محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الحادية والعشرون

ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب الصيد (مسألة 1068 - 1082)


كتاب الصيد

1068 - مسألة : ما شرد فلم يقدر عليه من حيوان البر كله - وحشيه وأنيسه - لا تحاش شيئا ، لا طائرا ولا ذا أربع مما يحل أكله فإن ذكاته أن يرمى بما يعمل عمل الرمح ، أو عمل السهم ، أو عمل السيف ، أو عمل السكين حاشا ما ذكرنا أنه لا تحل التذكية به ، فإن أصيب بذلك ، فمات قبل أن تدرك ذكاته فأكله حلال ، فإن أدرك حيا إلا أنه في سبيل الموت السريع فإن ذبح ، أو نحر فحسن ، وإلا فلا بأس بأكله ، وإن كان لا يموت سريعا لم يحل أكله إلا بذبح أو نحر ، أو بأن يرسل عليه سبع من سباع الطير ، أو ذوات الأربع ، لا ذكاة له إلا بأحد هذين الوجهين - : لما روينا من طريق شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال { سألت رسول الله عن المعراض ؟ فقال : إذا أصاب بحده فكل وإذا أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل } . ومن طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - أنا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور هو ابن المعتمر - عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم أن رسول الله قال له : { إذا رميت بالمعراض فخرق فكله ، وإن أصاب بعرضه فلا تأكله } . وقد اختلف الناس في هذا - : كما روينا عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن عمار بن ياسر قال : إذا رميت بالحجر أو البندقة ثم ذكرت اسم الله فكل . ورويناه أيضا عن سلمان الفارسي - وهو قول أبي الدرداء ، وفضالة بن عبيد ، وابن عمر . ومن طريق سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب قال : كل وحشية قتلتها بحجر ، أو بخشبة ، أو ببندقة فكلها وإذا رميت فنسيت أن تسمي فكل . ومن طريق سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يقول : كل وحشية قتلتها بحجر ، أو ببندقة ، أو بمعراض فكل ، وإن أبيت أن تأكل فأتني به - وهو قول مكحول ، والأوزاعي . وروينا خلاف هذا عن عمر كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لا يحذفن أحدكم الأرنب بعصاه أو بحجر ، ثم يأكلها وليذك لكم الأسل : النبل ، والرماح . وبه يقول أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو سليمان . واحتج من ذهب إلى قول عمار ، وسلمان ، وسعيد بقول الله تعالى { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } . وبحديث رويناه من طريق مسلم عن هناد بن السري نا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح قال : سمعت ربيعة بن يزيد الدمشقي يقول : أنا أبو إدريس عائذ الله الخولاني قال سمعت { أبا ثعلبة الخشني يقول : قال لي رسول الله  : وأما ما ذكرت من أنك بأرض صيد فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله عليه وكل } . قال أبو محمد : ولا حجة لهم في هذين النصين ، لأن حديث عدي بن حاتم الذي ذكرنا فرض أن يضاف إليهما فيستثنى منهما ما استثنى فيه ، فإنه لا يحل ترك نص لنص . ولا خلاف في أن هذين من الصيد ليسا على عمومهما ، لأنه قد تنال فيه اليد الميتة ، وقد تصاب بالقوس المقدور عليه فلا يكون ذكاة بلا خلاف . وهذا مما تناقض فيه الحنفيون لأنهم أخذوا بخبر عدي بن حاتم ، وهو زائد على ما في القرآن ، وقد امتنعوا من مثل هذا في إسقاط الزكاة فيما دون خمسة أوسق ، وغير ذلك - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولنا : إن أدرك حيا إلا أنه في سبيل الموت السريع فلا بأس بنحره وذبحه ولا بأس بتركه ، فلأن رسول الله أمر بأكل ما خزق ، ولم ينه عن ذبحه ، أو نحره ولا أمر به فهو حلال مذكى على كل حال ، وأما إذا كان لا يموت من ذلك موت المذكى فلا يحل أكله إلا بذكاة ، لأن حكم الذكاة إراحة المذكى ، وتعجيل الموت كما ذكرنا من أمر النبي بذلك وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم إرسال الجارح .

1069 - مسألة : وكل ما ذكرنا أنه لا يجوز التذكية به فلا يحل ما قتل به من الصيد ، وكل من قلنا : إنه لا يحل أكل ما ذبح أو نحر لم يحل أكل ما قتل من الصيد كغير الكتابي والصبي ، ومن تصيد بآلة مأخوذة بغير حق . وكل من قلنا : إنه يحل أكل ما ذبح أو نحر أكل ما قتل من الصيد كالكتابي ، والمرأة ، والعبد ، وغيرهم ، ولا يحل أكل ما لم يسم الله تعالى عليه مما قتل من الصيد بعمد ، أو بنسيان لأن الصيد ذكاة ، وقد ذكرنا برهان ذلك - : في كلامنا في كتاب التذكية آنفا والحمد لله رب العالمين . وكره بعض الناس أكل ما قتله الكتابيون من الصيد - وهذا باطل لأن الصيد ذكاة ، وقد أباح الله تعالى لنا ما ذكوا ولم يخص ذبيحة من نحيرة من صيد { وما كان ربك نسيا } . وقد قال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } ولم يفصل لنا تحريم هذا ، فلو كان حراما لفصل لنا تحريمه ، فإذ لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال محض . فإن موهوا بقول الله تعالى : { تناله أيديكم ورماحكم } . قلنا : وقد قال تعالى : { إلا ما ذكيتم } فحرموا بهذه الآية أكل ما ذبحوا إذا ، وإلا فقد تناقضتم وقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } زائد على ما في هاتين الآيتين ، فالأخذ به واجب . وقولنا ههنا - هو قول عطاء ، والليث ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم . والقول الآخر - هو قول مالك ، ولا نعلم له سلفا في هذا أصلا ؛ ولا جاء عن أحد من الصحابة ولا التابعين التفريق بين ذبائح أهل الكتاب وبين صيدهم . وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أيرسل المجوسي بازي ؟ قال : نعم ، إذا أرسل المجوسي كلبك فقتل فكل وهو قول أبي ثور ، وغيره - وبالله تعالى التوفيق . وقال بعض الناس : قد علمنا أن النصراني إذا سمى الله تعالى فإنما يعني به المسيح ، فسواء أعلن باسم المسيح أو لم يعلن - وهذا باطل ، لأننا إنما نتبع ما أمرنا الله تعالى به ، ولا نعترض عليه بآرائنا . وقد قال الله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } فحسبنا إذا سمى الله تعالى فقد أتى بالصفة التي أباح الله تعالى لنا بها أكل ما ذكى ولا نبالي ما عنى ، لأن الله تعالى لم يأمرنا بمراعاة نيته الخبيثة { وما كان ربك نسيا } وإذا لم يذكر الله تعالى ، أو ذكر غير الله تعالى ، فقد أتى بالصفة التي حرم الله تعالى علينا الأكل مع وجودها ، لأنه أهل لغير الله به ، ولا نبالي بنيته الخبيثة ، إذ لم يأمر الله تعالى بذلك إلا كل أحد في نفسه خاصة .

1070 - مسألة : ووقت تسمية الذابح الله تعالى في الذكاة هي مع أول وضع ما يذبح به أو ينحر في الجلد قبل القطع ولا بد . ووقتها في الصيد مع أول إرسال الرمية أو مع أول الضربة ، أو مع أول إرسال الجارح لا تجزي قبل ذلك ولا بعده ، لأن هذه مبادئ الذكاة فإذا شرع فيها قبل التسمية فقد مضى منها شيء قبل التسمية فلم يذك كما أمر ، وإذا كان بين التسمية وبين الشروع في التذكية مهلة فلم تكن الذكاة مع التسمية كما أمر ، فلم يذك كما أمر . ولا فرق بين قليل المهلة وبين كثيرها ، ولو جاز أن يفرق بينهما بطرفة عين جاز أن يفرق بينهما بطرفتين وثلاث إلى أن يبلغ الأمر إلى العام وأكثر . روينا من طريق مسلم نا الوليد بن شجاع السكوني أنا علي بن مسهر عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : قال [ لي ] ، رسول الله { إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم ذكر كلاما وفيه وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله } . ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن مسروق نا الشعبي قال : سمعت عدي بن حاتم وكان لي جارا ودخيلا وربيطا بالنهرين ، أنه سأل رسول الله فقال : { أرسل كلبي فأجد مع كلبي آخر قد أخذ لا أدري أيهما أخذ ؟ قال : فلا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره } فلم يجعل النبي الإرسال ، إلا مع التسمية بلا مهلة ، وحرم أكل ما لم يسم عليه . وقد روينا خلاف هذا عن ابن عباس كما روينا من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الله بن الحكم البلوي أخبره أنه سأل ابن عباس ؟ فقال : إني أخرج إلى الصيد فأذكر اسم الله حين أخرج فربما مر بي الصيد حثيثا فأعجل في رميه قبل أن أذكر اسم الله تعالى ؟ فقال له ابن عباس : إذا خرجت قانصا لا تريد إلا ذلك فذكرت اسم الله حين تخرج فإن ذلك يكفيك - ولا حجة في أحد دون رسول الله فكيف ورواية ابن لهيعة وهو ساقط - ثم عن عبد الله بن الحكم البلوي وهو مجهول .

1071 - مسألة : وكل ما ضرب بحجر ، أو عود ، أو فرى مقاتله سبع بري أو طائر كذلك ، أو وثني ، أو من لم يسم الله تعالى فأدركت فيه بقية من الحياة ذكي بالذبح أو النحر ، وحل أكله ، لأنه مما قال فيه تعالى { إلا ما ذكيتم } وقد تقصينا هذا " فيما يحل أكله ويحرم " من كتابنا هذا . وبالله تعالى التوفيق .

1072 - مسألة : فلو وضع اثنان فصاعدا أيديهم على شفرة ، أو رمح فذكوا به حيوانا بأمر مالكه وسمى الله تعالى أحدهم أو كلهم فهو حلال . وكذلك ، لو رمى جماعة سهاما وسمى الله تعالى أحدهم أو كلهم فأصابوا صيدا فأكله حلال وهو بينهم إذا أصابت سهامهم مقتله سمى الله تعالى جميعهم وإذا لم يصب أحدهم مقتله ، فلا حق له فيه ، فإن كان الذي لم يصب مقتله هو وحده الذي سمى الله تعالى فهو ميتة لا يحل أكله فإن لم يسم الله تعالى أحد ممن أصاب مقتله فلا حق له فيه ، وهو كله الذي سمى الله تعالى - بخلاف القول في المقدور عليه المتملك ، وذلك لأن التسمية صحت عليه فهو حلال ، فأما الصيد فلا يملك إلا بالتذكية أو بأن يقدر عليه قبل موته فهذا لم يذكه ، لكن جرحه فلم يملكه وإنما ملكه الذي ذكاه بالتسمية ، وأما المتملك قبل أن يذكى فهو مذكى بتسمية من سمى ، والملك باق لمن سلف له فيه ملك كما كان - وبالله تعالى التوفيق .

1073 - مسألة : ومن رمى صيدا فأصابه وغاب عنه يوما أو أكثر أو أقل ، ثم وجده ميتا ، فإن ميز سهمه وأيقن أنه أصاب مقتله حل له أكله وإلا فلا يحل له . وكذلك لو رماه فأصابه ، ثم تردى من جبل أو في ماء ، فإن ميز أيضا سهمه وأيقن أنه أصاب مقتله حل له أكله وإلا فلا - : لما روينا من طريق أحمد بن حنبل نا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثني عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي قال { : إذا وقعت رميتك في ماء فغرق فمات فلا تأكل } . ومن طريق أحمد بن حنبل نا غندر نا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن { عدي بن حاتم قال سألت رسول الله فقال : إذا عرفت سهمك تعلم أنه قتله لم تر فيه أثرا لغيره فكل } .

1074 - مسألة : وسواء أنتن أم لم ينتن ، ولا يصح الأثر الذي فيه في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فكله ما لم ينتن ، لأنه من طريق معاوية بن صالح ، ولا الخبر الذي فيه { يا رسول الله أفتني في قوسي ؟ قال : كل ما ردت عليك قوسك ذكي وغير ذكي - وإن تغيب عنك - ما لم يضل أو تجد فيه أثرا غير سهمك } لأنه من عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسندا ، ولا الأثر الذي فيه { كل ما أصميت ولا تأكل ما أنميت } . وتفسير الإصماء أن تقعصه والإنماء أن يستقل بسهمه حتى يغيب عنه فيجده بعد ذلك ميتا بيوم أو نحوه - وهكذا روينا تفسيره عن ابن عباس : لأن راوي المسند في ذلك محمد بن سليمان بن مسمول - وهو منكر الحديث - عن عمرو بن تميم عن أبيه - وهو منكر الحديث وأبوه مجهول . ولا الخبر الذي فيه { : أن رجلا قال : يا رسول الله رميت صيدا فتغيب عني ليلة فقال عليه السلام : إن هوام الليل كثيرة } لأنه مرسل . ولا الخبر الذي فيه أنه عليه السلام قال { لو أعلم أنه لم يعن على قتله دواب المعار لأمرتك بأكله } لأنه مرسل ، وفيه الحارث بن نبهان وهو ضعيف . ولا الخبر الذي فيه { أنه عليه السلام قال في الصيد ، إذا غاب مصرعه عنك كرهه } لأنه مرسل . وروينا عن ابن عباس فيمن رمى الصيد فوجد فيه سهمه من الغد قال : لو أعلم أن سهمك قتله لأمرتك بأكله ، ولكنه لعله قتله ترديه أو غيره . وعن ابن مسعود إذا رمى أحدكم طائرا وهو على جبل فخر فمات فلا تأكله فإني أخاف أن يقتله ترديه أو وقع في ماء فمات فلا تأكله ، فإني أخاف أن يكون قتله الماء . ومثله عن طاوس ، وعكرمة قال : إذا وقع في الماء قبل أن تذكيه . وعن الشعبي أنه لم يأكل من لحم طير رمي فوقع في ماء فمات . وعن عطاء في صيد رمي فلم يزل ينظر إليه حتى مات قال : كله فإن توارى عنك بالهضاب أو الجبال فلا تأكله إذا غاب عنك مصرعه فإن تردى أو وقع في ماء وأنت تراه فلا تأكله . وأما المتأخرون فإن أبا حنيفة قال : إذا توارى عنك الصيد والكلب وهو في طلبه فوجدته وقد قتله جاز أكله ، فلو ترك الرجل الكلب واشتغل بصلاة أو عمل ما ثم رجع إلى الكلب فوجد الصيد مقتولا والكلب عنده كره أكله . وقال مالك : إذا أرسل كلبه أو سهمه فأدركه من يومه فوجده ميتا وفيه جراحة أكله ، فإن بات عنه لم يأكله . وقال الشافعي : القياس إذا غاب عنه أن يأكله . قال أبو محمد : هذه أقوال ساقطة إذ لا دليل على صحة شيء منها ، والمفترض طاعته هو رسول الله [ إذ ] يقول ما رويناه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى الثعلبي - عن داود بن أبي هند عن الشعبي أن { عدي بن حاتم قال يا رسول الله أحدنا يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ، ثم يجده ميتا وفيه سهمه أيأكل ؟ قال رسول الله نعم ، إن شاء ، أو قال : يأكل إن شاء } . ومن طريق أحمد بن حنبل نا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير { عن عدي بن حاتم سألت رسول الله ؟ فقلت : يرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه ليلة أو ليلتين فيجده وفيه سهمه فقال رسول الله إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثرا غيره وعلمت أن سهمك قتله فكله } . قال علي : إذا وجد سهمه قد أنفذ مقتله فقد علم أنه قتله - وبالله تعالى التوفيق .

1075 - مسألة : ومن رمى صيدا فأصابه فمنعه ذلك الأمر من الجري أو الطيران ولم يصب له مقتلا أو أصاب فهو له ، ولا يكون لمن أخذه لأنه قد جعله مقدورا عليه غير ممتنع فملكه بذلك - وبالله تعالى التوفيق .

1076 - مسألة : ومن رمى صيدا فقطع منه عضوا ، أي عضو كان فمات منه بيقين موتا سريعا كموت سائر الذكاة ، أو بطيئا إلا أنه لم يدركه إلا وقد مات ، أو هو في أسباب الموت الحاضر : أكله كله ، وأكل أيضا العضو البائن . فلو لم يمت منه موتا سريعا وأدركه حيا وكان يعيش منه أكثر من عيش المذكى ، ذكاه وأكله ، ولم يأكل العضو البائن ، أي عضو كان ؛ لأنه إذا مات منه كموت الذكاة فهو ذكي كله . فلو لم يدركه حيا فهو ذكي متى مات مما أصابه وهو مذكى كله ، وما كان بخلاف ذلك فهو غير مذكى ، وقال عليه السلام ، { إذا خزق فكل } فهذا عموم لا يجوز تعديه . وإذا أدرك حيا فذكاته فرض لأنه مأمور بإحسان القتلة والإراحة . وأما إذا وجده في أسباب الموت العاجل فلا معنى لذبحه حينئذ ولا لنحره لأنه ليس إراحة بل هو تعذيب ، وهو بعد مذكى ، فهو حلال . وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، وإبراهيم ، وعطاء ، وأبي ثور : إذا رمى الصيد فغدا حيا وقد سقط منه عضو ، فإنه يؤكل سائره حاشا ذلك العضو ، فإن مات حين ذلك أكل كله . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، وسفيان ، والأوزاعي : إن قطعه نصفين أكل النصفين معا ، فإن كانت إحداهما أقل من الأخرى ، فإن كانت القطعة التي في الرأس هي الصغرى أكل كلتاهما ، وإن كانت التي فيها الرأس هي الكبرى أكلت هي ولم تؤكل الأخرى . وقال الشافعي : إن قطع منه ما يموت به موت المنحور أو المذبوح أكلا معا ، وإن قطع منه ما يعيش بعده ساعة فأكثر ، ثم أدركه فذكاه أكل ، حاشا ما قطع منه . وما نعلم لمن حد الحدود التي حدها أبو حنيفة ، ومالك متعلقا أصلا - وبالله تعالى التوفيق .

1077 - مسألة : ومن رمى جماعة صيد ، وسمى الله تعالى ونوى أيها أصاب ، فأيها أصاب حلال لقول رسول الله الذي ذكرناه آنفا { إذا أصاب بحده فكل } . وقوله عليه السلام : { إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد إلا أثر سهمك فكل } فعم رسول الله ولم يخص أن يقصد صيدا من الجملة بعينه { وما كان ربك نسيا }

1078 - مسألة : فلو لم ينو إلا واحدا بعينه فإن أصابه فهو حلال ، وإن أصاب غيره فإن أدرك ذكاته فهو حلال ، فإن لم يدرك ذكاته لم يحل أكله . وكذلك لو رمى وسمى الله تعالى ولم ينو صيدا فأصاب صيدا لم يحل أكله إلا أن يدرك ذكاته . وكذلك لو أراد ذبح حيوان متملك بعينه فذبح غيره مخطئا لم يحل أكله لأنه لم يسم الله تعالى عليه قاصدا إليه ، وقد قال رسول الله  : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } .

1079 - مسألة : ولو أن امرأ رمى صيدا فأثخنه وجعله مقدورا عليه ، ثم رماه هو أو غيره فسمى الله تعالى فقتله فهو ميتة فلا يحل أكله ، لأنه إذ قدر عليه لم تكن ذكاته إلا بالذبح أو النحر ، فلم يذكه كما أمر ، فهو غير مذكى ، وعلى قاتله إن كان غيره ضمان مثله للذي أثخنه ، لأنه قد ملكه بالإثخان وخروجه عن الامتناع ، فقاتله معتد عليه ، وقد قال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } . ولو جرحه إلا أنه ممتنع بعد ، فهو لمن أخذه ، لأنه لا يملكه إلا بالخروج عن الامتناع ، فما دام ممتنعا فهو غير مملوك بعد - وبالله تعالى التوفيق .

1080 - مسألة : ومن نصب فخا ، أو حبالة ، أو حفر زبية كل ذلك للصيد ، فكل ما وقع في شيء من ذلك فهو له ولا يحل لأحد سواه ؛ فإن نصبها لغير الصيد فوقع فيها صيد فهو لمن أخذه . وكذلك من وجد صيدا قد صاده جارح أو فيه رمية قد جعلته غير ممتنع فلا يحل له أخذه ، لقول رسول الله  : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } . وإذا نوى الصيد فقد ملك كل ما قدر عليه مما قصد تملكه ، وإذا لم ينو الصيد فلم يتملك ما وقع فيها فهو باق على حاله لكل من تملكه - وكذلك ما عشش في شجرة أو جدران داره هو لمن أخذه إلا أن يحدث له تملكا - : روينا من طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنا محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمير بن سلمة الضمري أخبره عن البهزي { أن رسول الله مر بالروحاء فإذا حمار وحش عقير فقال رسول الله  : دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه ، ثم مضى فلما كان بالأثاية إذا ظبي حاقف في ظل وفيه سهم فأمر رجلا يثبت عنده لا يريبه أحد من الناس } . قال أبو محمد : وهذا يبطل قول أبي حنيفة فيمن رمى صيدا فوقع بحضرة قوم فلم يذكوه حتى مات ، فهو حرام ، لأنه عليه السلام لم يأمر بتذكية ذلك الظبي وتركه لصاحبه الذي رماه ، وهذا البهزي هو كان صاحب ذلك الحمار العقير .

1081 - مسألة : فلو مات في الحبالة ، أو الزبية ، لم يحل أكله سواء جعل هنالك حديدة أم لم يجعل ، لأنه لم يقصد تذكيته كما أمر أن يذكيه به من رمي أو قتل جارح ، والحيوان كله حرام في حال حياته ، فلا ينتقل إلى التحليل إلا بنص ولا نص في هذا . وقد أباحه بعض السلف - : روينا من طريق معمر عن جابر الجعفي قال : سألت الشعبي عمن وضع منجله فيمر به طائر فيقتله ؟ فكره أكله - وسألت عنه سالم بن عبد الله فلم ير به بأسا . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بصيد المناجل ، وقال : سم إذا نصبتها . ومن طريق سعيد بن مسروق نا هشيم أنا حصين هو ابن عبد الرحمن ابن أخي مسروق - سأل ابن عمر عن صيد المناجل ؟ فقال ابن عمر : أما ما بان منه وهو حي فلا تأكل وكل ما سوى ذلك ، ولا يعرف له من الصحابة مخالف ، قد خالفه الحنفيون ، والمالكيون وهم يشنعون هذا على غيرهم .

1082 - مسألة : وكل من ملك حيوانا وحشيا حيا أو مذكى أو بعض صيد الماء كذلك فهو له كسائر ماله بلا خلاف ، فإن أفلت وتوحش وعاد إلى البر أو البحر فهو باق على ملك مالكه أبدا ، ولا يحل لسواه إلا بطيب نفس مالكه ، وكذلك كل ما تناسل من الإناث من ذلك أبدا . لقول الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } . ولقول رسول الله  : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . وهذا مال من ماله بإجماع المخالفين معنا فلا يحل لسواه إلا بما يحل به سائر ماله . وهو قول جمهور الناس . وقال مالك : إذا توحش فهو لمن أخذه - وهذا قول بين الفساد مخالف للقرآن ، والسنة ، والنظر ، وهم لا يختلفون في أنهم إن أفلت فأخذ من يومه ، أو من الغد فلا يحل لغير مالكه فليبينوا لنا الحد الذي إذا بلغه خرج به عن ملك مالكه ولا سبيل له إليه . ويسألون عمن ملك وحشيا فتناسل عنده ثم شرد نسلها ؟ فإن قالوا : يسقط ملكه عنه - لزمهم ذلك في كل حيوان في العالم ، لأن جميعها في أول خلق الله تعالى لها كانت غير متملكة ثم ملكت وكذلك القول في حمام الأبراج ، والنحل كل ما ميز فهو ونسله لمالكه أبدا لما ذكرنا . وقول مالك الذي ذكرنا ، وقول الليث : من ترك دابته بمضيعة فهي لمن وجدها لا ترد إلى صاحبها - وكقول الليث ، أو غيره من نظرائه : ما عطب في البحر من السفن فرمى البحر متاعا مما غرق فيها فهو لمن أخذه لا لصاحبه ، ولو قامت له بكل ذلك بينة عدل وهذه أقوال فاسدة ظاهرة البطلان ، لأنه إيكال مال مسلم ، أو ذمي بالباطل .

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الصيد
كتاب الصيد (مسألة 1068 - 1082) | كتاب الصيد (مسألة 1083 - 1084) | كتاب الصيد (مسألة 1085 - 1098)