن خثيم عن إسماعيل بن عبيد ابن رفاعة عن أبيه أن معاوية قدم المدينة فصلي بهم، ولم يقرأ { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } ، ولم يكبر إذا خفض، وإذا رفع فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار: أي معاوية؟ سرقت الصلاة؟ وذكره. وقال الشافعي: أنبأنا يحيي بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده، عن معاوية والمهاجرين والأنصار بمثله، أو مثل معناه، لا يخالفه وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول، وهو في كتاب إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده، عن معاوية. وذكر الخطيب أنه أقوي ما يحتج به، وليس بحجة. كما يأتي بيانه.
فإذا كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه ليس في الجهر حديث صحيح، ولا صريح، فضلا أن يكون فيها أخبار مستفيضة أو متواترة، امتنع أن النبي ﷺ كان يجهر بها، كما يمتنع أن يكون كان يجهر بالاستفتاح والتعوذ ثم لا ينقل.
فإن قيل: هذا معارض بترك الجهر بها، فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، ثم هو مع ذلك ليس منقولًا بالتواتر، بل قد تنازع فيه العلماء، كما أن ترك الجهر بتقدير ثبوته كان يداوم عليه، ثم لم ينقل نقلًا قاطعًا، بل وقع فيه النزاع.
قيل: الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة، ويجب نقله شرعًا، هو الأمور الوجودية، فأما الأمور العدمية، فلا خبر لها، ولا ينقل منها إلا ما ظن وجوده، أو احتيج إلى معرفته، فينقل للحاجة؛ ولهذا قالوا: لو نقل ناقل افتراض صلاة سادسة، أو زيادة على صوم رمضان، أو حجًا غير حج البيت، أو زيادة في القرآن، أو زيادة في ركعات الصلاة، أو فرائض الزكاة، ونحو ذلك، لقطعنا بكذبه. فإن هذا لو كان، لوجب نقله نقلًا قاطعًا عادة وشرعًا، وإن عدم النقل يدل على أنه لم ينقل نقلًا قاطعًا عادة وشرعًا، بل يستدل بعدم نقله مع توافر الهمم والدواعي في العادة والشرع على نقله، أنه لم يكن.
وقد مثل الناس ذلك بما لو نقل ناقل: أن الخطيب يوم الجمعة سقط من المنبر، ولم يصل الجمعة، أو أن قومًا اقتتلوا في المسجد بالسيوف، فإنه إذا نقل هذا الواحد والاثنان والثلاثة دون بقية الناس، علمنا كذبهم في ذلك؛ لأن هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة. وإن كانوا لا ينقلون عدم الاقتتال ولا غيره من الأمور العدمية. يوضح ذلك أنهم لم ينقلوا الجهر بالاستفتاح والاستعاذة، واستدلت الأمة على عدم جهره بذلك، وإن كان لم ينقل نقلًا عامًا عدم الجهر بذلك. فبالطريق الذي يعلم عدم جهره بذلك، يعلم عدم جهره بالبسملة. وبهذا يحصل الجواب عما يورده بعض المتكلمين على هذا الأصل، وهو كون الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها يمتنع ترك نقلها. فإنهم عارضوا أحاديث الجهر والقنوت والأذان والإقامة. فأما الأذان والإقامة، فقد نقل فعل هذا وهذا، وأما القنوت، فإنه قنت تارة وترك تارة. وأما الجهر، فإن الخبر عنه أمر وجودي، ولم ينقل فيدخل في القاعدة.
الوجه الثاني: أن الأمور العدمية لما احتيج إلى نقلها، نقلت. فلما انقرض عصر الخلفاء الراشدين وصار بعض الأئمة يجهر بها كابن الزبير ونحوه، سأل بعض الناس بقايا الصحابة كأنس، فروي لهم أنس ترك الجهر بها. وأما مع وجود الخلفاء، فكانت السنة ظاهرة مشهورة ولم يكن في الخلفاء من يجهر بها، فلم يحتج إلى السؤال عن الأمور العدمية حتى ينقل.
الثالث: أن نفي الجهر قد نقل نقلًا صحيحًا صريحًا في حديث أبي هريرة، والجهر بها لم ينقل نقلًا صحيحًا صريحًا، مع أن العادة والشرع يقتضي أن الأمور الوجودية أحق بالنقل الصحيح الصريح من الأمور العدمية.
وهذه الوجوه من تدبرها، وكان عالمًا بالأدلة القطعية، قطع بأن النبي ﷺ لم يكن يجهر بها، بل ومن لم يتدرب في معرفة الأدلة القعطية من غيرها يقول أيضًا: إذا كان الجهر بها ليس فيه حديث صحيح صريح، فكيف يمكن بعد هذا أن النبي ﷺ كان يجهر بها، ولم تنقل الأمة هذه السنة، بل أهملوها وضيعوها؟ وهل هذه إلا بمثابة أن ينقل ناقل: أنه كان يجهر بالاستفتاح والاستعاذة، كما كان فيهم من يجهر بالبسملة؟ ومع هذا فنحن نعلم بالاضطرار أن النبي ﷺ لم يكن يجهر بالاستفتاح والاستعاذة، كما كان يجهر بالفاتحة. كذلك نعلم بالاضطرار أن النبي ﷺ لم يكن يجهر بالبسملة، كما كان يجهر بالفاتحة، ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحيانًا، أو أنه كان يجهر بها قديمًا ثم ترك ذلك، كما روى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير، ورواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس: أن النبي ﷺ، كان يجهر بها بمكة، فكان المشركون إذا سمعوها، سبوا الرحمن، فترك الجهر، فما جهر بها حتى مات فهذا محتمل.
وأما الجهر العارض، فمثل ما في الصحيح أنه كان يجهر بالآية أحيانًا، ومثل جهر بعض الصحابة خلفه بقوله: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ومثل جهر عمر بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ومثل جهر ابن عمر وأبي هريرة بالاستعاذة، ومثل جهر ابن عباس بالقراءة على الجنازة ليعلموا أنها سنة. ويمكن أن يقال: جهر من جهر بها من الصحابة، كان على هذا الوجه؛ ليعرفوا أن قراءتها سنة، لا لأن الجهر بها سنة.
ومن تدبر عامة الآثار الثابتة في هذا الباب، علم أنها آية من كتاب الله، وأنهم قرؤوها لبيان ذلك، لا لبيان كونها من الفاتحة، وأن الجهر بها سنة، مثل ما ذكر ابن وهب في جامعه قال: أخبرني رجال من أهل العلم عن ابن عباس، وأبي هريرة، وزيد ابن أسلم، وابن شهاب مثله بغير هذا الحديث عن ابن عمر، أنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
قال ابن شهاب: يريد بذلك أنها آية من القرآن، فإن الله أنزلها، قال: وكان أهل الفقه يفعلون ذلك فيما مضى من الزمان، وحديث ابن عمر معروف من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا صلى جهر ب { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } فإذا قال: { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ، قال: { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } فهذا الذي ذكره ابن شهاب الزهري هو أعلم أهل زمانه بالسنة يبين حقيقة الحال، فإن العمدة في الآثار في قراءتها، إنما هي عن ابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر. وقد عرف حقيقة حال أبي هريرة في ذلك، وكذلك غيره رضي الله عنهم أجمعين.
ولهذا كان العلماء بالحديث ممن يروي الجهر بها ليس معه حديث صريح؛ لعلمه بأن تلك أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله ﷺ، وإنما يتمسك بلفظ محتمل، مثل اعتمادهم على حديث نُعَيْم المْجَمِّر عن أبي هريرة المتقدم. وقد رواه النسائي. فإن العارفين بالحديث يقولون: إنه عمدتهم في هذه المسألة ولا حجة فيه.
فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة أظهر دلالة على نفي قراءتها من دلالة هذا على الجهر بها. فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: (يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ، قال: أثنى علي عبدي. فإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، قال: مجدني عبدي أو قال: فوض إلي عبدي. فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } ، قال: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل).
وقد روى عبد الله بن زياد بن سليمان وهو كذاب أنه قال: في أوله فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال ذكرني عبدي ولهذا اتفق أهل العلم على كذب هذه الزيادة، وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر؛ لأن الشيعة ترى الجهر، وهم أكذب الطوائف، فوضعوا في ذلك أحاديث لبسوا بها على الناس دينهم؛ ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين، وترك الجهر بالبسملة، كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر ونحو ذلك؛ لأن هذا كان من شعار الرافضة.
ولهذا ذهب أبو على بن أبي هريرة أحد الأئمة من أصحاب الشافعي إلى ترك الجهر بها، قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين، كما ذهب من ذهب من أصحاب الشافعي إلى تسنمة القبور؛ لأن التسطيح صار من شعار أهل البدع.
فحديث أبي هريرة دليل على أنها ليست من القراءة الواجبة، ولا من القراءة المقسومة، وهو على نفي القراءة مطلقًا أظهر من دلالة حديث نعيم المجمر على الجهر. فإن في حديث نعيم المجمر أنه قرأ: { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } ثم قرأ أم القرآن. وهذا دليل على أنها ليست من القرآن عندهم. وحديث أبي هريرة الذي في مسلم يصدق ذلك، فإنه قال: قال رسول الله ﷺ: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج، فهي خداج)، فقال له رجل: يا أبا هريرة، أنا أحيانًا أكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) الحديث. وهذا صريح في أن أم القرآن التي يجب قراءتها في الصلاة عند أبي هريرة، هي القراءة المقسومة التي ذكرها مع دلالة قول النبي ﷺ على ذلك. وذلك ينفي وجوب قراءتها عند أبي هريرة فيكون أبو هريرة وإن كان قرأ بها قرأ بها استحبابًا لا وجوبًا.
والجهر بها مع كونها ليست من الفاتحة قول لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة، وغيرهم من الأئمة المشهورين، ولا أعلم به قائلا. لكن هي من الفاتحة، وإيجاب قراءتها مع المخافتة بها قول طائفة من أهل الحديث، وهو إحدي الروايتين عن أحمد. وإذا كان أبو هريرة إنما قرأها استحبابًا لا وجوبًا وعلي هذا القول لا تشرع المداومة على الجهر بها كان جهره بها أولي أن يثبت دليلًا على أنه ليعرفهم استحباب قراءتها. وأن قراءتها مشروعة، كما جهر عمر بالاستفتاح، وكما جهر ابن عباس بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، ونحو ذلك. ويكون أبو هريرة قصد تعريفهم أنها تقرأ في الجملة، وإن لم يجهر بها وحينئذ، فلا يكون هذا مخالفًا لحديث أنس الذي في الصحيح، وحديث عائشة الذي في الصحيح، وغير ذلك. هذا، إن كان الحديث دالا على أنه جهر بها، فإن لفظه ليس صريحًا بذلك من وجهين:
أحدهما: أنه قال: قرأ { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ } ثم قرأ أم القرآن، ولفظ القراءة محتمل أن يكون قرأها سرًا، ويكون نعيم علم ذلك بقربه منه. فإن قراءة السر إذا قويت، يسمعها من يلي القارئ. ويمكن أن أبا هريرة أخبره بقراءتها، وقد أخبر أبو قتادة بأن رسول الله ﷺ كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورة، وفي الأخيرتين بفاتحة الكتاب، وهي قراءة سر، كيف وقد بين في الحديث أنها ليست من الفاتحة، فأراد بذلك وجوب قراءتها، فضلا عن كون الجهر بها سنة؟ فإن النزاع في الثاني أضعف.
الثاني: أنه لم يخبر عن النبي ﷺ أنه قرأها قبل أم الكتاب، وإنما قال في آخر الصلاة: إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ. وفي الحديث أنه أمن وكبر في الخفض والرفع، وهذا ونحوه مما كان يتركه الأئمة، فيكون أشبههم برسول الله ﷺ من هذه الوجوه التي فيها ما فعله رسول الله ﷺ، وتركوه هم، ولا يلزم إذا كان أشبههم بصلاة رسول الله ﷺ أن تكون صلاته مثل صلاته، من كل وجه. ولعل قراءتها مع الجهر، أمثل من ترك قراءتها بالكلية عند أبي هريرة، وكان أولئك لا يقرؤونها أصلا، فيكون قراءتها مع الجهر أشبه عنده بصلاة رسول الله ﷺ، وإن كان غيره ينازع في ذلك.
وأما حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه، فيعلم أولًا: أن تصحيح الحاكم وحده وتوثيقه وحده لا يوثق به فيما دون هذا. فكيف في مثل هذا الموضع الذي يعارض فيه بتوثيق الحاكم. وقد اتفق أهل العلم في الصحيح على خلافه؟! ومن له أدني خبرة في الحديث وأهله، لا يعارض بتوثيق الحاكم ما قد ثبت في الصحيح خلافه. فإن أهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح في باب التصحيح. حتى أن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني وأمثالهما بلا نزاع، فكيف بتصحيح البخاري ومسلم؟! بل تصحيحه دون تصحيح أبي بكر بن خزيمة، وأبي حاتم بن حبان البستي، وأمثالهما، بل تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاره خير من تصحيح الحاكم، فكتابه في هذا الباب خير من كتاب الحاكم بلا ريب، عند من يعرف الحديث. وتحسين الترمذي أحيانًا يكون مثل تصحيحه أو أرجح، وكثيرًا ما يصحح الحاكم أحاديث يجزم بأنها موضوعة لا أصل لها، فهذا، هذا. والمعروف عن سليمان التيمي وابنه مُعْتَمِر، أنهما كانا يجهران بالبسملة، لكن نقله عن أنس هو المنكر، كيف وأصحاب أنس الثقات الأثبات يروون عنه خلاف ذلك، حتى أن شعبة سأل قتادة عن هذا قال: أنت سمعت أنسًا يذكر ذلك؟ قال: نعم. وأخبره باللفظ الصريح المنافي للجهر.
ونقل شعبة عن قتادة ما سمعه من أنس في غاية الصحة، وأرفع درجات الصحيح عند أهله؛ إذ قتادة أحفظ أهل زمانه، أو من أحفظهم. وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم. وهذا مما يُرَدُّ به قول من زعم أن بعض الناس روي حديث أنس بالمعني الذي فهمه، وأنه لم يكن في لفظه إلا قوله: يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، ففهم بعض الرواة من ذلك نفي قراءتها، فرواه من عنده، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو أبعد الناس علمًا برواة الحديث، وألفاظ روايتهم الصريحة التي لا تقبل التأويل، وبأنهم من العدالة والضبط في الغاية التي لا تحتمل المجازفة، أو أنه مكابر صاحب هوى يتبع هواه، ويدع موجب العلم والدليل.
ثم يقال: هب أن المعْتَمِر أخذ صلاته عن أبيه، وأبوه عن أنس وأنس عن النبي ﷺ، فهذا مجمل ومحتمل؛ إذ ليس يمكن أن يثبت كل حكم جزئي من أحكام الصلاة بمثل هذا الإسناد المجمل؛ لأنه من المعلوم أن مع طول الزمان وتعدد الإسناد، لا تضبط الجزئيات في أفعال كثيرة متفرقة حق الضبط، إلا بنقل مفصل لا مجمل. وإلا فمن المعلوم أن مثل منصور بن المعْتَمِر، وحَمَّاد بن أبي سليمان، والأعمش، وغيرهم، أخذوا صلاتهم عن إبراهيم النّخْعِي وذويه، وإبراهيم أخذها عن عَلْقَمة والأسود ونحوهما، وهم أخذوها عن ابن مسعود، وابن مسعود عن النبي ﷺ. وهذا الإسناد أجَلُّ رجالًا من ذلك الإسناد. وهؤلاء أخذ الصلاة عنهم أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلي، وأمثالهم من فقهاء الكوفة. فهل يجوز أن يجعل نفس صلاة هؤلاء هي صلاة رسول الله ﷺ بهذا الإسناد، حتى في موارد النزاع؟ فإن جاز هذا، كان هؤلاء لا يجهرون، ولا يرفعون أيديهم، إلا في تكبيرة الافتتاح، ويسفرون بالفجر، وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون.
ونظير هذه، احتجاج بعضهم على الجهر بأن أهل مكة من أصحاب ابن جُرَيج، كانوا يجهرون، وأنهم أخذوا صلاتهم عن ابن جُرَيج، وهو أخذها عن عطاء، وعطاء عن ابن الزبير، وابن الزبير عن أبي بكر الصديق، وأبو بكر عن النبي ﷺ. ولا ريب أن الشافعي رضي الله عنه أول ما أخذ الفقه في هذه المسألة وغيرها عن أصحاب ابن جُرَيج. كسعيد ابن سالم القَدَّاح، ومسلم بن خالد الزَّنْجي، لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لايثبت بها أحكام مفصلة تنازع الناس فيها.
ولئن جاز ذلك، ليكونن مالك أرجح من هؤلاء، فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين، وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة، أجَلُّ قدرًا، وأعلم بالسنة، وأتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة. وقد احتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمر بالمدينة، فقالوا: هذا المحراب الذي كان يصلي فيه رسول الله ﷺ، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم الأئمة، وهلم جرا. ونقلهم لصلاة رسول الله ﷺ نقل متواتر، كلهم شهدوا صلاة رسول الله ﷺ، ثم صلاة خلفائه، وكانوا أشد محافظة على السنة، وأشد إنكارًا على من خالفها من غيرهم، فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول الله ﷺ، وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بني أمية، وبني العباس، فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون، وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السنة في مثل هذا، ولا يمكن أن الأئمة كلهم أقرتهم على خلاف السنة، بل نحن نعلم ضرورة أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يبدلون سنة لا تتعلق بأمر ملكهم، وما يتعلق بذلك من الأهواء، وليست هذه المسألة مما للملوك فيها غرض.
وهذه الحجة إذا احتج بها المحتج، لم تكن دون تلك، بل نحن نعلم أنها أقوي منها، فإنه لا يشك مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها، والصحابة بها أشبه صلاة بصلاة رسول الله ﷺ، أقرب من الجزم بكون صلاة شخص أو شخصين أشبه بصلاة آخر، حتى ينتهي ذلك إلى النبي ﷺ؛ ولهذا لم يذهب ذاهب قط إلى أن عمل غير أهل المدينة أو إجماعهم حجة، وإنما تنوزع في عمل أهل المدينة وإجماعهم: هل هو حجة أم لا؟ نزاعًا لا يقصر عن عمل غيرهم، وإجماع غيرهم، إن لم يزد عليه.
فتبين دفع ذلك العمل عن سليمان التيمي، وابن جُرَيج، وأمثالهما بعمل أهل المدينة، لو لم يكن المنقول نقلًا صحيحًا صريحًا عن أنس يخالف ذلك، فكيف والأمر في رواية أنس أظهر وأشهر وأصح وأثبت من أن يعارض بهذا الحديث المجمل الذي لم يثبت، وإنما صححه مثل الحاكم، وأمثاله.
ومثل هذا أيضًا يظهر ضعف حديث معاوية الذي فيه أنه صلى بالصحابة بالمدينة، فأنكروا عليه ترك قراءة البسملة في أول الفاتحة وأول السورة حتى عاد يعمل ذلك. فإن هذا الحديث وإن كان الدارقطني قال: إسناده ثقات، وقال الخطيب: هو أجود ما يعتمد عليه في هذه المسألة، كما نقل ذلك عنه نصر المقدسي فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه:
أحدها: أنه يروى عن أنس أيضًا الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة الذي يرد هذا.
الثاني: أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خُثَيم وقد ضعفه طائفة، وقد اضطربوا في روايته إسنادًا ومتنًا، كما تقدم وذلك يبين أنه غير محفوظ.
الثالث: أنه ليس فيه إسناد متصل السماع، بل فيه من الضعفة والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع أو سوء الحفظ.
الرابع: أن أنسًا كان مقيمًا بالبصرة، ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسًا كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه.
الخامس: أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت بالمدينة، والراوي لها أنس وكان بالبصرة، وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها. ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته، وأهل المدينة، لم ينقل أحد منهم ذلك، بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك، والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء.
السادس: أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة، لكان هذا أيضًا معروفًا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل هذا أحد عن معاوية. بل الشاميون كلهم خلفاؤهم وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها؛ بل الأوزاعي مذهبه فيها مذهب مالك لا يقرؤها سرًا ولا جهرًا. فهذه الوجوه وأمثالها، إذا تدبرها العالم، قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له، وإما مغير عن وجهه، وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح، فحصلت الآفة من انقطاع إسناده.
وقيل: هذا الحديث لو كان تقوم به الحجة، لكان شاذًا؛ لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الأثبات عن أنس، وعن أهل المدينة، وأهل الشام، ومن شرط الحديث الثابت ألا يكون شاذًا ولا معللا، وهذا شاذ معلل، إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته.
والعمدة التي اعتمدها المصنفون في الجهر بها ووجوب قراءتها، إنما هو كتابتها في المصحف بقلم القرآن، وأن الصحابة جردوا القرآن عما ليس منه.
والذين نازعوهم، دفعوا هذه الحجة بلا حق، كقولهم: القرآن لا يثبت إلا بقاطع، ولو كان هذا قاطعًا لكفّر مخالفه. وقد سلك أبو بكر بن الطيب البَاقِلاَّني وغيره هذا المسلك، وادعوا أنهم يقطعون بخطأ الشافعي في كونه جعل البسملة من القرآن، معتمدين على هذه الحجة، وأنه لا يجوز إثبات القرآن إلا بالتواتر، ولا تواتر هنا، فيجب القطع بنفي كونها من القرآن.
والتحقيق أن هذه الحجة مقابلة بمثلها، فيقال لهم: بل يقطع بكونها من القرآن حيث كتبت، كما قطعتم بنفي كونها ليست منه. ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن، فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام الله، ونحن نعلم بالاضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام الله الذي أنزله على نبيه ﷺ، لم يكتبوا فيه ما ليس من كلام الله.
فإن قال المنازع: إن قطعتم بأن البسملة من القرآن حيث كتبت، فكفروا النافي، قيل لهم: وهذا يعارض حكمه إذا قطعتم بنفي كونها من القرآن، فكفروا منازعكم.
وقد اتفقت الأمة على نفي التكفير في هذا الباب، مع دعوي كثير من الطائفتين القطع بمذهبه؛ وذلك لأنه ليس كل ما كان قطعيًا عند شخص يجب أن يكون قطعيًا عند غيره، وليس كل ما ادعت طائفة أنه قطعي عندها، يجب أن يكون قطعيًا في نفس الأمر، بل قد يقع الغلط في دعوي المدعي القطع في غير محل القطع، كما يغلط في سمعه وفهمه ونقله، وغير ذلك من أحواله، كما قد يغلط الحس الظاهر في مواضع، وحينئذ، فيقال: الأقوال في كونها من القرآن ثلاثة: طرفان، ووسط.
الطرف الأول: قول من يقول: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل، كما قال مالك، وطائفة من الحنفية، وكما قاله بعض أصحاب أحمد. مدعيًا أنه مذهبه، أو ناقلًا لذلك رواية عنه.
والطرف المقابل له: قول من يقول: إنها من كل سورة آية أو بعض آية، كما هو المشهور من مذهب الشافعي، ومن وافقه. وقد نقل عن الشافعي أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة، وإنما يستفتح بها في السور تبركًا بها. وأما كونها من الفاتحة، فلم يثبت عنه فيه دليل.
والقول الوسط: أنها من القرآن حيث كتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور، بل كتبت آية في أول كل سورة، وكذلك تتلي آية منفردة في أول كل سورة، كما تلاها النبي ﷺ حين أنزلت عليه سورة { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، كما في قوله: (إن سورة من القرآن هي ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي سورة تبارك الذي بيده الملك) رواه أهل السنن، وحسنه الترمذي، وهذا القول قول عبد الله بن المبارك، وهو المنصوص الصريح عن أحمد بن حنبل.
وذكر أبو بكر الرازي أن هذا مقتضي مذهب أبي حنيفة عنده، وهو قول سائر من حقق القول في هذه المسألة، وتوسط فيها جمع من مقتضي الأدلة، وكتابتها سطرًا مفصولًا عن السورة، ويؤيد ذلك قول ابن عباس: كان رسول الله ﷺ لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. رواه أبو داود، وهؤلاء لهم في الفاتحة قولان، هما روايتان عن أحمد.
أحدهما: أنها من الفاتحة دون غيرها، تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة.
والثاني: وهو الأصح لا فرق بين الفاتحة وغيرها في ذلك، وأن قراءتها في أول الفاتحة، كقراءتها في أول السور، والأحاديث الصحيحة توافق هذا القول، لا تخالفه. وحينئذ، الخلاف أيضًا في قراءتها في الصلاة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها واجبة وجوب الفاتحة، كمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وطائفة من أهل الحديث، بناء على أنها من الفاتحة.
والثاني: قول من يقول: قراءتها مكروهة سرًا وجهرًا، كما هو المشهور من مذهب مالك.
والقول الثالث: أن قراءتها جائزة، بل مستحبة، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. وأكثر أهل الحديث، وطائفة من هؤلاء يسوي بين قراءتها وترك قراءتها، ويخير بين الأمرين معتقدين أن هذا على إحدي القراءتين، وذلك على القراءة الأخرى.
ثم مع قراءتها، هل يسن الجهر أو لا يسن؟ على ثلاثة أقوال:
قيل: يسن الجهر بها. كقول الشافعي، ومن وافقه.
وقيل: لا يسن الجهر بها، كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأي، وفقهاء الأمصار.
وقيل: يخير بينهما. كما يروي عن إسحاق، وهو قول ابن حزم وغيره.
ومع هذا، فالصواب أن ما لا يجهر به قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة. فيشرع للإمام أحيانًا لمثل تعليم المأمومين، ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانًا. ويسوغ أيضًا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب، واجتماع الكلمة خوفًا من التنفير، عما يصلح كما ترك النبي ﷺ بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك، ورأي أن مصلحة الاجتماع والائتلاف، مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم.
وقال ابن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان، وأنكر عليه فقيل له، في ذلك، فقال: الخلاف شر. ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة، وفي وصل الوتر، وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول، مراعاة ائتلاف المأمومين، أو لتعريفهم السنة، وأمثال ذلك. والله أعلم.
سئل عن البسملة هل هي آية من أول كل سورة
وَسئلَ أيضًا رَحمَه الله عن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من أول كل سورة أفتونا مأجورين؟
فأجاب:
الحمد الله، اتفق المسلمون على أنها من القرآن في قوله: { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } 217، وتنازعوا فيها في أوائل السور حيث كتبت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ليست من القرآن، وإنما كتبت تبركا بها، وهذا مذهب مالك، وطائفة من الحنفية، ويحكى هذا رواية عن أحمد ولا يصح عنه، وإن كان قولًا في مذهبه.
والثاني: أنها من كل سورة، إما آية، وإما بعض آية، وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه.
والثالث: أنها من القرآن حيث كتبت آية من كتاب الله من أول كل سورة، وليست من السورة. وهذا مذهب ابن المبارك، وأحمد بن حنبل رضي الله عنه وغيرهما. وذكر الرازي أنه مقتضي مذهب أبي حنيفة عنده. وهذا أعدل الأقوال.
فإن كتابتها في المصحف بقلم القرآن، تدل على أنها من القرآن وكتابتها مفردة مفصولة عما قبلها وما بعدها تدل على أنها ليست من السورة، ويدل على ذلك ما رواه أهل السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (إن سورة من القرآن ثلاثين آية، شفعت لرجل، حتى غفر له. وهي { تّبّارّكّ بَّذٌي بٌيّدٌهٌ بًمٍلًكٍ } ) وهذا لا ينافي ذلك، فإن في الصحيح أن النبي ﷺ أغفي إغفاءة فقال: (لقد نزلت على آنفًا سورة. وقرأ { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } )؛ لأن ذلك لم يذكر فيه أنها من السورة، بل فيه أنها تقرأ في أول السورة، وهذا سنة، فإنها تقرأ في أول كل سورة، وإن لم تكن من السورة.
ومثله حديث ابن عباس: كان رسول الله ﷺ لا يعرف فصل الصورة حتى تنزل { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } رواه أبو داود، ففيه أنها نزلت للفصل، وليس فيه أنها آية منها، و { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } ثلاثون آية بدون البسملة. ولأن العادين لآيات القرآن لم يعد أحد منهم البسملة من السورة، لكن هؤلاء تنازعوا في الفاتحة: هل هي آية منها دون غيرها؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: أنها من الفاتحة دون غيرها، وهذا مذهب طائفة من أهل الحديث، أظنه قول أبي عبيد، واحتج هؤلاء بالآثار التي رويت في أن البسملة من الفاتحة. وعلي قول هؤلاء، تجب قراءتها في الصلاة، وهؤلاء يوجبون قراءتها وإن لم يجهروا بها.
والثاني: أنها ليست من الفاتحة، كما أنها ليست من غيرها، وهذا أظهر فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها له، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، يقول الله: حمدني عبدي. يقول العبد: { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ، يقول الله: أثني علي عبدي. يقول العبد: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، يقول الله: مجدني عبدي. يقول العبد: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، يقول الله: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: { \اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } ، إلى آخرها. يقول الله: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل). فلو كانت من الفاتحة، لذكرها كما ذكر غيرها.
وقد روي ذكرها في حديث موضوع، رواه عبد الله بن زياد بن سَمْعَان، فذكره مثل الثَّعْلَبي في تفسيره، ومثل من جمع أحاديث الجهر، وأنها كلها ضعيفة، أو موضوعة. ولو كانت منها، لما كان للرب ثلاث آيات ونصف، وللعبد ثلاث ونصف. وظاهر الحديث أن القسمة وقعت على الآيات، فإنه قال: (فهؤلاء لعبدي). وهؤلاء إشارة إلى جمع، فَعُلِم أن من قوله: { \اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } إلى آخرها، ثلاث آيات على قول من لا يعد البسملة آية منها، ومن عدها آية منها، جعل هذا آيتين.
وأيضًا، فإن الفاتحة سورة من سور القرآن، والبسملة مكتوبة في أولها، فلا فرق بينها وبين غيرها من السور في مثل ذلك، وهذا من أظهر وجوه الاعتبار.
وأيضًا، فلو كانت منها، لتليت في الصلاة جهرًا، كما تتلى سائر آيات السورة، وهذا مذهب من يرى الجهر بها كالشافعي وطائفة من المكيين والبصريين، فإنهم قالوا: إنها آية من الفاتحة يجهر بها: كسائر آيات الفاتحة، واعتمد على آثار منقولة بعضها عن الصحابة، وبعضها عن النبي ﷺ. فأما المأثور عن الصحابة، كابن الزبير ونحوه، ففيه صحيح، وفيه ضعيف. وأما المأثور عن النبي ﷺ، فهو ضعيف، أو موضوع، كما ذكر ذلك حفاظ الحديث كالدارقطني، وغيره.
ولهذا لم يرو أهل السنن والمسانيد المعروفة عن النبي ﷺ في الجهر بها حديثًا واحدًا. وإنما يروي أمثال هذه الأحاديث من لا يميز من أهل التفسير: كالثعلبي ونحوه، وكبعض من صنف في هذا الباب من أهل الحديث، كما يذكره طائفة من الفقهاء في كتب الفقه، وقد حكى القول بالجهر عن أحمد وغيره بناء على إحدى الروايتين عنه من أنها من الفاتحة، فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة، وليس هذا مذهبه، بل يخافت بها عنده.
وإن قال هي من الفاتحة لكن يجهر بها عنده لمصلحة راجحة، مثل أن يكون المصلون لا يقرؤونها بحال، فيجهر بها ليعلمهم أن قراءتها سنة، كما جهر ابن عباس بالفاتحة على الجنازة، وكما جهر عمر بن الخطاب بالاستفتاح، وكما نقل عن أبي هريرة أنه قرأ بها، ثم قرأ بأم الكتاب، وقال: أنا أشبهكم صلاة برسول الله ﷺ. رواه النسائي. وهو أجود ما احتجوا به.
وكذلك فسر بعض أصحاب أحمد خلافه، أنه كان يجهر بها إذا كان المأمومون ينكرون على من لم يجهر بها، وأمثال ذلك. فإن الجهر بها والمخافتة سنة، فلو جهر بها المخافت، صحت صلاته بلا ريب. وجمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي لا يرون الجهر، لكن منهم من يقرؤها سرًا، كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ومنهم من لا يقرؤها سرًا ولا جهرًا، كمالك.
وحجة الجمهور ما ثبت في الصحيح من أن النبي ﷺ وأبا بكر وعمر كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي لفظ لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة، ولا آخرها واللّّه أعلم.
سئل هل من يلحن في الفاتحة تصح صلاته أم لا
وسئل: هل من يلحن في الفاتحة تصح صلاته أم لا؟
فأجاب:
أما اللحن في الفاتحة الذي لا يحيل المعني، فتصح صلاة صاحبه، إمامًا أو منفردًا، مثل
أن يقول: { رَبِّ الْعَالَمِينَ } و { الضَّالِّينَ } ونحو ذلك.
وأما ما قرئ به مثل: الحمد الله ربَّ، وربِّ، وربُّ. ومثل الحمد الله، والحمد الله، بضم اللام، أو بكسر الدال. ومثل عليهِمُ، وعليهم، وعليهُمُ، وأمثال ذلك، فهذا لا يعد لحنًا.
وأما اللحن الذي يحيل المعنى: إذا علم صاحبه معناه مثل أن يقول: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } ، وهو يعلم أن هذا ضمير المتكلم، لا تصح صلاته. وإن لم يعلم أنه يحيل المعنى واعتقد أن هذا ضمير المخاطب، ففيه نزاع. والله أعلم.
سئل عمن يقرأ القرآن وما عنده أحد يسأله عن اللحن
وسئل عمن يقرأ القرآن وما عنده أحد يسأله عن اللحن. . . إلخ؟ وإذا وقف على شيء يطلع في المصحف: هل يلحقه إثم أم لا؟
فأجاب:
إن احتاج إلى قراءة القرآن قرأه بحسب الإمكان، ورجع إلى المصحف فيما يشكل عليه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولا يترك ما يحتاج إليه وينتهي به من القراءة؛ لأجل ما يعرض من الغلط أحيانًا، إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة. والله أعلم.
سئل عما إذا نصب المخفوض في صلاته
وسئل عما إذا نصب المخفوض في صلاته؟
فأجاب:
إن كان عالمًا، بَطَلَت صلاته؛ لأنه متلاعب في صلاته. وإن كان جاهلًا، لم تبطل على أحد الوجهين.
سئل عن رجل يصلي بقوم وهو يقرأ بقراءة الشيخ أبي عمرو
وسئل عن رجل يصلي بقوم وهو يقرأ بقراءة الشيخ أبي عمرو: فهل إذا قرأ لورش أو لنافع باختلاف الروايات مع حمله قراءته لأبي عمرو يأثم، أو تنقص صلاته أو ترد؟
فأجاب:
يجوز أن يقرأ بعض القرآن بحرف أبي عمرو، وبعضه بحرف نافع. وسواء كان ذلك في ركعة أو ركعتين، وسواء كان خارج الصلاة أو داخلها. والله أعلم.
سئل هل روي عن النبي أنه صلى بالأعراف أو بالأنعام جميعا في المغرب
وسئل: هل روي عن النبي ﷺ أنه صلى بالأعراف أو بالأنعام جميعًا في المغرب، أو في صلاة غيرها، وإن كان قد رواه أحمد، هل هو صحيح أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، نعم ثبت في الصحيح: أنه صلى في المغرب بالأعراف، ولكن لم يكن يداوم على ذلك، ومرة أخري قرأ فيها بالمرسلات، ومرة أخري قرأ فيها بالطور، وهذا كله في الصحيح. والله أعلم.
سئل عن رفع الأيدي بعد الركوع
وسئل رحمه الله عن رفع الأيدي بعد الركوع، هل يبطل الصلاة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يبطل الصلاة باتفاق الأئمة، بل أكثر أئمة المسلمين يستحبون هذا. كما استفاضت به السنة عن النبي ﷺ. من حديث ابن عمر، ومالك بن الحويرث، ووائل بن حَجَر، وأبي حُمَيْد السَّاعدي، وأبي قتادة الأنصاري، في عشرة من الصحابة، وحديث علي، وأبي هريرة، وغيرهم.
وهو مستحب عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد، ومالك في إحدى الروايتين عنه، وأبو حنيفة قال: إنه لا يستحب، ولم يقل: إنه يبطل صلاته. والله أعلم.
سئل عن قوله ولا ينفع ذا الجد منك الجد
وسئل عن قول النبي ﷺ: (ولا ينفع ذا الجِدِّ منك الجِدُّ) وهل هو بالخفض أو بالضم؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، أما الأولي: فبالخفض. وأما الثانية: فبالضم. والمعني: أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده: أي لا ينجيه ويخلصه منك جده، وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح. والجد هو الغني، وهو العظمة، وهو المال. بيَّن ﷺ: أنه من كان له في الدنيا رئاسة ومال لم ينجه ذلك، ولم يخلصه من الله وإنما ينجيه من عذابه إيمانه وتقواه، فإنه ﷺ قال: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين:
أحدهما: توحيد الربوبية، وهو ألا معطي لما منع الله، ولا مانع لما أعطه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو.
والثاني: توحيد الإلهية، وهو بيان ما ينفع، وما لا ينفع، وأنه ليس كل من أُعْطِي مالًا أو دنيا أو رئاسة، كان ذلك نافعًا له عند الله منجيًا له من عذابه، فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب. قال تعالى: { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا } 218، يقول: ما كل من وسعت عليه أكرمته، ولا كل من قدرت عليه أكون قد أهنته، بل هذا ابتلاء ليشكر العبد على السراء، ويصبر على الضراء، فمن رزق الشكر والصبر، كان كل قضاء يقضيه الله خيرًا له، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء، شكر فكان خيرًا له. وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له).
وتوحيد الإلهية: أن يعبد الله، ولا يشرك به شيئًا، فيطيعه، ويطيع رسله، ويفعل ما يحبه ويرضاه.
وأما توحيد الربوبية: فيدخل ما قدره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه وأرضاه، والعبد مأمور بأن يعبد الله، ويفعل ما أمر به، وهو توحيد الإلهية ويستعين الله على ذلك، وهو توحيد له، فيقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . والله أعلم.
سئل إذا أراد إنسان أن يسجد في الصلاة يتأخر خطوتين
وسئل رحمه الله إذا أراد إنسان أن يسجد في الصلاة يتأخر خطوتين: هل يكره ذلك أم لا؟
فأجاب:
وأما التأخر حين السجود فليس بسنة، ولا ينبغي فعل ذلك. إلا إذا كان الموضع ضيقًا، فيتأخر ليتمكن من السجود.
سئل عن اتقاء الأرض بوضع ركبتيه قبل يديه أو يديه قبل ركبتيه
وسئل رحمه الله عن الصلاة، واتقاء الأرض بوضع ركبتيه قبل يديه، أو يديه قبل ركبتيه؟
فأجاب:
أما الصلاة بكليهما، فجائزة باتفاق العلماء. إن شاء المصلي، يضع ركبتيه قبل يديه. وإن شاء، وضع يديه ثم ركبتيه. وصلاته صحيحة في الحالتين باتفاق العلماء. ولكن تنازعوا في الأفضل.
فقيل: الأول كما هو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين.
وقيل: الثاني، كما هو مذهب مالك، وأحمد في الرواية الأخري. وقد روي بكل منهما حديث في السنن عن النبي ﷺ. ففي السنن عنه: أنه كان إذا صلى وضع ركبتيه ثم يديه، وإذا رفع رفع يديه ثم ركبتيه. وفي سنن أبي داود وغيره أنه قال: (إذا سجد أحدكم، فلا يبرك بروك الجمل، ولكن يضع يديه ثم ركبتيه) وقد روي ضد ذلك، وقيل: إنه منسوخ. والله أعلم.
سئل قوله أمرت أن أسجد على
وسئل رحمه الله عما يروى عن النبي ﷺ أنه قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وألا أكف لي ثوبًا، ولا شعرًا). وفي رواية (وألا أكفت لي ثوبًا، ولا شعرًا) فما هو الكف؟ وما هو الكفت؟ وهل ضفر الشعر من الكفت؟
فأجاب:
الكفت: الجمع والضم، والكف: قريب منه، وهو منع الشعر والثوب من السجود، وينهى الرجل أن يصلي وشعره مغروز في رأسه، أو معقوص.
وفيه عن النبي ﷺ: (مثل الذي يصلي وهو معقوص كمثل الذي يصلي وهو مكتوف)؛ لأن المكتوف لا يسجد ثوبه، والمعقوص لا يسجد شعره، وأما الضفر مع إرساله، فليس من الكفت. والله أعلم.
سئل عمن يصلي مأموما ويجلس بين الركعات جلسة الاستراحة ولم يفعل ذلك الإمام
وسئل عن رجل يصلي مأمومًا، ويجلس بين الركعات جلسة الاستراحة ولم يفعل ذلك الإمام، فهل يجوز ذلك له؟ وإذا جاز: هل يكون منقصًا لأجره؛ لأجل كونه لم يتابع الإمام في سرعة الإمام؟
فأجاب:
جلسة الاستراحة، قد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ جلسها، لكن تردد العلماء هل فعل ذلك من كبر السن للحاجة، أو فعل ذلك؛ لأنه من سنة الصلاة.
فمن قال بالثاني: استحبها، كقول الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين.
ومن قال بالأول: لم يستحبها إلا عند الحاجة، كقول أبي حنيفة ومالك، وأحمد في الرواية الأخرى. ومن فعلها لم ينكر عليه، وإن كان مأمومًا؛ لكون التأخر بمقدار ما ليس هو من التخلف المنهي عنه عند من يقول باستحبابها. وهل هذا إلا فعل في محل اجتهاد؟ فإنه قد تعارض فعل هذه السنة عنده، والمبادرة إلى موافقة الإمام؛ فإن ذلك أولى من التخلف، لكنه يسير، فصار مثل ما إذا قام من التشهد الأول قبل أن يكمله المأموم، والمأموم يرى أنه مستحب، أو مثل أن يسلم وقد بقي عليه يسير من الدعاء، هل يسلم أو يتمه؟
ومثل هذه المسائل هي من مسائل الاجتهاد، والأقوي أن متابعة الإمام أولي من التخلف، لفعل مستحب. والله أعلم.
سئل عن رفع اليدين بعد القيام من الجلسة بعد الركعتين الأوليين
وسئل رحمه الله عن رفع اليدين بعد القيام من الجلسة بعد الركعتين الأوليين: هل هو مندوب إليه؟ وهل فعله النبي ﷺ، أو أحد من الصحابة؟
فأجاب:
نعم، هو مندوب إليه عند محققي العلماء العالمين بسنة رسول الله ﷺ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول طائفة من أصحابه، وأصحاب الشافعي وغيرهم. وقد ثبت ذلك عن النبي ﷺ في الصحاح والسنن. ففي البخاري، وسنن أبي داود، والنسائي عن نافع: أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه. وإذا ركع رفع يديه. وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه. وإذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي ﷺ.
وعن على بن أبي طالب عن النبي ﷺ: أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة، كبر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضي قراءته. وإذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد. وإذا قام من الركعتين، رفع يديه كذلك وكبر رواه أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي حُمَيد السَّاعدي أنه ذكر صفة صلاة النبي ﷺ وفيه: إذا قام من السجدتين، كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح الصلاة. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه والنسائي، والترمذي، وصححه.
فهذه أحاديث صحيحة ثابتة، مع ما في ذلك من الآثار، وليس لها ما يصلح أن يكون معارضًا مقاومًا، فضلًا عن أن يكون راجحًا. والله أعلم.
سئل قوله اللهم صل على محمد
وسئل شيخ الإسلام عن قوله ﷺ: (اللهم صل على محمد، وعلي آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) الحديث. وقوله: (اللهم صل على محمد، وعلي آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلي آل إبراهيم) هل الحديثان في الصحة سواء؟ وما الحكم في ذكر الآل دون إبراهيم؟
فأجاب:
الحمد لله، هذا الحديث في الصحاح من أربعة أوجه: أشهرها حديث عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: لقيني كعب بن عُجْرَة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول الله ﷺ، فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: (قولوا: اللهم صل على محمد، وعلي آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك وفي لفظ: وبارك على محمد وعلي آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) رواه أهل الصحاح، والسنن، والمسانيد؛ كالبخاري ومسلم، وأبي داود والترمذي والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد في مسنده، وغيرهم.
وهذا لفظ الجماعة إلا أن الترمذي قال فيه: على إبراهيم، في الموضعين لم يذكر آله، وذلك رواية لأبي داود والنسائي. وفي رواية: (كما صليت على آل إبراهيم)، وقال: (كما باركت على إبراهيم)، ذكر لفظ الآل في الأول، ولفظ إبراهيم في الآخر.
وفي الصحيحين والسنن الثلاثة عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلي أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلي أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) هذا هو اللفظ المشهور، وقد روي فيه: كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم بدون لفظ الآل في الموضعين، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله، هذا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: (قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلي آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم).
وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله ﷺ، ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله ﷺ حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله ﷺ: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلي آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلي آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم) وقد رواه أيضًا غير مسلم؛ كمالك وأحمد وأبي داود والنسائي والترمذي بلفظ آخر. وفي بعض طرقه: (كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم) لم يذكر (الآل). وفي رواية: (كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على آل إبراهيم). فهذه الأحاديث التي في الصحاح، لم أجد فيها ولا فيما نقل لفظ: (إبراهيم وآل إبراهيم)، بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ: (آل إبراهيم) وفي بعضها لفظ: (إبراهيم) وقد يجيء في أحد الموضعين لفظ: (آل إبراهيم) وفي الآخر لفظ: (إبراهيم).
وقد روي لفظ: (إبراهيم، وآل إبراهيم) في حديث رواه البيهقي عن يحيي بن السباق، عن رجل من بني الحارث، عن ابن مسعود عن رسول الله ﷺ أنه قال: (إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد، وعلي آل محمد. وبارك على محمد وعلي آل محمد، وبارك على محمد، وارحم محمدًا كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلي آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) وهذا إسناده ضعيف لكن رواه ابن ماجه في سننه عن ابن مسعود موقوفًا قال: إذا صليتم على رسول الله ﷺ فأحسنوا الصلاة، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه، قال: فقولوا له: فعلِّمنا، قال: (قولوا: اللهم اجعل صلواتك، ورحمتك، وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة. اللهم ابعثه مقامًا محمودًا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلي آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلي آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد). ولا يحضرني إسناد هذا الأثر، ولم يبلغني إلى الساعة حديث مسند بإسناد ثابت (كما صليت على إبراهيم، وكما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم)، بل أحاديث السنن توافق أحاديث الصحيحين، كما في سنن أبي داود عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (من سره أن يكتال بالمكيال الأوفي إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبي، وعلي أزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) رواه الشافعي في مسنده عن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ يعني في الصلاة. قال: (تقولون: اللهم صلِ على محمد وعلي آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلي آل محمد، كما باركت على إبراهيم، ثم تسلمون علي).
ومن المتأخرين من سلك في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي ﷺ يقولها ويعملها بألفاظ متنوعة ورويت بألفاظ متنوعة طريقة محدثة بأن جمع بين تلك الألفاظ، واستحب ذلك، ورأي ذلك أفضل ما يقال فيها.
مثاله الحديث الذي في الصحيحين عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). قد روي (كثيرًا) وروي (كبيرًا)، فيقول هذا القائل: يستحب أن يقول: (كثيرًا، كبيرًا). وكذلك إذا روي: (اللهم صل على محمد وعلي آل محمد) وروي: (اللهم صلِ على محمد وعلي أزواجه وذريته) وأمثال ذلك. وهذه طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين.
وطرد هذه الطريقة أن يذكر التشهد بجميع هذه الألفاظ المأثورة، وأن يقال: الاستفتاح بجميع الألفاظ المأثورة، وهذا مع أنه خلاف عمل المسلمين لم يستحبه أحد من أئمتهم، بل عملوا بخلافه، فهو بدعة في الشرع، فاسد في العقل.
أما الأول: فلأن تنوع ألفاظ الذكر والدعاء كتنوع ألفاظ القرآن مثل: تعلمون و يعلمون، و باعدوا و بعدوا و أرجلَكم و أرجلِكم. ومعلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب للقارئ في الصلاة، والقارئ عبادة وتدبرًا خارج الصلاة، أن يجمع بين هذه الحروف، إنما يفعل الجمع بعض القراء بعض الأوقات ليمتحن بحفظه للحروف، وتمييزه للقراءات، وقد تكلم الناس في هذا.
وأما الجمع في كل القراءة المشروعة المأمور بها، فغير مشروع باتفاق المسلمين، بل يخير بين تلك الحروف، وإذا قرأ بهذه تارة وبهذه تارة، كان حسنًا، كذلك الأذكار إذا قال تارة: (ظلمًا كثيرًا)، وتارة: (ظلمًا كبيرًا)، كان حسنًا. كذلك إذا قال تارة: (علي آل محمد)، وتارة: (علي أزواجه وذريته)، كان حسنًا. كما أنه في التشهد إذا تشهد تارة بتشهد ابن مسعود، وتارة بتشهد ابن عباس، وتارة بتشهد عمر كان حسنًا، وفي الاستفتاح إذا استفتح تارة باستفتاح عمر، وتارة باستفتاح علي، وتارة باستفتاح أبي هريرة، ونحو ذلك كان حسنًا.
وقد احتج غير واحد من العلماء كالشافعي وغيره على جواز الأنواع المأثورة في التشهدات ونحوها بالحديث الذي في الصحاح عن النبي ﷺ أنه قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف فاقرؤوا بما تيسر) قالوا: فإذا كان القرآن قد رخص في قراءته سبعة أحرف، فغيره من الذكر والدعاء أولي أن يرخص في أن يقال على عدة أحرف. ومعلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ أحدها، أو هذا تارة وهذا تارة، لا الجمع بينهما، فإن النبي ﷺ لم يجمع بين هذه الألفاظ في آن واحد، بل قال هذا تارة، وهذا تارة، إذا كان قد قالهما.
وأما إذا اختلفت الرواية في لفظ، فقد يمكن أنه قالهما، أو يمكن أنه رخص فيهما، ويمكن أن أحد الراويين حفظ اللفظ دون الآخر، وهذا يجيء في مثل قوله: (كبيرًا)، (كثيرًا). وأما مثل قوله: (وعلي آل محمد)، وقوله في الأخري: (وعلي أزواجه وذريته)، فلا ريب أنه قال هذا تارة، وهذا تارة؛ ولهذا احتج من احتج بذلك على تفسير الآل، وللناس في ذلك قولان مشهوران:
أحدهما: أنهم أهل بيته الذين حرموا الصدقة، وهذا هو المنصوص عن الشافعي وأحمد. وعلي هذا، ففي تحريم الصدقة على أزواجه وكونهم من أهل بيته روايتان عن أحمد:
إحداهما: لسن من أهل بيته، وهو قول زيد بن أرقم الذي رواه مسلم في صحيحه عنه.
والثانية: هن من أهل بيته؛ لهذا الحديث. فإنه قال: (وعلي أزواجه وذريته) وقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } 219. وقوله في قصة إبراهيم: { رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } 220. وقد دخلت سارة. ولأنه استثني امرأة لوط من آله، فدل على دخولها في الآل، وحديث الكساء يدل على أن عليًا وفاطمة وحسنا وحسينًا أحق بالدخول في أهل البيت من غيرهم، كما أن قوله في المسجد المؤسس على التقوي: (هو مسجدي هذا)، يدل على أنه أحق بذلك، وأن مسجد قباء أيضًا مؤسس على التقوي، كما دل عليه نزول الآية وسياقها، وكما أن أزواجه داخلات في آله وأهل بيته، كما دل عليه نزول الآية وسياقها. وقد تبين أن دخول أزواجه في آل بيته أصح، وإن كان مواليهن لا يدخلون في موإلى آله، بدليل الصدقة على بريرة مولاة عائشة، ونهيه عنها أبا رافع مولي العباس. وعلي هذا القول، فآل المطلب هل هم من آله ومن أهل بيته الذين تحرم عليهم الصدقة؟ على روايتين عن أحمد:
إحداهما: أنهم منهم، وهو قول الشافعي.
والثانية: ليسوا منهم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
والقول الثاني: أن آل محمد هم أمته أو الأتقياء من أمته. وهذا روي عن مالك مالك إن صح. وقاله طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم. وقد يحتجون على ذلك بما روي الخلاَّل، وتمام هذه: أنه سئل عن آل محمد فقال: (كل مؤمن تقي) وهذا الحديث موضوع لا أصل له.
والمقصود هنا أن النبي ﷺ ثبت عنه أنه قال أحيانًا: (وعلي آل محمد) وكان يقول أحيانًا: (وعلي أزواجه وذريته) فمن قال أحدهما، أو هذا تارة وهذا تارة، فقد أحسن. وأما من جمع بينهما، فقد خالف السنة.
ثم إنه فاسد من جهة العقل أيضًا. فإن أحد اللفظين بدل عن الآخر، فلا يجمع بين البدل والمبدل، ومن تدبر ما يقول وفهمه، علم ذلك.
وأما الحكم في ذلك فيقال: لفظ آل فلان إذا أطلق في الكتاب والسنة، دخل فيه فلان، كما في قوله: { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ } 221، وقوله: { إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } 222، وقوله: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } 223، وقوله: { سَلَامٌ على إِلْ يَاسِينَ } 224، ومنه قوله ﷺ: (اللهم صلِ على آل أبي أوفي).
وكذلك لفظ: (أهل البيت) كقوله تعالى: { رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ } 225، فإن إبراهيم داخل فيهم، وكذلك قوله: (من سره أن يكتال بالمكيال الأوفي إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صلِ على محمد النبي)الحديث، وسبب ذلك أن لفظ (الآل) أصله أول، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فقيل: آل، ومثله باب، وناب. وفي الأفعال قال وعاد، ونحو ذلك. ومن قال: أصله أهل فقلبت الهاء ألفًا، فقد غلط. فإنه قال ما لا دليل عليه، وادعي القلب الشاذ بغير حجة، مع مخالفته للأصل.
وأيضًا، فإن لفظ الأهل يضيفونه إلى الجماد، وإلى غير المعظم، كما يقولون: أهل البيت، وأهل المدينة، وأهل الفقير، وأهل المسكين. وأما الآل، فإنما يضاف إلى معظم من شأنه أن يؤول غيره، أو يسوسه، فيكون مآله إليه. ومنه الإيالة: وهي السياسة. فآل الشخص هم من يؤوله، ويؤول إليه، ويرجع إليه، ونفسه هي أول وأولي من يسوسه، ويؤول إليه. فلهذا كان لفظ آل فلان متناولًا له، ولا يقال: هو مختص به، بل يتناوله ويتناول من يؤوله، فلهذا جاء في أكثر الألفاظ: (كما صليت على آل إبراهيم، وكما باركت على آل إبراهيم) وجاء في بعضها: (إبراهيم) نفسه، لأنه هو الأصل في الصلاة والزكاة، وسائر أهل بيته. إنما يحصل لهم ذلك تبعًا. وجاء في بعضها ذكر هذا، وهذا تنبيهًا على هذين.
فإن قيل: فلم قيل: صل على محمد وعلي آل محمد، وبارك علي محمد وآل محمد، فذكر هنا محمدًا وآل محمد، وذكر هناك لفظ: (آل إبراهيم، أو إبراهيم).
قيل: لأن الصلاة على محمد وعلي آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، وأما الصلاة على إبراهيم، ففي مقام الخبر والقصة؛ إذ قوله: (علي محمد وعلي آل محمد)، جملة طلبية. وقوله: (صليت على آل إبراهيم)، جملة خبرية. والجملة الطلبية إذا بسطت، كان مناسبًا؛ لأن المطلوب يزيد بزيادة الطلب، وينقص بنقصانه.
وأما الخبر، فهو خبر عن أمر قد وقع وانقضي، لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلم يمكن في زيادة اللفظ زيادة المعني، فكان الإيجاز فيه والاختصار أكمل وأتم وأحسن؛ ولهذا جاء بلفظ آل إبراهيم تارة، وبلفظ إبراهيم أخري؛ لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر، وهو الصلاة التي وقعت ومضت، إذ قد علم أن الصلاة على إبراهيم التي وقعت، هي الصلاة على آل إبراهيم، والصلاة على آل إبراهيم، صلاة على إبراهيم. فكان المراد باللفظين واحدًا مع الإيجاز والاختصار.
وأما في الطلب، فلو قيل: (صل الله على محمد)، لم يكن في هذا ما يدل على الصلاة على آل محمد، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بهذا اللفظ ليس خبرًا عن أمر قد وقع واستقر، ولو قيل: صل علي آل محمد، لكان إنما يصلي عليه في العموم. فقيل: على محمد وعلي آل محمد، فإنه يحصل بذلك الصلاة عليه بخصوصه، وبالصلاة على آله.
ثم إن قيل: إنه داخل في آله مع الاقتران، كما هو داخل مع الإطلاق، فقد صلى عليه مرتين خصوصًا وعمومًا، وهذا ينشأ على قول من يقول: العام المعطوف على الخاص يتناول الخاص.
ولو قيل: إنه لم يدخل ولم يضر؛ فإن الصلاة عليه خصوصًا تغني.
وأيضًا، ففي ذلك بيان أن الصلاة على سائر الآل إنما طلبت تبعًا له، وأنه هو الأصل الذي بسببه طلبت الصلاة على آله، وهذا يتم بجواب السؤال المشهور، وهو أن قوله: (كما صليت على إبراهيم)، يشعر بفضيلة إبراهيم، لأن المشبه دون المشبه به، وقد أجاب الناس عن ذلك بأجوبة ضعيفة.
فقيل: التشبيه عائد إلى الصلاة على الأول فقط، فقوله: (صل على محمد)، كلام منقطع، وقوله: (وعلي آل محمد كما صليت على إبراهيم)، كلام مبتدأ، وهذا نقله العمراني عن الشافعي، وهذا باطل عن الشافعي قطعًا لا يليق بعلمه وفصاحته. فإن هذا كلام ركيك في غاية البعد، وفيه من جهة العربية بحوث لا تليق بهذا الموضع.
الثاني: قول من منع كون المشبه به أعلي من المشبه، وقال: يجوز أن يكونا متماثلين، قال صاحب هذا القول: والنبي ﷺ يفضل على إبراهيم من وجوه غير الصلاة، وهما متماثلان في الصلاة، وهذا أيضًا ضعيف؛ فإن الصلاة من الله من أعلي المراتب، أو أعلاها، ومحمد أفضل الخلق فيها، فكيف وقد أمر الله بها بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه. وأيضًا، فالله وملائكته يصلون على معلم الخير، وهو أفضل معلمي الخير، والأدلة كثيرة لا يتسع لها هذا الجواب.
الثالث: قول من قال: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس مثلهم في آل محمد، فإذا طلب من الصلاة مثلما صلى على هؤلاء، حصل لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم، فإنهم دون الأنبياء، وبقيت الزيادة لمحمد ﷺ، فحصل له بذلك من الصلاة عليه مزية ليست لإبراهيم، ولا لغيره، وهذا الجواب أحسن مما تقدم.
وأحسن منه أن يقال: محمد هو من آل إبراهيم، كما روي على بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ } 226. قال ابن عباس: محمد من آل إبراهيم. وهذا بين. فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء في آل إبراهيم، فهو أحق بالدخول فيهم، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم، متناولًا للصلاة عليه، وعلي سائر النبيين من ذرية آل إبراهيم. وقد قال تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } 227، ثم أمرنا أن نصلي على محمد، وعلي آل محمد خصوصًا بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عمومًا، ثم لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم، والباقي له، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم.
ومعلوم أن هذا أمر عظيم، يحصل له به أعظم مما لإبراهيم وغيره. فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به، وله نصيب وافر من المشبه، وله أكثر المطلوب، صار له من المشبه وحده أكثر مما لإبراهيم وغيره. وإن كان جملة المطلوب مثل المشبه، وانضاف إلى ذلك ما له من المشبه به، فظهر بهذا من فضله على كل من النبيين ما هو اللائق به ﷺ تسليمًا كثيرًا، وجزاه عنا أفضل ما جزي رسولًا عن أمته. اللهم صلِ على محمد وعلي آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلي آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
سئل عن الصلاة على النبي هل الأفضل فيها سرا أم جهرا
وسئل رحمه الله عن الصلاة على النبي ﷺ هل الأفضل فيها سرًا أم جهرًا؟ وهل روي عن النبي ﷺ أنه قال: (ازعجوا أعضاءكم بالصلاة علي) أم لا؟ والحديث الذي يروي عن ابن عباس أنه أمرهم بالجهر ليسمع من لم يسمع؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
أما الحديث المذكور، فهو كذب موضوع، باتفاق أهل العلم. وكذلك الحديث الآخر. وكذلك سائر ما يروى في رفع الصوت بالصلاة عليه، مثل الأحاديث التي يرويها الباعة لتنفيق السلع، أو يرويها السؤال من قصاص وغيرهم لجمع الناس وجبايتهم، ونحو ذلك.
والصلاة عليه هي دعاء من الأدعية، كما علم النبي ﷺ أمته حين قالوا: قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك فقال: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلي آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلي آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) أخرجاه في الصحيحين. والسنة في الدعاء كله المخافتة، إلا أن يكون هناك سبب يشرع له الجهر قال تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } 228، وقال تعالى عن زكريا: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا } 229. بل السنة في الذكر كله ذلك، كما قال تعالى: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } 230. وفي الصحيحين أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا معه في سفر، فجعلوا يرفعون أصواتهم فقال النبي ﷺ: (أيها الناس، أرْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصَمَّ، ولا غائبًا، وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته). وهذا الذي ذكرناه في الصلاة عليه والدعاء، مما اتفق عليه العلماء، فكلهم يأمرون العبد إذا دعا أن يصلي على النبي ﷺ كما يدعو، لا يرفع صوته بالصلاة عليه أكثر من الدعاء، سواء كان في صلاة، كالصلاة التامة، وصلاة الجنازة، أو كان خارج الصلاة، حتى عقيب التلبية، فإنه يرفع صوته بالتلبية، ثم عقيب ذلك يصلي على النبي ﷺ، ويدعو سرًا، وكذلك بين تكبيرات العيد إذا ذكر الله، وصلى على النبي ﷺ، فإنه وإن جهر بالتكبير، لا يجهر بذلك.
وكذلك لو اقتصر على الصلاة عليه ﷺ خارج الصلاة مثل أن يذكر فيصلي عليه، فإنه لم يستحب أحد من أهل العلم رفع الصوت بذلك، فقائل ذلك مخطئ مخالف لما عليه علماء المسلمين.
وأما رفع الصوت بالصلاة أو الرضا الذي يفعله بعض المؤذنين قدام بعض الخطباء في الجمع، فهذا مكروه أو محرم، باتفاق الأمة، لكن منهم من يقول: يصلي عليه سرًا، ومنهم من يقول: يسكت. والله أعلم.
سئل عمن يقول اللهم صل على سيدنا محمد
وسئل عمن يقول: (اللهم صلِ على سيدنا محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقي من صلاتك شيء وبارك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء، وارحم محمدًا وآل محمد حتى لا يبقى من رحمتك شيء، وسلم على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من سلامك شيء) أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، ليس هذا الدعاء مأثورًا عن أحد من السلف. وقول القائل: حتى لا يبقى من صلاتك شيء، ورحمتك شيء إن أراد به أن ينفد ما عند الله من ذلك فهذا جاهل. فإن ما عند الله من الخير لا نفاد له وإن أراد أنه بدعائه معطيه جميع ما يمكن أن يعطاه، فهذا أيضًا جهل. فإن دعاءه ليس هو السبب الممكن من ذلك.
سئل حكم الصلاة على النبي
وسئل عن أقوام حصل بينهم كلام في الصلاة على النبي ﷺ منهم من قال: إنها فرض واجب في كل وقت، ومن لا يصلي عليه يأثم. وقال بعضهم: هي فرض في الصلاة المكتوبة؛ لأنها من فروض الصلاة، وما عدا ذلك فغير فرض؛ لكن موعود الذي يصلي عليه بكل مرة عشرة؟
فأجاب:
الحمد لله، مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين أنها واجبة في الصلاة، ولا تجب في غيرها، ومذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد في الرواية الأخرى أنها لا تجب في الصلاة، ثم من هؤلاء من قال: تجب في العمر مرة، ومنهم من قال: تجب في المجلس الذي يذكر فيه، والمسألة مبسوطة في غير هذا الموضع. والله أعلم.
سئل عن قوله من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا
وسئل عن قوله ﷺ: (من صلى علي مرة، صلى الله عليه عشرًا. ومن صلى على عشرًا، صلى الله عليه مائة. ومن صلى على مائة، صلى الله عليه ألف مرة. ومن لم يصل علي، يبقي في قلبه حسرات ولو دخل الجنة). إذا صلى العبد على الرسول ﷺ يصلي الله على ذلك العبد أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من صلى على مرة، صلى الله عليه عشرًا). وفي السنن عنه أنه قال: (ما اجتمع قوم في مجلس فلم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا فيه علي، إلا كان عليهم تُرَّة يوم القيامة). والتُّرة: النغص والحسرة. والله أعلم.
سئل هل يجوز أن يصلى على غير النبي
وسئل: هل يجوز أن يُصَلَّى على غير النبي ﷺ، بأن يقال: اللهم صلِ على فلان؟
فأجاب:
الحمد لله، قد تنازع العلماء: هل لغير النبي ﷺ أن يصلي على غير النبي ﷺ مفردًا؟ على قولين:
أحدهما: المنع، وهو المنقول عن مالك، والشافعي، واختيار جدي أبي بركات.
والثاني: أنه يجوز وهو المنصوص عن أحمد، واختيار أكثر أصحابه: كالقاضي، وابن عقيل، والشيخ عبد القادر. واحتجوا بما روي عن علي أنه قال لعمر: صلى الله عليك.
واحتج الأولون بقول ابن عباس: لا أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد، إلا على رسول الله ﷺ. وهذا الذي قاله ابن عباس، قاله لما ظهرت الشيعة، وصارت تظهر الصلاة على علي دون غيره، فهذا مكروه منهي عنه، كما قال ابن عباس.
وأما ما نقل عن علي، فإذا لم يكن على وجه الغلو وجعل ذلك شعارًا لغير الرسول، فهذا نوع من الدعاء، وليس في الكتاب والسنة ما يمنع منه، وقد قال تعالى: { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } 231، وقال النبي ﷺ: (إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث). وفي حديث قبض الروح: (صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه).
ولا نزاع بين العلماء أن النبي ﷺ يصلي على غيره كقوله: (اللهم صلِ على آل أبي أوفى) وأنه يصلي على غيره تبعًا له، كقوله: (اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد). والله أعلم.
فصل المنصوص أحمد أنه لا يدعو إلا بالأدعية المشروعة في الصلاة
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
المنصوص المشهور عن الإمام أحمد، أنه لا يدعو في الصلاة إلا بالأدعية المشروعة المأثورة، كما قال الأثرم: قلت لأحمد: بماذا أدعو بعد التشهد؟ قال: بما جاء في الخبر. قلت له: أو ليس قال رسول الله ﷺ: (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء)؟ قال: يتخير مما جاء في الخبر. فعاودته، فقال: ما في الخبر. هذا معنى كلام أحمد.
قلت: وقد بينت بعض أصل ذلك، لقوله: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } 232، وأن الدعاء ليس كله جائزًا، بل فيه عدوان محرم، والمشروع لا عدوان فيه، وأن العدوان يكون تارة في كثرة الألفاظ، وتارة في المعاني، كما قد فسر الصحابة ذلك؛ إذ قال هذا لابنه لما قال: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، وقال الآخر: أسألك الجنة وقصورها، وأنهارها، وأعوذ بك من النار، وسلاسلها وأغلالها. فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: (سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطَّهور). والاعتداء يكون في العبادة وفي الزهد. وقول أحمد: بما جاء في الخبر، حسن، فإن اللام في الدعاء للدعاء الذي يحبه الله، ليس لجنس الدعاء، فإن من الدعاء ما يحرم.
فإن قيل: ما جاز من الدعاء خارج الصلاة، جاز في الصلاة، مثل سؤاله: دارًا، وجارية حسناء.
قيل: ومن قال: إن مثل هذا مشروع خارج الصلاة، وأن مثل هذه الألفاظ ليست من العدوان؟ وحينئذ، فيقال: الدعاء المستحب هو الدعاء المشروع، فإن الاستحباب إنما يتلقى من الشارع فما لم يشرعه لا يكون مستحبًا، بل يكون شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فإن الدعاء من أعظم الدين، لكن إذا دعا بدعاء لم يعلم أنه مستحب، أو علم أنه جائز غير مستحب، لم تبطل صلاته بذلك. فإن الصلاة إنما تبطل بكلام الآدميين، والدعاء ليس من جنس كلام الآدميين، بل هو كما لو أثني على الله بثناء لم يشرع له، وقد وجد مثل هذا من بعض الصحابة على عهد النبي ﷺ، ولم ينكر عليه كونه أثني ثناءً لم يشرع له في ذلك المكان، بل نفي ما له فيه من الأجر. ومن الدعاء ما يكون مكروهًا ولا تبطل به الصلاة، ومنه ما تبطل به الصلاة. فالدعاء خمسة أقسام.
الذي يشرع هو الواجب والمستحب. وأما المباح، فلا يستحب، ولا يبطل الصلاة. والمكروه يكره ولا يبطلها، كالالتفات في الصلاة، وكما لو تشهد في القيام، أو قرأ في القعود. والمحرم يبطلها؛ لأنه من الكلام. وهذا تحقيق قول أحمد. فإنه لم يبطل الصلاة بالدعاء غير المأثور، لكنه لم يستحبه؛ إذ لا يستحب غير المشروع. وبين أن التخيير عاد إلى المشروع، والمشروع يكون بلفظ النص وبمعناه، إذ لم يقيد النبي ﷺ الدعاء بلفظ واحد، كالقراءة.
ولهذا لما كانت صلاة الجنازة مقصودها الدعاء، لم يوقت فيها وقتًا. ولما كان الذكر أفضل، كان أقرب إلى التوقيت، كالأذان والتلبية، ونحو ذلك.
فأما قول الجد رحمه الله إلا بما ورد في الأخبار، وبما يرجع إلى أمر دينه، ففيه نظر. فإن أحمد لم يذكر إلا الأخبار. وأيضًا، فالدعاء بمصالح الدنيا جائز، فإنه مشروع. والدعاء ببعض أمور الدين قد يكون من العدوان، كما ذكر عن الصحابة، وكما لو سأل منازل الأنبياء. فالأجود أن يقال: إلا بالدعاء المشروع المسنون، وهو ما وردت به الأخبار، وما كان في معناه؛ لأن ذلك لم يوجب علينا التعبد بلفظه، كالقرآن.
ونحن منعنا من ترجمة القرآن؛ لأن لفظه مقصود. وكذلك التكبير ونحوه. فأما الدعاء، فلم يوقت فيه لفظ، لكن كرهه أحمد بغير العربية. فالمراتب ثلاثة:
القراءة، والذكر، والدعاء باللفظ المنصوص، ثم باللفظ العربي في معنى المنصوص، ثم باللفظ العجمي. فهذا كرهه أحمد في الصلاة. وفي البطلان به خلاف، وهو من باب البدل. وأهل الرأي يجوزون مع تشددهم في المنع من الكلام في الصلاة. حتى كرهوا الدعاء الذي ليس في القرآن، أو ليس في الخبر، وأبطلوا به الصلاة يجوزون الترجمة بالعجمية، فلم يجعل بالعربية عبادة، وجوزوا التكبير بكل لفظ يدل على التعظيم.
فهم توسعوا في إبدال القرآن بالعجمية، وفي إبدال الذكر بغيره من الأذكار، ولم يتوسعوا مثله في الدعاء. وأحمد وغيره من الأئمة بالعكس: الدعاء عندهم أوسع، وهذا هو الصواب؛ لأن النبي ﷺ قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) ولم يوقت في دعاء الجنازة شيئًا، ولم يوقت لأصحابه دعاء معينًا، كما وقت لهم الذكر، فكيف يقيد ما أطلقه الرسول ﷺ من الدعاء، ويطلق ما قيده من الذكر، مع أن الذكر أفضل من الدعاء، كما قررناه في غير هذا الموضع؟
ولهذا توجب الأذكار العلمية ما لم يجب من الثنائية.
ولهذا كان أفضل الكلام بعد القرآن، الكلمات الباقيات الصالحات: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فأمر النبي ﷺ بهذه الكلمات لمن عجز عن القرآن، وقال: (هن أفضل الكلام بعد القرآن) ولهذا كان أفضل الاستفتاحات في الصلاة، ما تضمنت ذلك، وهو قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) لِمَا قد بيناه في غير هذا الموضع.
وذكرنا أن هذا ثناء، فهو أفضل من الدعاء، وهو ثناء بمعني أفضل الكلام بعد القرآن، وذلك مقتضي للإجابة، يبين ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: (من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. الحمد لله وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودعا استجيب له، وإن توضأ قبلت صلاته) فقد أخبر أن هذه الكلمات الخمس، إذا افتتح بها المستيقظ من الليل كلامه، كان ذلك سببًا لإجابة دعائه، ولقبول صلاته، إذا توضأ بعد ذلك. فيكون افتتاح الصلاة بذلك سببًا لقبولها، وما فيها من الدعاء، أو حمد الله والثناء عليه قبل دعائه. ولذلك أمر النبي ﷺ بذلك في حديث المسيء فقال: (كبر فاحمد الله، واثن عليه، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن).
وأيضًا، ففي أحاديث أخر من أحاديث الافتتاح أنه كان يقول: (الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا) وهذا معناها.
وأيضًا، فإنها مستحبة بين تكبيرات العيد الزوائد، كما نقل ذلك عن ابن مسعود، وتلك التكبيرات هي من جنس تكبيرات الافتتاح.
وأيضًا، ففي الحديث الآخر من أحاديث الاستفتاح، أنه كان يكبر عشرًا، ويحمد عشرًا، ويسبح عشرًا، أو كما قال. فتوافق معاني الأحاديث الكثيرة على معنى هذا الافتتاح، كتوافق معنى تشهد أبي موسى وغيره على معني تشهد ابن مسعود. وإذا كان الذكر الواحد قد جاءت عامة الأذكار بمعناه، كان أرجح مما لم يجئ فيه إلا حديث واحد؛ لأنه يدل على كثرة قصد النبي ﷺ لتلك المعاني، وما كثر قصده واختياره له كان مقدمًا على ما لم يكثر.
ويؤيد ذلك أن هذه الكلمات مشروعة في دبر الصلوات المكتوبات أيضًا. كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، فتكون هي من الفواتح والخواتم التي أوتيها نبينا ﷺ. فإنه أوتي فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فصل المنصوص أحمد أنه لا يدعو إلا بالأدعية المشروعة
وسئل رحمه الله: هل الدعاء عقيب الفرائض، أم السنن، أم بعد التشهد في الصلاة؟
فأجاب:
السنة التي كان النبي ﷺ يفعلها ويأمر بها، أن يدعو في التشهد قبل السلام. كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول بعد التشهد: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال).
وفي الصحيح أيضًا أنه أمر بهذا الدعاء بعد التشهد. وكذلك في الصحيح أنه كان يقول بعد التشهد قبل السلام: (اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) وفي الصحيح أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
وفي الصحيح أحاديث غير هذه، أنه كان يدعو بعد التشهد وقبل السلام، وكان يدعو في سجوده. وفي رواية كان يدعو إذا رفع رأسه من الركوع، وكان يدعو في افتتاح الصلاة. ولم يقل أحد عنه أنه كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام، بل كان يذكر الله بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير، كما جاء في الأحاديث الصحيحة. والله أعلم.
سئل لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسما
وسئل عمن قال: لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسمًا، ولا يقول: يا حنان، يا منان، ولا يقول: يا دليل الحائرين، فهل له أن يقول ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبي محمد ابن حزم وغيره، فإن جمهور العلماء على خلافه، وعلي ذلك مضي سلف الأمة وأئمتها، وهو الصواب لوجوه:
أحدها: أن التسعة والتسعين اسمًا لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي ﷺ، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث، وفيها حديث ثان أضعف من هذا. رواه ابن ماجه. وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف.
وهذا القائل الذي حصر أسماء الله في تسعة وتسعين، لم يمكنه استخراجها من القرآن، وإذا لم يقم على تعيينها دليل يجب القول به لم يمكن أن يقال: هي التي يجوز الدعاء بها دون غيرها؛ لأنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور. فكل اسم يجهل حاله، يمكن أن يكون من المأمور، ويمكن أن يكون من المحظور. وإن قيل: لا تدعوا إلا باسم له ذكر في الكتاب والسنة، قيل: هذا أكثر من تسعة وتسعين.
الوجه الثاني: أنه إذا قيل تعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا، ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث، مثل اسم الرب، فإنه ليس في حديث الترمذي، وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم، كقول آدم: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } 233، وقول نوح: { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } 234، وقول إبراهيم: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } 235، وقول موسى: { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } 236، وقول المسيح: { رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء } 237، وأمثال ذلك. حتى إنه يذكر عن مالك وغيره، أنهم كرهوا أن يقال: يا سيدي، بل يقال: يا رب، لأنه دعاء النبيين، وغيرهم، كما ذكر الله في القرآن.
وكذلك اسم المنان ففي الحديث الذي رواه أهل السنن أن النبي ﷺ سمع داعيًا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الملك، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي ﷺ: (لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى) وهذا رد لقول من زعم أنه لا يمكن في أسمائه المنان.
وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه لرجل ودعه، قل: يا دليل الحائرين، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين. وقد أنكر طائفة من أهل الكلام: كالقاضي أبي بكر، وأبي الوفاء ابن عقيل، أن يكون من أسمائه الدليل؛ لأنهم ظنوا أن الدليل هو الدلالة التي يستدل بها، والصواب ما عليه الجمهور؛ لأن الدليل في الأصل هو المعرف للمدلول، ولو كان الدليل ما يستدل به، فالعبد يستدل به أيضًا فهو دليل من الوجهين جميعًا.
وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله وتر يحب الوتر). وليس هذا الاسم في هذه التسعة والتسعين، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إن الله جميل يحب الجمال) وليس هو فيها. وفي الترمذي وغيره أنه قال: (إن الله نظيف يحب النظافة) وليس هذا فيها، وفي الصحيح عنه أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا) وليس هذا فيها. وتتبع هذا يطول.
ولفظ التسعة والتسعين المشهورة عند الناس في الترمذي: (الله. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي. المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الأحد ويروي الواحد الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المعطي. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور. الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
ومن أسمائه التي ليست في هذه التسعة والتسعين، اسمه: السبوح، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه كان يقول: (سبوح قدوس). واسمه (الشافي) كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول: (أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقمًا). وكذلك أسماؤه المضافة مثل: أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومقلب القلوب، وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة، وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين، وليس من هذه التسعة والتسعين.
الوجه الثالث: ما احتج به الخطابي وغيره، وهو حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: (ما أصاب عبدًا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وشفاء صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي وهمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا) قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: (بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن) رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه.
قال الخطابي وغيره: فهذا يدل على أن له أسماء استأثر بها، وذلك يدل على أن قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة)، أن في أسمائه تسعة وتسعين من أحصاها دخل الجنة، كما يقول القائل: إن لي ألف درهم أعددتها للصدقة، وإن كان ماله أكثر من ذلك.
والله في القرآن قال: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } 238، فأمر أن يدعى بأسمائه الحسني مطلقًا، ولم يقل: ليست أسماؤه الحسنى إلا تسعة وتسعين اسمًا، والحديث قد سلم معناه. والله أعلم.
سئل عن رجل قال إذا دعا العبد لا يقول يا الله يا رحمن
وَسُئِلَ رَحمه الله عن رجل قال: إذا دعا العبد لا يقول: يا الله، يا رحمن؟
فأجاب:
الحمد للَّه، لا خلاف بين المسلمين أن العبد إذا دعا ربه يقول: يا الله، يا رحمن، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي } 239، وكان النبي ﷺ يقول في دعائه: (يا الله يارحمن) فقال المشركون: محمد ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين، فقال الله تعالى: { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي } أي المدعو إله واحد، وإن تعددت أسماؤه، كما قال تعالى: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } 240.
ومن أنكر أن يقال: يا الله يا رحمن، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل. والله أعلم.
سئل عن امرأة تقول اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك
وَسُئِلَ عن امرأة سمعت في الحديث (اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ناصيتي بيدك) إلى آخره فداومت على هذا اللفظ، فقيل لها: قولي: اللهم إني أمتك، بنت أمتك، إلى آخره، فأبت إلا المداومة على اللفظ، فهل هي مصيبة أم لا؟
فأجاب:
بل ينبغي لها أن تقول: اللهم إني أمتك، بنت عبدك، ابن امتك، فهو أولى وأحسن. وإن كان قولها عبدك ابن عبدك له مخرج في العربية، كلفظ الزوج، والله أعلم.
سئل عن رجل دعا دعاء ملحونا فقيل له ما يقبل الله دعاء ملحونا
وَسُئِلَ عن رجل دعا دعاء ملحونًا، فقال له رجل: ما يقبل الله دعاء ملحونًا؟
فأجاب:
من قال هذا القول فهو آثم مخالف للكتاب والسنة، ولما كان عليه السلف، وأما من دعا الله مخلصًا له الدين بدعاء جائز سمعه الله، وأجاب دعاءه سواء كان معربًا أو ملحونًا، والكلام المذكور لا أصل له، بل ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب ألا يتكلف الإعراب، قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب، ذهب الخشوع، وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء، فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به، فإن أصل الدعاء من القلب، واللسان تابع للقلب.
ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه، أضعف توجه قلبه، ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه، لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه. والدعاء يجوز بالعربية، وبغير العربية، والله سبحانه يعلم قصد الداعي، ومراده، وإن لم يقوِّم لسانه، فإنه يعلم ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تنوع الحاجات.
فصل في المختار من السلام في الصلاة ذات الأركان
وَقَال رَحمَه الله:
فَصْل
وأما السلام من الصلاة، فالمختار عند مالك ومن تبعه من أهل المدينة تسليمة واحدة في جميع الصلاة، فرضها ونفلها، المشتملة على الأركان الفعلية، أو على ركن واحد.
وعند أهل الكوفة: تسليمتان، في جميع ذلك، ووافقهم الشافعي.
والمختار في المشهور عن أحمد: أن الصلاة الكاملة المشتملة على قيام وركوع وسجود يسلم منها تسليمتان، وأما الصلاة بركن واحد، كصلاة الجنائز، وسجود التلاوة، وسجود الشكر: فالمختار فيها تسليمة واحدة، كما جاءت أكثر الآثار بذلك.
فالخروج من الأركان الفعلية المتعددة بالتسليم المتعدد، ومن الركن الفعلي المفرد بالتسليم المفرد. فإن صلاة النبي ﷺ كانت معتدلة، فما طولها أعطي كل جزء منها حظه من الطول، وما خففها أدخل التخفيف على عامة أجزائها.
سئل إذا سلم عن يمينه يقول السلام علكيم ورحمة الله أسألك الفوز بالجنة
وَسُئِلَ عن رجل: إذا سلم عن يمينه يقول: السلام علكيم ورحمة الله، أسألك الفوز بالجنة، وعن شماله: السلام عليكم، أسألك النجاة من النار، فهل هذا مكروه أم لا؟ فإن كان مكروهًا، فما الدليل على كراهته؟
فأجاب:
الحمد للَّه، نعم! يكره هذا؛ لأن هذا بدعة، فإن هذا لم يفعله رسول الله ﷺ، ولا استحبه أحد من العلماء، وهو إحداث دعاء في الصلاة في غير محله، يفصل بأحدهما بين التسليمتين، ويصل التسليمة بالآخر، وليس لأحد فصل الصفة المشروعة بمثل هذا، كما لو قال: سمع الله لمن حمده، أسألك الفوز بالجنة، ربنا ولك الحمد، أسألك النجاة من النار، وأمثال ذلك. والله أعلم.
باب الذكر بعد الصلاة
سئل عن حديث عقبة بن عامر أمرني رسول الله بالمعوذات
وَسُئِلَ رَحمه الله عن حديث عقبة بن عامر، قال: (أمرني رسول الله ﷺ أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة) وعن أبي أمامة قال: قيل: يا رسول الله! أي الدعاء أسمع؟ قال: (جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبة). وعن معاذ بن جبل؛ أن رسول الله ﷺ أخذ بيده فقال: (يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فهل هذه الأحاديث تدل على أن الدعاء بعد الخروج من الصلاة سنة؟ أفتونا وابسطوا القول في ذلك مأجورين.
فأجاب:
الحمد للَّه رب العالمين، الأحاديث المعروفة في الصحاح والسنن والمساند تدل على أن النبي ﷺ كان يدعو في دبر صلاته قبل الخروج منها، وكان يأمر أصحابه بذلك ويعلمهم ذلك، ولم ينقل أحد أن النبي ﷺ كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعًا لا في الفجر، ولا في العصر، ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه، ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة.
ففي الصحيح أنه كان قبل أن ينصرف يستغفر ثلاثًا، ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام). وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أنه كان يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد). وفي الصحيح من حديث ابن الزبير أن النبي ﷺ كان يهلل بهؤلاء الكلمات: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون). وفي الصحيح عن ابن عباس: أن رفع الناس أصواتهم بالذكر كان على عهد النبي ﷺ. وفي لفظ: كنا نعرف انقضاء صلاته بالتكبير.
والأذكار التي كان النبي ﷺ يعلمها المسلمين عقيب الصلاة أنواع:
أحدها: أنه يسبح ثلاثًا وثلاثين، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويكبر ثلاثًا وثلاثين. فتلك تسع وتسعون ويقول تمام المائة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). رواه مسلم في صحيحه.
والثاني: يقولها خمسًا وعشرين، ويضم إليها (لا إله إلا الله) وقد رواه مسلم.
والثالث: يقول: الثلاثة ثلاثًا وثلاثين، وهذا على وجهين:
أحدهما: أن يقول كل واحدة ثلاثًا وثلاثين.
والثاني: أن يقول كل واحدة إحدي عشرة مرة، والثلاث والثلاثون في الحديث المتفق عليه في الصحيحين.
والخامس: يكبر أربعًا وثلاثين ليتم مائة.
والسادس: يقول: الثلاثة عشرًا عشرًا. فهذا هو الذي مضت به سنة رسول الله ﷺ، وذلك مناسب؛ لأن المصلي يناجي ربه. فدعاؤه له، ومسألته إياه، وهو يناجيه أولي به من مسألته ودعائه بعد انصرافه عنه.
وأما الذكر بعد الانصراف، فكما قالت عائشة رضي الله عنها: هو مثل مسح المرآة بعد صقالها، فإن الصلاة نور، فهي تصقل القلب كما تصقل المرآة، ثم الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة، وقد قال الله تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ } 241، قيل: إذا فرغت من أشغال الدنيا فانصب في العبادة، وإلى ربك فارغب. وهذا أشهر القولين. وخرج شريح القاضي على قوم من الحاكة يوم عيد وهم يلعبون فقال: ما لكم تلعبون؟ قالوا: إنا تفرغنا، قال: أو بهذا أمر الفارغ؟ وتلا قوله تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ } . ويناسب هذا قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا } إلي قوله: { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا } 242، أي ذهابًا ومجيئًا، وبالليل تكون فارغا. وناشئة الليل في أصح القولين: إنما تكون بعد النوم، يقال: نشأ إذا قام بعد النوم؛ فإذا قام بعد النوم، كانت مواطأة قلبه للسانه أشد لعدم ما يشغل القلب، وزوال أثر حركة النهار بالنوم، وكان قوله: { وَأَقْوَمُ } .
وقد قيل: { فَإِذَا فَرَغْتَ } من الصلاة، { فَانصَبْ } في الدعاء، { وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وهذا القول سواء كان صحيحًا أو لم يكن، فإنه يمنع الدعاء في آخر الصلاة، لاسيما والنبي ﷺ هو المأمور بهذا، فلابد أن يمتثل ما أمره الله به.
ودعاؤه في الصلاة المنقول عنه في الصحاح وغيرها، إنما كان قبل الخروج من الصلاة. وقد قال لأصحابه في الحديث الصحيح: (إذا تشهد أحدكم، فليستعذ باللَّه من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال).
وفي حديث ابن مسعود الصحيح لما ذكر التشهد قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه)، وقد روت عائشة وغيرها دعاءه في صلاته بالليل، وأنه كان قبل الخروج من الصلاة.
فقول من قال: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، يشبه قول من قال في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد: فإذا فعلت ذلك، فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد. وهذه الزيادة سواء كانت من كلام النبي ﷺ، أو من كلام من أدرجها في حديث ابن مسعود، كما يقول ذلك من ذكره من أئمة الحديث، ففيها أن قائل ذلك جعل ذلك قضاء للصلاة، فهكذا جعله هذا المفسر فراغًا من الصلاة، مع أن تفسير قوله: { فّإذّا فّرّغًتّ فّانصّبً } أي: فرغت من الصلاة قول ضعيف؛ فإن قوله: إذا فرغت مطلق، ولأن الفارغ إن أريد به الفارغ من العبادة، فالدعاء أيضًا عبادة، وإن أريد به الفراغ من أشغال الدنيا بالصلاة، فليس كذلك.
يوضح ذلك أنه لا نزاع بين المسلمين أن الصلاة يدعي فيها، كما كان النبي ﷺ يدعو فيها، فقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) وأنه كان يقول: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
وثبت عنه في الصحيح أنه كان يدعو إذا رفع رأسه من الركوع، وثبت عنه الدعاء في الركوع والسجود، سواء كان في النفل أو في الفرض، وتواتر عنه الدعاء آخر الصلاة. وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) فإذا كان الدعاء مشروعا في الصلاة لاسيما في آخرها، فكيف يقول: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، والذي فرغ منه هو نظير الذي أمر به، فهو في الصلاة كان ناصبا في الدعاء، لا فارغا. ثم إنه لم يقل مسلم: إن الدعاء بعد الخروج من الصلاة يكون أوكد وأقوي منه في الصلاة، ثم لو كان قوله: { فَانصَبْ } في الدعاء، لم يحتج إلى قوله: { وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ } ؛ فإنه قد علم أن الدعاء إنما يكون للَّه.
فعلم أنه أمره بشيئين: أن يجتهد في العبادة عند فراغه من أشغاله، وأن تكون رغبته إلى ربه لا إلى غيره كما في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }، موافق لقوله: { فَانصَبْ } . وقوله: { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، موافق لقوله: { وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ } ، ومثله قوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } 243، وقوله: { هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } 244، وقول شعيب عليه السلام: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } 245، ومنه الذي يروي عند دخول المسجد: (اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأفضل من سألك ورغب إليك)، والأثر الآخر: وإليك الرغباء والعمل، وذلك أن دعاء الله المذكور في القرآن نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة ورغبة، فقوله: { فَانصَبْ وإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ } ، يجمع نوعي دعاء الله، قال تعالى: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } 246، وقال تعالى: { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ } الآية 247، ونظائره كثيرة.
وأما لفظ دبر الصلاة، فقد يراد به آخر جزء منه، وقد يراد به ما يلي آخر جزء منه. كما في دبر الإنسان، فإنه آخر جزء منه، ومثله لفظ العقب قد يراد به الجزء المؤخر من الشيء، كعقب الإنسان، وقد يراد به ما يلي ذلك. فالدعاء المذكور في دبر الصلاة إما أن يراد به آخر جزء منها ليوافق بقية الأحاديث، أو يراد به ما يلي آخرها، ويكون ذلك ما بعد التشهد كما سمي ذلك قضاء للصلاة وفراغا منها حيث لم يبق إلا السلام المنافي للصلاة، بحيث لو فعله عمدًا في الصلاة بطلت صلاته، ولا تبطل سائر الأذكار المشروعة في الصلاة، أو يكون مطلقا أو مجملا. وبكل حال، فلا يجوز أن يخص به ما بعد السلام؛ لأن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل ذلك، ولا يجوز أن يشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة.
والناس لهم في هذه فيما بعد السلام ثلاثة أحوال:
منهم من لا يرى قعود الإمام مستقبل المأموم لا بذكر ولا دعاء ولا غير ذلك، وحجتهم ما يروي عن السلف أنهم كانوا يكرهون للإمام أن يستديم استقبال القبلة بعد السلام، فظنوا أن ذلك يوجب قيامه من مكانه، ولم يعلموا أن انصرافه مستقبل المأمومين بوجهه كما كان النبي ﷺ يفعل يحصل هذا المقصود، وهذا يفعله من يفعله من أصحاب مالك.
ومنهم من يرى دعاء الإمام والمأموم بعد السلام، ثم منهم من يرى ذلك في الصلوات الخمس، ومنهم من يراه في صلاة الفجر والعصر، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب الشافعي وأحمد، وغيرهم، وليس مع هؤلاء بذلك سنة، وإنما غايتهم التمسك بلفظ مجمل، أو بقياس، كقول بعضهم: ما بعد الفجر والعصر ليس بوقت صلاة، فيستحب فيه الدعاء. ومن المعلوم أن ما تقدمت به سنة رسول الله ﷺ الثابتة الصحيحة، بل المتواترة لا يحتاج فيه إلى مجمل، ولا إلى قياس.
وأما قول عقبة بن عامر: أمرني رسول الله ﷺ أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة، فهذا بعد الخروج منها.
وأما حديث أبي أمامة: قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: (جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبة)، فهذا يجب ألا يخص ما بعد السلام، بل لابد أن يتناول ما قبل السلام. وإن قيل: أنه يعم ما قبل السلام وما بعده، لكن ذلك لا يستلزم أن يكون دعاء الإمام والمأموم جميعًا بعد السلام سنة، كما لا يلزم مثل ذلك قبل السلام، بل إذا دعا كل واحد وحده بعد السلام، فهذا لا يخالف السنة. وكذلك قوله ﷺ لمعاذ بن جبل: (لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)، يتناول ما قبل السلام. ويتناول ما بعده أيضًا كما تقدم. فإن معاذًا كان يصلي إمامًا بقومه، كما كان النبي ﷺ يصلي إماما، وقد بعثه إلى اليمن معلما لهم، فلو كان هذا مشروعًا للإمام والمأموم مجتمعين على ذلك، كدعاء القنوت، لكان يقول: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، فلما ذكره بصيغة الإفراد، علم أنه لا يشرع للإمام والمأموم ذلك بصيغة الجمع.
ومما يوضح ذلك ما في الصحيح عن البراء بن عازب قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله ﷺ، أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: (رب قني عذابك يوم تبعث عبادك، أو يوم تجمع عبادك)، فهذا فيه دعاؤه ﷺ بصيغة الإفراد، كما في حديث معاذ، وكلاهما إمام.
وفيه: أنه كان يستقبل المأمومين، وأنه لا يدعو بصيغة الجمع، وقد ذكر حديث معاذ بعض من صنف في الأحكام: في الأدعية في الصلاة قبل السلام، موافقة لسائر الأحاديث، كما في مسلم، والسنن الثلاثة، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير، فليتعوذ باللَّه من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ).
وفي مسلم وغيره عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال).
وفي السنن أنه قال رسول الله ﷺ لرجل: ما تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد، ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما والله ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال ﷺ: (حولهما ندندن)، رواه أبو داود وأبو حاتم في صحيحه، وظاهر هذا أن دندنتهما أيضًا بعد التشهد في الصلاة، ليكون نظير ما قاله. وعن شداد بن أوس أن رسول الله ﷺ كان يقول في صلاته: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليما، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم) رواه النسائي.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ كان يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات. اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم) فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم، قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف).
قال المصنف في الأحكام: والظاهر أن هذا يدل على أنه كان بعد التشهد. يدل عليه حديث ابن عباس أن النبي ﷺ كان يقول بعد التشهد: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال). وقد تقدم حديث ابن عباس الذي في الصحيحين أنه كان يعلمهم هذا الدعاء، كما يعلمهم السورة من القرآن. وحديث أبي هريرة وأنه يقال بعد التشهد. وقد روي في لفظ الدبر ما رواه البخاري وغيره عن سعد بن أبي وقاص، أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله ﷺ كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر).
وفي النسائي عن أبي بكرة أن النبي ﷺ كان يقول في دبر الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر). وفي النسائي أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على امرأة من اليهود. فقالت: إن عذاب القبر من البول، فقلت: كذبت. فقالت: بلي، إنا لنقرض منه الجلود والثوب، فخرج رسول الله ﷺ إلى الصلاة وقد ارتفعت أصواتنا، فقال: (ما هذا) فأخبرته بما قالت، قال: (صدقت) فما صلى بعد يومئذ، إلا قال في دبر الصلاة: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، أجرني من حر النار، وعذاب القبر).
قال المصنف في الأحكام: والظاهر أن المراد بدبر الصلاة في الأحاديث الثلاثة قبل السلام توفيقًا بينه وبين ما تقدم من حديث ابن عباس، وأبي هريرة. قلت: وهذا الذي قاله صحيح، فإن هذا الحديث في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله ﷺ عن عذاب القبر، فقال: (نعم عذاب القبر حق). قالت عائشة: فما رأيت رسول الله ﷺ بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. والأحاديث في هذا الباب يوافق بعضها بعضا وتبين ما تقدم. والله أعلم.
سئل عن جماعة يسبحون الله ويحمدونه ويكبرونه عقب الصلاة هل ذلك سنة أم مكروه
وَسُئِلَ عن جماعة يسبحون الله، ويحمدونه، ويكبرونه عقب الصلاة، هل ذلك سنة أم مكروه؟ وربما في الجماعة من يثقل بالتطويل من غير ضرورة؟
فأجاب:
التسبيح والتكبير عقب الصلاة مستحب، ليس بواجب. ومن أراد أن يقوم قبل ذلك فله ذلك، ولا ينكر عليه. وليس لمن أراد فعل المستحب أن يتركه، ولكن ينبغي للمأموم ألا يقوم حتى ينصرف الإمام، أي ينتقل عن القبلة، ولا ينبغي للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة إلا مقدار ما يستغفر ثلاثًا، ويقول: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام). وإذا انتقل الإمام فمن أراد أن يقوم قام، ومن أحب أن يقعد يذكر الله فعل ذلك.
فصل في عد التسبيح بالأصابع
وَقَال شَيْخ الإسْلاَم أحْمَد بن تيمية رحمه اللّه:
وعد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبي ﷺ للنساء: (سبحن واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات). وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك، فحسن. وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يفعل ذلك، وقد رأى النبي ﷺ أم المؤمنين تسبح بالحصى، وأقرها على ذلك، وروي أن أبا هريرة كان يسبح به.
وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز، ونحوه، فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية، فهو حسن غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجة، أو إظهاره للناس مثل تعليقة في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، أو نحو ذلك فهذا إما رياء للناس، أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة. الأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة؛ فإن مراءاة الناس في العبادات المختصة كالصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن من أعظم الذنوب، قال الله تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } 248، وقال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إلى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَي يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلًا } 249.
فأما المرائي بالفرائض، فكل أحد يعلم قبح حاله، وأن الله يعاقبه لكونه لم يعبده مخلصًا له الدين، والله تعالى يقول: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } 250.
وقال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } 251 فهذا في القرآن كثير.
وأما المرائي بنوافل الصلاة والصوم والذكر وقراءة القرآن، فلا يظن الظان أنه يكتفي فيه بحبوط عمله فقط، بحيث يكون لا له ولا عليه، بل هو مستحق للذم والعقاب، على قصده شهرة عبادة غير الله؛ إذ هي عبادات مختصة، ولا تصح إلا من مسلم، ولا يجوز إيقاعها على غير وجه التقرب، بخلاف ما فيه نفع العبد، كالتعليم والإمامة، فهذا في الاستئجار عليه نزاع بين العلماء. والله أعلم.
سئل عن قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة في جماعة هل هي مستحبة أم لا
وَسُئِلَ عن قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة في جماعة، هل هي مستحبة أم لا؟ وما كان فعل النبي ﷺ في الصلاة؟ وقوله: (دبر كل صلاة)؟
فأجاب:
الحمد للَّه، قد روي في قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة حديث، لكنه ضعيف؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها، فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعي. ولم يكن النبي ﷺ وأصحابه وخلفاؤه يجهرون بعد الصلاة بقراءة آية الكرسي، ولا غيرها من القرآن، فجهر الإمام والمأموم بذلك، والمداومة عليها، بدعة مكروهة بلا ريب، فإن ذلك إحداث شعار، بمنزلة أن يحدث آخر جهر الإمام والمأمومين بقراءة الفاتحة دائمًا، أو خواتيم البقرة، أو أول الحديد، أو آخر الحشر، أو بمنزلة اجتماع الإمام والمأموم دائمًا على صلاة ركعتين عقيب الفريضة، ونحو ذلك مما لا ريب أنه من البدع.
وأما إذا قرأ الإمام آية الكرسي في نفسه، أو قرأها أحد المأمومين، فهذا لا بأس به؛ إذ قراءتها عمل صالح، وليس في ذلك تغيير لشعائر الإسلام، كما لو كان له ورد من القرآن والدعاء والذكر عقيب الصلاة.
وأما الذي ثبت في فضائل الأعمال في الصحيح عن النبي ﷺ من الذكر عقيب الصلاة، ففي الصحيح عن المغيرة بن شعبة أنه كان يقول، دبر كل صلاة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَد).
وفي الصحيح أيضًا عن ابن الزبير؛ أنه كان يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون). وثبت في الصحيح أنه قال: (من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبر ثلاثًا وثلاثين وذلك تسعة وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر).
وقد روي في الصحيحين أنه يقول: كل واحد خمسة وعشرين، ويزيد فيها التهليل، وروي أنه يقول كل واحد عشر، ويروي أحد عشر مرة، وروي أنه يكبر أربعًا وثلاثين. وعن ابن عباس، أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله ﷺ، قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. وفي لفظ: ما كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله ﷺ إلا بالتكبير. فهذه هي الأذكار التي جاءت بها السنة في أدبار الصلاة.
سئل عمن يقول أنا أعتقد أن من أحدث شيئا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله
وَسُئِلَ رَحمه الله عمن يقول: أنا أعتقد أن من أحدث شيئًا من الأذكار غير ما شرعه رسول الله ﷺ وصح عنه، أنه قد أساء وأخطأ، إذ لو ارتضى أن يكون رسول الله ﷺ نبيه وإمامه ودليله لاكتفى بما صح عنه من الأذكار، فعدوله إلى رأيه واختراعه جهل، وتزيين من الشيطان، وخلاف للسنة؛ إذ الرسول ﷺ لم يترك خيرًا، إلا دلنا عليه وشرعه لنا، ولم يدخر الله عنه خيرًا؛ بدليل إعطائه خير الدنيا والآخرة؛ إذ هو أكرم الخلق على الله فهل الأمر كذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد للَّه، لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات. والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوي والابتداع. فالأدعية والأذكار النبوية، هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة. والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان. وما سواها من الأذكار قد يكون محرمًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثر الناس، وهي جملة يطول تفصيلها.
وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون ويجعلها عبادة راتبة يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس، بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به، بخلاف ما يدعو به المرء أحيانًا من غير أن يجعله للناس سنة، فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معني محرمًا، لم يجز الجزم بتحريمه، لكن قد يكون فيه ذلك، والإنسان لا يشعر به. وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت، فهذا وأمثاله قريب.
وأما اتخاذ وِرْد غير شرعي، واستنان ذكر غير شرعي، فهذا مما ينهى عنه. ومع هذا، ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العلية، ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد.
سئل عن الدعاء عقيب الصلاة هل هو سنة أم لا
وسئل رَحمه الله عن الدعاء عقيب الصلاة هل هو سنة أم لا؟ ومن أنكر على إمام لم يدع عقيب صلاة العصر هل هو مصيب أم مخطئ؟
فأجاب:
الحمد للَّه، لم يكن النبي ﷺ يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس، كما يفعله بعض الناس عقيب الفجر والعصر. ولا نقل ذلك عن أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة. ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، وكذلك أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا ذلك.
ولكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر. قالوا: لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما، فتعوض بالدعاء عن الصلاة.
واستحب طائفة أخري من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه، ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء. فإن هذا ليس مأمورا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب، في هذا الموطن. والمنكر على التارك أحق بالإنكار منه، بل الفاعل أحق بالإنكار. فإن المداومة على ما لم يكن النبي ﷺ يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعا، بل مكروه، كما لو داوم على الدعاء قبل الدخول في الصلوات، أو داوم على القنوت في الركعة الأولي، أو في الصلوات الخمس، أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة، ونحو ذلك، فإنه مكروه. وإن كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي ﷺ أحيانًا، وقد كان عمر يجهر بالاستفتاح أحيانًا، وجهر رجل خلف النبي ﷺ بنحو ذلك، فأقره عليه، فليس كل ما يشرع فعله أحيانًا تشرع المداومة عليه.
ولو دعا الإمام والمأموم أحيانا عقيب الصلاة لأمر عارض، لم يعد هذا مخالفًا للسنة، كالذي يداوم على ذلك. والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي ﷺ كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام، ويأمر بذلك. كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من الأحاديث، وما يظن أن فيه حجة للمنازع في غير هذا الموضع؛ وذلك لأن المصلي يناجي ربه، فإذا سلم انصرف عن مناجاته. ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب، دون سؤاله بعد انصرافه. كما أن من كان يخاطب ملكا أو غيره فإن سؤاله وهو مقبل على مخاطبته، أولي من سؤاله له بعد انصرافه.
سئل عن هذا الذى يفعله الناس بعد كل صلاة من الدعاء هل هو مكروه
وَسُئِلَ: عن هذا الذى يفعله الناس بعد كل صلاة من الدعاء: هل هو مكروه؟ وهل ورد عن أحد من السلف فعل ذلك؟ ويتركون أيضا الذكر الذى صح أن النبى ﷺ كان يقوله، ويشتغلون بالدعاء؟ فهل الأفضل الاشتغال بالذكر الوارد عن النبى ﷺ أو هذا الدعاء؟ وهل صح أن النبى ﷺ كان يرفع يديه ويمسح وجهه أم لا؟
فأجاب:
الحمد للَّه رب العالمين، الذى نقل عن النبى ﷺ من ذلك بعد الصلاة المكتوبة، إنما هو الذكر المعروف؛ كالأذكار التى فى الصحاح، وكتب السنن والمساند، وغيرها، مثل ما فى الصحيح: أنه كان قبل أن ينصرف من الصلاة يستغفر ثلاثا، ثم يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام) وفى الصحيح أنه كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
وفى الصحيح أنه كان يهلل هؤلاء الكلمات فى دبر المكتوبة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. لا حول ولا قوة إلا باللَّه لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون).
وفى الصحيح أن رفع الصوت بالتكبير عقيب انصراف الناس من المكتوبة، كان على عهد رسول الله ﷺ، وأنهم كانوا يعرفون انقضاء صلاة رسول الله ﷺ بذلك. وفى الصحيح أنه قال: (من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) وفى الصحيح أيضا أنه يقول: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثا وثلاثين)، وفى السنن أنواع أخر.
والمأثور ستة أنواع:
أحدها: أنه يقول: هذه الكلمات عشرا عشرا: فالمجموع ثلاثون.
والثانى: أن يقول كل واحدة إحدى عشر، فالمجموع ثلاث وثلاثون .
والثالث: أن يقول كل واحدة ثلاثا وثلاثين، فالمجموع تسع وتسعون .
والرابع: أن يختم ذلك بالتوحيد التام، فالمجموع مائة .
والسادس: أن يقول كل واحد من الكلمات الأربع خمسا وعشرين، فالمجموعة مائة.
وأما قراءة آية الكرسى، فقد رويت بإسناد لا يمكن أن يثبت به سنة .
وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة، فلم ينقل هذا أحد عن النبى ﷺ، ولكن نقل عنه أنه أمر معاذا أن يقول دبر كل صلاة: (اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ونحو ذلك. ولفظ دبر الصلاة قد يراد به آخر جزء من الصلاة. كما يراد بدبر الشئ مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها، كما فى قوله تعالى: { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } 252، وقد يراد به مجموع الأمرين، وبعض الأحاديث يفسر بعضا لمن تتبع ذلك وتدبره. وبالجملة، فهنا شيئان:
أحدهما: دعاء المصلى المنفرد، كدعاء المصلى صلاة الاستخارة، وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلى وحده، إماما كان أو مأموما.
والثانى: دعاء الإمام والمأمومين جميعا، فهذا الثانى لا ريب أن النبى ﷺ لم يفعله فى أعقاب المكتوبات، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل ذلك لنقله عنه أصحابه، ثم التابعون، ثم العلماء، كما نقلوا ما هو دون ذلك؛ ولهذا كان العلماء المتأخرون فى هذا الدعاء على أقوال:
منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبى حنيفة، ومالك وأحمد، وغيرهم، ولم يكن معهم فى ذلك سنة يحتجون بها، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما.
ومنهم من استحبه أدبار الصلوات كلها، وقال: لا يجهر به، إلا إذا قصد التعليم. كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعى، وغيرهم، وليس معهم فى ذلك سنة، إلا مجرد كون الدعاء مشروعا، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة. وهذا الذى ذكروه قد اعتبره الشارع فى صلب الصلاة، فالدعاء فى آخرها قبل الخروج، مشروع مسنون بالسنة المتواترة، وباتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء فى آخرها واجب، وأوجبوا الدعاء الذى أمر به النبى ﷺ آخر الصلاة بقوله: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ باللَّه من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) رواه مسلم. وغيره، وكان طاووس يأمر من لم يدع به أن يعيد الصلاة، وهو قول بعض أصحاب أحمد، وكذلك فى حديث ابن مسعود: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه). وفى حديث عائشة وغيرها، أنه كان يدعو فى هذا الموطن، والأحاديث بذلك كثيرة.
والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة. فإن المصلى يناجى ربه، فما دام فى الصلاة لم ينصرف، فإنه يناجى ربه، فالدعاء حينئذ مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله، لم يكن موطن مناجاة له، ودعاء. وإنما هو موطن ذكر له، وثناء عليه، فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه فى الصلاة. أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى.
وكما أن من العلماء من استحب عقب الصلاة من الدعاء ما لم ترد به السنة، فمنهم طائفة تقابل هذه لا يستحبون القعود المشروع بعد الصلاة، ولا يستعملون الذكر المأثور، بل قد يكرهون ذلك، وينهون عنه، فهؤلاء مفرطون بالنهى عن المشروع، وأولئك مجاوزون الأمر بغير المشروع، والدين إنما هو الأمر بالمشروع دون غير المشروع.
وأما رفع النبى ﷺ يديه فى الدعاء، فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث، أو حديثان، لا يقوم بهما حجة. والله أعلم.
سئل هل دعاء الإمام والمأموم عقيب صلاة الفرض جائز أم لا
وَسُئِلَ:هل دعاء الإمام والمأموم عقيب صلاة الفرض جائز، أم لا؟
فأجاب:
الحمد للَّه، أما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقيب الصلاة، فهو بدعة لم يكن على عهد النبى ﷺ، بل إنما كان دعاؤه فى صلب الصلاة. فإن المصلى يناجى ربه، فإذا دعا حال مناجاته له كان مناسبا.
وأما الدعاء بعد انصرافه من مناجاته وخطابه، فغير مناسب، وإنما المسنون عقب الصلاة هو الذكر المأثور عن النبى ﷺ من التهليل، والتحميد، والتكبير كما كان النبى ﷺ يقول عقب الصلاة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
وقد ثبت فى الصحيح أنه قال: (من سبح دبر الصلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين، فذلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، حطت خطاياه) أو كما قال. فهذا ونحوه هو المسنون عقب الصلاة. والله أعلم.
سئل عن رجل ينكر على أهل الذكر يقول لهم هذا الذكر بدعة وجهركم فى الذكر بدعة
وَسُئِلَ عن رجل ينكر على أهل الذكر يقول لهم: هذا الذكر بدعة وجهركم فى الذكر بدعة، وهم يفتتحون بالقرآن ويختتمون، ثم يدعون للمسلمين الأحياء والأموات، ويجمعون التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة، ويصلون على النبى ﷺ، والمنكر يعمل السماع مرات بالتصفيق، ويبطل الذكر فى وقت عمل السماع؟
فأجاب:
الاجتماع لذكر الله، واستماع كتابه، والدعاء عمل صالح وهو من أفضل القربات والعبادات فى الأوقات. ففى الصحيح عن النبى ﷺ أنه قال: (إن للَّه ملائكة سياحين فى الأرض، فإذا مروا بقوم يذكرون الله، تنادوا هلموا إلى حاجتكم) وذكر الحديث، وفيه (وجدناهم يسبحونك ويحمدونك). لكن ينبغى أن يكون هذا أحيانا فى بعض الأوقات، والأمكنة، فلا يجعل سنة راتبة يحافظ عليها إلا ما سن رسول الله ﷺ المداومة عليه فى الجماعات: من الصلوات الخمس فى الجماعات، ومن الجمعات، والأعياد، ونحو ذلك.
وأما محافظة الإنسان على أوراد له من الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء، طرفى النهار وزلفا من الليل، وغير ذلك، فهذا سنة رسول الله ﷺ والصالحين من عباد الله قديما وحديثا، فما سن عمله على وجه الاجتماع كالمكتوبات، فعل كذلك. وما سن المداومة عليه على وجه الانفراد من الأوراد، عمل كذلك، كما كان الصحابة رضى الله عنهم يجتمعون أحيانا، يأمرون أحدهم يقرأ، والباقون يستمعون. وكان عمر بن الخطاب يقول: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، وكان من الصحابة من يقول: اجلسوا بنا نؤمن ساعة، وصلى النبى ﷺ بأصحابه التطوع فى جماعة مرات، وخرج على الصحابة من أهل الصفة، وفيهم قارئ يقرأ، فجلس معهم يستمع.
وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب، ودمع العين، واقشعرار الجسوم، فهذا أفضل الأحوال التى نطق بها الكتاب والسنة.
وأما الاضطراب الشديد، والغشى والموت والصيحات، فهذا إن كان صاحبه مغلوبا عليه، لم يُلَم عليه، كما قد كان يكون فى التابعين ومن بعدهم. فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب. والقوة، والتمكن أفضل، كما هو حال النبى ﷺ والصحابة، وأما السكون، قسوة وجفاء، فهذا مذموم لا خير فيه.
وأما ما ذكر من السماع، فالمشروع الذى تصلح به القلوب، ويكون وسيلتها إلى ربها بصلة ما بينه وبينها، هو سماع كتاب الله الذى هو سماع خيار هذه الأمة، لاسيما وقد قال ﷺ: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وقال: (زَيِّنوا القرآن بأصواتكم) وهو السماع الممدوح فى الكتاب والسنة. لكن لما نسى بعض الأمة حظا من هذا السماع الذى ذكروا به، ألقى بينهم العداوة والبغضاء، فأحدث قوم سماع القصائد والتصفيق والغناء مضاهاة لما ذمه الله من المكاء والتصدية، والمشابهة لما ابتدعه النصارى. وقابلهم قوم قست قلوبهم عن ذكر الله، وما نزل من الحق، وقست قلوبهم فهى كالحجارة أو أشد قسوة مضاهاة لما عابه الله على اليهود. والدين الوسط هو ما عليه خيار هذه الأمة قديما وحديثا. والله أعلم.
سئل عن عوام فقراء يجتمعون فى مسجد يذكرون ويقرؤون شيئا من القرآن
وَسُئِلَ رَحمه الله عن عوام فقراء، يجتمعون فى مسجد يذكرون، ويقرؤون شيئا من القرآن، ثم يدعون ويكشفون رؤوسهم ويبكون ويتضرعون، وليس قصدهم من ذلك رياء ولا سمعة، بل يفعلونه على وجه التقرب إلى الله تعالى، فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد للَّه، الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالاجتماعات المشروعة ولا اقترن به بدعة منكرة. وأما كشف الرأس مع ذلك، فمكروه، لاسيما إذا اتخذ على أنه عبادة، فإنه حينئذ يكون منكرا، ولا يجوز التعبد بذلك. والله أعلم.
سئل عن رجل إذا صلى ذكر فى جوفه بسم لله بابنا تبارك حيطاننا يس سقفنا
وَسُئِلَ عن رجل إذا صلى ذكر فى جوفه: بسم لله بابنا، تبارك حيطاننا، يس سقفنا. فقال رجل: هذا كفر، أعوذ باللَّه من هذا القول. فهل يجب على ما قال هذا المنكر رد؟ وإذا لم يجب عليه، فما حكم هذا القول؟
فأجاب:
الحمد للَّه رب العالمين، ليس هذا كفر، فإن هذا الدعاء وأمثاله يقصد به التحصن والتحرز بهذه الكلمات، فيتقى بها من الشر كما يتقى ساكن البيت بالبيت من الشر والحر والبرد والعدو.
وهذا كما جاء فى الحديث المعروف عن النبى ﷺ فى الكلمات الخمس التى قام يحيى ابن زكريا فى بنى إسرائىل قال: أوصيكم بذكر الله، فإن مثل ذلك مثل رجل طلبه العدو فدخل حصنا، فامتنع به من العدو، فكذلك ذكر الله، هو حصن ابن آدم من الشيطان، أو كما قال. فشبه ذكر الله فى امتناع الإنسان به من الشيطان بالحصن الذى يمتنع به من العدو.
والحصن له باب وسقف وحيطان. ونحو هذا، أن الأعمال الصالحة من ذكر الله وغيره تسمى جنة ولباسا. كما قال تعالى: { وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } 253، فى أشهر القولين. وكما قال فى الحديث: (خذوا جنتكم)، قالوا: يا رسول الله، من عدو حضر؟ قال: (لا، ولكن جنتكم من النار: سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ومنه قول الخطيب: فتدرعوا جُنن التقوى، قبل جُنَنْ السَّابِرى. وفوقوا سهام الدعاء قبل سهام القِسِىّ. ومثل هذا كثير يسمى سورا وحيطانا ودرعا وجنة، ونحو ذلك.
ولكن هذا الدعاء المسؤول عنه ليس بمأثور، والمشروع للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة؛ فإن الدعاء من أفضل العبادات، وقد نهانا الله عن الاعتداء فيه، فينبغى لنا أن نتبع فيه ما شرع، وسن، كما أنه ينبغى لنا ذلك فى غيره من العبادات، والذى يعدل عن الدعاء المشروع إلى غيره وإن كان من أحزاب بعض المشائخ الأحسن له ألا يفوته الأكمل الأفضل، وهى الأدعية النبوية، فإنها أفضل وأكمل باتفاق المسلمين من الأدعية التى ليست كذلك، وإن قالها بعض الشيوخ، فكيف يكون فى عين الأدعية ما هو خطأ أو إثم أو غير ذلك.
ومن أشد الناس عيبا من يتخذ حزبا ليس بمأثور عن النبى ﷺ وإن كان حزبا لبعض المشايخ ويدع الأحزاب النبوية التى كان يقولها سيد بنى آدم، وإمام الخلق، وحجة الله على عباده. والله أعلم.
باب ما يكره فى الصلاة
فصل فى بيان ما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها
وَقَال شيخ الإسلام قدسَ الله روحه:
فَصْل
فى بيان ما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها:
قال الله تعالى فى غير موضع من كتابه: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } . وقال تعالى: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ } 254، وقال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } 255، وقال تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } 256، وقال تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } 257، وقال تعالى: { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } 258، وقال تعالى: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } 259. وسيأتى بيان الدلالة فى هذه الآيات.
وقد أخرج البخارى ومسلم فى الصحيحين وأخرج أصحاب السنن أبو داود والترمذى، والنسائى، وابن ماجه وأصحاب المسانيد: كمسند أحمد وغير ذلك من أصول الإسلام عن أبى هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله ﷺ دخل المسجد، فدخل رجل، ثم جاء فسلم على النبى ﷺ. فرد رسول الله ﷺ عليه السلام. وقال: (ارجع فصل، فإنك لم تصل). فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم سلم عليه. فقال رسول الله ﷺ: (وعليك السلام)، ثم قال: (ارجع فصل، فإنك لم تصل)، حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فقال الرجل: والذى بعثك بالحق ما أحسن غير هذا، فعلمنى. قال: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك فى صلاتك كلها). وفى رواية للبخارى: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوى وتطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوى قائما، ثم افعل ذلك فى صلاتك كلها).
وفى رواية له: (ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تستوى قائما) وباقيه مثله. وفى رواية: (وإذا فعلت هذا، فقد تمت صلاتك. وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك).
وعن رفاعة بن رافع رضى الله عنه: أن رجلا دخل المسجد... فذكر الحديث وقال فيه: فقال النبى ﷺ: (إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر ويحمد الله عز وجل ويثنى عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى يطمئن راكعا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يرفع رأسه حتى يستوى قائما، ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يرفع رأسه حتى يستوى قاعدا ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيَكبر. فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته) وفى رواية: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء، كما أمر الله عز وجل فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين. ثم يكبر الله ويحمده، ثم يقرأ من القرآن ما أذن له وتيسر وذكر نحو اللفظ الأول، وقال: ثم يكبر، فيسجد، فيمكن وجهه وربما قال: جبهته من الأرض، حتى تطمئن مفاصله وتسترخى، ثم يكبر فيستوى قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ، ثم قال: لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك) رواه أهل السنن: أبو داود والنسائى وابن ماجه والترمذى. وقال: حديث حسن. والروايتان لفظ أبى داود.
وفى رواية ثالثة له: قال: (إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ. فإذا ركعت، فضع راحتك على ركبتيك وامدد ظهرك). وقال: (إذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى)، وفى رواية أخرى قال: (إذا أنت قمت فى صلاتك فكبر الله عز وجل ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن) وقال فيه: (فإذا جلست فى وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد، ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك) وفى رواية أخرى قال: (فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد فأتم، ثم كبر. فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله عز وجل وكبره وهلله). وقال فيه: (وإن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك).
فالنبى ﷺ أمر ذلك المسىء فى صلاته بأن يعيد الصلاة. وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب، وأمره إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع والسجود. وأمره المطلق على الإيجاب.
وأيضا، قال له: (فإنك لم تصل) فنفى أن يكون عمله الأول صلاة، والعمل لا يكون منفيا إلا إذا انتفى شىء من واجباته. فأما إذا فعل كما أوجبه الله عز وجل فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شىء من المستحبات التى ليست بواجبة.
وأما ما يقوله بعض الناس: إن هذا نفى للكمال، كقوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد)، فيقال له: نعم هو لنفى الكمال، لكن لنفى كمال الواجبات أو لنفى كمال المستحبات؟ فأما الأول فحق. وأما الثانى، فباطل، لا يوجد مثل ذلك فى كلام الله عز وجل ولا فى كلام رسوله قط، وليس بحق. فإن الشىء إذا كملت واجباته، فكيف يصح نفيه؟!
وأيضا، فلو جاز لجاز نفى صلاة عامة الأولين والآخرين؛ لأن كمال المستحبات من أندر الأمور.
وعلى هذا، فما جاء من نفى الأعمال فى الكتاب والسنة، فإنما هو لانتفاء بعض واجباته. كقوله تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } 260، وقوله تعالى: { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } 261، وقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } الآية 262، وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } الآية 263، ونظائر ذلك كثيرة.
ومن ذلك: قوله ﷺ: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، و(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، و(لا صلاة إلا بوُضوء).
وأما قوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد): فهذا اللفظ قد قيل: إنه لا يحفظ عن النبى ﷺ. وذكر عبد الحق الإشْبِيلى: أنه رواه بإسناد كلهم ثقات، وبكل حال فهو مأثور عن على رضى الله عنه ولكن نظيره فى السنن عن النبى ﷺ أنه قال: (من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له).
ولا ريب أن هذا يقتضى أن إجابة المؤذن المنادى، والصلاة فى جماعة: من الواجبات، كما ثبت فى الصحيح: أن ابن أم مكتوم قال: يا رسول الله، إنى رجل شاسع الدار، ولى قائد لا يلائمنى. فهل تجد لى رُخْصَة أن أصلى فى بيتى؟ قال: (هل تسمع النداء؟) قال: نعم، قال: (ما أجد لك رخصة)، لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه، ويثاب على ما فعله من الصلاة، أم يقال: إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها؟ هذا فيه نزاع بين العلماء. وعلى هذا قوله ﷺ: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك).
فقد بين أن الكمال الذى نفى هو هذا التمام الذى ذكره النبى ﷺ؛ فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها. وكذلك قوله فى الحديث الآخر: (فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته).
ويؤيد هذا: أنه أمره بأن يعيد الصلاة. ولو كان المتروك مستحبا لم يأمره بالإعادة؛ ولهذا يؤمر مثل هذا المسىء بالإعادة، كما أمر النبى ﷺ هذا، لكن لو لم يعد وفعلها ناقصة، فهل يقال: إن وجودها كعدمها، بحيث يعاقب على تركها؟ أو يقال: إنه يثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع؟ هذا فيه نزاع. والثانى أظهر؛ لما روى أبو داود وابن ماجه عن أنس بن حكيم الضَّبِّىّ قال: خاف رجل من زياد أو ابن زياد فأتى المدينة، فلقى أبا هريرة رضى الله عنه قال: فنسبنى، فانتسبت له، فقال: يا فتى، ألا أحدثك حديثا؟ قال: قلت: بلى يرحمك الله قال يونس: فأحسبه ذكره عن النبى ﷺ قال: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة). قال: (يقول ربنا عز وجل لملائكته، وهو أعلم: انظروا فى صلاة عبدى، أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا قال: انظروا، هل لعبدى من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموها من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم). وفى لفظ عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله: صلاته، فإن صَلُحَتْ فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر. فإن انتقص من فريضته شيئا قال الرب: انظروا، هل لعبدى من تطوع؟ فكمل به ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر أعماله على هذا) رواه الترمذى وقال: (حديث حسن).
وروى أيضا أبو داود وابن ماجه عن تميم الدَّارِىّ رضى الله عنه عن النبى ﷺ بهذا المعنى قال: (ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك).
وأيضا، فعن أبى مسعود البدرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره فى الركوع والسجود) رواه أهل السنن الأربعة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح>. فهذا صريح فى أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينتصب من السجود. فهذا يدل على إيجاب الاعتدال فى الركوع والسجود.
وهذه المسألة وإن لم تكن هى مسألة الطمأنينة فهى تناسبها وتلازمها؛ وذلك أن هذا الحديث نص صريح فى وجوب الاعتدال. فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع والسجود، فالطمأنينة فيهما أوجب.
وذلك أن قوله: (يقيم ظهره فى الركوع والسجود) أى: عند رفعه رأسه منهما. فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع والسجود؛ لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحنى إلى أن يعود فيعتدل، ويكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل. فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود وتمامهما؛ فلهذا قال: (يقيم صلبه فى الركوع والسجود).
ويبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود، وهذا كقوله فى الحديث المتقدم: (ثم يكبر فيسجد، فيمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله وتسترخى، ثم يكبر فيستوى قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه). فأخبر أن إقامة الصلب فى الرفع من السجود لا فى حال الخفض.
والحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ووجوب الطمأنينة؛ لكن قال فى الركوع والسجود والقعود: (حتى تطمئن راكعا، وحتى تطمئن ساجدا، وحتى تطمئن جالسا). وقال فى الرفع من الركوع: (حتى تعتدل قائما، وحتى تستوى قائما)؛ لأن القائم يعتدل ويستوى، وذلك مستلزم للطمأنينة.
وأما الراكع والساجد فليسا منتصبين. وذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال والاستواء؛ فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك وإما إلى أمامه؛ لأن أعضاءه التى يجلس عليها منحنية غير مستوية ومعتدلة، مع أنه قد روى ابن ماجه: أنه ﷺ قال فى الرفع من الركوع: (حتى تطمئن قائما).
وعن على بن شَيْبَان الحنفى قال: خرجنا حتى قدمنا على رسول الله ﷺ، فبايعناه وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته يعنى: صلبه فى الركوع والسجود فلما قضى النبى ﷺ الصلاة قال: (يا معشر المسلمين، لا صلاة لمن لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود) رواه الإمام أحمد وابن ماجه. وفى رواية للإمام أحمد: أن رسول الله ﷺ قال: (لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده).
وهذا يبين أن إقامة الصلب هى الاعتدال فى الركوع، كما بيناه، وإن كان طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة، واحتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده، لا على الاعتدالين، وعلى ما ذكرناه فإنه يدل عليهما.
وروى الإمام أحمد فى المسند عن أبى قتادة رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (أسوأ الناس سرقة الذى يسرق من صلاته). قالوا: يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته؟ قال: (لا يتم ركوعها ولا سجودها) أو قال: (لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود)، وهذا التردد فى اللفظ ظاهره: أن المعنى المقصود من اللفظين واحد، وإنما شك فى اللفظ. كما فى نظائر ذلك.
وأيضا، فعن عبد الرحمن بن شِبْل رضى الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن نَقْر الغراب وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان فى المسجد، كما يوطن البعير. أخرجه أبو داود والنسائى وابن ماجه.
وإنما جمع بين الأفعال الثلاثة وإن كانت مختلفة الأجناس لأنه يجمعها مشابهة البهائم فى الصلاة، فنهى عن مشابهة فعل الغراب، وعما يشبه فعل السبع، وعما يشبه فعل البعير، وإن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين، لما فيه من أحاديث أخر. وفى الصحيحين عن قتادة عن أنس رضى الله عنه عن النبى ﷺ قال: (اعتدلوا فى الركوع والسجود، ولايبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)، لا سيما وقد بين فى حديث آخر: (أنه من صلاة المنافقين)، والله تعالى أخبر فى كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين.
فروى مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك عن النبى ﷺ أنه قال: (تلك صلاة المنافق، يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قَرْنَى شيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)، فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة، ويضيع فعلها وينقرها، فدل ذلك على ذم هذا وهذا، وإن كان كلاهما تاركا للواجب.
وذلك حجة واضحة فى أن نقر الصلاة غير جائز، وأنه من فِعْل من فيه نفاق. والنفاق كله حرام. وهذا الحديث حجة مستقلة بنفسها، وهو مفسر لحديث قبله. وقال الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا } 264، وهذا وعيد شديد لمن ينقر فى صلاته، فلا يتم ركوعه وسجوده بالاعتدال والطمأنينة.
والمثل الذى ضربه النبى ﷺ من أحسن الأمثال، فإن الصلاة قُوتُ القلوب، كما أن الغذاء قوت الجسد، فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل، فالقلب لا يقتات بالنقر فى الصلاة، بل لابد من صلاة تامة تقيت القلوب.
وأما ما يرويه طوائف من العامة: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى رجلا ينقر فى صلاته فنهاه عن ذلك. فقال: لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار، فسكت عنه عمر، فهذا لا أصل له، ولم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغنى، لا فى الصحيح ولا فى الضعيف. والكذب ظاهر عليه؛ فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك، وهم فى الدرك الأسفل من النار.
وأيضا، فعن أبى عبد الله الأشعرى الشامى قال: صلى رسول الله ﷺ بأصحابه، ثم جلس فى طائفة منهم، فدخل رجل فقام يصلى، فجعل يركع وينقر فى سجوده، ورسول الله ﷺ ينظر إليه. فقال: (ترون هذا؟ لو مات مات على غير ملة محمد، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرِّمَّة. إنما مثل الذى يصلى ولا يتم ركوعه وينقر فى سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين، لا تغنيان عنه شيئا، فأسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار، وأتموا الركوع والسجود). قال أبو صالح: فقلت لأبى عبد الله الأشعرى: من حدثك بهذا الحديث؟ قال: أمراء الأجناد: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشُرَحْبِيل بن حسنة ويزيد بن أبى سفيان. كل هؤلاء يقولون: سمعت رسول الله ﷺ. رواه أبو بكر بن خزيمة فى صحيحه بكماله، وروى ابن ماجه بعضه.
وأيضا، ففى صحيح البخارى عن أبى وائل، عن زيد بن وهب، أن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده. فلما قضى صلاته دعاه، وقال له حذيفة: ما صليت، ولو مِتَّ مِتَّ على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمدا ﷺ. ولفظ أبى وائل: ما صليت. وأحسبه قال: لو مت مت على غير سنة محمد ﷺ.
وهذا الذى لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة، أو ترك الاعتدال، أو ترك كليهما، فإنه لابد أن يكون قد ترك بعض ذلك، إذ نقر الغراب والفصل بين السجدتين بحد السيف، والهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإتيان بما قد يقال: إنه ركوع أو سجود. وهذا الرجل كان يأتى بما قد يقال له: ركوع وسجود، لكنه لم يتمه. ومع هذا قال له حذيفة: (ما صليت) فنفى عنه الصلاة، ثم قال: (لو مت مت على غير الفطرة التى فطر الله عليها محمدا ﷺ) و(على غير السنة) وكلاهما المراد به هنا: الدين والشريعة، ليس المراد به فعل المستحبات؛ فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد. فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبى ﷺ من المستحبات. ولأن لفظ الفطرة والسنة فى كلامهم هو الدين والشريعة. وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ السنة يراد به ما ليس بفرض، إذ قد يراد بها ذلك، كما فى قوله ﷺ: (إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه). فهى تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات. كما فى الصحيح عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: إن الله شرع لنبيكم ﷺ سنن الهدى، وإن هذه الصلوات فى جماعة من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم فى بيوتكم، كما يصلى هذا المتخلف فى بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. ومنه قوله ﷺ: (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ).
ولأن الله سبحانه وتعالى أمر فى كتابه بإقامة الصلاة، وذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها، فقال تعالى فى غير موضع: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } وإقامتها: تتضمن إتمامها بحسب الإمكان، كما سيأتى فى حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: (أقيموا الركوع والسجود، فإنى أراكم من بعد ظهرى)، وفى رواية: (أتموا الركوع والسجود) وسيأتى تقرير دلالة ذلك.
والدليل على ذلك من القرآن: أنه سبحانه وتعالى قال: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } 265، فأباح الله القصر من عددها، والقصر من صفتها؛ ولهذا علقه بشرطين السفر والخوف. فالسفر: يبيح قصر العدد فقط، كما قال النبى ﷺ: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة)؛ ولهذا كانت سنة رسول الله ﷺ المتواترة عنه، التى اتفقت الأمة على نقلها عنه: أنه كان يصلى الرباعية فى السفر ركعتين. ولم يصلها فى السفر أربعا قط، ولا أبو بكر ولا عمر رضى الله عنهما لا فى الحج ولا فى العمرة، ولا فى الجهاد. والخوف يبيح قصر صفتها، كما قال الله فى تمام الكلام: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } 266، فذكر صلاة الخوف وهى صلاة ذات الرقاع، إذ كان العدو فى جهة القبلة.وكان فيها: أنهم كانوا يصلون خلفه، فإذا قام إلى الثانية فارقوه وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم. كما قال: { سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } ، فجعل السجود لهم خاصة، فعلم أنهم يفعلونه منفردين، ثم قال: { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } ، فعلم أنهم يفعلونه.
وفى هذه الصلاة تفريق المأمومين ومفارقة الأولين للإمام، وقيام الآخرين قبل سلام الإمام، ويتمون لأنفسهم ركعة. ثم قال تعالى: { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } 267، فأمرهم بعد الأمن بإقامة الصلاة. وذلك يتضمن الإتمام وترك القصر منها الذى أباحه الخوف والسفر. فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان.
وأما قوله فى صلاة الخوف: { فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ } فتلك إقامة وإتمام فى حال الخوف. كما أن الركعتين فى السفر إقامة وإتمام، كما ثبت فى الصحيح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم ﷺ. وهذا يبين ما رواه مسلم وأهل السنن عن يَعْلىَ بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: إقصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال الله عز وجل: { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وقد ذهب ذلك اليوم؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته). فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقا مشروط بعدم الأمن، فبينت السنة أن القصر نوعان، كل نوع له شرط.
وثبتت السنة أن الصلاة مشروعة فى السفر تامة؛ لأنه بذلك أمر الناس، ليست مقصورة فى الأجر والثواب، وإن كانت مقصورة فى الصفة والعمل، إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة، ويؤمر بالاقتصار تارة.
وأيضا، فإن الله تعالى قال: { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } 268، والموقوت: قد فسره السلف بالمفروض وفسروه بما له وقت. والمفروض: هو المقدر المحدد، فإن التوقيت والتقدير والتحديد والفرض ألفاظ متقاربة. وذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة. وذلك فى زمانها، وأفعالها، وكما أن زمانها محدود، فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة. وهو يتناول تقدير عددها؛ بأن جعله خمسا، وجعل بعضها أربعا فى الحضر واثنتين فى السفر، وبعضها ثلاثا، وبعضها اثنتين فى الحضر والسفر.وتقدير عملها أيضا. ولهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم والتأخير فى الزمان، كما يجوز أيضا القصر من عددها ومن صفتها، بحسب ما جاءت به الشريعة. وذلك أيضا مقدر عند العذر، كما هو مقدر عند غير العذر؛ ولهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، أو صلاة الليل إلى النهار، وصلاتى النهار: الظهر والعصر، وصلاتى الليل: المغرب والعشاء. وكذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها وصفتها، وهو موقوت محدود، ولابد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء. فالقيام محدود بالانتصاب، بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحنى الراكع باختياره، لم يكن قد أتى بحد القيام.
ومن المعلوم أن ذكر القيام الذى هو القراءة أفضل من ذكر الركوع والسجود، ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام؛ ولهذا كان عبادة بنفسه. ولم يصح فى شرعنا إلا للَّه بوجه من الوجوه، وغير ذلك من الأدلة المذكورة فى غير هذا الموضع.
وإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها. فالساجد: عليه أن يصل إلى الأرض، وهو غاية التمكن، ليس له غاية دون ذلك إلا لعذر، وهو من حين انحنائه أخذ فى السجود، سواء سجد من قيام أو من قعود. فينبغى أن يكون ابتداء السجود مقدرا بذلك، بحيث يسجد من قيام أو قعود، لا يكون سجوده من انحناء، فإن ذلك يمنع كونه مقدرا محدودا بحسب الإمكان. ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال فى الركوع وبين السجدتين.
وأيضا، ففى ذلك إتمام الركوع والسجود.
وأيضا، فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر، وذلك هو الطمأنينة. فإن من نَقَر نَقْر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا، فإن قدر الشىء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده؛ ولهذا يقال للشىء الدائم: ليس له قدر، فإن القدر لا يكون لأدنى حركة، بل لحركة ذات امتداد.
وأيضا، فإن اللّه عز وجل أمرنا بإقامتها، والإقامة: أن تجعل قائمة، والشىء القائم: هو المستقيم المعتدل، فلا بد أن تكون أفعال الصلاة مستقرة معتدلة. وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها. وهذا يتضمن الطمأنينة، فإن من نَقَر نَقْر الغراب لم يقم السجود، ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر، وكذلك الراكع.
يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه ﷺ: (سَوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصف من تمام الصلاة). وأخرجاه من حديث عبد العزيز بن صُهَيْب عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ: (أتموا الصفوف، فإني أراكم من خلف ظهري)، وفي لفظ: (أقيموا الصفوف). وروى البخاري من حديث حميد عن أنس، قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول اللّه ﷺ، فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري). وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وبدنه ببدنه).
فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها، بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا، لم يكونوا مصطفين، ولكانوا يؤمرون بالإعادة وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده، فأمره النبي ﷺ أن يعيد صلاته، فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها، بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود.
ويدل على ذلك وهو دليل مستقل في المسألة ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ، قال: (أقيموا الركوع والسجود، فواللّه إني لأراكم من بعدي وفي رواية: من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم). وفي رواية للبخاري عن همام، عن قتادة، عن أنس رضي اللّه عنه أنه سمع النبي ﷺ يقول: (أتموا الركوع والسجود، فوالذي نفسى بيده، إني لأراكم من بعد ظهري إذا ماركعتم وإذا ما سجدتم). ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي، وابن أبي عَرُوبَة عن قتادة عن أنس رضي اللّه عنه أن نبي اللّه ﷺ قال: (أتموا الركوع والسجود ولفظ ابن أبي عَرُوَبة: أقيموا الركوع والسجود، فإني أراكم وذكره).
فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامهما، كما في اللفظ الآخر.
وأيضًا، فأمره لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما؛ إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة؛ بل الأمر بالإقامة يقتضي أيضًا الاعتدال فيهما، وإتمام طرفيهما، وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما، وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه. ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الانصراف قبله.
وأيضًا، فقوله تعالى: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } 269 أمر بالقنوت في القيام للّه، والقنوت: دوام الطاعة للّه عز وجل سواء كان في حال الانتصاب، أو في حال السجود، كما قال تعالى: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } 270 وقال تعالى: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ } 271 وقال: { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } 272 وقال: { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } 273.
فإذا كان ذلك كذلك، فقوله تعالى: { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } 274 إما أن يكون أمرًا بإقامة الصلاة مطلقًا، كما في قوله: { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } 275 فيعم أفعالها، ويقتضي الدوام في أفعالها، وإما أن يكون المراد به: القيام المخالف للقعود، فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده، ويقتضي الطول، وهو القنوت المتضمن للدعاء، كقنوت النوازل، وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه.
وإذا ثبت وجوب هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى.
ويقوي الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال: كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه إلى الصلاة، فنزلت: { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } . قال: فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام. حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة. ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة، فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة، ودل الأمر بالقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس؛ لأن القنوت هو دوام الطاعة، فالمشتغل بمخاطبة العباد تارك للاشتغال بالصلاة التي هي عبادة اللّه وطاعته، فلا يكون مداومًا على طاعته؛ ولهذا قال النبي ﷺ لما سلم عليه ولم يرد، بعد أن كان يرد: (إن في الصلاة لشغلا)، فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلي عن مخاطبة الناس، وهذا هو القنوت فيها، وهو دوام الطاعة، ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي بما هو مشروع فيها من القراءة والتسبيح؛ لأن ذلك لا يشغله عنها، ولا ينافي القنوت فيها.
وأيضًا، فإنه سبحانه قال: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } 276 فأخبر أنه لا يكون مؤمنًا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات وسبح بحمد ربه.
ومعلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات، ولذلك وجب السجود مع ذلك. وقد أوجب خرورهم سجدًا، وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم، وذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود، وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة، ولهذا قال طائفة من العلماء، من أصحاب أحمد وغيرهم: إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم.
والثاني: أن الخرور هو السقوط والوقوع، وهذا إنما يقال فيما يثبت ويسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض، ولهذا قال اللّه: { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } 277 والوجوب في الأصل: هو الثبوت والاستقرار.
وأيضًا، فعن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال: لما نزلت: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال رسول اللّه ﷺ: (اجعلوها في ركوعكم). ولما نزلت: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قال: (اجعلوها في سجودكم) رواه أبو داود، وابن ماجه). فأمر النبي بجعل هذين التسبيحين في الركوع والسجود، وأمره على الوجوب. وذلك يقتضي وجوب ركوع وسجود تبعًا لهذا التسبيح، وذلك هو الطمأنينة.
ثم إن من الفقهاء من قد يقول: التسبيح ليس بواجب، وهذا القول يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل والقول جميعًا، فإذا دل دليل على عدم وجوب القول، لم يمنع وجوب الفعل.
وأما من يقول بوجوب التسبيح؛ فيستدل لذلك بقوله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } 278. وهذا أمر بالصلاة كلها، كما ثبت في الصحيحين، عن جرير بن عبد اللّه البجلي رضي اللّه عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي ﷺ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر. فقال: (إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر لا تُضَارُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا). ثم قرأ: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } .
وإذا كان اللّه عز وجل قد سمى الصلاة تسبيحًا، فقد دل ذلك على وجوب التسبيح، كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى: { قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا } 279، دل على وجوب القيام. وكذلك لما سماها قرآنًا في قوله تعالى: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } 280 دل على وجوب القرآن فيها، ولما سماها ركوعًا وسجودًا في مواضع دل على وجوب الركوع والسجود فيها.
وذلك أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها، فإذا وجدت هذه الأفعال فتكون من الأبعاض اللازمة، كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له. فيسمونه رقبة ورأسًا ووجهًا، ونحو ذلك. كما في قوله تعالى: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } 281 ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح أن يكون أمرًا بالصلاة، فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه، ولا على ما يستلزم معناه.
وأيضًا، فإن اللّه عز وجل ذم عموم الإنسان واستثنى المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، قال تعالى: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } 282 والسلف من الصحابة ومن بعدهم قد فسروا الدائم على الصلاة بالمحافظ على أوقاتها، وبالدائم على أفعالها بالإقبال عليها. والآية تعم هذا وهذا، فإنه قال: { عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } والدائم على الفعل هو المديم له، الذي يفعله دائمًا. فإذا كان هذا فيما يفعل في الأوقات المتفرقة: وهو أن يفعله كل يوم، بحيث لا يفعله تارة ويتركه أخرى، وسمى ذلك دوامًا عليه، فالدوام على الفعل الواحد المتصل أولى أن يكون دوامًا، وأن تتناول الآية ذلك. وذلك يدل على وجوب إدامة أفعالها؛ لأن اللّه عز وجل ذم عموم الإنسان واستثنى المداوم على هذه الصفة. فتارك إدامة أفعالها يكون مذمومًا من الشارع، والشارع لا يذم إلا على ترك واجب، أو فعل محرم.
وأيضًا، فإنه سبحانه وتعالى قال: { إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } 283 فدل ذلك على أن المصلي قد يكون دائمًا على صلاته، وقد لا يكون دائمًا عليها، وأن المصلي الذي ليس بدائم مذموم. وهذا يوجب ذم من لا يديم أفعالها المتصلة والمنفصلة. وإذا وجب دوام أفعالها فذلك هو نفس الطمأنينة، فإنه يدل على وجوب إدامة الركوع والسجود وغيرهما، ولو كان المجزئ أقل مما ذكر من الخفض وهو نقر الغراب لم يكن ذلك دوامًا، ولم يجب الدوام على الركوع والسجود، وهما أصل أفعال الصلاة.
فعلم أنه كما تجب الصلاة يجب الدوام عليها، المتضمن للطمأنينة والسكينة في أفعالها.
وأيضًا، فقد قال اللّه تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } 284.
وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين، كقوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } 285 وقوله تعالى: { فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } 286.
فقد دل كتاب اللّه عز وجل على من كبر عليه ما يحبه اللّه، وأنه مذموم بذلك في الدين، مسخوط منه ذلك، والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب، أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين، دل ذلك على وجوب الخشوع.
فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } 287 لابد أن يتضمن الخشوع في الصلاة؛ فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى، إذ لو قيل: إن الصلاة لكبيرة إلا على من خشع خارجها، ولم يخشع فيها، كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها، وتكبر على من خشع فيها. وقد انتفى مدلول الآية، فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة.
ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضًا قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } 288. أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة، وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم. وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال؛ إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها؛ لأن الجنة تنال بفعل الواجبات، دون المستحبات، ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب. وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبًا، فالخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعًا.
ومنه حديث عمر رضي اللّه عنه حيث رأي رجلا يعبث في صلاته. فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.أي: لسكنت وخضعت. وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } 289. فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز، والاهتزاز حركة، وتربو، والربو: الارتفاع. فعلم أن الخشوع فيه سكون وانخفاض.
ولهذا كان النبي ﷺ يقول في حال ركوعه: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت. خشع لك سمعي وبصري ومُخِّي وعقلي وعصبي) رواه مسلم في صحيحه. فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع؛ لأن الراكع ساكن متواضع. وبذلك فسرت الآية. ففي التفسير المشهور، الذي يقال له تفسير الوالبي عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد رواه المصنفون في التفسير، كأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهما من حديث أبي صالح عبد اللّه بن صالح عن معاوية بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى: { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } 290 يقول: (خائفون ساكنون)، ورووا في التفاسير المسندة كتفسير ابن المنذر وغيره من حديث سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد: { خاشعون } قال: (السكون فيها). قال: وكذلك قال الزهري ومن حديث هشام عن مغيرة عن إبراهيم النَّخَعِيّ، قال: الخشوع في القلب، وقال: ساكنون. قال الضحاك:الخشوع: الرهبة للّه.وروي عن الحسن: خائفون، وروي ابن المنذر من حديث أبي عبد الرحمن المقبري، حدثنا المسعودي حدثنا أبو سنان: أنه قال في هذه الآية: { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } 291 قال: الخشوع في القلب، وأن يلين كنفه للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك.
وفي تفسير ابن المنذر أيضًا ما في تفسير إسحاق بن راهويه، عن روح، حدثنا سعيد عن قتادة: { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } قال: الخشوع في القلب، والخوف وغض البصر في الصلاة. وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه: مختار القرآن: { فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } أي: لا تطمح أبصارهم ولا يلتفتون. وقد روى الإمام أحمد في كتاب الناسخ والمنسوخ من حديث ابن سيرين، ورواه إسحاق بن راهويه في التفسير، وابن المنذر أيضا? في التفسير الذي له، رواه من حديث الثوري، حدثني خالد عن ابن سيرين، قال:كان النبي ﷺ يرفع بصره إلى السماء فأمر بالخشوع، فرمى ببصره نحو مسجده أي: محل سجوده. قال سفيان: وحدثني غيره عن ابن سيرين: أن هذه الآية: نزلت في ذلك { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } 292 قال:هو سكون المرء في صلاته. قال معمر: وقال الحسن خائفون، وقال قتادة: الخشوع في القلب، ومنه خشوع البصر وخفضه وسكون ضد تقليبه في الجهات، كقوله تعالى: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } 293، وقوله تعالى: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } 294، وفي القراءة الأخرى: { خُشَّعا أَبْصَارُهُمْ }، وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة، حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصارهم، بخلاف آية الصلاة، فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين بقوله تعالى: { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } 295، وقوله تعالى: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } 296. وقال تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } 297. ومن ذلك: خشوع الأصوات، كقوله تعالى: { وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } 298، وهو انخفاضها وسكونها، وقال تعالى: { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } 299، وقال تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } 300، وهذا يكون يوم القيامة. وهذا هو الصواب من القولين بلا ريب، كما قال في القسم الآخر: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } 301، وقال تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } 302.
وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبًا، وهو متضمن للسكون والخشوع، فمن نَقَر نَقْر الغراب لم يخشع في سجوده. وكذلك من لم يرفع رأسه من الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن؛ لأن السكون هو الطمأنينة بعينها. فمن لم يطمئن لم يسكن، ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده، ومن لم يخشع كان آثمًا عاصيًا، وهو الذي بيناه.
ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة: أن النبي ﷺ تَوَعَّد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء، فإنه حركته ورفعه، وهو ضد حال الخاشع. فعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ: (مابال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم؟ فاشتد قوله في ذلك. فقال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم). وعن جابر بن سَمُرَة قال: دخل رسول اللّه ﷺ المسجد، وفيه ناس يصلون رافعي أبصارهم إلى السماء. فقال: (لينتهين رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء، أو لا ترجع إليهم أبصارهم).
الأول في البخاري، والثاني في مسلم. وكلاهما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه.
وقال محمد بن سيرين: كان رسول اللّه ﷺ يرفع بصره في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } 303 لم يكن يجاوز بصره موضع سجوده. رواه الإمام أحمد في كتاب الناسخ والمنسوخ. فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع، حرمه النبي ﷺ وتَوَعَّد عليه.
وأما الالتفات لغير حاجة، فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه؛ فلهذا كان ينقص الصلاة، كما روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول اللّه ﷺ عن التفات الرجل في الصلاة؟ فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد). وروى أبو داود والنسائي عن أبي الأحوص، عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه: (لا يزال اللّه مقبلا على العبد، وهو في صلاته، ما لم يلتفت. فإذا التفت انصرف عنه).
وأما لحاجة فلا بأس به، كما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال: ثوب الصلاة يعني: صلاة الصبح فجعل رسول اللّه ﷺ يصلي، وهو يلتفت إلى الشعب. قال أبو داود: وكان أرسل فارسًا إلى الشعب من الليل يحرس. وهذا كحمله أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، من زينب بنت رسول اللّه. وفتحه الباب لعائشة، ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم، وتأخره في صلاة الكسوف، وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته، وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة، وأمره برد المار بين يدي المصلي ومقاتلته، وأمره النساء بالتصفيق، وإشارته في الصلاة، وغير ذلك من الأفعال التي تفعل لحاجة، ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة.
ويدل على ذلك أيضًا ما رواه تميم الطائي عن جابر بن سَمُرَة رضي اللّه عنه قال: دخل علينا رسول اللّه ﷺ، والناس رافعوا أيديهم قال الراوي وهو زهير بن معاوية وأراه قال في الصلاة فقال: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خَيْل شُمْس، اسكنوا في الصلاة) رواه مسلم وأبو داود والنسائي. ورووا أيضًا عن عبيد الله ابن القبطية عن جابر بن سَمُرَة رضي اللّه عنه قال كنا إذا صلينا خلف رسول اللّه ﷺ فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه، ومن عن يساره. فلما صلى قال: (ما بال أحدكم يومئ بيده، كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم أو ألا يكفي أحدكم أن يقول: هكذا وأشار بأصبعه يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله). وفي رواية قال: (أما يكفي أحدكم أو أحدهم أن يضع يده علي فخذه، ثم يسلم على أخيه من عن يمينه، ومن عن شماله). ولفظ مسلم: صلينا مع رسول اللّه ﷺ، وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم. فنظر إلينا رسول اللّه ﷺ فقال: (ما شأنكم؟ تشيرون بأيديكم، كأنها أذناب خَيْلٍ شُمْس؟ إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يؤمئ بيده).
فقد أمر رسول اللّه ﷺ بالسكون في الصلاة، وهذا يقتضي السكون فيها كلها، والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة. فمن لم يطمئن لم يسكن فيها، وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر اللّه تعالى به من الخشوع فيها، وأحق الناس باتباع هذا هم أهل الحديث.
ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهي عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه، وحمله على ذلك فقد غلط؛ فإن الحديث جاء مفسرًا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل، أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال.
ويبين ذلك قوله: (مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟) والشُمْس جمع شَمُوس، وهو الذي تقول له العامة الشَّمُوص، وهو الذي يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال، وهي حركة لا سكون فيها.
وأما رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عند الاستفتاح، فذلك مشروع باتفاق المسلمين. فكيف يكون الحديث نهيًا عنه؟
وقوله: (اسكنوا في الصلاة) يتضمن ذلك؛ ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد اللّه بن المبارك، فرفع ابن المبارك يديه، فقال له: (أتريد أن تطير؟) فقال: (إن كنت أطير في أول مرة، فأنا أطير في الثانية، وإلا فلا) وهذا نقض لما ذكره من المعنى.
وأيضًا، فقد تواترت السنن عن النبي ﷺ وأصحابه بهذا الرفع فلا يكون نهيًا عنه، ولا يكون ذلك الحديث معارضًا، بل لو قد تعارضا. فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة، ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها، وهذا الرفع فيه سكون. فقوله: (اسكنوا في الصلاة) لا ينافي هذا الرفع، كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة، بل قوله: (اسكنوا) يقتضي السكون في كل بعض من أبعاض الصلاة، وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين.
فبين هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان؛ ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة؛ فإن السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة، كما أمر النبي ﷺ في المشي إليها. وهي حركة إليها، فكيف بالحركة فيها؟ فقال: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصَلُّوا، وما فاتكم فاقضوا).
وهذا أيضًا دليل مستقل في المسألة، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه ﷺ يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه. قال أبو داود وكذلك قال الترمذي وابن أبي ذئب، وإبراهيم بن سعد، ومَعْمَر، وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري: (وما فاتكم فأتموا). وقال ابن عيينة عن الزهري: (فاقضوا). قال محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه وجعفر ابن أبي ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة: (فأتموا)، وابن مسعود عن النبي ﷺ: (فأتموا)، وروى أبو داود عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:(ائتوا الصلاة وعليكم السكينة، فصلوا ما أدركتم، واقضوا ما سبقكم). قال أبو داود: وكذا قال ابن سِيرين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: (وليقض). وكذلك قال أبو رافع عن أبي هريرة، وأبو ذر رضي اللّه عنه روى عنه: (فأتموا، واقضوا) اختلف عنه.
فإذا كان النبي ﷺ قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة، ونهي عن السعي الذي هو إسراع في ذلك، لكونه سببًا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة، وينهي فيها عن الاستعجال، فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة، منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأحرى، لاسيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها، ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع، وإن أفضى ذلك إلى فوات بعض الصلاة، فأمره بالسكينة وأن يصلي ما فاته منفردًا بعد سلام الإمام، وجعل ذلك مقدمًا على الإسراع إليها. وهذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها، فكيف فيها؟
يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثُمَامَة الحناط، عن كعب بن عُجْرَة قال: إن رسول الله ﷺ قال (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن يديه، فإنه في صلاة). فقد نهاه ﷺ في مشيه إلى الصلاة عما نهاه عنه في الصلاة من الكلام والعمل له منفردًا، فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي وغير ذلك؟ فإذا كان منهيًا عن السرعة والعجلة في المشي، مأمورًا بالسكينة، وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيًا له، فأولى أن يكون مأمورًا بالسكينة فيها.
ويدل على ذلك: أن اللّه عز وجل أمر في كتابه بالسكينة والقصد في الحركة والمشي مطلقًا، فقال: { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } 304 وقال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } 305. قال الحسن وغيره: (بسكينة ووقار)، فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء. فإذا كان مأمورًا بالسكينة والوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة، فكيف الأفعال العبادية؟ ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون، كالركوع والسجود؟ فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال؛ كالرفع والخفض والنهوض والانحطاط. وأما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال، كالركوع نفسه، والسجود نفسه، والقيام والقعود أنفسهما وهذه هي من نفسها سكون فمن لم يسكن فيها لم يأت بها، وإنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود ولم يأت به، كمن مد يده إلى الطعام، ولم يأكل منه، أو وضعه على فيه ولم يطعمه.
وأيضًا، فإن اللّه تعالى أوجب الركوع والسجود في الكتاب والسنة، وهو واجب بالإجماع لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } 306، وقوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } 307، وقوله تعالى: { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } 308، وقوله تعالى: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } 309، وقوله تعالى: { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } 310 وقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } 311.
فدل على أن الذي لا يسجد للّه من الناس، قد حق عليه العذاب، وقوله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا } 312، وقوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } 313، وقوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ } 314، وقوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } 315.
وإذا كان اللّه عز وجل قد فرض الركوع والسجود للّه في كتابه، كما فرض أصل الصلاة، فالنبي ﷺ هو المبين للناس ما نزل إليهم، وسنته تفسر الكتاب وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه، وفعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرًا لمجمل، كان حكمه حكم ما امتثله وفسره. وهذا كما أنه ﷺ لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبًا، وكان هذا امتثالا منه لما أمر اللّه به من الركوع والسجود، وتفسيرًا لما أجمل ذكره في القرآن، وكذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود. وقد كان يصلي الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده، ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود، وبالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها. قد نقل ذلك كل من نقل صلاة الفريضة والنافلة. والناس يصلون على عهده، ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة. وكذلك كانت صلاة أصحابه على عهده. وهذا يقتضي وجوب السكون والطمأنينة في هذه الأفعال، كما يقتضي وجوب عددها. وهو سجودان مع كل ركوع.
وأيضًا، فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم، مع كثرة الصلوات، من أقوى الأدلة على وجوب ذلك؛ إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة، ليبين الجواز، أو ليبين جواز تركه بقوله. فلما لم يبين لا بقوله ولا بفعله جواز ترك ذلك مع مداومته عليه، كان ذلك دليلا على وجوبه.
وأيضًا، فقد ثبت عنه ﷺ في صحيح البخاري: أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه: (إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما) و(صلوا كما رأيتموني أصلي) فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي.
وذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي ﷺ يصلي لهم، ولا معارض لذلك ولا مخصص؛ فإن الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم والمنفرد.
وقد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه قال: لقد رأيت رسول اللّه ﷺ قام على المنبر وكبر، وكبر الناس معه وراءه، وهو على المنبر، ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس. فقال: (يا أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي). وفي سنن أبي داود والنسائي عن سالم البراد قال: أتينا عقبة بن عامر الأنصاري أبا مسعود، فقلنا له: حدثنا عن صلاة رسول اللّه ﷺ. فقام بين أيدينا في المسجد، فكبر، فلما ركع وضع يديه على ركبتيه، وجعل أصابعه أسفل من ذلك، وجافى بين مرفقيه، حتى استقر كل شيء منه، ثم قال: سمع اللّه لمن حمده، فقام حتى استقر كل شيء منه ثم كبر وسجد ووضع كفيه على الأرض، ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه، ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه، ففعل ذلك أيضًا ثم صلى أربع ركعات مثل هذه الركعة، فصلى صلاته. ثم قال: هكذا رأينا رسول اللّه ﷺ يصلي.
وهذا إجماع الصحابة رضي اللّه عنهم فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين. وإذا رأي بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه. ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك. وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة، قولا وفعلا. ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانًا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب.
وأيضًا، فإن الركوع والسجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه وحين وضع وجهه على الأرض، فأما مجرد الخفض والرفع عنه، فلا يسمى ذلك ركوعًا، ولا سجودًا. ومن سماه ركوعًا وسجودًا فقد غلط على اللغة. فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعًا وساجدًا، حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر، وحتى يقال: إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعًا وسجودًا وهذا مما لا سبيل إليه، ولا دليل عليه. فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب اللّه وفي لغة العرب، وإذا حصل الشك: هل هذا ساجد أو ليس بساجد؟ لم يكن ممتثلًا بالاتفاق؛ لأن الوجوب معلوم، وفعل الواجب ليس بمعلوم، كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه، ويشك في فعلها.
وهذا أصل ينبغي معرفته؛ فإنه يحسم مادة المنازع الذي يقول: إن هذا يسمى ساجدًا وراكعًا في اللغة، فإنه قال بلا علم ولا حجة. وإذا طولب بالدليل انقطع، وكانت الحجة لمن يقول: ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود والركوع المعروفين.
ثم يقال: لو وجد استعمال لفظ الركوع والسجود في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة لكان المعفر خده ساجدًا، ولكان الراغم أنفه وهو الذي لصق أنفه بالرُّغام وهو التراب ساجدًا، لا سيما عند المنازع الذي يقول: يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة. فيكون نقر الأرض بالأنف سجودًا، ومعلوم أن هذا ليس من لغة القوم، كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب ونحوها سجودًا، ولو كان ذلك كذلك لكان يقال للذى يضع وجهه على الأرض، ليمص شيئًا على الأرض، أو يعضه أو ينقله ونحو ذلك: ساجدًا.
وأيضًا، فإن اللّه أوجب المحافظة والإدامة على الصلاة، وذم إضاعتها والسهو عنها، فقال في أول سورة المؤمنين: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } 316، وقد سبق بيان أن هذه الخصال واجبة. وكذلك في سورة سأل سائل قال: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } 317. فذم الإنسان كله إلا ما استثناه. فمن لم يكن متصفًا بما استثناه كان مذموما، كما في قوله تعالى: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } 318، وقال تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } 319، وقال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } 320، وقال تعالى: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } 321.
وهذه الآيات تقتضي ذم من ترك شيئًا من واجبات الصلاة، وإن كان في الظاهر مصليًا، مثل أن يترك الوقت الواجب، أو يترك تكميل الشرائط والأركان من الأعمال الظاهرة والباطنة، وبذلك فسرها السلف. ففي تفسير عبد بن حميد وذكره عن ابن المنذر في تفسيره من حديث عبد حدثنا روح، عن سعيد، عن قتادة: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } 322. على وضوئها ومواقيتها وركوعها. وروى أبو بكر بن المنذر في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن، عن عبد اللّه قال: قيل لعبد اللّه: إن اللّه أكثر ذكر الصلاة في القرآن { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } 323، { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } 324 و { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } 325 فقال عبد اللّه: ذلك على مواقيتها فقالوا: ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك. قال: تركها كفر. وروى سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قول اللّه: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } قال: على مواقيتها، فقالوا: ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن، إلا الترك. قال: تركها كفر. وروى من حديث سعيد بن أبي مريم: { الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } 326، بتضييع ميقاتها. وروى عن أبي ثور عن ابن جُرَيْج في قوله: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } المكتوبة، والتي في { سَأَلَ سَائِلٌ }: التطوع.، وهذا قول ضعيف.
فصل القدر المشروع للإمام
وأما القدر المشروع للإمام: فهي صلاة رسول اللّه ﷺ، كما في صحيح البخاري عن أبي قِلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال:(إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم، ثم صلوا كما رأيتمونى أصلي).
وأما القيام: ففي صحيح مسلم عن جابر بن سَمُرَة: أن النبي ﷺ كان يقرأ في الفجر ب { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } ونحوها، وكانت صلاته بعد إلى تخفيف. أي: يجعل صلاته بعد الفجر خفيفة، كما في صحيح مسلم أيضًا عنه قال: كان رسول اللّه ﷺ يقرأ في الظهر ب { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } ، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك. وفي الصحيحين عن أبي بَرْزَة الأسلمي قال: كان رسول اللّه ﷺ يصلي الهجير التي تدعونها الأولى لحين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية قال الراوي: ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر العشاء، التي تدعونها العتمة. وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة).
وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: حَزَرْنا قيام رسول اللّه ﷺ في الظهر والعصر. فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر: قدر ثلاثين آية، قدر الم السجدة. وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر. وحزرنا قيامه في الآخرتين من العصر على النصف من ذلك. رواه مسلم وأبو داود والنسائي). وفي الصحيحين وغيرهما عن جابر بن سمرة قال: قال عمر لسعد بن أبي وقاص: لقد شَكَاك الناسُ في كل شيء حتى في الصلاة؟ قال: أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين. ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول اللّه ﷺ. قال: ذاك الظن بك يا أبا? إسحاق. وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي سعيد رضي اللّه عنه قال: لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البَقِيع فيقضى حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول اللّه ﷺ في الركعة الأولى مما يطيلها. وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي وائل قال: خطبنا عمار بن ياسر يومًا، فأوجز وأبلغ، فقلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست. فقال: إني سمعت رسول اللّه ﷺ يقول: (إن طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، إن من البيان سحرًا).
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي اللّه عنه قال: كنت أصلي مع النبي ﷺ الصلوات. فكانت صلاته قصدًا. أي: وسطًا.
وفعله الذي سَنَّه لأمته هو من التخفيف الذي أمر به الأئمة؛ إذ التخفيف من الأمور الإضافية، فالمرجع في مقداره إلى السنة. وذلك كما خرجاه في الصحيحين عن جابر رضي اللّه عنه قال: كان معاذ يصلي مع النبي ﷺ، ثم يرجع فيؤمنا وقال مرة: ثم يرجع فيصلي بقومه فأخبر النبي ﷺ وقال مرة: العشاء؛ فصلى معاذ مع النبي ﷺ، ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة. فاعتزل رجل من القوم فصلى. فقيل: نافقت. فقال: ما نافقت. فأتى النبي ﷺ. فقال: إن معاذًا يصلي معك، ثم يرجع فيؤمنا يارسول اللّه، إنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا، وإنه جاء يؤمنا، فقرأ سورة البقرة، فقال: (أفتان أنت يا معاذ؟ اقرأ بكذا، اقرأ بكذا). قال أبو الزبير: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } ، { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } . وفي رواية للبخاري عن جابر رضي اللّه عنه قال: أقبل رجل بناضحين، وقد جنح الليل، فوافق معاذا يصلي وذكر نحوه، فقال في آخره: (فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى. فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة). وفي الصحيحين عن أبي مسعود رضي اللّه عنه قال: جاء رجل إلى رسول اللّه ﷺ فقال: إني لأتاخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت رسول اللّه غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ. قال: (أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة). وفي رواية: (فإن فيهم الضعيف والكبير). وفي رواية: (فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتادة عن النبي ﷺ أنه قال: (إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز، كراهية أن أشق على أمه).
وأما مقدار بقية الأركان مع القيام: فقد أخرجا في الصحيحين عن شريك بن عبد اللّه ابن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: (ماصليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي ﷺ). وفي رواية عن شريك عنه: (وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف، مخافة أن تفتتن أمه). وأخرجا فيهما من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: كان النبي ﷺ يوجز الصلاة ويكملها. وفي لفظ: يوجز الصلاة ويتم.
وأخرجا أيضًا عن أبي قتادة عن أنس رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ قال: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز من صلاتي، مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه) رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه ﷺ يسمع بكاء الصبي مع أمه، وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة، أو بالسورة القصيرة.
وروى مسلم أيضًا عن أنس رضي اللّه عنه قال: ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول اللّه ﷺ. وكانت صلاته متقاربة، وصلاة أبي بكر متقاربة. فلما كان عمر رضي اللّه عنه مد في صلاة الصبح. وعن قتادة عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه ﷺ كان من أخف الناس صلاة في تمام.
فقول أنس رضي اللّه عنه: (ما صليت وراء إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول اللّه) يريد: أنه ﷺ كان أخف الأئمة صلاة، وأتم الأئمة صلاة. وهذا لاعتدال صلاته وتناسبها. كما في اللفظ الآخر: (وكانت صلاته معتدلة) وفي اللفظ الآخر: (وكانت صلاته متقاربة) لتخفيف قيامها وقعودها، وتكون أتم صلاة لإطالة ركوعها وسجودها، ولو أراد أن يكون نفس الفعل الواحد كالقيام هو أخف وهو أتم لناقض ذلك؛ ولهذا بين التخفيف الذي كان يفعله إذا بكى الصبي. وهو قراءة سورة قصيرة. وبين أن عمر بن الخطاب مد في صلاة الصبح، وإنما مد في القراءة، فإن عمر رضي اللّه عنه كان يقرأ في الفجر بسورة يونس، وسورة هود، وسورة يوسف.
والذي يبين ذلك: ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول اللّه ﷺ في تمام. وكان رسول اللّه ﷺ إذا قال: (سمع اللّه لمن حمده) قام حتى نقول: قد أوهم، ثم يكبر ويسجد. وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم. كما أخرجا في الصحيحين عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول اللّه ﷺ يصلي بنا. قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل: قد نسي. وللبخاري من حديث شعبة عن ثابت قال: قال أنس رضي اللّه عنه ينعت لنا صلاة رسول اللّه ﷺ: وكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي.
فهذه أحاديث أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبي ﷺ التي كان يوجزها ويكملها، والتي كانت أخف الصلاة وأتمها أنه ﷺ كان يقوم فيها من الركوع حتى يقول القائل: إنه قد نسي، ويقعد بين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي. وإذا كان في هذا يفعل ذلك، فمن المعلوم باتفاق المسلمين والسنة المتواترة: أن الركوع والسجود لا ينقصان عن هذين الاعتدالين، بل كثير من العلماء يقول: لا يشرع ولا يجوز أن يجعل هذين الاعتدالين بقدر الركوع والسجود، بل ينقصان عن الركوع والسجود.
وفي الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم قال: غلب على الكوفة رجل قد سماه زَمَن ابن الأشعث، وسماه غُنْدَر في رواية: مطر بن ناجية فأمر أبا عبيدة بن عبد اللّه أن يصلي بالناس فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول: (اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بَعْدُ، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). قال الحكم: فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى. قال: سمعت البراء بن عازب يقول: كانت صلاة رسول اللّه ﷺ. قيامه وركوعه، وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين: قريبًا من السواء. قال شعبة: فذكرته لعمرو بن مُرَّة. فقال: قد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فلم تكن صلاته هكذا. ولفظ مطر عن شعبة: كان ركوع النبي ﷺ وسجوده وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء. وهو في الصحيح والسنن من حديث هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: رمقت الصلاة مع محمد ﷺ. فوجدت قيامه، فركوعه، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف: قريبًا من السواء.
ويشهد لهذا ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه ﷺ كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع: (سمع الّله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
وقوله: (أحق ما قال العبد) هكذا هو في الحديث. وهو خبر مبتدأ محذوف. وأما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء والصوفية من قوله: (حق ما قال العبد) فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والسنة، ليس له أصل في الأثر. ومعناه أيضًا فاسد؛ فإن العبد يقول الحق والباطل، وأما الرب سبحانه وتعالى فهو يقول الحق ويهدى السبيل، كما قال تعالى: { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } 327.
وأيضًا، فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على اللّه عز وجل.
وروى مسلم وغيره عن عطاء، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: أن النبي ﷺ كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: (اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
وروى مسلم وغيره عن عبد اللّه بن أبي أوْفي قال: كان رسول اللّه ﷺ إذا رفع رأسه من الركوع يقول: (سمع اللّه لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد). وفي رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا: أنه كان يقول: (اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس).
فإن قيل: فإذا كانت هذه صلاة رسول اللّه ﷺ التي اتفق الصحابة رضي اللّه عنهم على نقلها عنه.وقد نقلها أهل الصحاح والسنن والمسانيد من هذه الوجوه وغيرها، والصلاة عمود الدين، فكيف خفي ذلك على طائفة من فقهاء العراق وغيرهم، حتى لم يجعلوا الاعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من الأفعال المقاربة للركوع والسجود، ولا استحبوا في ذلك ذكرًا أكثر من التحميد بقول: (ربنا لك الحمد)، حتى إن بعض المتفقهة قال: إذا طال ذلك طولا كثيرًا بَطَلَت صلاته؟!
قيل: سبب ذلك وغيره: أن الذي مضت به السنة أن الصلاة يصليها بالمسلمين الأمراء وولاة الحرب. فوالي الجهاد كان هو أمير الصلاة على عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دولة بني العباس. والخليفة هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس والجمعة، لا يعرف المسلمون غير ذلك، وقد أخبر النبي ﷺ بما سيكون بعده من تغير الأمراء، حتى قال: (سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة)، فكان من هؤلاء من يؤخرها عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها، كما أن بعضهم كان لا يتم التكبير، أي لا يجهر بالتكبير في انتقالات الركوع وغيره، ومنهم من لا يتم الاعتدالين. وكان هذا يشيع في الناس فيربو في ذلك الصغير، ويهرم فيه الكبير، حتى إن كثيرًا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك. فإذا جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك. كما رواه البخاري في صحيحه عن قتادة عن عِكْرِمة قال: صليت خلف شيخ بمكة، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة. فقلت لابن عباس: إنه لأحمق. فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم ﷺ.
وفي رواية أبي بشر عن عكرمة قال: رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس فقال: أو ليس تلك صلاة رسول اللّه ﷺ؟ لا أمَّ لك. وهذا يعني به: أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير. فكان الأئمة الذين يصلي خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك، وابن عباس لم يكن إمامًا حتى يعرف ذلك منه، فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره ابن عباس، وأما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره على أحد وهذا كما أن عامة الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير، بل يفعل ذلك المؤذن ونحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة. ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه ليست هي السنة، بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن النبي ﷺ أن المؤذن وغيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير دائمًا. كما أن بلالا لم يكن يجهر بذلك خلف النبي ﷺ، لكن إذا احتيج إلى ذلك، لضعف صوت الإمام، أو بعد المكان، فهذا قد احتجوا لجوازه بأن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه كان يُسْمع الناس التكبير خلف النبي ﷺ في مرضه، حتى تنازع الفقهاء في جهر المأموم لغير حاجة، هل يبطل صلاته أم لا؟
ومثل ذلك ما أخرجاه في الصحيحين والسنن عن مطرف بن عبد اللّه بن الشِّخِّير قال: صليت خلف على بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر. فلما قضى الصلاة أخذ عمران بن حصين بيدي. فقال: قد ذكرني هذا صلاة محمد ﷺ، أو قال: لقد صلى بنا صلاة محمد ﷺ. ولهذا لما جهر بالتكبير سمعه عمران ومطرف، كما سمعه غيرهما.
ومثل هذا ما في الصحيحين والسنن أيضًا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها: يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يقوم من الجلوس من الثنتين: يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده، إني لأقربكم شبها بصلاة رسول اللّه ﷺ، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا.
وهذا كان يفعله أبو هريرة رضي اللّه عنه لما كان أميرًا على المدينة، فإن معاوية كان يعاقب بينه وبين مروان بن الحكم في إمارة المدينة، فيولي هذا تارة ويولي هذا تارة. وكان مروان يستخلف، وكان أبو هريرة يصلي بهم بما هو أشبه بصلاة ﷺ من صلاة مروان وغيره من أمراء المدينة.
وقوله: (في المكتوبة وغيرها) يعني: ما كان من النوافل، مثل قيام رمضان. كما أخرجه البخاري من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبي سلمة: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره، فيكبر حين يقوم، ويكبر حين يركع، ثم يقول: سمع اللّه لمن حمده، ثم يقول: ربنا لك الحمد. وذكر نحوه.
وكان الناس قد اعتادوا ما يفعله غيره، فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه، كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة: أن أبا هريرة رضي اللّه عنه كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع. فقلت: يا أبا هريرة، ماهذا التكبير؟ قال: إنها لصلاة رسول اللّه ﷺ. وهذا كله معناه: جهر الإمام بالتكبير؛ ولهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت، وفعله في كل خفض ورفع.
يبين ذلك: أن البخاري ذكر في باب التكبير عند النهوض من الركعتين قال: وكان ابن الزبير يكبر في نهضته، ثم روى البخاري من حديث فُلَيْح بن سليمان عن سعيد بن الحارث. قال: صلى لنا أبو سعيد، فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد وحين رفع، وحين قام من الركعتين. وقال: هكذا رأيت رسول اللّه ﷺ. ثم أردفه البخاري بحديث مطرف: قال: صليت أنا وعمران بن حصين خلف على بن أبي طالب رضي اللّه عنه فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما سلم أخذ عمران بن حصين بيدي. فقال: لقد صلى بنا هذا صلاة محمد ﷺ، أو قال: لقد ذكرني هذا صلاة محمدﷺ.
فهذا يبين أن الكلام إنما هو في الجهر بالتكبير، وأما أصل التكبير: فلم يكن مما يخفى على أحد. وليس هذا أيضًا مما يجهل، هل يفعله الإمام أم لا يفعله؟ فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة. كما لا يصح نفي القراءة في صلاة المخافتة، ونفي التسبيح في الركوع والسجود، ونفي القراءة في الركعتين الآخرتين ونحو ذلك.
ولهذا استدل بعض من كان لا يتم التكبير، ولا يجهر به، بما روى عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى عن أبيه: أنه صلى مع رسول اللّه ﷺ. وكان لا يتم التكبير. رواه أبو داود والبخاري في التاريخ الكبير. وقد حكى أبو داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل. وهذا إن كان محفوظًا فلعل ابن أبزى صلى خلف النبي ﷺ في مؤخر المسجد. وكان النبي ﷺ صوته ضعيفًا، فلم يسمع تكبيره، فاعتقد أنه لم يتم التكبير، وإلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك. فلو خلافها كان شاذًا لا يتلفت إليه، ومع هذا فإن كثيرًا من الفقهاء المتأخرين يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرًا، وأن علي بن أبي طالب وأبا هريرة وغيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير في الانتقالات. ولازم هذا: أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر في خفضها ولا رفعها.
وهذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال، ولو كان المراد التكبير سرًا لم يصح نفي ذلك ولا إثباته؛ فإن المأموم لا يعرف ذلك من إمامه، ولا يسمى ترك التكبير بالكلية تركًا؛ لأن الأئمة كانوا يكبرون عند الافتتاح دون الانتقالات، وليس كذلك السنة، بل الأحاديث المروية تبين أن رفع الإمام وخفضه كان في جميعها التكبير. وقد قال إسحاق بن منصور: قلت: لأحمد بن حنبل: ما الذي نقصوا من التكبير؟ قال: إذا انحط إلى السجود من الركوع، وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة.
فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة لم يكونوا يتمون التكبير، بل نقصوا التكبير في الخفض من القيام ومن القعود وهو كذلك واللّه أعلم لأن الخفض يشاهد بالأبصار، فظنوا لذلك أن المأموم لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام، لأنه يرى ركوعه ويرى سجوده، بخلاف الرفع من الركوع والسجود، فإن المأموم لا يرى الإمام، فيحتاج أن يعلم رفعه بتكبيره.
ويدل على صحة ما قاله أحمد، من حديث ابن أبزى: أنه صلى خلف النبي ﷺ فلم يتم التكبير، وكان لا يكبر إذا خفض. هكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة، عن الحسن ابن عمران، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه.
وقد ظن أبو عمر ابن عبد البر كما ظن غيره أن هؤلاء السلف ما كانوا يكبرون في الخفض والرفع. وجعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب؛ لأنهم لا يقرون الأمة على ترك واجب، حتى إنه قد روي عن ابن عمر: أنه كان يكبر إذا صلى وحده في الفرض، وأما التطوع فلا. قال أبو عمر: لا يحكى أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده إن شاء الله.
قال: وأما رواية مالك عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إمامًا وغير إمام.
قلت: ما روى مالك لا ريب فيه. والذي ذكره أحمد لا يخالف ذلك، ولكن غلط ابن عبد البر فيما فهم من كلام أحمد. فإن كلامه إنما كان في التكبير دبر الصلاة أيام العيد الأكبر، لم يكن التكبير في الصلاة، ولهذا فرق أحمد بين الفرض والنفل، فقال: أحب إلى أن يكبر في الفرض دون النفل. ولم يكن أحمد ولا غيره يفرقون في تكبير الصلاة بين الفرض والنفل، بل ظاهر مذهبه: أن تكبير الصلاة واجب في النفل، كما أنه واجب في الفرض. وإن قيل: هو سنة في الفرض قيل: هو سنة في النفل. فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره.
وأما الذي ذكره عن ابن عمر في تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردًا، فهو مشهور عنه.
وهي مسألة نزاع بين العلماء مشهورة. وقد قال ابن عبد البر، لما ذكر حديث أبي سلمة: إن أبا هريرة رضي الله عنه كان يصلي لهم، فيكبر كلما خفض ورفع، فلما انصرف، قال: والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ. فقال ابن عبد البر: إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك، ويدل عليه ما رواه ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ثلاث كان رسول الله ﷺ يفعلهن، وتركهن الناس: كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا، وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله، وكان يكبر كلما رفع وخفض. قلت: هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة والفقهاء ممن لا يرفع إلى دين ولا يوجب التكبير، ومن لا يستحب الاستفتاح والاستعاذة، ومن لا يجهر من الأئمة بتكبير الانتقال.
قال: وقد قال قوم من أهل العلم: إن التكبير إنما هو إيذان بحركات الإمام وشعار للصلاة، وليس بسنة إلا في الجماعة، أما من صلى وحده فلا بأس عليه ألا يكبر؛ ولهذا ذكر مالك هذا الحديث وحديث ابن شهاب عن على بن حسين قال: كان رسول الله ﷺ، يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله عز وجل. وحديث ابن عمر وجابر رضي الله عنهم: أنهما كانا يكبران كلما خفضًا ورفعًا في الصلاة. فكان جابر يعلمهم ذلك. قال: فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة.
قلت: ما ذكره مالك، فكما ذكره. وأما ما ذكره ابن عبد البر من الخلاف، فلم أجده ذكر لذلك أصلا، إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين: أن التكبير مشروع في الصلوات، وإنما ذكر ذلك مالك وغيره والله أعلم لأجل ما كره من فعل الأئمة الذين كانوا لا يتمون التكبير. وقد قال ابن عبد البر: روي ابن وهب، أخبرني عياض بن عبد الله الفهري، أن عبد الله بن عمر كان يقول: لكل شيء زينة، وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي فيها. وإذا كان ابن عمر يقول ذلك، فكيف يظن به أنه لا يكبر إذا صلى وحده؟ هذا لا يظنه عاقل بابن عمر.
قال ابن عبد البر: وقد روي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم: أنهم كانوا لا يتمون التكبير. وذكر ذلك أيضًا عن القاسم وسالم وسعيد بن جبير. وروي عن أبي سلمة: عن أبي هريرة: أنه كان يكبر هذا التكبير. ويقول: إنها لصلاة رسول الله ﷺ. قال: وهذا يدل على أن التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه، وفي ترك الناس له من غير نكير من واحد منهم، ما يدل على أن الأمر محمول عندهم على الإباحة.
قلت: لا يمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به، فأما ترك الإمام التكبير سرًا فلا يجوز أن يدعي تركه، إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا لم يقله أحد من الأئمة، ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون في كل خفض ورفع، بل قالوا: كانوا لا يتمونه. ومعنى لا يتمونه: لا ينقصونه، ونقصه: عدم فعله في حال الخفض كما تقدم من كلامه. وهو نقص بترك رفع الصوت به، أو نقص له بترك ذلك في بعض المواضع.
وقد روى ابن عبد البر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صلىت خلف رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كان يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض. قال: وهذا معارض لما روي عن عمر: أنه كان لا يتم التكبير. وروي عن سعيد ابن عبد العزيز عن الزهري قال: قلت: لعمر بن عبد العزيز: ما منعك أن تتم التكبير وهذا عاملك عبد العزيز يتمه؟ فقال: تلك صلاة الأول، وأبى أن يقبل مني.
قلت: وإنما خفي على عمر بن عبد العزيز وعلى هؤلاء الجهر بالتكبير، كما خفي ذلك على طوائف من أهل زماننا، وقبله ما ذكره ابن أبي شيبة، أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم. قال: أول من نقص التكبير زياد.
قلت: زياد كان أميرًا في زمن عمر، فيمكن أن يكون ذلك صحيحًا. ويكون زياد قد سن ذلك حين تركه غيره. وروي عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري قال: لقد ذكرنا على صلاة كنا نصلىها مع رسول الله ﷺ: إما نسيناها، وإما تركناها عمدًا، وكان يكبر كلما رفع وكلما وضع وكلما سجد.
ومعلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد، وهم أئمة، ولم يبلغهم خلاف ذلك عن رسول الله ﷺ، رأوا من شاهدوهم من أهل العلم والدين لا يعرفون غير ذلك، فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة. وحصل بذلك نقصان في وقت الصلاة وفعلها. فاعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها؛ كما كان الأئمة يفعلون ذلك. وكذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله ﷺ، حتى كان ابن مسعود يتأول في بعض الأمراء الذين كانوا على عهده: أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } 328 فكان يقول: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، إذا ترك فيها شيء، قيل: تركت السنة. فقيل: متي ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: ذلك إذا ذهب علماؤكم، وقلت فقهاؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين. وكان عبد الله بن مسعود يقول أيضًا: أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال: أمور تكون من كبرائكم، فأيما رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول، فالسمت الأول.
ومن هذا الباب: أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد بن عمه وعمر هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك صلى خلفه أنس بن مالك رضي الله عنه? فقال ما رواه أبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله ﷺ أشبه صلاة برسول الله ﷺ من هذا الفتي يعني عمر بن عبد العزيز. قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات. وهذا كان في المدينة، مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية الأمصار. فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك، والمدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله ﷺ أو نحو هذا، ولكن كانوا قد غيروا أيضًا بعض السنة. ومن اعتقد أن هذا كان في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط، فإن أنس بن مالك رضي الله عنه لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز، بل مات قبل ذلك بسنتين.
وهذا يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم وذلك أدناه وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا وذلك أدناه). قال أبو داود: هذا مرسل، عون لم يدرك عبد الله بن مسعود. وكذلك قال البخاري في تاريخه. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل، عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود، عون هو من علماء الكوفة المشهورين، وهو من أهل بيت عبد الله. وقيل: إنما تلقاه من علماء أهل بيته. فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد، حتى صاروا يقولون في الثلاث: إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع. وذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا.
فقول من يقول من الفقهاء: إن السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وغيرهم، هو من جنس قول من يقول: من السنة ألا يطيل الاعتدال بعد الركوع، أو أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، أو نحو ذلك. فإن الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلا، بل الأحاديث المستفيضة عن النبي ﷺ، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، تبين أنه ﷺ كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك، كما تقدم دلالة الأحاديث عليه. ولكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبي ﷺ قال: (إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء)، ولم يعرفوا مقدار التطويل، ولا علموا التطويل الذي نهى عنه لما قال لمعاذ: (أفَتَّان أنت يا معاذ؟)، فجعلوا هذا برأيهم قدرًا للمستحب، ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة، فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد. إذ النبي ﷺ كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات، وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم، فيجب البحث عما سنه رسول الله ﷺ، ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي، وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله ﷺ، لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس.
ومما يبين هذا: أن التخفيف أمر نسبي إضافي، ليس له حد في اللغة ولا في العرف؛ إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ويستخف هؤلاء ما يستطيله هؤلاء، فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ومقادير العبادات، ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية.
فعلم أن الواجب على المسلم: أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة، وبهذا يتبين أن أمره ﷺ بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضًا. في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال: إن طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة). وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما؛ فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة، والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة؛ ولهذا قال: (فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء).
فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة، بخلاف الإمام؛ لأجل مراعاة المأمومين. فإن خلفه السقيم والكبير وذا الحاجة؛ ولهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض، كما قال ﷺ: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأخفف لما أعلم من وَجْد أمه). وبذلك علل النبي ﷺ فيما تقدم من حديث ابن مسعود.
وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة. وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء). وفي رواية (فإن فيهم السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة).
ولهذا كان النبي ﷺ يقصرها أحيانًا عما كان يفعل غالبًا، كما روي مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال: كأني أسمع صوت النبي ﷺ يقرأ في صلاة الغداة: { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } 329. وروي أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة. وكان يطول أحيانًا، حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ: { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا } فقالت: يا بني، لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله ﷺ يقرأ بها في المغرب. وفي الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقرأ بالطور في المغرب. وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله ﷺ يقرأ في المغرب بطولي الطوليين؟ قال: قلت: ما طولي الطوليين؟ قال: الأعراف.
فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث. وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور، وتارة بالمرسلات، مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر من القراءة في الفجر. فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها؟
ومن هذا الباب: ما روي وَكِيع عن منصور عن إبراهيم النَّخَعي قال: كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه. قال أبو محمد ابن حزم: العيب على من عاب عمل رسول الله ﷺ وعول على من لا حجة فيه.
قلت: قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح، وموافقته لفعل رسول الله ﷺ. وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث، لم يكونوا من الصحابة، ولا عرف أنهم من أعيان التابعين. وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود، فابن ابن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه، بل الإمام الراتب كان غيره، وابن ابن مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين.
فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة، إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة التي اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية، ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء.
يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة وتوفي قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله. فإن علقمة توفي سنة إحدي أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد، وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك. وكذلك مسروق، قيل: إنه توفي قبل السبعين أيضًا. وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه.
فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد اللهبن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك، مع أن من الناس إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي. وقد عرفت أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك، وهم رأوا ذلك، وهم أخذوا العلم عن عبد الله ونحوه. فقد تبين أن الأمر ليس كذلك.
سئل عن رجل لا يطمئن في صلاته
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل لا يطمئن في صلاته؟
فأجاب:
الطمأنينة في الصلاة واجبة، وتاركها مسيء باتفاق الأئمة، بل جمهور أئمة الإسلام؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وأبو حنيفة، ومحمد، لا يخالفون في أن تارك ذلك مسيء غير محسن، بل هو آثم عاص، تارك للواجب.
وغيرهم يوجبون الإعادة على من ترك الطمأنينة. ودليل وجوب الإعادة ما في الصحيحين: أن رجلا صلى في المسجد ركعتين، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ. فقال النبي ﷺ: (ارجع فصل، فإنك لم تصل)، مرتين أو ثلاثًا فقال: والذي بعثك بالحق، ما أحسن غير هذا. فعلمني ما يجزئني في صلاتي، فقال: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها). فهذا كان رجلا جاهلا، ومع هذا فأمره النبي ﷺ أن يعيد الصلاة، وأخبره أنه لم يصل، فتبين بذلك أن من ترك الطمأنينة فقد أخبر الله ورسوله أنه لم يصل، فقد أمره الله ورسوله بالإعادة. ومن يعص الله ورسوله فله عذاب أليم.
وفي السنن عن النبي ﷺ قال: (لا يقبل الله صلاة رجل لا يقيم صُلْبَه في الركوع والسجود) يعني يقيم صلبه إذا رفع من الركوع وإذا رفع من السجود. وفي الصحيح أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رأى رجلا لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ كذا وكذا، فقال: أما إنك لو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا ﷺ).
وقد روى هذا المعنى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعًا إلى النبي ﷺ، وأنه قال لمن نقر في الصلاة: (أما إنك لو مت على هذا مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا ﷺ) أو نحو هذا. وقال: (مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه وسجوده، مثل الذي يأكل لقمة أو لقمتين، فما تغني عنه).
وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلا). وقد كتبنا في ذلك من دلائل الكتاب والسنة في غير هذا الموضع، ما يطول ذكره هنا والله أعلم.
سئل عمن يحصل له الحضور في الصلاة تارة ويحصل له الوسواس تارة
وسئل رحمه الله عمن يحصل له الحضور في الصلاة تارة، ويحصل له الوسواس تارة، فما الذي يستعين به على دوام الحضور في الصلاة؟ وهل تكون تلك الوساوس مبطلة للصلاة؟ أو منقصة لها أم لا؟ وفي قول عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة. هل كان ذلك يشغله عن حاله في جمعيته أو لا؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، الوسواس لا يبطل الصلاة إذا كان قليلا باتفاق أهل العلم، بل ينقص الأجر، كما قال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عَقِلْتَ منها.
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها).
ويقال: إن النوافل شرعت لجبر النقص الحاصل في الفرائض، كما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، فإن أكملها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر أعماله). وهذا الإكمال يتناول ما نقص مطلقًا.
وأما الوسواس الذي يكون غالبًا على الصلاة فقد قال طائفة منهم أبو عبد الله بن حامد، وأبو حامد الغزالي وغيرهما: إنه يوجب الإعادة أيضًا، لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان، وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم). وقد صح عن النبي ﷺ: (الصلاة مع الوسواس مطلقًا). ولم يفرق بين القليل والكثير.
ولا ريب أن الوسواس كلما قل في الصلاة كان أكمل، كما في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (إن من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه). وكذلك في الصحيح أنه قال: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بوجهه، وقلبه غفر له ما تقدم من ذنبه).
وما زال في المصلين من هو كذلك، كما قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: في ثلاث خصال، لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن كنت أنا أنا؛ إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه؛ وإذا سمعت من رسول ﷺ حديثًا لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول، ويقال لها. وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد، فانهدم طائفة منه وقام الناس، وهو في الصلاة لم يشعر. وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه. وقالوا لعامر بن عبد القيس: أتحدث نفسك بشيء في الصلاة فقال: أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟ قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، فقال: أبالجنة والحور ونحو ذلك؟ فقالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لأن تختلف الأسنة في أحب إلي. وأمثال هذا متعدد.
والذي يعين على ذلك شيئان: قوة المقتضي، وضعف الشاغل.
أما الأول: فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، ويتدبر القراءة والذكر والدعاء، ويستحضر أنه مناج لله تعالى، كأنه يراه، فإن المصلي إذا كان قائمًا فإنما يناجي ربه. والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان. والأسباب المقوية للإيمان كثيرة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول: (حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة). وفي حديث آخر أنه قال: (أرحنا يابلال بالصلاة). ولم يقل: أرحنا منها. وفي أثر آخر: (ليس بمستكمل للإيمان من لم يزل مهمومًا حتى يقوم إلى الصلاة)، أو كلام يقارب هذا. وهذا باب واسع.
فإن ما في القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته، وإخلاص الدين له، وخوفه ورجائه، والتصديق بأخباره، وغير ذلك، مما يتباين الناس فيه، ويتفاضلون تفاضلا عظيمًا، ويقوي ذلك كلما ازداد العبد تدبرًا للقرآن، وفهمًا، ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته، وتفقره إليه في عبادته واشتغاله به، بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون تعالى معبوده ومستغاثه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب، فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه، ويأنس به، ويلتذ بذكره، ويستريح به، ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله، ومتى كان للقلب إله غير الله فسد وهلك هلاكًا لا صلاح معه، ومتي لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه.
ولهذا يروى أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها في الكتب الأربعة، وجمع الكتب الأربعة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . ونظير ذلك قوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } 330، وقوله: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } 331، وقوله: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } 332، وقد قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } 333، ولهذا قال النبي ﷺ: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله). وبسط هذا طويل لا يحتمله هذا الموضع.
وأما زوال العارض، فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه، فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها.
والوساوس إما من قبيل الحب، من أن يخطر بالقلب ما قد كان أو من قبيل الطلب، وهو أن يخطر في القلب ما يريد أن يفعله. ومن الوساوس ما يكون من خواطر الكفر والنفاق، فيتألم لها قلب المؤمن تألمًا شديدًا، كما قال الصحابة: يارسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (أوجدتموه؟) قالوا: نعم. قال: (ذلك صريح الإيمان). وفي لفظ: إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به، فقال: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
قال كثير من العلماء: فكراهة ذلك وبغضه، وفرار القلب منه، هو صريح الإيمان، والحمد لله الذي كان غاية كيد الشيطان الوسوسة، فإن شيطان الجن إذا غلب وسوس، وشيطان الإنس إذا غلب كذب، والوسواس يعرض لكل من توجه إلى اللهتعالى بذكر أو غيره، لابد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } 334، وكلما أراد العبد توجهًا إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوسواس أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب. وتفاصيل ما يعرض للسالكين طويل موضعه.
وأما ما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله: إني لأجهز جيشي، وأنا في الصلاة. فذاك لأن عمر كان مأمورًا بالجهاد، وهو أمير المؤمنين فهو أمير الجهاد. فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو، إما حال القتال، وإما غير حال القتال، فهو مأمور بالصلاة، ومأمور بالجهاد فعليه أن يؤدي الواجبين بحسب الإمكان، وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } 335. ومعلوم أن طمأنينة القلب حال الجهاد لا تكون كطمأنينته حال الأمن، فإذا قدر أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد لم يقدح هذا في كمال إيمان العبد وطاعته؛ ولهذا تخفف صلاة الخوف عن صلاة الأمن. ولما ذكر سبحانه وتعالى صلاة الخوف قال: { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } 336، فالإقامة المأمور بها حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف.
ومع هذا، فالناس متفاوتون في ذلك، فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة، مع تدبره للأمور بها، وعمر قد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وهو المحدث الملهم، فلا ينكر لمثله أن يكون له مع تدبيره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره، لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى، ولا ريب أن صلاة رسول الله ﷺ حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة، فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة، فكيف بالباطنة.
وبالجملة، فتفكر المصلي في الصلاة في أمر يجب عليه قد يضيق وقته ليس كتفكره فيما ليس بواجب، أو فيما لم يضق وقته، وقد يكون عمر لم يمكنه التفكر في تدبير الجيش إلا في تلك الحال، وهو إمام الأمة والواردات عليه كثيرة. ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته، والإنسان دائمًا يذكر في الصلاة مالا يذكره خارج الصلاة، ومن ذلك ما يكون من الشيطان، كما يذكر أن بعض السلف ذكر له رجل أنه دفن مالا وقد نسي موضعه، فقال: قم فصل، فقام فصلى، فذكره، فقيل له: من أين علمت ذلك؟ قال: علمت أن الشيطان لا يدعه في الصلاة حتى يذكره بما يشغله، ولا أهم عنده من ذكر موضع الدفن. لكن العبد الكيس يجتهد في كمال الحضور، مع كمال فعل بقية المأمور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سئل عن وسواس الرجل في صلاته وما حد المبطل للصلاة وما حد المكروه منه
وسئل عن وسواس الرجل في صلاته، وما حد المبطل للصلاة؟ وما حد المكروه منه؟ وهل يباح منه شيء في الصلاة؟ وهل يعذب الرجل في شيء منه؟ وما حد الإخلاص في الصلاة؟ وقول النبي ﷺ: (ليس لأحدكم من صلاته إلا ما عقل منها)؟.
فأجاب:
الحمد لله، الوسواس نوعان:
أحدهما: لا يمنع ما يؤمر به من تدبر الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي في الصلاة، بل يكون بمنزلة الخواطر، فهذا لا يبطل الصلاة؛ لكن من سلمت صلاته منه فهو أفضل ممن لم تسلم منه صلاته الأول شبه حال المقربين، والثاني شبه حال المقتصدين.
وأما الثاني: فهو ما منع الفهم وشهود القلب، بحيث يصير الرجل غافلا، فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب، كما روى أبو داود في سننه عن عمار بن ياسر عن النبي ﷺ قال: (إن الرجل لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها)، حتى قال:(إلا عشرها)، فأخبر ﷺ أنه قد لا يكتب له منها إلا العشر.
وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، ولكن هل يبطل الصلاة ويوجب الإعادة؟ فيه تفصيل. فإنه إن كانت الغفلة في الصلاة أقل من الحضور، والغالب الحضور، لم تجب الإعادة، وإن كان الثواب ناقصًا، فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة، وإنما يجبر بعضه بسجدتي السهو، وأما إن غلبت الغفلة على الحضور، ففيه للعلماء قولان:
أحدهما: لا تصح الصلاة في الباطن، وإن صحت في الظاهر، كحقن الدم؛ لأن مقصود الصلاة لم يحصل، فهو شبيه صلاة المرائي، فإنه بالاتفاق لا يبرأ بها في الباطن، وهذا قول أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي وغيرهما.
والثاني: تبرأ الذمة، فلا تجب عليه الإعادة، وإن كان لا أجر له فيها، ولا ثواب، بمنزلة صوم الذي لم يدع قول الزور والعمل به، فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، واستدلوا بما في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، أنه قال: (إذا أذن المؤذن بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثوُبِّ بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، ما لم يكن يذكر، حتى يظل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين). فقد أخبر النبي ﷺ أن الشيطان يذكره بأمور حتى لا يدري كم صلى، وأمره بسجدتين للسهو، ولم يأمره بالإعادة، ولم يفرق بين القليل والكثير.
وهذا القول أشبه وأعدل؛ فإن النصوص والآثار إنما دلت على أن الأجر والثواب مشروط بالحضور، لا تدل على وجوب الإعادة، لا باطنًا ولا ظاهرًا، والله أعلم.
سئل عما إذا أحدث المصلي قبل السلام
وسئل رحمه الله عما إذا أحدث المصلي قبل السلام؟
فأجاب:
إذا أحدث المصلي قبل السلام بَطَلَت، مكتوبة كانت أو غير مكتوبة.
سئل عن رجل ضحك في الصلاة فهل تبطل صلاته أم لا
وسئل عن رجل ضحك في الصلاة، فهل تبطل صلاته أم لا؟
فأجاب:
أما التبسم فلا يبطل الصلاة، وأما إذا قهقه في الصلاة فإنها تبطل، ولا ينتقض وضوؤه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد؛ لكن يستحب له أن يتوضأ في أقوى الوجهين، لكونه أذنب ذنبًا، وللخروج من الخلاف، فإن مذهب أبي حنيفة ينتقض وضوؤه، والله أعلم.
سئل عن النحنحة والسعال والنفخ والأنين وما أشبه ذلك في الصلاة
وسئل رحمه الله عن النحنحة، والسعال، والنفخ، والأنين، وما أشبه ذلك في الصلاة: فهل تبطل بذلك أم لا؟ وأي شيء الذي تبطل الصلاة به من هذا أو غيره؟ وفي أي مذهب؟ وإيش الدليل على ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، الأصل في هذا الباب أن النبي ﷺ قال: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين). وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث ألا تكلموا في الصلاة) قال زيد بن أرقم: فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام. وهذا مما اتفق عليه المسلمون. قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدًا وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها أن صلاته فاسدة، والعامد من يعلم أنه في صلاة، وأن الكلام محرم.
قلت: وقد تنازع العلماء في الناسي والجاهل والمكره والمتكلم لمصلحة الصلاة، وفي ذلك كله نزاع في مذهب أحمد وغيره من العلماء. إذا عرف ذلك فاللفظ على ثلاث درجات:
أحدها: أن يدل على معنى بالوضع إما بنفسه، وإما مع لفظ غيره، كفى، وعن، فهذا الكلام مثل: يد، ودم، وفم، وخذ.
الثاني: أن يدل على معنى بالطبع كالتأوه، والأنين، والبكاء، ونحو ذلك.
الثالث: ألا يدل على معنى لا بالطبع ولا بالوضع، كالنحنحة. فهذا القسم كان أحمد يفعله في صلاته، وذكر أصحابه عنه روايتين في بطلان الصلاة بالنحنحة. فإن قلنا: تبطل، ففعل ذلك لضرورة فوجهان. فصارت الأقوال فيها ثلاثة:
أحدها: أنها لا تبطل بحال، وهو قول أبي يوسف، وإحدى الروايتين عن مالك؛ بل ظاهر مذهبه.
والثاني: تبطل بكل حال، وهو قول الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد ومالك.
والثالث: إن فعله لعذر لم تبطل وإلا بَطَلَت، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وغيرهما، وقالوا: إن فعله لتحسين الصوت وإصلاحه، لم تبطل، قالوا: لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرًا فرخص فيه للحاجة. ومن أبطلها قال: إنه يتضمن حرفين، وليس من جنس أذكار الصلاة، فأشبه القهقهة، والقول الأول أصح، وذلك أن النبي ﷺ إنما حرم التكلم في الصلاة، وقال: (إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين)، وأمثال ذلك من الألفاظ التي تتناول الكلام. والنحنحة لا تدخل في مسمي الكلام أصلا، فإنها لا تدل بنفسها، ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى، ولا يسمى فاعلها متكلمًا، وإنما يفهم مراده بقرينة، فصارت كالإشارة.
وأما القهقهة ونحوها ففيها جوابان:
أحدهما: أن تدل على معنى بالطبع.
والثاني: أنا لا نسلم أن تلك أبطلت لأجل كونها كلامًا. يدل على ذلك أن القهقهة تبطل بالإجماع، ذكره ابن المنذر.
وهذه الأنواع فيها نزاع، بل قد يقال: إن القهقهة فيها أصوات عالية تنافي حال الصلاة، وتنافي الخشوع الواجب في الصلاة، فهي كالصوت العالي الممتد، الذي لا حرف معه. وأيضًا، فإن فيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما يناقض مقصودها، فأبطلت لذلك لا لكونه متكلمًا. وبطلانها بمثل ذلك لا يحتاج إلى كونه كلامًا، وليس مجرد الصوت كلامًا، وقد روي عن علي رضي الله عنه قال: كان لي من رسول الله ﷺ مدخلان بالليل والنهار، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي يتنحنح لي رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والنسائي بمعناه.
وأما النوع الثاني وهو ما يدل على المعنى طبعًا لا وضعًا فمنه النفخ، وفيه عن مالك وأحمد روايتان أيضًا:
إحداهما: لا تبطل، وهو قول إبراهيم النخعي، وابن سيرين، وغيرهما من السلف، وقول أبي يوسف وإسحاق.
والثانية: أنها تبطل، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد، والثوري والشافعي، وعلى هذا فالمبطل فيه ما أبان حرفين.
وقد قيل عن أحمد: إن حكمه حكم الكلام، وإن لم يبن حرفين.
واحتجوا لهذا القول بما روي عن أم سلمة عن النبي ﷺ أنه قال: (من نفخ في الصلاة فقد تكلم) رواه الخلال؛ لكن مثل هذا الحديث لا يصح مرفوعًا، فلا يعتمد عليه، لكن حكى أحمد هذا اللفظ عن ابن عباس، وفي لفظ عنه: النفخ في الصلاة كلام. رواه سعيد في سننه.
قالوا: ولأنه تضمن حرفين، وليس هذا من جنس أذكار الصلاة، فأشبه القهقهة، والحجة مع القول، كما في النحنحة، والنزاع، كالنزاع، فإن هذا لا يسمي كلامًا في اللغة التي خاطبنا بها النبي ﷺ، فلا يتناوله عموم النهي عن الكلام في الصلاة، ولو حلف لا يتكلم لم يحنث بهذه الأمور، ولو حلف ليتكلمن لم يبر بمثل هذه الأمور، والكلام لابد فيه من لفظ دال على المعنى، دلالة وضعية، تعرف بالعقل، فأما مجرد الأصوات الدالة على أحوال المصوتين، فهو دلالة طبعية حسية، فهو وإن شارك الكلام المطلق في الدلالة فليس كل ما دل منهيا عنه في الصلاة، كالإشارة فإنها تدل وتقوم مقام العبارة، بل تدل بقصد المشير، وهي تسمى كلامًا، ومع هذا لا تبطل، فإن النبي ﷺ كان إذا سلموا عليه رد عليهم بالإشارة، فعلم أنه لم ينه عن كل ما يدل ويفهم، وكذلك إذا قصد التنبيه بالقرآن والتسبيح جاز، كما دلت عليه النصوص.
ومع هذا، فلما كان مشروعًا في الصلاة لم يبطل، فإذا كان قد قصد إفهام المستمع ومع هذا لم تبطل، فكيف بما دل بالطبع، وهو لم يقصد به إفهام أحد، ولكن المستمع يعلم منه حاله، كما يعلم ذلك من حركته، ومن سكوته، فإذا رآه يرتعش أو يضطرب أو يدمع أو يبتسم علم حاله، وإنما امتاز هذا بأنه من نوع الصوت، هذا لو لم يرد به سنة، فكيف وفي المسند عن المغيرة بن شعبة، أن النبي ﷺ كان في صلاة الكسوف، فجعل ينفخ، فلما انصرف قال: إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي). وفي المسند وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ في صلاة كسوف الشمس نفخ في آخر سجوده، فقال: (أف أف أف، رب! ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم؟!). وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنه محمول على أنه فعله قبل تحريم الكلام، أو فعله خوفًا من الله، أو من النار. قالوا: فإن ذلك لا يبطل عندنا، نص عليه أحمد. كالتأوه والأنين عنده، والجوابان ضعيفان:
أما الأول: فإن صلاة الكسوف كانت في آخر حياة النبي ﷺ يوم مات ابنه إبراهيم، وإبراهيم كان من مارية القبطية، ومارية أهداها له المقوقس، بعد أن أرسل إليه المغيرة، وذلك بعد صلح الحديبية، فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك، ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا باتفاق المسلمين، لاسيما وقد أنكر جمهور العلماء على من زعم أن قصة ذي اليدين كانت قبل تحريم الكلام؛ لأن أبا هريرة شهدها، فكيف يجوز أن يقال بمثل هذا في صلاة الكسوف، بل قد قيل: الشمس كسفت بعد حجة الوداع، قبل موته بقليل.
وأما كونه من الخشية، ففيه أنه نفخ حرها عن وجهه، وهذا نفخ لدفع ما يؤذي من خارج، كما ينفخ الإنسان في المصباح ليطفئه، أو ينفخ في التراب. ونفخ الخشية من نوع البكاء والأنين، وليس هذا ذاك.
وأما السعال والعطاس والتثاؤب والبكاء الذي يمكن دفعه والتأوه والأنين، فهذه الأشياء هي كالنفخ. فإنها تدل على المعنى طبعًا، وهي أولى بألا تبطل، فإن النفخ أشبه بالكلام من هذه، إذ النفخ يشبه التأفيف كما قال: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } 337، لكن الذين ذكروا هذه الأمور من أصحاب أحمد كأبي الخطاب ومتبعيه، ذكروا أنها تبطل، إذ أبان حرفين، ولم يذكروا خلافًا.
ثم منهم من ذكر نصه في النحنحة، ومنهم من ذكر الرواية الأخري عنه في النفخ، فصار ذلك موهمًا أن النزاع في ذلك فقط، وليس كذلك، بل لا يجوز أن يقال: إن هذه تبطل، والنفخ لا يبطل. وأبو يوسف يقول في التأوه والأنين لا يبطل مطلقًا على أصله، وهو أصح الأقوال في هذه المسألة.
ومالك مع الاختلاف عنه في النحنحة والنفخ قال: الأنين لا يقطع صلاة المريض، وأكرهه للصحيح. ولا ريب أن الأنين من غير حاجة مكروه، ولكنه لم يره مبطلا.
وأما الشافعي، فجرى على أصله الذي وافقه عليه كثير من متأخري أصحاب أحمد، وهو أن ما أبان حرفين من هذه الأصوات كان كلامًا مبطلا، وهو أشد الأقوال في هذه المسألة، وأبعدها عن الحجة، فإن الإبطال إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام في لفظ رسول الله ﷺ، فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام، وإن كان بالقياس لم يصح ذلك، فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظه، وذلك يشغل المصلي، كما قال النبي ﷺ: (إن في الصلاة لشغلا) وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس ومعلوم أنه لو زاد في التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته، وإنما تفارق التنفس بأن فيها صوتًا، وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل، ولا نظير.
وأيضًا، فقد جاءت أحاديث بالنحنحة والنفخ، كما تقدم، وأيضًا فالصلاة صحيحة بيقين، فلا يجوز إبطالها بالشك، ونحن لا نعلم أن العلة في تحريم الكلام، هو ما يدعى من القدر المشترك، بل هذا إثبات حكم بالشك الذي لا دليل معه، وهذا النزاع إذا فعل ذلك لغير خشية الله، فإن فعل ذلك لخشية الله فمذهب أحمد وأبي حنيفة أن صلاته لا تبطل، ومذهب الشافعي أنها تبطل؛ لأنه كلام، والأول أصح، فإن هذا إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه، فإنه كلام يقتضي الرهبة من الله والرغبة إليه، وهذا خوف الله في الصلاة، وقد مدح الله إبراهيم بأنه أوَّاه، وقد فسر بالذي يتأوه من خشية الله. ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته، بخلاف الأنين والتأوه في المرض والمصيبة، فإنه لو صرح بمعناه كان كلامًا مبطلا.
وفي الصحيحين أن عائشة قالت للنبي ﷺ: إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء، قال: (مروه فليصل، إنكن لأنتن صواحب يُوُسف) وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } 338. والنشيج: رفع الصوت بالبكاء، كما فسره أبو عبيد. وهذا محفوظ عن عمر، ذكره مالك وأحمد، وغيرهما، وهذا النزاع فيما إذا لم يكن مغلوبًا.
فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتثاؤب، فالصحيح عند الجمهور أنه لايبطل، وهو منصوص أحمد وغيره، وقد قال بعض أصحابه: إنه يبطل، وإن كان معذورًا، كالناسي. وكلام الناسي فيه روايتان عن أحمد:
أحدهما: وهو مذهب أبي حنيفة أنه يبطل.
والثاني: وهو مذهب مالك والشافعي أنه لا يبطل، وهذا أظهر، وهذا أولى من الناسي، لأن هذه أمور معتادة لا يمكنه دفعها، وقد ثبت أن النبي ﷺ قال: (التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع).
وأيضًا، فقد ثبت حديث الذي عطس في الصلاة وشمته معاوية بن الحكم السلمي، فنهى النبي ﷺ معاوية عن الكلام في الصلاة؛ ولم يقل للعاطس شيئًا. والقول بأن العطاس يبطل تكليف من الأقوال المحدثة التي لا أصل لها عن السلف رضي الله عنهم.
وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع، فيها نزاع في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأن الأظهر فيها جميعًا أنها لا تبطل. فإن الأصوات من جنس الحركات، وكما أن العمل اليسير لا يبطل، فالصوت اليسير لا يبطل، بخلاف صوت القهقهة، فإنه بمنزلة العمل اليسير، وذلك ينافي الصلاة، بل القهقهة تنافي مقصود الصلاة أكثر؛ ولهذا لا تجوز فيها بحال، بخلاف العمل الكثير، فإنه يرخص فيه للضرورة، والله أعلم.
سئل عما إذا قرأ القرآن ويعد في الصلاة بسبحة هل تبطل صلاته أم لا
وسئل عما إذا قرأ القرآن، ويعد في الصلاة بسبحة، هل تبطل صلاته أم لا؟
فأجاب:
إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات، أو يعد تكرار السورة الواحدة، مثل قوله: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } 339 بالسبحة فهذا لا بأس به، وإن أريد بالسؤال شيء آخر، فليبينه، والله أعلم.
سئل هل للإنسان إذا دخل المسجد والناس في الصلاة أن يجهر بالسلام أولا
وسئل:هل للإنسان إذا دخل المسجد والناس في الصلاة أن يجهر بالسلام أولا؟ خشية أن يرد عليه من هو جاهل بالسلام.
فأجاب:
الحمد لله، إن كان المصلي يحسن الرد بالإشارة، فإذا سلم عليه فلا بأس، كما كان الصحابة يسلمون على النبي ﷺ، وهو يرد عليهم بالإشارة، وإن لم يحسن الرد بل قد يتكلم فلا ينبغي إدخاله فيما يقطع صلاته، أو يترك به الرد الواجب عليه، والله أعلم.
سئل عن المرور بين يدي المأموم هل هو في النهي كغيره مثل الإمام والمنفرد أم لا
وسئل عن المرور بين يدي المأموم: هل هو في النهي كغيره مثل الإمام والمنفرد أم لا؟
فأجاب:
المنهي عنه إنما هو بين يدي الإمام والمنفرد، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما والله أعلم.
هامش
- ↑ [مريم: 59]
- ↑ [النساء: 43]
- ↑ [البقرة:278]
- ↑ [الفرقان: 70]
- ↑ [محمد: 9]
- ↑ [التوبة: 54]
- ↑ [الماعون: 4 7]
- ↑ [النساء: 142]
- ↑ [التوبة: 74]
- ↑ [الماعون: 4 7]
- ↑ [مريم: 59]
- ↑ [النساء: 142]
- ↑ [النساء: 145، 146]
- ↑ [مريم:59]
- ↑ [البقرة:238]
- ↑ [الماعون: 4، 5]
- ↑ [مريم: 59]
- ↑ [التغابن: 16]
- ↑ [الجمعة: 10]
- ↑ [البقرة:200]
- ↑ [فصلت: 12]
- ↑ [الماعون: 4، 5]
- ↑ [مريم: 59]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [الإسراء: 15]
- ↑ [النساء:165]
- ↑ [البقرة:187]
- ↑ [آل عمران: 86]
- ↑ [النحل:110]
- ↑ [الأنفال:38]
- ↑ [الأنفال:39]
- ↑ [البقرة: 278، 279]
- ↑ [الماعون:4، 5]
- ↑ [مريم:59]
- ↑ [المنافقون: 9]
- ↑ [النور:36، 37]
- ↑ [المجادلة: 19]
- ↑ [النساء: 101]
- ↑ [النساء: 103]
- ↑ [هود: 114]
- ↑ [الإسراء: 78]
- ↑ [الطور: 48، 49]
- ↑ [الروم: 17، 18]
- ↑ [طه: 130]
- ↑ [ق:39، 40]
- ↑ [النساء: 101]
- ↑ [النساء: 101]
- ↑ [المائدة:6]
- ↑ [الإسراء: 15]
- ↑ [النور: 31]
- ↑ [النور: 31]
- ↑ [الأحزاب: 95]
- ↑ [النور:31]
- ↑ [النور: 31]
- ↑ [النور: 31]
- ↑ [الأعراف: 31]
- ↑ [البقرة:232]
- ↑ [الأحزاب:53]
- ↑ [السجدة: 7]
- ↑ [الأعراف: 28]
- ↑ [المنافقون: 4]
- ↑ [مريم: 74]
- ↑ [الأعراف:26]
- ↑ [الزخرف:18]
- ↑ [القصص:79]
- ↑ [النور: 30، 31]
- ↑ [طه: 131]
- ↑ [الحجر: 88]
- ↑ [آل عمران: 14، 15]
- ↑ [الأعراف: 32]
- ↑ [الحديد:25]
- ↑ [الأنعام: 152]
- ↑ [الفرقان: 67]
- ↑ [الواقعة: 45، 46]
- ↑ [الإسراء:29]
- ↑ [الإسراء: 26، 27]
- ↑ [المائدة: 87، 88]
- ↑ [البقرة: 172]
- ↑ [المؤمنون: 51]
- ↑ [المائدة: 93]
- ↑ [البقرة: 126]
- ↑ [التكاثر: 8]
- ↑ [الفاتحة: 6، 7]
- ↑ [النور: 31]
- ↑ [الأحزاب: 59]
- ↑ [الأحزاب: 33]
- ↑ [الأحزاب: 33]
- ↑ [النحل: 81]
- ↑ [النحل: 5]
- ↑ [الأحزاب: 59]
- ↑ [طه: 12]
- ↑ [الأعراف:157]
- ↑ [البقرة: 286]
- ↑ [الملك:2]
- ↑ [الكهف: 110]
- ↑ [البقرة: 112]
- ↑ [النساء: 125]
- ↑ [البقرة: 144 150]
- ↑ [البقرة: 148]
- ↑ [التوبة: 28]
- ↑ [البقرة: 149]
- ↑ [البقرة: 148]
- ↑ [النور: 63]
- ↑ [النساء: 59]
- ↑ [الحجرات: 16]
- ↑ [الإنسان: 9]
- ↑ [القصص: 50]
- ↑ [الأنعام: 119]
- ↑ [ص: 26]
- ↑ [المائدة: 77]
- ↑ [الفرقان: 43، 44]
- ↑ [النساء: 65]
- ↑ [النساء: 60، 61]
- ↑ [الشوري: 21]
- ↑ [الأعراف: 1 3]
- ↑ [المؤمنون: 71]
- ↑ [النساء: 142، 143]
- ↑ [المنافقون: 1]
- ↑ [المجادلة:14]
- ↑ [المائدة: 51 56]
- ↑ [الممتحنة: 1]
- ↑ [المجادلة: 22]
- ↑ [الحجرات:10]
- ↑ [آل عمران: 102 106]
- ↑ [الأحزاب:72، 73]
- ↑ [طه: 114]
- ↑ [النساء:65]
- ↑ [النور:63]
- ↑ [الجمعة: 9]
- ↑ [الليل: 4]
- ↑ [الإسراء:19]
- ↑ [البقرة: 205]
- ↑ [المائدة: 33]
- ↑ [النازعات: 22]
- ↑ [البقرة:102]
- ↑ [الزمر: 9]
- ↑ [العلق:1-5]
- ↑ [الأعراف: 204]
- ↑ [المائدة:118]
- ↑ [الفاتحة: 6، 7]
- ↑ [المائدة: 87، 88]
- ↑ [البقرة:172]
- ↑ [الأعراف: 31]
- ↑ [مريم:59]
- ↑ [المائدة: 87]
- ↑ [المؤمنون: 51]
- ↑ [البقرة: 172]
- ↑ [البقرة:216]
- ↑ [التوبة: 210]
- ↑ [التوبة: 81]
- ↑ [الشمس:1]
- ↑ [الليل:1]
- ↑ [النساء:80]
- ↑ [النساء: 64]
- ↑ [النساء: 69]
- ↑ [النساء: 13، 14]
- ↑ [نوح: 3]
- ↑ [النور: 52]
- ↑ [الشعراء: 108]
- ↑ [الأحزاب:37]
- ↑ [الأحزاب:50]
- ↑ [النساء: 59]
- ↑ [النساء:80]
- ↑ [المائدة: 89]
- ↑ [الإسراء:34]
- ↑ [التوبة:60]
- ↑ [الإسراء:23]
- ↑ [البقرة:275]
- ↑ [الأنعام: 121]
- ↑ [الفاتحة: 6، 7]
- ↑ [الإخلاص: 1]
- ↑ [العلق: 1]
- ↑ [العلق: 1]
- ↑ [العلق: 1]
- ↑ [ سورة الكوثر]
- ↑ [الحجر:87]
- ↑ [ سورة الكوثر ]
- ↑ [ص:26]
- ↑ [المائدة: 77]
- ↑ [آل عمران:102- 106]
- ↑ [الأنعام:159]
- ↑ [البقرة:213]
- ↑ [البينة: 4، 5]
- ↑ [آل عمران: 19]
- ↑ [الجاثية: 17]
- ↑ [يونس:93]
- ↑ [الأنفال: 1]
- ↑ [الحجرات:10]
- ↑ [النساء: 114]
- ↑ [الأحزاب:34]
- ↑ [النساء: 82]
- ↑ [الواقعة: 74]
- ↑ [الأعلي: 1]
- ↑ [الفاتحة: 6]
- ↑ [الأنبياء: 83]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [يونس: 12]
- ↑ [الأنعام: 63، 64]
- ↑ [ الزمر: 8]
- ↑ [الأنعام: 40، 41]
- ↑ [البقرة: 200]
- ↑ [الأنعام:79]
- ↑ [ الأنعام:162]
- ↑ [ غافر: 65 ]
- ↑ [الطور: 48]
- ↑ [الأنبياء: 22]
- ↑ [يونس:10]
- ↑ [الزمر:75]
- ↑ [الأنعام:45]
- ↑ [يونس:10]
- ↑ [الفاتحة6، 7]
- ↑ [الكهف:17]
- ↑ [الفتح: 1 - 3]
- ↑ [الطلاق: 2، 3]
- ↑ [الطلاق: 3]
- ↑ [الفاتحة: 1-3]
- ↑ [النمل: 30]
- ↑ [الفجر: 15 - 17]
- ↑ [الأحزاب: 33]
- ↑ [هود: 73]
- ↑ [آل عمران: 33]
- ↑ [القمر: 34]
- ↑ [غافر: 46]
- ↑ [الصافات: 130]
- ↑ [هود: 73]
- ↑ [آل عمران: 33]
- ↑ [العنكبوت: 27]
- ↑ [الأعراف: 55]
- ↑ [مريم: 3]
- ↑ [الأعراف: 205]
- ↑ [الأحزاب: 34]
- ↑ [الأعراف: 55]
- ↑ [الأعراف: 23]
- ↑ [هود: 47]
- ↑ [إبراهيم: 41]
- ↑ [القصص: 16]
- ↑ [المائدة: 114]
- ↑ [الأعراف: 180]
- ↑ [الإسراء: 110]
- ↑ [الأعراف: 180]
- ↑ [الشرح: 7، 8]
- ↑ [المزمل: 1، 7]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [الرعد: 30]
- ↑ [الشوري: 10]
- ↑ [الجن: 19]
- ↑ [المؤمنون: 117]
- ↑ [الماعون: 4، 7]
- ↑ [النساء: 142]
- ↑ [البينة: 5]
- ↑ [الزمر2، 3]
- ↑ [ق:40]
- ↑ [الأعراف: 26]
- ↑ [المعارج: 19 - 22]
- ↑ [المؤمنون:1 - 9]
- ↑ [البقرة:45]
- ↑ [مريم:59]
- ↑ [النساء:103]
- ↑ [البقرة:238]
- ↑ [النساء: 65]
- ↑ [النور: 47]
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [النور: 62]
- ↑ [النساء: 142]
- ↑ [النساء: 101]
- ↑ [النساء: 102]
- ↑ [النساء: 103]
- ↑ [النساء: 103]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [الزمر: 9]
- ↑ [النساء: 34]
- ↑ [الأحزاب: 31]
- ↑ [الروم: 26]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [النساء: 135]
- ↑ [السجدة:15]
- ↑ [الحج: 36]
- ↑ [ق: 39]
- ↑ [المزمل: 2]
- ↑ [الإسراء:78]
- ↑ [النساء:92]
- ↑ [المعارج: 19 - 23]
- ↑ [المعارج:22، 23]
- ↑ [البقرة: 45]
- ↑ [البقرة:143]
- ↑ [الشورى: 13]
- ↑ [البقرة: 45]
- ↑ [المؤمنون: 1-11]
- ↑ [فصلت: 39]
- ↑ [المؤمنون: 2]
- ↑ [المؤمنون: 2]
- ↑ [المؤمنون:1، 2]
- ↑ [القمر:6- 8]
- ↑ [المعارج:43، 44]
- ↑ [المؤمنون: 2]
- ↑ [البقرة: 45]
- ↑ [القلم: 42، 43]
- ↑ [طه:108]
- ↑ [الشورى: 44، 45]
- ↑ [الغاشية: 2 - 5]
- ↑ [الغاشية: 8 - 10]
- ↑ [الأنبياء: 72، 73]
- ↑ [المؤمنون: 1، 2]
- ↑ [لقمان: 19]
- ↑ [الفرقان: 63]
- ↑ [الحج: 77]
- ↑ [القلم: 42، 43]
- ↑ [الانشقاق: 20، 21]
- ↑ [السجدة: 15]
- ↑ [العلق: 19]
- ↑ [الحج: 18]
- ↑ [الإنسان: 26]
- ↑ [الحجر: 98]
- ↑ [المرسلات:48]
- ↑ [المائدة: 55]
- ↑ [المؤمنون: 1 - 9]
- ↑ [المعارج:19-34]
- ↑ [سورة العصر]
- ↑ [مريم: 59]
- ↑ [الماعون: 4، 5]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [المؤمنون: 9]
- ↑ [المعارج: 32]
- ↑ [المؤمنون: 2]
- ↑ [المؤمنون: 9]
- ↑ [الماعون: 5]
- ↑ [ص: 84]
- ↑ [مريم:59]
- ↑ [التكوير: 15، 16]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [الرعد: 30]
- ↑ [الطلاق:2، 3]
- ↑ [الذاريات: 65]
- ↑ [النساء: 76]
- ↑ [الأنفال: 54]
- ↑ [النساء: 103]
- ↑ [الإسراء: 23]
- ↑ [يوسف: 86]
- ↑ [الإخلاص: 1]