محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الخامسة والخمسون


كتاب الإجارات والأجراء

1301 - مسألة : والإجارة الفاسدة إن أدركت فسخت ، أو ما أدرك منها ، فإن فاتت أو فات شيء منها قضي فيها أو فيما فات بأجر المثل لقول الله تعالى : { والحرمات قصاص } فمن استغل مال غير بغير حق فهي حرمة انتهكها فعليه أن يقاص بمثله من ماله - وبالله تعالى التوفيق .

1302 - مسألة : ولا تجوز الإجارة على الصلاة ، ولا على الأذان ، لكن إما أن يعطيهما الإمام من أموال المسلمين على وجه الصلة ، وإما أن يستأجرهما أهل المسجد على الحضور معهم عند حلول أوقات الصلاة فقط مدة مسماة ، فإذا حضر تعين الأذان والإقامة على من يقوم بهما . وكذلك لا تجوز الإجارة على كل واجب تعين على المرء من صوم ، أو صلاة ، أو حج ، أو فتيا ، أو غير ذلك ، ولا على معصية أصلا ؛ لأن كل ذلك أكل مال بالباطل ؛ لأن الطاعة المفترضة لا بد له من عملها ، والمعصية فرض عليه اجتنابها فأخذ الأجرة على ذلك لا وجه له ، فهو أكل مال بالباطل . وكذلك تطوع المرء عن نفسه لا يجوز أيضا اشتراط أخذ مال عليه ؛ لأنه يكون حينئذ لغير الله تعالى . روينا من طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن أشعث - هو ابن عبد الملك الحمراني - عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال : { كان آخر ما عهد إلي النبي أن لا أتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا } .

1303 - مسألة : وجائز للمرء أن يأخذ الأجرة على فعل ذلك عن غيره ، مثل أن يحج عنه التطوع ، أو يصلي عنه التطوع ، أو يؤذن عنه التطوع أو يصوم عنه التطوع لأن كل ذلك ليس واجبا على أحدهما ولا عليهما ، فالعامل يعمله عن غيره لا عن نفسه فلم يطع ولا عصى ، وأما المستأجر فأنفق ماله في ذلك تطوعا لله تعالى ، فله أجر ما اكتسب بماله .

1304 - مسألة : ولا تجوز الإجارة في أداء فرض من ذلك إلا عن عاجز ، أو ميت لما ذكرنا في " كتاب الحج " " وكتاب الصيام " من النصوص في ذلك وجواز أن يعمله المرء عن غيره فالاستئجار في ذلك جائز لأنه لم يأت عنه نهي ، فهو داخل في عموم أمر النبي بالمؤاجرة . وأما الصلاة المنسية ، والمنوم عنها ؛ والمنذورة فهي لازمة للمرء إلى حين موته فهذه تؤدى عن الميت ، فالإجارة في أدائها عنه جائزة ؛ وأما المتعمد تركها فليس عليه أن يصليها ، إذ ليس قادرا عليها ، إذ قد فاتت ، فلا يجوز أن يؤدى عنه ما ليس هو مأمورا بأدائه - وبالله تعالى التوفيق .

1305 - مسألة : ولا تجوز الإجارة على النوح ، ولا على الكهانة ؛ لأنهما معصيتان منهي عنهما لا يحل فعلهما ولا العون عليهما فالإجارة على ذلك ، أو العطاء عليه معصية ، وتعاون على الإثم والعدوان .

1306 - مسألة : ولا تجوز الإجارة على الحجامة ، ولكن يعطى على سبيل طيب النفس وله طلب ذلك ، فإن رضي وإلا قدر عمله بعد تمامه لا قبل ذلك وأعطي ما يساوي . وكذلك لا تحل الإجارة على إنزاء الفحل أصلا ، لا نزوة ولا نزوات معلومة ، فإن كان العقد إلى أن تحمل الأنثى كان ذلك أبلغ في الحرام والباطل وأكل السحت - : لما روينا من طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم قال : سمعت ابن أبي نعم قال : سمعت أبا هريرة يقول : { نهى رسول الله عن كسب الحجام وثمن الكلب وعسب الفحل } . وروينا النهي عن عسب الفحل ، وكسب الحجام من طرق كثيرة ثابتة عن رسول الله  : وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو سليمان : لا تجوز الإجارة على ضراب الفحل . وروينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن شوذب أبي معاذ قال : قال لي البراء بن عازب : لا يحل عسب الفحل . ومن طريق الأعمش عن عطاء بن أبي رباح قال : قال أبو هريرة { أربع من السحت ، ضراب الفحل ، وثمن الكلب ، ومهر البغي ، وكسب الحجام } . وقال عطاء : لا تعطه على طراق الفحل أجرا إلا أن لا تجد من يطرقك وهو قول قتادة . قال أبو محمد وأباح مالك الأجرة على ضراب الفحل كرات مسماة - وما نعلم لهم حجة أصلا ، لا من نص ولا من نظر . ورووا رواية فاسدة موضوعة من طريق عبد الملك بن حبيب - وهو هالك - عن طلق بن السمح ولا يدرى من هو ؟ عن عبد الجبار بن عمر - وهو ضعيف - : أن ربيعة أباح ذلك - وذكره عن عقيل بن أبي طالب : أنه كان له تيس ينزيه بالأجرة . قال أبو محمد : قد أجل الله قدر عقيل في نسبه وعلو قدره عن أن يكون تياسا يأخذ الأجرة على قضيب تيسه . وأما أجرة الحجام فقد ذكرنا عن أبي هريرة تحريمها - وروي عن عثمان أمير المؤمنين أيضا - وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم . وروينا عن ابن عباس إباحة كسبه . واحتج من أباحه بما روينا عن طريق شعبة عن حميد الطويل عن أنس قال : { دعا النبي غلاما فحجمه فأمر له بصاع أو صاعين ، وكلم فيه فخفف من خراجه } . قال أبو محمد : فاستعمال الخبرين واجب فوجدنا النبي أعطاه عن غير مشارطة فكانت مشارطته لا تجوز ، ولأنه أيضا عمل مجهول ، ولا خلاف في أن ذلك الحديث ليس على ظاهره ؛ لأن فيه النهي عن كسب الحجام جملة وقد يكسب من ميراث ، أو من سهم من المغنم ، ومن ضيعة ، ومن تجارة ، وكل ذلك مباح له بلا شك . ولم تحرم الحجامة قط بلا خلاف ولا بد له من كسب يعيش منه ، وإلا مات ضياعا ، فصح أن كسبه بالحجامة خاصة هو المنهي عنه فوجب أن يستثنى من ذلك فعل رسول الله فيكون حلالا حسنا ويكون ما عداه حراما - كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا معمر بن سالم عن أبي جعفر - هو ابن محمد بن علي بن الحسين - قال : لا بأس بأن يحتجم الرجل ولا يشارط - وهو قول أبي سليمان ، وأصحابنا .

1307 - مسألة : والإجارة جائزة على تعليم القرآن ، وعلى تعليم العلم مشاهرة وجملة ، وكل ذلك جائز - وعلى الرقي ، وعلى نسخ المصاحف ، ونسخ كتب العلم ؛ لأنه لم يأت في النهي عن ذلك نص ، بل قد جاءت الإباحة - : كما روينا من طريق البخاري نا أبو محمد سيدان بن مضارب الباهلي نا أبو معشر البراء هو صدوق يوسف بن يزيد حدثني عبيد الله بن الأخنس أبو مالك عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس { أن نفرا من أصحاب رسول الله مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال : هل فيكم من راق ؟ إن في الماء رجلا لديغا أو سليما فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا : أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا المدينة فقالوا : يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا ؟ فقال رسول الله إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله } . والخبر المشهور { أن رسول الله زوج امرأة من رجل بما معه من القرآن } أي ليعلمها إياه - وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال أبو حنيفة ، والحسن بن حي : لا تجوز الأجرة على تعليم القرآن ، واحتج له مقلدوه بخبر رويناه من طريق قاسم بن أصبغ نا عبد الله بن روح نا شبابة - هو ابن ورقاء - نا أبو زيد عبد الله بن العلاء الشامي نا بشر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني قال : { كان عند أبي بن كعب ناس يقرئهم من أهل اليمن فأعطاه أحدهم قوسا يتسلحها في سبيل الله تعالى فقال له رسول الله  : أتحب أن تأتي بها في عنقك يوم القيامة نارا } . ورويناه أيضا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع ، وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي قاضي الأردن عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت عن رسول الله قصة القوس وأيضا من طريق أبي داود عن عمرو بن عثمان نا بقية نا بشر بن عبد الله بن يسار عن عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت عن النبي بمثله . ومن طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن عبد ربه بن سليمان بن عمير بن زيتون عن الطفيل بن عمرو عن رسول الله أنه عرض له ذلك في القوس مع أبي بن كعب وفيه زيادة : { أنه قال : يا رسول الله إنا نأكل من طعامهم . قال : أما طعام صنع لغيرك فحضرته فلا بأس أن تأكله وأما ما صنع لك فإن أكلته فإنما تأكله بخلافك } . ومن طريق ابن أبي شيبة نا محمد بن ميسر أبو سعد عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه { أن أبي بن كعب غداه رجل كان يقرئه القرآن فقال له رسول الله  : إن كان شيء يتحفك به فلا خير فيه ، وإن كان من طعامه وطعام أهله فلا بأس } . ومن طريق ابن أبي شيبة نا عفان بن مسلم نا أبان بن يزيد العطار حدثني يحيى بن أبي كثير عن زيد - هو ابن أبي سلام - عن أبي سلام - هو ممطور الحبشي - عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل سمعت رسول الله يقول : { تعلموا القرآن ولا تعلوا عنه ولا تجفوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكبروا به ولا تستكثروا به } . ورويناه عن عوف بن مالك من قوله مثل هذا أنه قال في قوس أهداها إنسان إلى من كان يقرئه أتريد أن تعلق قوسا من نار " . وصح عن عبد الله بن مغفل أنه أعطاه الأمير مالا لقيامه بالناس في رمضان فأبى وقال : إنا لا نأخذ للقرآن أجرا . ومن طريق سعيد بن منصور نا خالد بن عبد الله - هو الطحان - عن سعيد بن إياس الجريري عن عبد الله بن شقيق قال : كان أصحاب رسول الله يكرهون بيع المصاحف وتعليم الغلمان بالأرش ويعظمون ذلك . وصح عن إبراهيم أنه كره أن يشترط المعلم وأن يأخذ أجرا على تعليم القرآن . ومن طريق شعبة ، وسفيان ، كلاهما عن أبي إسحاق الشيباني عن أسير بن عمرو قال شعبة في روايته : إن عمار بن ياسر أعطى قوما قرءوا القرآن في رمضان فبلغ ذلك عمر فكرهه - وقال سفيان في روايته : إن سعد بن أبي وقاص قال : من قرأ القرآن ألحقته على ألفين . فقال عمر أو يعطى على كتاب الله ثمنا ؟ . وصح عن عبد الله بن يزيد ، وشريح : لا تأخذ لكتاب الله ثمنا . ومن طريق حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان القرشي عن بلال بن سعد الدمشقي عن الضحاك بن قيس أنه قال لمؤذن معلم كتاب الله : إني لأبغضك في الله لأنك تتغنى في أذانك وتأخذ لكتاب الله أجرا . وكره ابن سيرين الأجرة على كتابة المصاحف . وعن علقمة أنه كره ذلك أيضا . قال أبو محمد : هذا كل ما احتجوا به . وقد ذكرنا عن سعد ، وعمار الآن أنهما أعطيا على قراءة القرآن . وروينا من طريق ابن أبي شيبة عن صدقة الدمشقي عن الوضين بن عطاء قال : كان بالمدينة ثلاثة معلمين يعلمون الصبيان ، فكان عمر بن الخطاب يرزق كل واحد منهم خمسة عشر كل شهر . ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا مهدي بن ميمون عن ابن سيرين قال : كان بالمدينة معلم عنده من أبناء أولياء الفخام فكانوا يعرفون حقه في النيروز والمهرجان . قال أبو محمد : محمد بن سيرين أدرك أكابر الصحابة ، وأخذ عنهم أبي بن كعب وأبو قتادة فمن دونهما . ومن طريق ابن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا شعبة عن الحكم بن عتيبة قال : ما علمت أحدا كره أجر المعلم . وصح عن عطاء ، وأبي قلابة إباحة أجر المعلم على تعليم القرآن . وأجاز الحسن ، وعلقمة في أحد قوليه الأجرة على نسخ المصاحف قال أبو محمد : أما الأحاديث في ذلك عن رسول الله فلا يصح منها شيء . أما حديث أبي إدريس الفلاني أن أبي بن كعب فمنقطع ، لا يعرف لأبي إدريس سماع مع أبي . والآخر أيضا منقطع ؛ لأن علي بن رباح لم يدرك أبي بن كعب . وأما حديث عبادة بن الصامت فأحد طرقه عن الأسود بن ثعلبة وهو مجهول لا يدرى قاله علي بن المديني ، وغيره : والآخر من طريق بقية وهو ضعيف . والثالث من طريق إسماعيل بن عياش وهو ضعيف ؛ ثم هو منقطع أيضا . وأما حديث عبد الرحمن بن شبل ففيه أبو راشد الحبراني وهو مجهول . ثم لو صحت لكانت كلها قد خالفها أبو حنيفة وأصحابه ؛ لأنها كلها إنما جاءت فيما أعطي بغير أجرة ولا مشارطة ، وهم يجيزون هذا الوجه فموهوا بإيراد أحاديث ليس فيها شيء مما منعوا - وهم مخالفون لما فيها - فبطل كل ما في هذا الباب ، والصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا ، فبقي الأثران الصحيحان عن رسول الله اللذان أوردنا لا معارض لهما - وبالله تعالى التوفيق .

1308 - مسألة : والإجارة جائزة على التجارة مدة مسماة في مال مسمى ، أو هكذا جملة : كالخدمة ، والوكالة . وعلى نقل جواب المخاصم طالبا كان أو مطلوبا ، وعلى جلب البينة وحملهم إلى الحاكم ، وعلى تقاضي اليمين ، وعلى طلب الحقوق ، وعلى المجيء بمن وجب إحضاره ، لأن هذه كلها أعمال محدودة داخلة تحت أمر رسول الله بالمؤاجرة .

1309 - مسألة : وإجارة الأمير من يقضي بين الناس مشاهرة جائزة لما ذكرنا .

1310 - مسألة : ولا تجوز مشارطة الطبيب على البرء أصلا لأنه بيد الله تعالى لا بيد أحد ، وإنما الطبيب معالج ومقو للطبيعة بما يقابل الداء ، ولا يعرف كمية قوة الدواء من كمية قوة الداء ، فالبرء لا يقدر عليه إلا الله تعالى .

1311 - مسألة : وجائز أن يستأجر الطبيب لخدمة أيام معلومة ، لأنه عمل محدود فإن أعطي شيئا عند البرء بغير شرط فحلال ، لأمر النبي بأخذ ما أعطي المرء من غير مسألة .

1312 - مسألة : ولا تجوز الإجارة على حفر بئر ألبتة ، سواء كانت الأرض معروفة أو لم تكن ؛ لأنه قد يخرج فيها الصفاة الصلدة ، والأرض المنحلة الرخوة والصليبة ، وهذا عمل مجهول ، وقد يبعد الماء في موضع ويقرب فيما هو إلى جانبه . وإنما يجوز ذلك في استئجار مياومة ثم يستعمله فيها في حفر البئر ؛ لأنه عمل محدود معلوم يتولى منه حسب ما يقدر عليه - وبالله تعالى التوفيق .

1313 - مسألة : ولا يجوز أن يشترط على المستأجر للخياطة إحضار الخيوط ، ولا على الوراق القيام بالحبر ، ولا على البناء القيام بالطين أو الصخر ، أو الجيار ، وهكذا في كل شيء . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ؛ لأنه إجارة وبيع معا قد اشترط أحدهما مع الآخر فحرم ذلك من وجهين - : أحدهما - أنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل . والثاني - أنه بيع مجهول ، وإجارة مجهول لا يدري ما يقع من ذلك للبيع ولا ما يقع منه للإجارة ، فهو أكل مال بالباطل ، فإن تطوع كل من ذكرنا بإحضار ما ذكرنا عن غير شرط جاز ذلك ؛ لأنه فعل خير . وأما استئجار البناء وآلاته ، والنجار وآلاته ، والوراق وأقلامه ، وجلمه وسكينه ، وملزمته ، ومحبرته ، والخياط وإبرته وجلمه ، فكل ذلك جائز حسن ؛ لأنها إجارة واحدة كلها . فإن كان شيء من ذلك لغيره لم يجز ؛ لأنه لا يدري ما يقع من ذلك لتلك الآلة ، ولا ما يقع للعامل ، فهو أكل مال بالباطل - وبالله تعالى التوفيق . وأما الصباغ : فإنما استؤجر لإدخال الثوب في قدره فقط .

1314 - مسألة : ومن استأجر دارا أو عبدا أو دابة أو شيئا ما ثم أجره بأكثر مما استأجره به أو بأقل أو بمثله ، فهو حلال جائز . وكذلك الصائغ المستأجر لعمل شيء فيستأجر هو غيره ليعمله له بأقل أو بأكثر أو بمثله فكل ذلك حلال ، والفضل جائز لهما ، إلا أن تكون المعاقدة وقعت على أن يسكنها بنفسه ، أو يركبها بنفسه ، أو يعمل العمل بنفسه ، فلا يجوز غير ما وقعت عليه الإجارة ؛ لأنه لم يأت نهي عن النبي عن ذلك ، وهي مؤاجرة وقد أمر عليه السلام بالمؤاجرة - وبالله تعالى التوفيق .

1315 - مسألة : والإجارة بالإجارة جائزة - : كمن أجر سكنى دار بسكنى دار أو خدمة عبد بخدمة عبد ، أو سكنى بخدمة عبد أو بخياطة ، كل ذلك جائز ، لأنه لم يأت نص بالنهي عن ذلك - وهو قول مالك وقال أبو حنيفة : لا يجوز كراء دار بكراء دار - ويجوز بخدمة عبد - وهذا تقسيم فاسد . بقية الكلام في المسألة التي قبل هذه قال علي : روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عباد بن العوام عن عمر بن عامر عن قتادة عن نافع عن ابن عمر : أنه قال فيمن استأجر أجيرا فأجره بأكثر مما استأجره ، قال ابن عمر : الفضل للأول . ومن طريق وكيع نا شعبة عن قتادة عن ابن عمر أنه كرهه . وصح عن إبراهيم : أنه قال : يرد الفضل ، هو ربا ، ولم يجزه مجاهد ، ولا إياس بن معاوية ، ولا عكرمة ، وكرهه الزهري بعد أن كان يبيحه . وكرهه ميمون بن مهران ، وابن سيرين وسعيد بن المسيب ، وشريح ، ومسروق ، ومحمد بن علي ، والشعبي ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن . وأباحه سليمان بن يسار ، وعروة بن الزبير ، والحسن ، وعطاء . وقال أبو محمد : احتج المانعون من ذلك بأنه كالربا - وهذا باطل ، بل هي إجارة صحيحة ، ولا فرق بين من ابتاع بثمن وباع بأكثر ، وبين من اكترى بشيء وأكرى بأكثر . والمالكيون يشنعون بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف - وهذا مما تناقضوا فيه ؛ لأن ابن عمر لم يجزه ، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . وممن قال بقول أبي حنيفة في ذلك الشعبي . قال علي : هذا قول لا دليل على صحته ، والتقليد لا يجوز ، والعجب أنهم قالوا : يتصدق بالفضل وهذا باطل ؛ لأنه إن كان حلالا فلا يلزمه أن يتصدق به إلا أن يشاء ، وإن كان حراما عليه فلا يحل له أن يتصدق بما لا يملك - وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/كتاب الإجارات والأجراء
كتاب الإجارات والأجراء (مسألة 1285 - 1300) | كتاب الإجارات والأجراء (مسألة 1301 - 1315) | كتاب الإجارات والأجراء (مسألة 1316 - 1326)